تكوين
كثيرا ما تكون الظواهر الدينية ميدانا مهما للبحث السوسيولوجي والأنثروبولوجي إذ لا تزال وفق “عبد الغني منديب” “مسألة المعتقدات والممارسات الدينية إلى اليوم تعد موضوعًا حساسًا ومثيرًا للجدل، لاعتقاد بعضهم أن مثل هذه المسألة تمس بعظمة الأديان ورفعتها”[1]، ومن بين هذه الظواهر الطرق الصوفية بوصفها أحد أشكال التدين الإسلامي، خاصة وأن عديدًا من هذه الجماعات لعبت أدوار مهمة في نشر أفكار وتعاليم منها الدينية، لكن أكثرها عقائدية وسياسية.
وتعد الطرق الصوفية من أكثر التنظيمات الاجتماعية الدينية ارتباطًا بأفكار الشيخ وتعاليمه وأنماط السلوك التي تُتوارث جيلًا بعد جيل بين أتباعها، كما أنها تنظم وترشد أدوارهم في الحياة الاجتماعية ككل ومع الجماعة التي ينتمون إليها. ولعل المتأمل في طريقة عمل هذه الجماعات الدينية سيلاحظ
- أولًا، أنها مختلفة فيما بينها
- وثانيًا، أن طريقة عملها تطورت عما كانت عليه في الماضي
كما أنها تختلف اختلافًا بينًا عن التصوف النظري الفلسفي كما صاغه أقطاب التصوف الإسلامي في بداءته على الرغم من أنه ليست كل الطرق الصوفية ذات توجه فلسفي. ولعل التحول المهم في الفكر الصوفي يتمثل في بداية مأسسته بعد أن أصبح مجموعة من الطقوس المكونة من الأذكار والأوراد الدورية التي تقام في الزوايا، “أي عندما أصبحت الزاوية المؤسسة الثقافية الاجتماعية الوحيدة التي تعبر عن التصوف، حينها تكون لون ثقافي جديد في الحقل الثقافي واكتسب استقلالية عن التصوف الفلسفي من ناحية، وعن الدين الرسمي من ناحية أخرى. واكتسح مجالات الثقافة الشعبية، فيعد من أهم التعبيرات عن الدين الشعبي”[2]، أما اليوم وفي ظل انتشار الشبكات العنكبوتية والوسائط الاجتماعية، بات يمكننا الحديث عن تدين رقمي بما فيه من طقوس وممارسات تمارس ضمن زاوية افتراضية، هذا الشكل الجديد من التدين غيَّر من الصورة التقليدية للتدين الشعبي الصوفي، بما فيه صورة “الولي” المؤسس لنمط حداثي من الخطاب الديني، يجعله آمن طالما يشتغل بعيدًا عن سياسة مؤسسة الدين الرسمي، وهذا ما ضمن له الاستمرارية في مجتمعات الحداثة، وفي هذا السياق يتنزل بحثنا المهتم بدراسة الطريقة “الكركرية” بوصفها من أكثر الطرق الصوفية المعاصرة إثارة للجدل، نظرًا لعدة أسباب أهمها “اللباس”، “دور المرأة”، “اعتماد التكنولوجيات الحديثة” في التواصل الدائم بين الشيخ والمريدين… والأهم هو إحياء الأدوار الاجتماعية التقليدية التي تلاشت ملامحها في المجتمعات المعاصرة ومنها المجتمع التونسي، فنحن سنحاول في ورقتنا هذه دراسة ملامح هذه الطريقة وكيفية انتشارها داخل المجتمع التونسي رغم حداثتها مقارنة بباقي الطرق على غرار الشاذلية والقادرية والتيجانية… إلى جانب تبيان انتشار ظاهرة التدين الرقمي في صفوف مريدو هذه الطريقة وكيفية توظيفهم لمواقع التواصل الاجتماعي للاستقطاب ونشر طريقتهم، ومن ثم تحولهم من فاعلين صوفيين إلى فاعلين رقميين.
إقرأ أيضًا: الصوفيّ والفيلسوف في الفكر والحياة
فما هي الطريقة الكركرية؟ ومتى تأسست؟ وما هي أبرز ملامحها؟ وكيف وظف مريدو الطريقة الوسائط الاجتماعية للتعريف بها؟ وكيف تتجلى صورة شيخ الطريقة (الولي عندهم)؟ وهل هي فعلا طريقة صوفية أم جماعة دينية فقط؟
وللإجابة عن هذه الطروحات: سنعتمد على المقاربة التأويلية لدراسة صورة “شيخ الطريقة” التي تختلف جليا عن الصور التقليدية للشيوخ وهو ما سنوضحه، إلى جانب طبيعة خطابه الديني الذي رأى فيه المريدين خطابًا مختلفًا يتماشى مع متطلباتهم الرُوحية في ظل طغيان مظاهر التطرف وانتشار خطاب الكراهية إلى جانب طبعا حالة الانعزال الاجتماعي التي عمقتها في مرحلة ما جائحة “كورونا”، ناهيك عن كيفية توظيفهم لمواقع التواصل الاجتماعي وتحولهم إلى فاعلين دينيين رقميين إلى جانب دورهم الميداني. وقد اعتمدنا على تقنية الملاحظة بالمشاركة التي تمت في فترات زمنية متفرقة في مكان يعدونه “زاوية”، ولكنه في الحقيقة منزل عادي قُسم إلى فضاءين: فضاء خاص بالذكور وآخر خاص بالإناث، هذا دون الجلسات الخاصة “بالفقيرات” التي تمت في كل مرة بمنزل إحداهن (أريانة، بن عروس…) وفيها قمنا بإجراء ستة مقابلات معمقة مع بعض المريدات، ناهيك أيضًا أننا وبسبب الوضع الصحي في تونس آنذاك قمنا بإجراء مقابلات هاتفية مع خمسة من المريدين وأربعة من المريدات، وهنا نريد أن نسوق ملاحظة: أن أغلب المبحوثين هم طلاب جامعات في اختصاصات متنوعة، كما أن المبحوثات أغلبهن ربات بيوت، ولكنهن حاصلات على شهادات جامعية في (القانون، التجارة الدولية، الهندسة الغذائية…)، كما قمنا بدراسة محتواهم ومتابعة منشوراتهم في صفحتهم الرسمية داخل موقع الفايسبوك والمسماة بـ (الطريقة الكركرية في تونس)، وذلك لتبيان كيفية ممارسة طقوسهم وماهية علاقتهم بشيخهم الذي لا تغيب صورته ولا حياته العائلية أو معيشه اليومي عن هذا الموقع الافتراضي، ولهذا سننطلق من فرضيتين أساسيتين: أولاهما، هو أن إقبال الأفراد على الانخراط في هذه الطريقة هو نتيجة عجز مؤسسة الدين الرسمي وباقي المؤسسات الدينية الأخرى عن تلبية الحاجات الروحية والدينية لهم، خاصة في مرحلة ما بعد الثورة التونسية ومن ثم جائحة كورونا، أما ثانيتهما، فإن الطريقة الكركرية أعادت إحياء صور التضامن الآلي بعد أن سادت صور الفردانية أغلب المجتمع التونسي.
1- الطريقة الكركرية: من التقليدي إلى الرقمي
في البداءة يجب أن ننوه إلى أن دراستنا هذه تعد أول دراسة علمية بخصوص هذه الطريقة الدينية، فأغلب الباحثين تناولوها من طريق إعطاء تحليلهم الخاص في المواقع الإلكترونية وقنوات اليوتيوب[3] بشأن الطقوس التي يمارسها مريدو الكركرية أو لباسهم فقد وصفوا بالمهرجين[4]، وقد تباينت التحليلات بين من يراها من الطرق الصوفية وبين من يعدها جماعة دينية لا تمت للطرق الصوفية بأي صلة لا من ناحية الشكل أو الأسلوب، لذلك لن يجد القارئ لمقالنا هذا أي مراجع علمية بخصوص “الطريقة “الكركرية”، إذ إن كل المعلومات الواردة هي مستقاة من البحث الميداني وخاصة من المقابلات ودراسة مضمون صفحتهم الرسمية في موقع الفايسبوك.
تعد “الكركرية” إحدى الزوايا الصوفية في المغرب، وتحديدًا في مدينة العروي، ويعود اسمها إلى جبل كركر بشمال البلاد الذي يقع في حدود بين المغرب والجزائر. وطبق موقع “ويكيبيديا” فقد تأسست على يد الطاهر الكركري عام 1976 ثم خلفه الحسن الكركري الذي تُوفي عام 2006، ليأتي دور ابن أخيه محمد فوزي الكركري شيخ الزاوية حاليًا، ويقول شيوخ الزاوية إن نسبهم يعود إلى نبي “محمد” عليه الصلاة والسلام، لكن بعض الباحثين ينسبون هذه الطريقة ونشأتها إلى الجزائر ومنهم محمد بن بريكة الباحث بمعهد الفلسفة بالجزائر الذي يقول: إن “الطريقة الكركرية” طريقة سنية جزائرية لا غبار عليها، ونحن الذين صدرناها إلى المغرب”[5]، كما أوضح في حوار له مع موقع الحوار الجزائري بأن مؤسس الطريقة هو شيخ مغربي لكنه “تتلمذ على يد سيدي أحمد بن مصطفى العلاوي المستغانمي” [6] بالجزائر، ويُعرفها المريدون في موقعها الإلكتروني بأنها “طريقة تربوية تهدف إلى تحقيق مقام الإحسان حتى يتمكنوا من الجمع بين العبادة والشهود (أن تعبد الله كأنك تراه)”[7]، وبفضل توظيفها للمواقع الافتراضية (الفايسبوك، والتيكتوك) فقد أصبحت منتشرة في كثيرٍ من بلدان العالم، وقد أصبح لهذه الطريقة مريدون من كل الأماكن (تونس، مصر، المغرب، فرنسا، تركيا، أمريكا، ألمانيا…) يتواصلون مع شيخ الطريقة بصفة دائمة وبطريق شبه يومي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وحسب الملاحظة الميدانية أو حتى عبر متابعتنا لموقعهم الرسمي في “الفايسبوك” لاحظنا أن أغلب مريدو هذه الطريقة هم من فئة الشباب. قد لاقت الطريقة الكركرية قبولا اجتماعيا بين التونسيين وذلك منذ ولوجها إلى تونس عام 2013 على يد سيدة تونسية تقطن بالخارج تدعى “ليلى”[8] وفق ما أفادت به إحدى المبحوثات والمسماة “أ” ، وقد فتحت منزلها للدعوة والتعريف بها، وقد أُسست الجمعية الكركرية في تونس عام 2016 وهذا ما أفادنا به المبحوث (ع)، والتي تالاها تأسيس الزاوية بأحد أحياء العاصمة (13 أوت) وهنا نريد أن نسوق ملاحظة مهمة، أن هذه الزاوية كشكل لا تمت بأي صلة للشكل المتعارف عليه للزاوية الذي هو “مكان معد للعبادة وإيواء الواردين المحتاجين واطعامهم وتسمى في الشرق خناقاه (جمعها خانقهات أو خانقاوات أو خوانق)”[9]، كما تعرف الزاوية بأنها “مدرسة دينية، ودار مجانية للضيافة، وهي بهذين الوصفين تشبه كثيرًا الدير في العصور الوسطى”[10]، “كما أنها مكان لسكن الولي ومكان يجتمع فيه عليه”[11]، فالزاوية الموجودة في العاصمة هي منزل بسيط في حي شعبي تقام فيه بعض الاجتماعات أو بعض حلقات الذكر، ويعدها مريدو الطريقة فرعًا من الزاوية الموجودة في المغرب. هذا وقد أقر اتحاد الطرق الصوفية التونسية أن هذه الطريقة تندرج ضمن طرق أهل السنة والجماعة، ومن ثم هي ليست خارجة عن تعاليم الدين الإسلامي، وهو ما أصبغ عليها شرعية دينية خاصة وأن كثيرًا من الفقهاء في دول أخرى ومنها الجزائر قد كفروها وعدوها من جماعات الهرطقة، وقد تأسست الزاوية التابعة للطريقة بعد منح رخصة لعمل الجمعية في تونس، وهذه نسخة من بيان اتحاد الطرق الصوفية الذي يقر بأن الطريقة الكركرية هي طريقة صوفية سليمة العقيدة:
المصدر: بحث ميداني
وأهم ما يميز أتباع هذه الطريقة هو لباسهم الملون والمبرقع الذي كان مصدرًا للسخرية والاستغراب، لكنه في الحقيقة مصدرًا لشد الانتباه والاستقطاب وهذا ما سنبينه لاحقًا.
ومن طريق البحث الميداني وجدنا أن الطريقة الكركرية هي من أكثر الطرق المستقطبة للمريدين على الرغم من حداثة ولوجها إلى المجتمع التونسي وذلك عام 2013 كما ذكرنا آنفا، فهذه الطريقة تُزاوج بين الجانب التقليدي في ممارسة التدين والتحديث في آليات الاستقطاب وحتى في الخطاب الديني وهذا ما استقيناه من البحث الميداني، كما أنها تختلف عن باقي الطرق الصوفية في تونس في ممارسة طقوسها، فهي تعتمد على مواقع التواصل الاجتماعي لممارسة طقوسها وهذا ما سنبينه في مراحل قادمة من ورقتنا هذه.
2-الكركرية متمايزة عن باقي الطرق الصوفية
بداءة نريد أن ننوه إلى أن الممارسات الدينية عادة ما تعكس تصورات الأفراد من طريق معيشهم اليومي، ومتخيلهم الجمعي، وطقوسهم التي تتخذ أشكال رموز، كلها ترسم أو تنحت النسق الثقافي لهذه الجماعات، كما تكشف عالمها الاجتماعي، لذلك “فإن دراسة أنشطة الفكر البشري يفترض مقاربة مختلفة من تلك التي نستعملها في دراسة الظواهر الطبيعية”[12]، نظرًا لأنها تهتم بالمشترك وهذا ما تمحورت حوله أعمال “غيرتز” وهو ما تؤكده “سهام النجار” عندما رأت “أن أعماله الأنثروبولوجية التي أُنجزت بشأن ثقافات مختلفة “الجاوية، البالينية، المغربية” انطلقت من مقاربة تعطي أهمية خاصة لكل ما يرتبط بالحس المشترك بوصفه جوهرًا substance للتأويل الأنثروبولوجي”[13]، لذلك فإن الطرق الصوفية بدورها تؤسس للمشترك وجلها تتشابه سواء في الالتفاف حول الولي أو حتى في الطقوس التي تشمل عادة (الحضرة، الذكر، التسبيح…). ففي تونس مثلا نجد أن كل طريقة صوفية تختص بيوم من أيام الأسبوع للقاء في الزاوية وفيها يقوم “الذكارة” و”الحزابة” بتلاوة الأوراد والذكر وهذا طقس دوري خاصة في الزوايا الكبرى والموجودة في المدن “كزاوية سيدي بلحسن الشاذلي” و” سيدي محرز” و”سيدي علي الحطاب”، أما الطريقة الكركرية فهي ليست ملزمة بالاجتماع بمقر زاويتها بالعاصمة، بل أن أغلب المريدين إما يجتمعون في منزل أحد أتباع الطريقة أو يقومون بالتنقل بين المدن والاجتماع يكون عند أحد المريدين، كما أن الطقوس الخاصة مثل: “الحضرة” أو “الأوراد” فهي تُقام يوميًا وتكون عبر بث مباشر داخل صفحتهم في الفايسبوك، وهو ما يحيلنا إلى أن الممارسة الدينية في الطريقة الكركرية لا تخضع لشروط معينة تضبط اليوم أو الوقت، وإنما الشرط الوحيد هو الالتزام بترتيب الأوراد والأدعية كما ينظمها شيخ الطريقة، كما أن الكتب المُتدبر فيها كلها من تأليفه ومنها على سبيل الذكر (الكواكب الدرية في بيان الأصول النورانية، التحفة الكركرية في تراجم الشاذلية، أفانين السجود لألف الخلود، المعارج النورانية في الأذكار الكركرية…) أما بخصوص موضوعات هذه المؤلفات هي إما أدعية أو أذكار أو طرق تربوية من السنة النبوية.
إقرأ أيضا: العمل الصوفي والحاجة إلى النقد الذاتي
فالحضرة وقراءة الأوراد صباحًا ومساءً هي طقوس يومية يكون المريد ملتزم باتباعها، لأن هذه الطقوس اليومية ليست ترجمة للإيمان الداخلي الذي يشعر به المريد، بل هي وسيلة لإعادة تجديد الإيمان بطريقة دورية، كما أن الانتظام في الممارسة التعبدية اليومية ترسخ المعتقد في نفسية المتعبد، وهو ما يزيد من قوته وتماسكه نظرًا لما له من طابع جمعي يعمل لتغيير الحالة الذهنية والنفسية للأفراد، كما يزيد من حالة الترابط الاجتماعي بينهم “لهذه الأسباب يظهر الطقس بوصفه أحد أهم عناصر الظاهرة الدينية بروزًا، ويقدم نفسه بوصفه أول معيار نفرق بواسطته الظاهرة الدينية عن غيرها من الظواهر، لأن الدين لا يبدو للوهلة الأولى نظامًا من الأفكار، بل نظامًا من الأفعال والسلوكيات، ولذلك فالمؤمن هو إنسان يسلك ويعمل بتوجيه من تلك الأفكار”[14]، وهذا ما يذهب إليه أيضا السوسيولوجي الفرنسي “إيف لامبير” بقوله إن الدين يرتكز على ثلاثة عناصر أساسية وهي كالتالي:
- “يميز الدين بين واقع تجريبي دنيوي حسي يمكن مقاربته علميًا، وواقع غيبي وأخروي متعالٍ عن الإنسان، لا يمكن إدراكه بالعقل والحواس والتجربة، لأنه يتجاوز نطاق الطبيعة وقدرات الإنسان العقلية المحدودة.
- تتحقق التجربة الدينية بتواجد الإنسان في علاقة مع الله أو مع العوالم المتعالية. وتتأكد هذه التجربة الروحية عبر مجموعة من الوساطات الرمزية (الصلاة والقراءة والترتيل والتضحية والتقليد والعادات والفداء والقربان…).
- الدين طقوس جماعية أو نظام من المعتقدات والممارسات المرتبطة بعوالم غيبية متعالية عن الإنسان، تمارس عبر وسائط رمزية للتقرب من الله أو المعبود الذي يختاره الإنسان وفق معتقده الديني”[15]، وهو ما يعزز الرباط الاجتماعي خاصة الإحساس بالانتماء إلى الجماعة وهذا ما ذهب إليه دوركايم بقوله “الحياة الاجتماعية مؤسسة على الدين وأن الطقوس الدينية ما هي إلا احتفالًا بالحياة الاجتماعية”[16]، لذلك تستوجب هذه الرابطة الاجتماعية مشترك رمزي وهذا المشترك يكون لغوي كالأذكار والأوراد، أو حركي كالحضرة أو حتى شكلي كالتزام مريدو ومريدات الطريقة بارتداء اللباس المرقع والسبحة تماهيًا وتماثلًا مع الشيخ أو “الولي” كما يطلقون عليه، وهذا الالتزام بارتداء الملابس المرقعة هو إثبات الانتماء إلى الجماعة، كما أنه وسيلة لجذب الأفراد كي يتساءلوا بشأنها، فهذا اللباس مفروض على كل اتباع الطريقة إناثًا وذكورًا أينما كانوا، فمثلًا ومن طريق الصور المعروضة في صفحتهم الرسمية في “الفايسبوك” نجد أن أتباع الطريقة في البلدان الغربية يرتدون هذا اللباس في الأماكن العامة وحتى في حفلات التخرج بالجامعات، كما أن هذا اللباس هو نوع من تأديب النفس وتطهيرها من الغرور، وذلك باستذكار المتزهدين الأوائل الذين كانوا يرقعون ثيابهم لقلة ذات اليد وهذا ما أفادنا به جل مبحوثينا، فاللباس يدخل في النهج التربوي لشيخهم، ومن هنا ندرك ما يعنيه “ميرسيا إلياد” عندما يشير “إلى دور الممارسات الدينية والطقسية في إحياء الأصول والعود الأبدي إليه”[17]، كما أن رمزية الثياب تخلق رباطًا “يتكون لدى الأفراد من طريق حضورهم الجماعي ضرب من الشعور الجمعي الجيّاش لا يدركونه وهم في حالتهم الفردية”[18].
أما الاختلاف الثاني فهو يتجلى في تموقع المرأة داخل الطريقة الكركرية، لأن مواقف التديّن الإسلامي وأنماطه واتجاهاته متباينة تجاه المرأة، فجلها ترتكز على المنظور الذكوري الأبوي الأحادي من أجل تكريس الوضعية المهمشة والدونية للمرأة، وهو أمر ليس مرتبطًا بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فقط، بل يشمل حضورها الثقافي والرمزي خاصة في المتخيل الديني، كما أن المرأة عبر التاريخ الاجتماعي استسلمت لتأويلات الفقه الذكوري المانع لها من ممارسة تدينها كما الرجال في المساجد، وكثيرًا ما كان هذا الفكر الديني هو السائد، وفي هذا الصدد تقول الأستاذة “لطيفة الأخضر” “وهذا ما دفع بهن إلى تعويض هذا الفراغ بالتقرب إلى أضرحة الأولياء، والالتجاء إلى الزوايا بوصفها فضاءات عامة نادرة بإمكان المرأة التردد عليها دون محرمات اجتماعية، ولهذا نجد أن نسبة تردد النساء على هذه المؤسسات بلغ درجة عالية مقارنة بالرجال، وهو ما يعزز فرضية اعتناق المرأة للإسلام الطرقي بسبب الثأر لها نتيجة حرمانها من المسجد”[19]، وربما هذا ما يُفسر قلة أعداد النساء داخل نسق الولاية، ففكرة أن جسد المرأة هو عائقًا أمام صلاحها وتُقاها الديني، جعلها محصورة في صورة نمطية وهي صورة المرأة الزائرة أو المرأة القائمة بأعمال الزاوية التي يُطلق عليها في تونس “المْقَدْمَة”، فوفق الباحثة “صوفي فرشيو” فـ “إن زيارة الأضرحة وارتياد الزوايا، ظاهرة لها علاقة بالتصوف والممارسات الإحيائية، ولا تشبع احتياجًا دينيًا، بل نفسيا واجتماعيا، فالمسجد الذي أغلق أبوابه أمام النساء جعلهن يبحثن عن فضاءات دينية لممارسة شعائرهن والبحث عن الخلاص الدنيوي والديني، فتُفتح الزاوية ومكان الولي أبوابهما أمام النساء دون ضوابط شرعية مقننة”[20]، لذلك فإن الزاوية وفق هذا المنظور منقسمة إلى قسمين: فضاء رجالي تُمارس فيه الطقوس التعبدية من الأذكار والأوراد والحضرة وجواز الرقص في حرم الزاوية، وفضاء نسائي نهاري تُمارس فيه النسوة إشباع حاجاتهن الروحية والنفسية من طريق طقس الزيارة وتقديم القرابين المختلفة إلى الولي، وهذا ما يفسر عدم وجود مُريدات في جلسات الذكر في كل الطرق الصوفية الموجودة في تونس، لكن الطريقة الكركرية منحت للنساء حرية ممارسة الطقوس التعبدية، بمعنى أن المريدات أو “الفقيرات” كما يحلو لهن تسمية أنفسهن، لهن مطلق الحرية للقيام بالطقوس نفسها التي يقوم بها الرجال، وذلك أيضًا عبر بث مباشر في مواقع التواصل الاجتماعي، ويتراوح ظهورهن بين قراءة الأذكار، مدح الرسول الكريم، والتغني بشيخ الطريقة والعزف على الآلات الموسيقية وغيرها من الطقوس، لكن انفتاح هذه الطريقة مع النساء لا يعني بالضرورة ولوج المرأة إلى فضاءات الرجل، لأن الكركرية لا تسمح بالاختلاط بين كلا الجنسين فلكل منهما فضاءه التعبدي الخاص، كما أن النساء مثلهن مثل الرجال يَقمن دوريًا بالسياحة الدينية وفيها يقمن بالتعريف بالطريقة والدعوة إليها من أجل توسيع قاعدة المريدين.
أما الاختلاف الثالث، فيتجلى في صورة شيخ الطريقة أو “الولي” كما يرونه أتباعه
ومن ميزات هذه الطريقة كيفية تواصل شيخ الطريقة مع كافة التابعين له في كل أنحاء العالم، فعلى حداثة انتشارها في تونس إلا أن قاعدة أتباعها جدا واسعة، ويعود ذلك إلى شيئين اثنين: الأول، أن كل مريد ومريدة ملزم بنشر تعاليمها والتبشير بها، والآخر، هو الانخراط في الثورة التكنولوجية العالمية وهي “الأنترنت”، وللقارئ أن يتساءل هنا: ما العلاقة بين الانترنت والدين؟
“يؤكد هنا “براين تورنر”، أن الأنترنت يلعب دورًا مهمًا في التثقيف والتوعية الدينيين، وقد عمل على دمقراطة الفضاء الديني وأزاح كثيرًا من القيادات الدينية الكلاسيكية، ومن ثم خلق نماذج جديدة من النخب (الدعاة الجدد)”[21]، وربما يكون هذا السبب الرئيس في إقبال الأفراد على الطريقة والانخراط في حراكها العقائدي والتديني، خاصة وأننا بتنا نتحدث عما يسمى “بالتصوف الإلكتروني” الذي يكون فيه الشيخ “محمد فوزي الكركري” دائم الحضور كاسرًا بذلك الصورة النمطية التقليدية لشيخ الطريقة، فهو يُمثل صورة الفقيه المنفتح على العالم كأنه “الوسيط ما بين الماضي والحاضر” كما تصفه إحدى “الفقيرات”، فهو من جهة يُعلم القرآن وكيفية التدبر فيه، إلى جانب دعوته إلى الالتزام بالأوراد اليومية اقتداءً بالسلف الصالح، ومن جهة أخرى نراه المُسوِّق لصورة الرجل البسيط والأب والشيخ القدوة، بدأبه على نشر الصورة الخاصة به مع أطفاله في البحر وفي لحظات عائلية حميمية، ناهيك عن صور من رحلاته الدينية، أو حتى احتفاله مع بعض “الفقيرين والفقيرات” بمناسبات خاصة والأهم الاحتفال بعيد مولده أو مولد أبنائه… كل هذه الصور منحته مكانة مختلفة كُليًا عن صورة الفقيه المؤدب الصارم الكلاسيكي، وأصبح بهذا الفاعل الديني المؤثر والنموذج، وهذا ما لامسناه في شهادات بعض المريدين، وبهذا يمكن القول إن الكركرية باتت تُمثل حقلًا اجتماعيًا وثقافيًا ينضوي تحت لوائها الفاعلون الاجتماعيون والدينيون، هدفهم الأساسي الارتقاء والتدرج داخل الطريقة والتموقع في أسمى درجاتها، بمعنى الوصول إلى المعرفة الباطنية التي هي غاية أساسية لكل مريد ومريدة “فالمعرفة الباطنية هي رهان معرفي على الحقيقة الدينية، ولكن الترجمة السوسيولوجية لهذا الرهان يتمثل في استقلال جسم اجتماعي بموقف ديني أيديولوجي يمكن من طريقه خوض صراع هذا الجسم داخل المجتمع بتبني فكرة امتلاك الحقيقة الدينية الحقيقة، وسحب البساط من تحت المؤسسة الدينية الرسمية التي تُسيّج الحقيقة بخطاب السلطة. وهذا النوع من الصراع يعده بيار بورديو أصيلًا في تاريخ الحقل، إذ إن الرافضين لسلطة المهيمنين على الحقل عادة ما يتهمونهم بأنهم حادوا عن المبادئ الأصلية للحقل وأنهم جاؤا ليصححوا الأمور بالخروج عن المهيمنين. فنظرية العلم الباطن ترى أن الفهم الرسمي المُسيطر على الحقل الديني حاد عن الحقيقة الباطنية والروحية للرسالة الدينية، وأن شيخ الطريقة وأتباعه هم من يصححون الطريق. ولعل تسمية “الطريق” في ذاتها دالّة جدًا على مفهوم التصحيح داخل الحقل الديني”[22]، وهذا ما تؤكده “الفقيرة أ” بقولها:” إن الهدف الأساسي لكل أتباع الطريقة سواء كان رجلًا أو امرأة هو بلوغ نور الله وهو أمر لا يتم إلا بتحصيل المعرفة الباطنية للذات الإنسانية التي من طريقها يُغير الواقع الاجتماعي والديني الذي بات يشهد انسلاخًا جذريًا عن القيم والتعاليم الدينية، فنحن أتباع الطريقة نؤمن بأن كل مائة عام يرسل الله إلى الأرض عبدًا من عباده الصالحين لتصحيح مسار الخلق وشيخنا “قَدس الله سره” ورضي عنه هو رجل هذه المائة عام”[23]. إن ما لاحظناه أن أتباع هذه الطريقة هم جماعة مشروطة منغلقة في ذاتها، فالشيخ هو مركزها والتواصل معه بصفة مباشرة هو أمر مرتبط بأفراد دون غيرهم، والمقصود هنا الأتباع الذين حازوا نور الله، وعند استفسرنا عن ماهية نور الله وجدنا أن أفراد العينة يتجاهلون سؤالنا وجوابهم الوحيد هو وجوب انخراطنا في هذه الطريقة حتى نستجلي معالم هذا النور الذي هو مشروط بالتقيد بممارسات تعبدية خاصة، ناهيك عن طقوس تستمر لمدة أربعين يومًا، وهذا ما يُحيلنا إلى أن الحقل الاجتماعي والديني في الإسلام الطُرقي هو فضاء يحكمه الصراع بين الأفراد من أجل كسب موقع جيد في صلب الحقل، وهذا ما ذهب إليه بورديو بقوله إن “كل حقل يصنع رأسمال رمزي خاص به، إذ تتراكم مجموعة من العادات والسلوكات والخبرات المميزة له عن غيره، ما يفترض توافر مؤهلات مخصوصة، كي تجعل الفاعل ينسجم مع الحقل الذي ينتمي إليه، ولاكتساب المواقع وتطويرها كان لا بد على كل فرد أن يمتلك رأسمالًا رمزيًا أو ماديًا يُمكنه الحفاظ على حظوظه وتحسين موقعه داخل الحقل”[24]، وهذا ما يُسمى “بالرأسمال الطرقي” الذي من طريقه يتموقع المريد داخل الجماعة ويتدرج في المناصب، ومن ثم يحوز على حُظوة الشيخ أولًا وعلى احترام أفراد الجماعة آخرًا، كما أنه يصبح نموذجًا يحاول باقي المريدين الاقتداء به.
3-الكركرية بين إحياء الأدوار التقليدية ومحو ملامح الفردانية
تُعد الفردانية من الأنماط الثقافية السائدة في كل المجتمعات البشرية ومن بينها المجتمع التونسي، وهي ترمز “إلى واقع اجتماعي وثقافي يستطيع فيه الناس، بوصفهم أفرادًا، اختيار طريقة حياتهم وسلوكهم وممارسة عقائدهم، كما ترمز إلى مجتمع يضمن فيه النظام الاجتماعي والقضائي حماية حقوق الناس بوصفهم أفرادًا غير مُكرهين على التضحية أو التنازل عن شيء يعتقدون فيه”[25]، ومن ثم وبذاك التعريف نجد أن الفردانية هي العالم الذي يتحرر فيه الفرد من كل الضوابط المجتمعية التي فرضتها النظم التقليدية، وأن الأولوية هي لممارسة رغباته فهو من طريق هذه المنظومة الثقافية يملك ذاته، ولذلك هو حر في كيفية اختيار نمط حياته، لهذا تعددت التعريفات الخاصة بذاك المفهوم “فهي لدى ألكسيس دي توكفيل (Alexis de Tocqueville) نتاج اتساع المجال الخاص، ولدى دوركايم (Durkheim) انعكاس لتدعم استقلالية الفرد معياريًا وأخلاقيًا، وهي لدى جورج زيمّل (G.Simmel) وتالكوت بارسونز (T.Parsons) نتيجة لتطور العلاقات الاجتماعية، أما لدى ماركس (K. Marx) فهي نتاج المنافسة في السوق التي تدعم انعزال الأفراد”[26]، وقد ساد اعتقاد من أن ظهور الفكر الفرداني أسهم في بروز عديدٍ من الممارسات السلبية خاصة في المجتمعات الغربية مثل: التفكك الأسري والاغتراب… إلا أن معظم مُمثلي الفردانية يؤكدون أن الفردانية وإن كانت مرتكزة على خصوصية الفرد، إلا أنه لا يمكن لها أن تتبلور إلا من طريق وجود أفراد آخرين يتمتعون بحق الاختلاف، “فتحت تأثير بعض النتائج السلبية التي ارتبطت بنمو العزلة واللامبالاة والاغتراب التي شهدتها المجتمعات الغربية وأنجزتها حداثتها، فقد ساعدت في انتقاد الفكر الفرداني بوصفه قد أضحى المجتمع عمليًا غير موجود، بل أصبح “متخيلًا” مُكونًا من أفراد يحاولون تحقيق ذاتهم تحقيقًا فرديًا دون الاعتداد بالآخرين”[27]، وربما يعود هذا التصور إلى أن الأفراد اليوم يعيشون ضمن مجتمعات صناعية غير إنسانية، وفي هذا النوع من المجتمعات لا ينظر إلى الإنسان إلا بوصفه أداة أو موضوعًا أو مُستهلكًا، ولذلك رغم بحثه عن ذاتيته يصبح من هذا المنطلق مُتشيئ، كما يذهب بعضهم إلى أن تراجع القيم الدينية وانحسار الدين أدى إلى تراجع كثيرٍ من المعايير الأخلاقية والقيمية، التي لن تجد لها بديلًا في ظل هذه الحداثة السائدة، ومن هذا المنطلق يحاول أتباع الكركرية إحياء القيم التقليدية التي كانت سائدة ما قبل الحداثة وذلك في محاولة لتغيير النظام الاجتماعي السائد، لأنه أصبح نظامًا معتلًا يعاني اختلالًا كبيرًا، وكل مريد ومريدة مُطالب وفقًا لهذا التمشي بالسعي في التغيير، لأن من منظورهم المجتمعات الإسلامية هي الأكثر تضررًا من نتائج الحداثة، لأنها جعلت من المسلمين مغتربين اجتماعيًا ودينيًا، وهو ما يتعارض مع قيم الدين الإسلامي الذين هم مُطالبين بحمايته من أجل استمراريته والتي لن تكون إلا من طريق إعادة تجذير القيم الدينية في الأسر المسلمة، وفي هذا السياق يقول “الفقير م” (أستاذ تعليم ثانوي): “نحن بوصفنا أتباع الطريقة الكركرية نحمل رسالة محبة دينية من أجل تغيير ما أفسدته النظم الغربية في المجتمعات الإسلامية، وطبعًا هذا من طريق الالتزام بخطاب شيخ الطريقة “قدس الله سره” الذي هو خطاب رُوحي وفكري يتماشى مع متغيرات هذا العصر، لكن بروح العصور الماضية وقيمها”[28].
فطبقًا لما لامسناه من شهادات المريدين الذين أجرينا معهم المقابلات، نجد هناك إجماعًا في محاولة التقيد بما يقوله الشيخ من تعاليم وتوصيات، فهو وفق تحليلنا لبعض الدروس الوعظ التي يقدمها أو للشهادات التي ذكرناها، يريد الخروج من بوتقة المُنفرات العقائدية، وكمثال على مقصدنا هو حث أتباعه على الاكتفاء بزوجة واحدة إلا في الحالات القصوى كالمرض أو عدم الإنجاب، معطيًا في هذا نفسه نموذجاً يعتد به، فهو متزوج من سيدة واحدة رغم مكانته الدينية والاجتماعية. كما يحاول رئيس الطريقة إعطاء صورًا إيجابية بشأن أساليب التنشئة الاجتماعية من طريق علاقته بأبنائه، كي يكون قدوة للآباء من أجل إعادة بناء علاقة تواصلية بينهم وبين أبنائهم، في ظل انتشار كل مظاهر العولمة والتكنولوجيا منها خاصة التي أسهمت بدرجة كبيرة في خلق هوة كبيرة بين الأطفال وذويهم، فهو يرى أن استمرارية التعاليم الإسلامية تكون عبر هؤلاء النشء، لهذا وجب احتوائهم بالمعاملة الحسنة التي نص عليها “السلف الصالح”، وهذا ما يذكره المريد “م” (أستاذ تعليم ثانوي) بقوله: “شيخنا هو المؤدب، هو الذي ينير قلوبنا بعد أن عششت فيها الضلالة والعجز عن استيعاب ذواتنا وذوينا وخاصة أطفالنا الذين هم امتدادنا، لولا شيخنا لما أبصرنا النور ولما أبصرنا نورنا المنبعث منا، وما أقصده هو أبنائنا”[29].
فالشيخ له مهام تربوية إلى جانب مهامه الدينية والتعليمية، فهو يوجه أتباعه بطريقة مباشرة عبر الوعظ أو بطرق غير مباشرة عبر الصور في مواقع التواصل الاجتماعي، ناهيك أنه يشجع أتباعه على إنشاء علاقات مصاهرة بين بعضهم البعض، حتى يضمن استمرارية الطريقة من طريق نسل أتباعه، وهذه المهمة هي منوطة بالمريدات، كما لا يوجد شرط معين للزواج، فليس مهمًا أن تكون العروس بكرًا، بل حتى لو كانت مُطلقة فلا يهم، المهم أن تكون من اتباع الطريقة، وأن تكون من الصالحات الملتزمات بتعاليم الشيخ، وربما هذاما يفسر كثرة المريدات المنتميات إلى تلك الطريقة في رحلة بحثهن عن زوج، خاصة في ظل عزوف الشباب عن الزواج وذلك لعدة أسباب مادية واجتماعية، أما بخصوص الزواج بين أتباع الطريقة فتكفي مباركة الشيخ لهما، وهنا نلاحظ أن الشيخ هو “مركز اللعبة وأفقها المحيط بها والمتحكم فيها. إنه يمتلك الكاريزما الضرورية لتلتف الجماعة حوله وتخط خطاها في التاريخ بتوحيد هُويتها الجماعية ضمن هُوية فردية تذوب فيها بقية الهُويات. وهذا المبدأ لا يخص الطريقة وحدها، بل يتعلق بكثيرٍ من الأجسام الاجتماعية الأخرى مثل: الأحزاب والمذاهب والطوائف. وهنا تندرج دراسة الطريقة ضمن دراسة شاملة لكيفية تكون الجماعات داخل المجتمع الواحد”[30].
كما لاحظنا في البحث الميداني سعي المريدون والمريدات في الحصول على حُظوة الشيخ وقربه، لذلك يسعون في التقرب إليه من طريق الدأب على الطقوس أو الاحتفال بعيد ميلاده أو حتى من يعمل جاهدا لتجميع المال من أجل السفر للقائه بالمغرب والتبرك به، وهذا ما أسماه الباحث “حسن مرزوقي” “بالاستثمار المادي للربح الرمزي”، وهو ما يحيلنا إلى أن “هذا الشكل المعرفي يأخذ شكلًا اعتقاديًا أيديولوجيًا يتمثل في الدفاع عن رمز الانتظام داخل الحقل وهو الشيخ. وتأخذ هذه العمليات أشكالًا طقوسية متنوعة تُظهر الاستقلال الرمزي السوسيولوجي للجماعة عن سواها”[31].
إن الحقل الطرقي مثله مثل الحقل الاجتماعي يتسم بالصراع من أجل الحصول على رأسمال رمزي يُخول له الهيمنة والتموقع داخل الجماعة التي ينتمي إليها وهذا ما تؤكده “الفقيرة أ” (حاصلة على ماجيستر في القانون العام) بقولها:” كلنا نسعى في الارتقاء إلى أعلى درجات التعبد، لكن هذا لا يمنعنا أن نسعى في الحصول على رضا سيدي، فمن يحوز رضاه يصبح ذا قيمة بين كل الأتباع، ليس فقط في البلد الذي تنتمي إليه وإنما في كل البلدان التي لها أتباع للطريقة”[32]، وهذا ما أشار إليه بورديو حين “رأى أن كل حقل يصنع رأسمالًا رمزيًا خاصًا به عبر حالات الصراع بين الفواعل والمؤسسات المنخرطة فيه فتتراكم داخل الحقل مجموعة من العادات والسلوكيات والخبرات المميزة له عن غيره ما يفترض توفر مؤهلات مخصوصة بشكل الصراع، كي ينسجم الفاعل مع الحقل الذي ينتمي إليه ولا يمكن سحب رأسمال حقل معين إلى حقل آخر مختلف”[33]، وهذا كله بحثا عن التثمين داخل إطار الجماعة ونسقها، ناهيك عن تكوين أو امتلاك رأسمال رمزي صلب اتباع الطريقة، فالمهم لدى المريدين هو اكتساب هذا الرأسمال بين بعضهم البعض داخل حقل الطريقة، رغم أن عديدًا منهم يمتلكون رأسمال اجتماعي مهم خارج هذا الحقل فنجد: الأستاذ الجامعي والطبيب والمهندس وغيرهم من الكوادر العلمية طبعًا من كلا الجنسيين، لكن هذه المكانة الاجتماعية لا تمنحهم التقدير الاجتماعي نفسه داخل الطريقة، لأنها تمتلك قواعد ومراكز تراتبية خاصة بها تضبط بواسطة الشيخ ودرجة تفاني المريد في وصول إلى هذه المكانة الرمزية بالالتزام بالطقوس والأذكار والأوراد والتعاليم المقدسة التي يلزمه بها شيخ الطريقة، لذلك من العادي أن نجد مريدًا لا يملك مستوى علمي أو رأسمال اجتماعي مهم أكثر قيمة داخل الجماعة ومسير لها ممن يملك مستوى اجتماعي أعلى منه، فالقيمة هنا تُمنح بالارتقاء الروحي والديني، لا بالمكانة العلمية والاجتماعية.
خاتمة:
حاولنا في هذه الدراسة تقديم ملمح عام عن الطريقة الكركرية في تونس، رغم انعدام الدراسات العلمية بشأنه وبخصوص نشاطها: طقوسها، منشأها… كما حاولنا إبراز أهم الخصائص التي جعلت منها من أكثر الطرق استقطابًا للمريدين، على رغم حداثة ولوجها في النسيج التديني التونسي، مقارنة بباقي الطرق التي بقيت منحسرة في جانبها التقليدي الكلاسيكي، ومن ثم لم تعد تشبع الحاجيات الرُوحية، خاصة للشباب الذي بات يعاني هيمنة التكنولوجيا التي جعلت منه كائنًا شبيه بالآلة، وهو ما جعله يعيش حالة من الاغتراب النفسي والاجتماعي، خاصة مع هيمنة النزعة الفردانية كما أسلفنا الذكر، ناهيك أيضًا وهذا لم نذكره في بحثنا هو أن الفضاء الديني في تونس ما بعد الثورة، اتسم بالمغالاة والتشدد خاصة بعد بروز الحركات الراديكالية الأصولية، ما جعل عديدًا من الشباب ينفرون من الخطابات الدينية السائدة، كما أن تجربة الإسلام السياسي مثلت لعديدٍ منهم صورة سلبية في كيفية توظيف الدين لتسيير مصالحهم الشخصية والسياسية، مما جعل ثقتهم في المنظومة الدينية وممثليها معدومة، وقد كانت هذه من بين الأسباب التي دفعت الشباب للانخراط في الطريقة الكركرية طبقًا للمقابلات التي أجرينها فقد وجدوا فيها المزواجة ما بين الديني والدنيوي وما بين الطاعة والاستمتاع بملذات الحياة، بعد أن سببت لهم الخطابات الدينية التقليدية أزمة نفسية وحالة خوف من “متاع الدنيا” التي تدفعهم بطريقة مباشرة وغير مباشرة نحو العقاب الإلهي الزاجر. لقد أجمع أغلب المريدون أن ما يميز الطريقة الكركرية هو أنها تخلق لك فُسحة للتعامل مع الدنيا دون إغفال الآخرة، فهي لا تعيب ما تعيبه الحركات الأخرى، لهذا ترى صورة المرأة الذاكرة العازفة على الآلات الموسيقية التي تتغنى احتفالا بالمواسم الدينية وعيد مولد الشيخ وأبنائه، فهذه الطريقة تُمثل ما عده مريديها “الإسلام المعتدل” أو ما يُمكن أن نسميه بـ “الإسلام اللايت”.
المراجع:
– الأخضر لطيفة، “الإسلام الطرقي: دراسة موقعه من المجتمع ومن القضية الوطنيّة”، سراس للنشر، تونس، 1993.
– السحيري بن حتيرة صوفية، الجسد والمجتمع: دراسة أنثروبولوجية لبعض الاعتقادات والتصورات حول الجسد، ط1، دار محمد علي للنشر، تونس، 2008.
-السواح فراس، دين الإنسان (بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني)، منشورات دار علاء الدين، دمشق، 1994.
– السيد رضوان، مفاهيم الجماعة في الإسلام، ط3، دار جداول، بيروت، 2011.
– الجرموني رشيد، الدين والإعلام في سوسيولوجيا التحولات الدينية، ط1، دار الفيصل الثقافية، 2019.
– بوبريك رحال، بركة النساء: الدين بصيغة المؤنث، إفريقيا الشرق، المغرب، 2010.
– جدي مراد، التديّن الصوفيّ في طبعته النسويّة ورهان النوع الاجتماعي: لالة ميمونة رمز الصالح الأنثوي، مؤمنون بلا حدود للدراسات، 2016.
– شطارة عامر ناصر، الفردانية في الفلسفة الحديثة كيركيجارد “أنموذجا”، دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية، مج 41، 2014.
– لطفي عيسى، الولاية والمجتمع، ط 2، دار الفارابي، بيروت، 2006.
– مرزوقي حسن، الإسلام الطرقي ومستويات التأصيل، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012.
موقع إلكتروني:
https://ar-ar.facebook.com/karkariya/
https://youtu.be/szSAKQILvS0
[1] shorturl.at/npKS5
مراجع باللغة الأجنبية:
-Bryan S. Turner Religion and Modern Society : Citizenship, Secularization and the state, Cambride University Press, 2011, p. 17.
– Charles Taylor، Les Malaises de la modernité، C.E.R.F., Paris, 1999.
-Pierre Bourdieu, “Quelques propriétés du champ,» dans : Pierre Bourdieu, QUESTIONS DE SOCIOLOGIE (TUNIS : CÉRÈS Productions, 1993.
-Raymond BOUDON et François BOURRICAUD : Dictionnaire critique de la sociologie. PUF, 2ème édition, 1982.
-Yves Lambert, La naissance des religions. De la préhistoire aux religions universalistes, Paris, Armand Colin, 2007, p 255.
[1] منديب عبد الغني، الدين والمجتمع، دراسة سوسيولوجية للتدين بالمغرب، افريقيا الشرق، 2006، ص 12.
[2]عيسى لطفي، الولاية والمجتمع، ط 2، دار الفارابي، بيروت، 2006، ص 52.
[3]https://youtu.be/szSAKQILvS0
[4] https://shorturl.at/flsVY
[5] https://elhiwar.dz/national/95594/
[6] ibid
[7] https://ar-ar.facebook.com/karkariya/
[8] السيدة ليلى هي مواطنة تونسية قاطنة بفرنسا مرت بأزمة صحية، تعرفت خلال فترة علاجها بإحدى المستشفيات الفرنسية بممرضة من أصول مغربية منتمية لهذه الطريقة والتي كانت سببا في انتمائها لهم، وقد تعافت من مرضها بشكل كلي وهو ما أرجعته إلى بركات “الشيخ”، وعندما جاءت لتونس في عطلة بدأت بالتعريف بالطريقة في أوساط عائلتها وأصدقائها، ومن هنا بدأ انتشارها في كل ولاية من ولايات البلاد التونسية.
[9] حجي محمد، الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي، ط2، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1988، ص 23.
[10] مريوش أحمد، الحياة الثقافية في الجزائر خلال العهد العثماني، منشورات المركز الوطني للدراسات والبحث، الجزائر، 2007، ص 149.
[11] نيللي سلامة العامري، الولاية والمجتمع مساهمة في التاريخ الديني والاجتماعي لإفريقية في العهد الحفصي، كلية العلوم الإنسانية الاجتماعية، منوبة، تونس، 2001، ص 128.
[12] Lahouari Addi,Lionel Obadia , Clifford Geertez : interprétation et culture, éditions des archives contemporaines, 2010, p.3.
[13] Sihem Najar, penser le sens commun en anthropologie, in Mohamed Kerrou, d’islam et d’ailleurs, Cérès, édition 2008, p.96.
[14] السواح فراس، دين الإنسان (بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني)، منشورات دار علاء الدين، دمشق، 1994، ص 53-54.
[15] Yves Lambert, La naissance des religions. De la préhistoire aux religions universalistes, Paris, Armand Colin, 2007, p 255.
[16] بيومي محمد أحمد وآخرون، نظرية علم الاجتماع الاتجاهات الحديثة والمعاصرة، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 2004، ص 264.
[17] Eliade, Mircea, Histoire des croyances et des idées religieuses, tome 1 : de l’âge de la pierre aux mystères d’Eleusis, Ed Payot, collection Bibliothèque historique, 1989, 496p
[18] Durkheim, Emile, Les formes élémentaires de la vie religieuse. Le système totémique en Australie, (1912), éd P.U.F. « Quadrige », 1979, p.p. 370-371.
[19] الأخضر لطيفة، “الإسلام الطرقي: دراسة موقعه من المجتمع ومن القضية الوطنيّة”، سراس للنشر، تونس، 1993، ص 23.
[20] رحال بوبريك، بركة النساء: الدين بصيغة المؤنث، إفريقيا الشرق، المغرب، 2010، ص 49.
[21]Bryan S. Turner Religion and Modern Society : Citizenship, Secularization and the state, Cambride University Press, 2011, p. 17.
نقلا عن رشيد الجرموني، الدين والإعلام في سوسيولوجيا التحولات الدينية، ط1، دار الفيصل الثقافية، 2019، ص 71.
[22] حسن مرزوقي، الإسلام الطرقي ومستويات التأصيل، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012، ص 42.
[23] مقابلة يوم 16/08/2021.
[24]Pierre Bourdieu, « Quelques Propriété du champ », dans Pierre Bourdieu, Questions de Sociologie (Tunis : CERES Production), 1993, p.114.
[25] Charles Taylor, Les Malaises de la modernité, C.E.R.F., Paris, 1999, P.15.
[26] Raymond BOUDON et François BOURRICAUD : Dictionnaire critique de la sociologie. PUF, 2ème édition, 1982. P305.
[27] عامر ناصر شطارة، الفردانية في الفلسفة الحديثة كيركيجارد “أنموذجا”، دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية، مج 41، 2014، ص 521.
[28] مقابلة يوم 25/08/2021.
[29] 25/08/2021.
[30] حسن مرزوقي، الإسلام الطرقي ومستويات التأصيل، مصدر سابق، ص 45، نقلا رضوان السيد، مفاهيم الجماعة في الإسلام، ط3، دار جداول، بيروت، 2011.
[31] مصدر سابق، ص 46.
[32] مقابلة يوم 16/08/2021.
[33] Pierre Bourdieu, “Quelques propriétés du champ,» dans : Pierre Bourdieu, QUESTIONS DE SOCIOLOGIE (TUNIS : CÉRÈS Productions(, 1993. P. 114.