الظاهرة الدينية من الفردانية إلى الاجتماع البشري

تمكين

منذ لحظة الوعي الأولى للكائن الإنساني كان الدين مرافقا أساسيا في هذه المسيرة، ومتابعا لتطورات العقل الإنساني في كل تجلياته. فكلما كان الوعي أكثر تغيرت هذه البنية لتتلاءم مع الواقع الجديد، وتنسجم مع المعطيات المستجدة التي يفرضها خروج الإنسان من حالة الثبات إلى حالة الوعي والتغير. هذا هو الإنسان، لم ينشغل يوما بفكرة الثبات إلا في حدود معينة، وإلا لما وصلت الإنسانية إلى ما وصلت إليه من التقدم والتطور الحاصلين على جميع مستويات الوعي الإنساني بالذات والمحيط.

أسبابُ نشوءِ الظاهرةِ الدينية

وهذا التقدم لم يكن ممكنا لولا هذا الخروج من الحالة التي يضع المعتقد الإنسان فيها، فهي حالة من الثبات والجمود والأمان النفسي التي يصعب على المرء التمرد عليها، أو الخروج من إشكالاتها. هكذا كان دور المعتقد باعتباره جزءا لا يتجزأ من الظاهرة الدينية، وهكذا كان الإنسان يحاول كلما سنحت له الظروف أن ينزاح شيئا فشيئا من المطبات التي تضعنا فيها العقيدة الجامدة. وإذا أردنا أن نعبر عن كل ذلك بشكل أدق يمكننا أن نشير هنا إلى التمييز الذي وضعه غوستاف لوبون[1] بين العقيدة والمعرفة. فهو يشير إلى أن هناك اختلافا كبيرا بينهما؛ من حيث تكوينهما ومصدرهما. وبالرغم من أن العقيدة قد تشير في بعض أحداثها إلى تلك الرؤى والتصورات التي حكمت أحداث العالم الكبرى، وأن دائرة المعتقد حافلة بالأسرار، إلا أنها في نهاية المطاف لا تنسجم مع طبيعة المعرفة العلمية، خاصة أنها تقوم على مبادئ عاطفية ووجدانية أكثر منها مبادئ علمية وعرفانية. وهنا تكمن الصعوبة التي أشار إليها أيضا باسكال إلى «أن الناس يعتقدون بتأثير العاطفة لا بتأثير الدليل والبرهان»، ثم قال: «إن بيان كيفية هذا الاعتقاد — أي الاعتقاد بتأثير العاطفة — هو من الصعوبة والدقة والغرابة بحيث يستحيل على من هو مثلي.»

هذه التحولات الكبيرة في بنية الذهنية الإنسانية تقتضي منا الإشارة إلى أن الظاهرة الدينية هي جزء أصيل من التطور البشري، ولكنها ليست هي الأهم فيه، لأن الظاهرة الدينية لا تعتمد في بناءاتها على أسس عقلانية، ومنطقية، بقدر ما تعتمد على ما هو عاطفي ووجداني. ولكي نتبين هذا الأمر بشكل أوضح يمكننا أن نقول بأن الدين هو نظام للحقائق العامة، التي تؤدي إلى تغيير الأخلاق والسلوك، إذا أخذت على محمل الجد، وعاشها المؤمن باقتناع عاطفي عميق وحيّ. على الأقل هذا حسب تعريف ألفريد نورث هوايتهد[2]، وهو تعريف متماسك من الناحية المنهجية، والشكلية، والمعرفية. وكأننا بهذا التعريف نستطيع أن نتأكد بأن الظاهرة الدينية هي خارج إطار العقل باعتبارها نظاما ينبع على شكل إيمان داخلي بصحة هذا المعتقد أو ذاك، وحتى الأخلاق تندرج ضمن هذا السياق، إذ لا شيء قبيح أو حسن، أو شر أو خير إلا ما تم تحسينه داخليا، وتعزيزه عقديا. لهذا نجد بأن الإنسان داخل هذه السياقات الإيمانية والعقدية يستسلم لقوة العقيدة ليس لأنها تقفل كل أبواب الشك العقلي والمنطقي لديه، بقدر ما هي قوة أو سلطة تتجاوز ما هو معرفي إلى أبعاد أكثر خطورة على المرء من أشياء أخرى. والدين بهذا المنظور يصبح هو الفن والنظرة إلى الحياة بأبعاد داخلية ما دام الإنسان يشكل قناعته الداخلية.

ما هي الظواهر الدينية؟

وإذا سلمنا بهذا التعريف، وأكدنا بأن الدين هو قناعة ذاتية داخلية لدى المتدين، نصبح أمام واقعة أكثر تعقيدا، وهي أننا ننفي إلى حد بعيد أن يكون الدين أيضا ظاهرة اجتماعية. هذا البعد الاجتماعي للظاهرة الدينية ليس شيئأ يمكن تجاوزه بسهولة، إذ أن الواقع التاريخي يؤكد بأن الدين أو الظاهرة الدينية نشأ وتطور في أحضان المجتمعات المؤمنة، وهي التي أكسبته هذه القوة على الاختراق، والتوغل، والتغلغل داخل البنيات الفكرية للمجتمعات القديمة والحديثة على حد سواء. غير أن كل هذا الواقع لا ينفي بأن الدين هو شأن فردي وخاص، وجد حاضنته بداية مع الفرد، والتفاعل الحاصل بينه وبين ذاته ومحيطه والفضاء الذي يعيش فيه. فالوجود الإنساني الذي يعي ذاته بذاته يبقى متوحدا، وهذا يعني بأن الدين هو ذلك الأمر الذي يختمر بداية في ذاكرة الكائن الفرد، فهو يصنع في وحدة الكائن ومنها، وهي تمر في تطورها كما يقول هوايتهد[3]  إلى بلوغ الامتلاء بثلاث مراحل: العبور من الفراغ إلى الله فإلى الله، ومن الله إلى عدو الله، ومن العدو إلى الله الرفيق.  وهنا يتأكد لنا بأن الدين في إحدى تجلياته الأساسية هو مبدأ فردي، وشأن إنساني خاص لا علاقة له بالجماعي، إلا في حدود الإكراه الذي قد تمارسه السياسات والدول والمؤسسات بغية الاستقطاب أو التوحيد أو التجميع، أي حينما يصبح الديني مجرد إيديولوجيا تقوم بوظائف محددة لها سلفا. ولهذا فكل المظاهر الجماعية للدين من حماسات اجتماعية، وحركات إحيائية، هي أشكال وصيغ منقضية، وقد تكون مضرة، وقد تكون نافعة. لكن ما يهم في كل هذا السياق الذي نكتب حوله هو أن الدين ظاهرة فردية في أسمى تجلياتها وهو الجانب الأخلاقي، وقد تكون هذه القيم إيجابية وقد تكون عكس ذلك. لأن ليس كل دين يحمل في طياته قيما إيجابية أو خيرة بالضرورة، بدليل أن الواقع التاريخي أسفر لنا عن أشكال من التدينات كانت كارثة على الإنسانية بشكل أو بآخر. وهو ما يفسر وجود بعض الأنظمة الاعتقادية شديدة السوء، حيث تحتوي على تمظهرات خطيرة من العنف، والتطرف، والتشدد، وعدم التسامح مع المختلف عقديا أو سلوكيا. لهذا فإن أي محاولة لاختزال الظاهرة الدينية في بعدها الإيجابي يجعلها مجانبة للصواب، خاصة أن الشر جزء أصيل من بنية هذا الكون، أو على الأقل على سطح هذه الأرض، وأنه من طبيعة الأشياء التي من شأنها أن تدمر كل القيم. وهذا هو ما يفند المقولة التي تشير إلى أن كل اعتقاد هو خير مطلق. فمن يرغب أن يتعرف على ما تحدثه هذه المقولة من التغليط والإيهام، فعليه فقط أن يقوم بفتح كتاب التاريخ.

لا بد إذن من أن نضع فواصل منهجية بين العقدي والمعرفي في كل دين، فهذا من شأنه أن يجعل الأمور أكثر وضوحا وشفافية من أن ندمج بينهما، وبالتالي يتم الخلط بين مجالات يصعب الدمج بينها، في حين أن التساؤل المنطقي الذي يجب أن نطرحه هنا هو التالي:

ما الفرق بين العقيدة والمعرفة؟

هذا السؤال طرحه غوستاف لوبون[4] وكان الهدف منه إيجاد وتوضيح الفوارق الجوهرية بين المصطلحين. فالمعتقد هو إيمان ناشئ عن مصدر لا شعوري يُكرِه الإنسان على تصديق فكر أو رأي أو تأويل أو مذهب جزافًا، ولا علاقة هنا للعقل بتركيبة وتكوين المعتقد، حيث أن دوره يتم بشكل لاحق فقط في تبرير المعتقد. ومن هنا يصبح المعتقد هو كلَّ يندرج بشكل أو بآخر في عمل الإيمان، وحينما يستعين الإنسان بالتجربة والتعقل والمنطق لإدراك صحة المعتقد، يتحول هنا المعتقد إلى معرفة. وهنا يؤكد غوستاف لوبون بأن المعتقد والمعرفة أمران نفسيان يختلفان من حيث المصدر اختلافًا تامًّا؛ إذ المعتقد كناية عن إلهام لا شعوري ناشئ عن علل بعيدة من إرادتنا، والمعرفة عبارة عن اقتباس شعوري عقلي قائم على الاختبار والتأمل.

هكذا هو الدين وتمظهراته منذ النشأة الأولى للكائن الإنساني، وهو يساير هذه المسيرة، ويقترب منها شيئا فشيئأ إلى الحد الذي يمكن أن نقول فيه بأن الإنسان هو كائن معتقد، أي أن العقيدة جزء أصيل من تركيبته النفسية. وحتى الباحثين[5] الذين كتبوا عن ظاهرة الدين وتمظهراتها، أكدوا على أن الدين يتمظهر من خلال أربعة أبعاد أو تعبيرات: وهي الشعائر أو الطقوس، والمشاعر، والإيمان، والعقلنة. أي بتعبير آخر الدين هو شعائر وطقوس منتظمة يقوم بها الإنسان اتجاه ما يؤمن به من الآلهة، وهو حزمة من المشاعر التي يختزنها المتدين فتحرك سلوكه وأفعاله، ويعني أيضا تعابير محددة من الإيمان والعقيدة، وهذه التمظهرات جميعا تنتظم في منظومة متناسقة ومتماسكة تتلاءم عناصرها فيما بينها.

دوما حينما نتحدث عن الدين نتحدث عن صعوبة التعريف والتوصيف والتحديد، لأنه مجال معقد ومركب، ولكن هذا لا يمنع من تحديد بعض ما سماه عبد الجواد ياسين[6] بالمصادرات حول مفهوم الدين وعلاقته بالاجتماع، وقد لخصها في ثلاث مصادرات أساسية:

الأولى: أن الدين يقوم على مبدأ الوحي الإلهي، وبالتالي فهو مفارق للإنسان.

الثانية: أن الإنسان هو موضوع الدين، وبالتالي فالدين لا يظهر إلا من خلال التجلي في الواقع الاجتماعي.

الثالثة: أن الإنسان هو المتلقي المباشر للدين، فهو الذات المتدينة، وبالتالي فلا سبيل إلى إدراك الدين والتعبير عنه، إلا عبر وسائل الاجتماع البشري وفي مقدمتها اللغة.

هذه المصادرات والتي تجعل من عملية تعريف الدين والنظرة إليها عملية صعبة تطرح أمامنا مجموعة من علامات الاستفهام كشف عنها عبد الجواد ياسين. فالمصادرة الأولى تضعنا أمام مشكلة سؤال التطور والخبرة الإنسانية المتجددة، فإذا كان الدين يقدم نفسه على أنه شيء متعال في الزمان والمكان، فإن الحقيقة التاريخية للإنسان تؤكد نسبية الوقائع والأحداث التاريخية، وهذا ما يفسر وجود بنيات تدين متعددة ظهرت وتنوعت وتعددت، وأخذت أشكالا وصيغا من المذاهب والطوائف والعقائد. أما المصادرة الثانية فهي إذ تثبت بأن الدين مصدره علوي متجاوز لواقعنا الأرضي، فهذا لا يعني بحال أنها تنفي تجسد الظاهرة الدينية عبر الاجتماع البشري. كما أن المصادرة الثالثة تتبنى فكرة أن الإنسان هو الذات المتدينة، عبر الحدس المباشر، أو عبر النص بشكل تفاعلي مركب إما على المستوى الفردي، أو على المستوى الجماعي.

إقرأ أيضاً: من تنوير الظاهرة الدينية إلى إنارة العقل

هذا النقاش الهام الذي أفرده عبد الجواد ياسين لمفهوم الدين هو نفسه ولو بصيغة أخرى ما كان يتحدث عنه غوستاف لوبون[7] وهو يرسم الفوارق بين المعتقد والمعرفة، وشأنهما. فالمعرفة حسب طرح لوبون من العناصر الأساسية في تركيبة الحضارة الإنسانية، ومن الأشياء الحاسمة في التاريخ الإنساني. أما المعتقد فهو الذي يحدد المسار الذي تتجه إليه الأفكار، وتنتهي إليه. لهذا كان الناس دوما يقومون بنسبة المعتقدات إلى مصدر متعال إلهي متجاوز للزمان والمكان، وهذا ما يجعلها أيضا غير خاضعة لمجال التداول أو الشك والريب. وبالتالي فهذا ما يعطي للعقائد حيويتها وسلطتها وجبروتها على المخيلة الإنسانية قديما وحديثا، وحينما ينضج المعتقد في منطقة اللاشعور، تصبح إمكانية الجدال فيه أمرا مستحيلا.  بمعنى أن مصدر المعتقدات في مكان اللاشعور هو ما يمنحها قوة عظيمة، ورهبة في نفوس الناس، وقداسة يخضع لها كل المؤمنين طوعا وكرها في بعض الأحيان. وحينما تتحول هذه العقائد إلى ما يشبه الإيديولوجيا في وظائفها ومهامها، تجذب إليها الناس، وتصبح سمة من السمات المركزية لحضارة ما فنقول حينذاك حضارة مسيحية أو يهودية أو إسلامية، أي حضارة تتسم بالشكل أو الصيغة التي يتبدى فيها المعتقد داخل الاجتماع البشري. هكذا هو الإنسان وموقفه اتجاه العقيدة، لا يحب أن يتسرب إلى نفسه أي شك، أو ريب، أو شيء يزحزحه عن أماكن ارتياحه. وهو أمر مفهوم من الناحية السيكولوجية لأن هيمنة المعتقد تعني بالضرورة الراحة من عناء التفكير، وفي الحالة التي يصبح فيها المعتقد مهددا، فذلك لا يعني اختفاؤه أو تلاشيه، ولكن فقط ليحل مكانه معتقد آخر في مسيرة أبدية لا متناهية من الإيمان والمعتقد.

  • التدين والعنف المقدس:

إذا كان هناك من صعوبة في تحديد تعريف جامع لمسمى الدين، فإن ذلك راجع بالأساس إلى أن الدين يتمظهر من خلال عملية الممارسة والتطبيق لمقتضيات الدين، ويتم ذلك بالتجسيد والتأويل للنص المقدس عبر آليات التفسير والتأويل. ولكن هناك ظاهرة ارتبطت أيضا بالدين، وتشكل صيغة من الصيغ التي تتبدى فيها العديد من أنماط التدين، وهي ظاهرة العنف المقدس، أو العنف الناشئ عن قراءات وتأويلات النصوص الدينية المؤسسة والمؤطرة للممارسة الدينية. وحينما نتحدث عن عنف مقدس فإننا نعني بذلك التوسل بكل أشكال العنف اللفظية والرمزية والجسدية في سبيل تشكيل الصورة المثلى لما يسميه برنار شوفييه[8] بجنون الإيمان. هذه الخاصية هي واحدة من الميزات التي طبعت التفكير الديني منذ بداياته الأولى، ورافقته في مختلف مراحل تشكله وانبثاقه وتطوره. ولعل أهم من كتب في هذا الموضوع نجد رونيه جيرار من خلال أطروحته الهامة والمحورية المسماة بالعنف المقدس.

ما هو العنف المقدس

ينطلق رونيه جيرار[9]  في دراسته للعنف المقدس من فرضية مفادها أن العنف ذو طبيعة محاكاتية كامنة في كل تفكير ثقافي وديني، وجميع المنظومات التي تعلن نفسها بأنها سرديات كبرى تبشر الناس بعالم أفضل، وواقع يوتيوبي سيتحقق في المستقبل بحذافيره إن تم الإيمان بها. وهي رؤية منبثقة من دراسة العديد من الأساطير المؤسسة للعنف، والميثولوجيات القديمة، والنصوص والأعمال التراجيدية الحاوية للعنف والحاضنة له. فماذا يعني هذا الطرح الفكري والأنثروبولوجي؟

  • مثلت الرغبة: ينطلق رونيه جيرار من بنية ثلاثية تتأسس على: الراغب، والمرغوب، والمنافس. وهي بنية تتأسس على المحاكاة، إذ أن التملك هو من الخصائص المميزة للكائن الإنساني، وهي رغبة مشتركة بين جميع بني البشر. والناس حينما ترغب بالتملك فإنها لا ترغب بذلك فقط لأنها تحب أن تمتلك أشياء لها قيمة في حد ذاتها. بل فقط لأن حبها لهذه الأشياء ناتج عن تملك الآخرين لها. وهذا الأمر تشهد عليه مجموعة من شواهد الواقع الحي، إذ أننا كائنات متملكة نحس بالحرج والرغبة في أن نتملك ما لدى الآخرين من الأشياء، كما نحب أن يرانا الناس نمتلك ما يمتلكون، وهي دوافع إنسانية فطرية غريزية تتولد عن المحاكاة، كما تتولد عن الشعور بمشاعر النقص، والحقد والحسد.
  • المحاكاة والعنف: هذه المحاكاة تخلق نوعا من الأزمة لأنها تقف بالمرصاد لكل رغبة في التملك، فبالرغم من أننا نحب ما لدى الآخرين من الأشياء، ونعمل بجهد لكي نحصل على ما قد حصلوا عليه، إلا أن هذه الرغبة دوما تجد من يقف في طريقها، حيث ترتطم هذه الرغبة برغبة مناوئة ومنافسة تزيد من الحرمان، والإحساس بالقصور والضعف البشري، وتفاقم الأزمة المحاكاتية، لتتحول هذه الرغبة إلى جحيم يكتوي به كل راغب في التملك، أو بسط يديه إلى ما لدى الآخرين من الأشياء. وهنا تتحول المحاكاة والرغبة إلى ما يشبه الوقود، الذي يشعل نار الحقد والحسد بين الناس، وأطراف الصراع الأزلي من بني البشر، وتتسع دائرة العنف التبادلي التي تحرق الجميع بفعل هذه الأزمة المحاكاتية.
  • الحل الذبائحي: في ذروة الصراع الأبدي والأزلي الذي تخلقه الأزمة المحاكاتية بين بني البشر، تختلق الجماعة البشرية وتقترح حلا يبدو بأنه قد يضعف من جذوة الحقد المشتعل بين الأطراف المختلفة للصراع. وهو أنها تلقي بالمسؤولية على أحد أعضاء الجماعة البشرية، وتحمله كل الشرور تمهيدا لعملية التخلص منه. وهكذا تصنع الجماعة بديلا لهذا العنف الكامن من وراء الأزمة المحاكاتية، ويبدأ الإجماع العنفي يترصد الجميع، خاصة الشخص المختار أو الأشخاص المختارة من أجل الإبادة أو ألقتل أو الطرد.
  • بروز المحظورات: هذه غاية الغايات حين تبدأ الجماعة بعملية التشريع والتقنين لخنق الأزمة المحاكاتية لدى البشر، من أجل الحد من هذه الرغبة الجامحة في التملك. وبالتالي تساهم التشريعات المشكلة أساسا من نواه وأوامر في تهدئة العنف، وبالتالي تحذير أعضاء الجماعة من ارتكاب ما ارتكبته الضحية الفدائية من آثام وشرور.
  • نشأة الطقوس: هذا الأمر ناشئ أيضا عن رغبة الجماعة في تهدئة العنف الكامن وراء الأزمة المحاكاتية، لأن الجماعة تعلم علم اليقين بأن قتل الضحية الفدائية، يمكن ألا يؤدي الدور الحاسم في إخماد جذوة هذه الرغبة المحتدمة في النفس البشرية، كما أنها تعلم أيضا أن التشريعات المرتبطة أساسا بالحظر والإباحة قد تخفت بفعل عوامل الزمان والمكان تدريجيا في نفوس الناس، وبالتالي يعودون إلى حالتهم الطبيعية. هنا تتفتق مخيلة الجماعة عن إبدال ذبائحي ثاني، يستعيض عن الضحية الفدائية، التي تنتمي إلى الجماعة بضحية طقسية من خارجها، وذلك لكيلا تثير الضحية الفدائية الآدمية مشاعر الثأر والانتقام، وبالتالي تصبح الضحية البديل متنفسا للجماعة من أجل إسكات وإخماد ثورة العنف المحتدمة في النفوس، وهكذا استعاضت الإنسانية الأولى عن القربان البشري، بقربان حيواني لما بين العالمين الحيواني والإنساني من وشائج وعلاقات. وإذا كان قتل الضحية الأولى قد خول للجماعة الخروج بشكل نسبي من دائرة العنف المحيط بالإنسان، فإن استذكار هذا القتل بشكل دوري، هو الطريقة الوحيدة لمخادعة العنف، وطرده مؤقتا خارج الجماعة.
  • الميثولوجيا: عملية الاستذكار الذي قد حدث للضحية الفدائية يتطلب دوما هذا التأسيس الطقوسي، وهنا دور الميثولوجيا حيث يصبح هذا الاستذكار عبارة عن شرح عقلاني ورمزي لما وقع للضحية الأولى، وبالتالي محاولة كبح جماع الرغبة المحاكاتية في النفس الإنسانية، معلنة بذلك انتهاء طور الغريزة والفطرة الإنسانية، إلى حالة الثقافة والتمدن.

الظاهرة الدينية في علم الاجتماع

إن كل ما كتبناه سابقا هو فرضيات باحثة عن أصل العنف المقدس في المخيال الجمعي للفكر الديني، والثقافات الإنسانية القديمة والحديثة، وقد كان جيرار من خلال أطروحته يرصد هذا التحول الدراماتيكي من حالة الطبيعة إلى حالة الأنسنة والتمدن. ولكن هذا لا يعني بأن هاته الرغبة المحاكاتية قد انتهت من خلال تلك الفرضيات كلية من نفوس الناس، أو استطاع الدين والثقافة تهذيبها. بل على العكس من ذلك نجد الكثير من النصوص المؤسسة في كل تفكير ديني تحاول قدر الإمكان أن تعيد تركيب تلك الصورة العنيفة للإنسان المتوحش في كل مرة تسمح لها الظروف بذلك.

وهنا باعتبارنا أناسا نعيش عالم الصراع، والجدال الديني في أبشع صوره، من خلال الكم الهائل من الأحقاد التي يحملها كل تفكير ديني عما يعتبره نقيضه، فإن الحري بنا أن نبحث أيضا عن جذور هذا العنف الكامن فينا، في انتظار لحظة التخلص منه. ولعل المثير في كل قضية تتبنى خيارات العنف والتطرف والتشدد باسم الدين نجد خلطا كبيرا بين مسمى الدين، والتفكير الديني، أو بتعبير أدق بين الدين والتدين. فليس الدين في الحقيقة لدى كل هذه التوجهات إلا مجرد محاكاة وممارسة وتطبيق عملي لما يفهمه الإنسان بطبيعته من جراء التفاعل مع الظاهرة الدينية عبر نصوصها التأسيسية. وإذا لم نتنبه لهذا الخلط المنهجي الخطير فسنظل نراوح مكاننا فيما يخص قضية التواصل والتسامح والمحبة. ولعل منشأ الخطأ والضبابية في الفهم والاستيعاب يكمن في التناسي والتغاضي الحاصل في بنى التفكير الدينية السائدة عن أن أي رؤية للدين ليست سوى ثمرة تفاعل الإنسان معه، ونتيجة طبيعية ونسبية وإنسانية لاحتكاك الإنسان مع ذاته ومحيطه والبيئة التي يعيش وسطها، وهي نتيجة محكومة في أبعادها وامتداداتها، بالسقف المعرفي الذي أنتجها، وبالعوامل المختلفة المؤثرة في الاجتماع البشري.

ثقافة العنف المقدس

وإذا ما حاولنا أن نتلمس الإجابة عن سؤال العنف المقدس من داخل ثقافتنا، وتركيبتنا الدينية والذهنية، فسنجد جوابا على ذلك من خلال الخطاب الديني السائد، وحجم النصوص المؤسسة للعنف المقدس، الذي ينطوي على حالة من اللاتسامح مع الآخر والمختلف، مما يولد حالة نفسية مستعصية تجعل المؤمن اليوم يعيش أزمة وجودية في علاقته بذاته، وبالآخر الذي يتقاسم معه العيش على هذه الأرض. ولكن لا بد ونحن نتحدث عن الإطار الديني الإسلامي من أن نميز بين شيئين اثنين: الأول: نصوص القرآن الكريم. والثاني. نصوص السنة النبوية. لأن هناك نوعا من التباين بين هذين الإطارين على مستوى التصور النظري، وأيضا على مستوى الصحة والثبوت. وهناك قاعدة قررها علماء الحديث قديما تنفي أن يكون هناك تعارض حاصل بين المصدرين الإسلاميين، وفي هذا الصدد يقول ابن الصلاح في المقدمة:” قد يقال هذا حديث صحيح الإسناد، ولا يصح لكونه شاذا أو معللا “. ويقول ابن كثير في اختصار علوم الحديث:” والحكم بالصحة أو الحسن على الإسناد لا يلزم منه بذلك على المتن، إذ قد يكون شاذا أو معللا “. معنى ذلك أن صحة الأحاديث تقتضي أن تكون معانيها ومفهوماتها خاضعة لمقاييس غاية في الدقة، كأن تكون موافقة لموازين القرآن الكريم ومقاصده وآياته وبلاغاته، غير متعارضة مع ما استقر عليه العقل والمنطق السليم، ومقاصد الشرع وكلياته، والسنن الكونية التي خلق عليها هذا الكون، وجعلها ناظمة للتاريخ والمجتمع البشري.

في الصحيحين بسند موصول إلى النبي يقول:” نصرت بالرعب مسيرة شهر… “. حيث يجعل الحديث الرعب وسيلة من وسائل النصر والدعم المباشر، سواء كان نفسيا أو ماديا. وهو تحول دراماتيكي في التعامل مع طبيعة النبي عليه السلام الذي أكدت العديد من الآيات أنه نموذج للرأفة والرحمة والعطف مع المؤيدين والمخالفين. وإذا تأملنا في قوله تعالى وهو يصف النبي عليه السلام بالرحمة:” وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين “، نقرأ نوعا من التناقض الحاصل بين الروايات الثقافية المحكومة بالسقف الزمني الذي انطلق منه رواتها. لأن النبي عليه السلام كما وجهه إلى ذلك ربه كان واعيا بحجم التداعيات التي يطرحها عليها العنف، لهذا أمره تعالى بقوله:” ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن “، هكذا هي طبيعة الإنسان الخير والمتواصل مع ذاته ومحيطة، وغير ذلك يعني الفظاظة والقسوة التي تفرق الجموع:” ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك “.

أما الحديث الثاني فهو مسنود إلى رسول الله يقول فيه:” أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله “. وهو حديث يضعنا أمام مفارقات خطيرة، حيث يصبح الولاء للعقيدة هو المستحكم، بدل أن يكون الولاء للإنسانية هو الحاكم، وهذا المنطق يختلف مع ما أكده القرآن الكريم الذي شرع القتال بطريقة دفاعية، ولإبعاد الظلم والظالمين:” لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون “. فعصمة المال والدم مكفولة بالبيان القرآني:” لا إكراه في الدين “، ولا يحق لأي أحد مصادرة هذا الحق الطبيعي للإنسان بحديث يخالف التصور القرآني الممتد برحابته إلى الأفق الإنساني البعيد عن النوازع المتطرفة التي تأخذ أشكالا متعددة باختلاف الزمان والمكان.

المراجع:

[1] – لوبون، غوستاف. الآراء والمعتقدات. ترجمة عادل زعيتر. مؤسسة هنداوي، 2012، ص: 15.

[2] – – ألفرد نورث، هوايتهد. كيف يتكون الدين. ترجمة رضوان السيد. بيروت، جداول للنشر والتوزيع والنشر،ط1، 2017.  ص:19.

[3] – المرجع السابق. ص: 20.

[4] – غوستاف، لوبون. المرجع السابق. ص: 17 .

[5] – ألفرد، نورث هوايتهد. المرجع السابق. ص: 21.

[6] – ياسين، عبد الجواد. الدين والتدين التشريع والنص والاجتماع. المركز الثقافي العربي، ط2، 2014، ص: 5.

[7] – غوستاف، لوبون. المرجع السابق. ص: 18.

[8] – برنار، شوفييه. المتعصبون جنون الإيمان. ترجمة قاسم المقداد. دار نينوى، ط1، 2014.

[9] – رينيه، جيرار. العنف المقدس. ترجمة سمير ريشا. المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2OO9، ص: 8.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete