تكوين
يُعد القرآن أحد أكثر الكتب المقروءة على وجه الأرض، ومع ذلك، كثيرا ما يُساء فهمه والاقتباس منه. ويقول منتقدو الإسلام إنه يحتوي على آيات تحض على ممارسة العنف ضد غير المسلمين، كما يأتي كذلك على ذكر مفهوم الحرب، وهو مفهومٌ مطلق وأكثر عموميةً بكثير قياسا إلى نظرية الحرب العادلة الغربية. وهذه الدراسة ليست استعراضا عاما أو نقدا لأحكام الحرب في الفقه الإسلامي، وهذه الأحكام ما هي إلا آراء متنوعة -وأحيانا متناقضة- لفقهاء العصور الوسطى، وتحديدا من القرن التاسع الميلادي إلى القرن الثالث عشر الميلادي. بدلا من ذلك، ينصب اهتمام هذه الدراسة على تحليل النص القرآني ذاته فحسب، وتحاول -من خلال وضع آياته في سياقها التاريخي- شرح قواعده السلوكية من أجل تحديد ما يتوجب على المسلمين فعله أو ما يُسمح لهم به فيما يتعلق باستخدام القوة العسكرية. وتنتهي الدراسة إلى أن منطوق القرآن واضح في هذا الشأن وهو: لا يجب على المسلمين البدء بشن هجمات عنيفة، وإذا ما أصبحت الحرب الدفاعية أمرا مقدورا لا مفر منه، يتم توجيههم دائما للتصرف وفقا لمدونة سلوك أخلاقي تشبه إلى حد كبير تقاليد الحرب العادلة الغربية. إذن، تحاول هذه الدراسة تبديد أي تصورات خاطئة ترى أن النصّ الإسلامي المقدس يدعو إلى إخضاع غير المسلمين أو قتلهم وتكشف، على العكس من ذلك، أن مفاهيمه الأساسية والقطعية التي تحكم قواعد الحرب تقوم على العدل والإيمان العميق بحرمة الحياة الإنسانية.
فيما يبدو، عزز النفور العالمي من العنف الوحشي الفظيع والبربري واسع النطاق الذي مارسه ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، إبان سعيه لتأسيس خلافته المزعومة في سوريا والعراق وتوسيعها، أقول عزز هذا النفور إحدى وجهات النظر الرائجة التي ترى أن الإسلام دين يدعو إلى العنف بطبيعته أو على الأقل تتسامح أحكامه ومبادئه حيال ممارسة العنف أكثر من غيره من الديانات الكبرى الأخرى.
وحتى قبل أن تبدأ إدارة بوش حملتها المكثفة لملاحقة الإرهابيين المعادين للولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم في العام 2001 -وهي الحملة التي سرعان ما باتت تُعرف بالحرب على الإرهاب- عانى عددٌ من الدول بما في ذلك أمريكا وإسرائيل بالفعل من هجمات إرهابية نفذها أشخاص مسلمون بلا ريب. على سبيل المثال، أدى تفجير السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام في العام 1998 إلى لفت انتباه أجهزة الأمن الأمريكية إلى أسامة بن لادن وأيمن الظواهري لأول مرة. وهؤلاء الإرهابيون ورفاقهم الأيديولوجيون تبنوا رأي الأقلية المتطرفة في الإسلام. وبحسب هذا الرأي، تشكّل المعارضة المسلحة لأي نشاط سياسي مزعوم يهدف إلى إضعاف الدول الإسلامية ويهدد مصالحها جهادا في سبيل الله. ومع ذلك، لم يلق هؤلاء الذين يُدعون بالجهاديين الكثير من الاهتمام العام حتى حلول ذلك اليوم المروع عندما اختطف تسعة عشر شخصا منهم أربع طائرات ونفذوا أسوأ هجوم إرهابي في التاريخ.
من المستحيل أن ننكر تحوُّل المواقف الغربية تجاه الإسلام إلى الجانب الأسوأ في ذلك الوقت، كما أنها لم تعد إلى ما كانت الحال عليه قبل العام 2001. ومن بين الآراء السلبية الرائجة على نطاق واسع عن الإسلام ثمة قناعة (أو على الأقل مصدر قلق) تقضي بأنه فيما يلتزم الغرب بمبادئ الحرب العادلة، لا تمتلك الدول والشعوب الأخرى، خاصة المسلمون عموما والعرب خصوصا، إطارا فلسفيا مماثلا لضبط السلوك الأخلاقي في حالة النزاعات الدولية وأثناء خوض الحرب ذاتها. وفقا لهذا التصور الخاطئ، تقوم قوانين الحرب الغربية على مبادئ ضبط النفس والفروسية واحترام الحياة المدنية، في حين تنطوي المعتقدات الإسلامية على أفكار أكثر تشددا وعدوانية عن الحرب وأكثر تسامحا حيال العنف وانعدام التمييز بين المقاتلين والمدنيين. كما أكدت الجرائم التي ارتكبها تنظيم داعش بين عامي 2014 و2017 على هذا المفهوم الخاطئ، من خلال ممارسات قطع الرؤوس والإعدام بالخوازيق والصلب وإحراق السجناء، مما أعطى انطباعا بأن الإسلام يمكنه أن يغض الطرف عن بربرية العصور الوسطى بطريقة أو بأخرى.
وهذه الدراسة ليست استعراضا عاما أو نقدا لأحكام الحرب في الفقه الإسلامي، وهذه الأحكام ما هي إلا آراء متنوعة -وأحيانا متناقضة- لفقهاء العصور الوسطى، وتحديدا من القرن التاسع الميلادي إلى القرن الثالث عشر الميلادي، ولكيفية ترجمة هؤلاء الفقهاء لاحقا المفاهيم القرآنية الأساسية المؤطرة لمسؤوليات وحقوق كلٍ من المقاتلين وأهل القتال والمحاربين، وغير المقاتلين وغير المحاربين، إلى أحكام وفلسفات مكتوبة كجزء من الفقه الإسلامي ومنصوص عليها في كتب الفقه. بدلا من ذلك، ينصب اهتمام هذه الدراسة على تحليل النص القرآني ذاته فحسب، وتحاول شرح قواعده السلوكية من أجل تحديد ما يتوجب على المسلمين فعله أو ما يُسمح لهم به فيما يتعلق باستخدام القوة العسكرية. وتنتهي الدراسة إلى أن منطوق القرآن واضح في هذا الشأن وهو: لا يجب على المسلمين البدء بشن هجمات عنيفة، وإذا ما أصبحت الحرب الدفاعية أمرا مقدورا لا مفر منه، يتم توجيههم دائما للتصرف وفقا لمدونة سلوك أخلاقي تشبه إلى حد كبير قانون المحارب الغربي المنصوص عليه في عقيدة الحرب العادلة وتتفق معه. إذن، تحاول هذه الدراسة تبديد أي تصورات خاطئة ترى أن النصّ الإسلامي المقدس يدعو إلى إخضاع غير المسلمين أو قتلهم وتكشف، على العكس من ذلك، أن مفاهيمه الأساسية والقطعية التي تحكم قواعد الحرب تقوم على العدل والإيمان العميق بحرمة الحياة الإنسانية.
القرآن
لسوء الحظ، لا يميل الناس عادةً إلى قراءة الكتب المقدسة للأديان الأخرى، وليس من المستغرب حينئذ أن نجد عددا قليلا جدًا من المسلمين قد درس التناخ اليهودي أو العهد الجديد المسيحي أو الفيدا الهندوسي، بالرغم من أن المسلمين يشكلون ربع سكان العالم[2]، وبالمثل قام عدد قليل من غير المسلمين ببذل الوقت الكافي للنظر في القرآن. ولم يقم الكثير من الناس “بالغوص” في أعماق الكتب المقدسة الأخرى للتعرف سريعا على لغة هذه الكتب وأسلوبها ورسالتها. ومع ذلك، وبالنظر إلى الموقع الجغرافي لعددٍ من الحروب الكبرى التي وقعت خلال العقدين الماضيين، والأهمية الاستراتيجية للشرق الأوسط، فضلا عن الأصول الثقافية لبعض الجماعات الإرهابية التي ظهرت مؤخرا، فمن المدهش أن نجد قلة قليلة للغاية من غير المسلمين قد قرأت القرآن، وهو كتاب قصير نسبيا يتكون من حوالي 77000 كلمة، مما يجعله بحجم معظم روايات الإثارة أو الروايات الرومانسية، أو ما يقرب من نصف حجم العهد الجديد، أو سبع العهد القديم[3]. كما أنه ليس كتابا معقدا من حيث فلسفته، وليس مكتوبا بلغة شعرية غامضة ولا يكتنفه غموض صوفيّ أو باطنيّ.
يؤمن المسلمون أن القرآن نزل منجما على محمد بواسطة الملك جبريل (جبرائيل في الكتاب المقدس)، عندما كان تاجرا مكيا في المملكة العربية السعودية حاليا، في فترات الوحي من الله، وعلى مدى ثلاثة وعشرين عاما بدأت من العام 610 ميلاديا. وقد حفظ صحابة محمد الوحي عن ظهر قلب وكتبوه على الفور تقريبا وقاموا بجمعه في النسخة العربية النهائية للقرآن في غضون عقدين من وفاته في العام 632. وهذه النسخة العربية لم تتغير في الأربعة عشر قرنا الماضية. لذلك يؤمن المسلمون بأن القرآن كلام الله حقا، وقد حُفِظ بدقة كما نزل على محمد. وهذا يفسر سبب سعي معظم المسلمين البالغ عددهم 1.6 مليار مسلم[4] إلى تعلم أساسيات اللغة العربية القرآنية على الأقل حتى يتمكنوا من قراءة كلام الله وسماعه كما نزل في الأصل[5].
ومن شأن القراءة الموضوعية للقرآن أن تلفت أنظار القارئ إلى مئات الآيات التي تحض على التسامح والصفح والمغفرة والمساواة والسلام. وهذه هي الغالبية العظمى من آيات القرآن والوجهة الأساسية للرسالة القرآنية. وثمة دلالة واضحة على هذه الرسالة تكمن في حقيقة أن كل سورة من سور القرآن البالغ عددها 114 سورة، باستثناء سورة واحدة، تبدأ بالتذكير برحمة الله وتسامحه تجاه البشر: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيْمِ. ويؤمن المسلمون أن رحمة الله ومغفرته للبشر يجب أن تنعكس بينهم بقدر الإمكان من خلال تراحمهم وتسامحهم حيال بعضهم البعض.
ومع ذلك، سيجد القارئ أيضا في القرآن آياتٍ تبدو وكأنها تحاكي “العهد القديم” من حيث الأسلوب والرسالة وأكثر ولعا بالحرب مما اعتاد المسيحيون، على سبيل المثال، قراءته في كلمات المسيح ولدى كاتبي العهد الجديد. وكثيرا ما يعمد منتقدو القرآن، الذين يقدمون ما أعتبرهُ حجاجا غير متماسك مفاده أن الإسلام هو أكثر أديان العالم ولعا بالحرب -ومن بينهم الباحث والمدون الأمريكي روبرت سبنسر وهو الأكثر إنتاجا وتأثيرا في هذا الصدد[6]-، إلى تسليط الضوء على تلك الآيات القرآنية على نحوٍ روتيني لدعم حجتهم القائلة بأن الإسلام دين لديه ميول واضحة نحو الحرب العدوانية والعشوائية، وأنه لا يجنح للسلام الشامل[7].
وهؤلاء الكتاب يركزون اهتمامهم عموما على بعض الآيات القرآنية التي يبدو أنها تشير إلى أن الله يحث المسلمين على إخضاع غير المسلمين أو مطاردتهم بل وحتى قتلهم إذا رفضوا الخضوع للمسلمين. ويحيل هؤلاء النقاد على الآية الخامسة من سورة التوبة خاصةً والتي باتت تُعرف بـ”آية السيف”. وتأمر هذه الآية المسلمين صراحةً بقتل المشركين:
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}[8].
وغالبا ما يضيف النقاد إلى شجبهم آية السيف سالفة الذكر إدانات قوية بالقدر نفسه للآية (29) من سورة التوبة، حيث توجّه هذه الآية المسلمين إلى قتال الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر:
{قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[9].
ويؤكد كثير من منتقدي هذه الآية أنها توجه المسلمين إلى شن حرب ضد أي شخص غير مؤمن وضد جميع الكفار حيثما كانوا مِمَّن يرفضون اعتناق الإسلام أو الخضوع للحكم الإسلامي على الأقل[10]. كما يركز المنتقدون أيضا تركيزا سلبيا على آيات سورة البقرة (190-194) التي تقول:
{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ. فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ}.
وحسبما يؤكد منتقدو الإسلام، لا يمكنك أن تتخيل بوذا الوديع أو يسوع المسالم الذي يدير لمن صفع خده الخد الآخر ينطقان بمثل هذه الكلمات، متجاهلين بقولهم هذا الروح القتالية الشديدة والعنف الصريح الذي تضج به بعض آيات العهد القديم، وهو الوحي الذي تبناه يسوع تماما بحماس. كما أنهم يتجاهلون بعض عبارات يسوع التي تبدو متناقضة ويرون أنها تشبيهات مجازية، مثل آية لوقا (36:22)، حيث شجع يسوع تلاميذه على بيع أرديتهم حتى يتمكنوا من شراء السيوف، ومتى (34:10): «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا»[11].
لا يولي معارضو رسالة القرآن أهمية كبرى للاختلافات الواضحة في الخبرات والمسؤوليات بين يسوع ومحمد. فقد كان يسوع زعيما روحيا لجماعة صغيرة وحميمة من الأتباع اليهود في زمن الاحتلال الروماني، ولكن كان هناك سلام نسبي وأمن سائد يعمّ أرجاء الأرض. لقد عانى يسوع من الموت، وفقًا للأناجيل المسيحية المقدسة، لكن الحكم عليه من قبل السلطة الرومانية أتى بعد موجة قصيرة من غضب الدولة الذي أعقب عدة سنوات من قدرته على الوعظ في جميع أنحاء الأرض بلا معارضة شديدة ودون أن يلقى عنفا يُذكر. على النقيض من ذلك، لم يجد النبي محمد نفسه الزعيم الروحي فحسب، وإنما القائد السياسي والتشريعي أيضا لمجتمع ضخم أراد أن يكون مجتمعا معتدلا وعادلا ومستوعبا للجميع ولكنه عانى من العنف والاضطهاد المنظم والحرب التي شنتها الكيانات السياسية الأخرى التي كانت تسعى للقضاء على مجتمعه. ومثلما كان موسى ويوشع وداود، تضمنت مسؤولياته الإعاشة والتعليم والحكم وتوفير الأمن لعشرات الآلاف من الأطفال والرجال والنساء.
كما يبدو أننا نشهد حالة من ازدواجية المعايير أيضا. فكثير من الباحثين والمثقفين الذين لا تروق لهم حقيقة أن محمدا اضطر إلى خوض حملات عسكرية أثناء طريقه إلى السلام، والذين يعتبرون دينه دينا عنيفا بطبيعته، يتغاضون عن حقيقة مفادها أن عددا من أنبياء الكتاب المقدس وقادته -بما في ذلك موسى، ويوشع، وشمشون ، وداود، وغيرهم من الشخصيات المفضلة لدى مدارس الأحد- كانوا أيضا محاربين عند الضرورة. وعلى الرغم من وجود صور هؤلاء المحاربين في كتب أطفالنا، إلا أن أفعالهم تضمنت ممارسات القتل المتكررة وصيغت أحيانا بلغة متعطشة للدماء. على سبيل المثال، نقرأ في سفر العدد (٣١: ١٥-١٧) أن موسى أمر بشن الحرب ضد المديانيين، شعب زوجته، ولكنه شعر بغضب شديد عندما اختار قادة الجيش عدم قتل النساء بعد أن قتلوا جميع الرجال. لذلك أمر محاربيه بقتل كل طفل ذكر وكل امرأة عاشرت رجلا وأن يبقوا على العذارى اللواتي سُمح للإسرائيليين باتخاذهن إماءً. ولا يتفق ذلك مع وجهة نظر تشارلتون هيستون عن كل نبي يهودي ومسيحي معروف.
ومن الجدير بالملاحظة أنه من بين الأسفار المقدسة التي تشكل الأساس والجزء الأكبر من التراث اليهومسيحي -العهد القديم- يمكن للمرء أن يقرأ عددا من الآيات التي تدعو صراحة (أو تؤيد على الأقل) إلى ممارسة العنف واسع النطاق بما لا يتوافق مع أي قوانين للحرب قد يقبلها اليهود والمسيحيون في الوقت الحاضر. على سبيل المثال، عندما قاد يشوع الإسرائيليين إلى أرض الميعاد وفرض حصارا على أريحا، وهي أول مدينة مسورة واجهوها غرب نهر الأردن، «أهلكوا بالسيف كل من فيها من رجال ونساء وصغار وكبار وبقر وغنم وحمير»[12]. فالافتقار إلى ما نسميه اليوم تمييزا بين المقاتلين وغير المقاتلين يجري وفقا لوصية الله السابقة بأنه «في المدن التي يعطيها إلهكم لكم»، كان على الإسرائيليين التأكد من أنهم «لن يبقوا شيئا حيا»[13].
لقد كان العالم القديم بالطبع عالما وحشيا في بعض الأحيان، وشهد في بعض الأوقات حملات عسكرية عنيفة واسعة النطاق ومتعمَّدة ضد مجتمعات مدنية بأسرها. ففي العام 146 قبل الميلاد، وقف القائد الروماني سكيبيو إيميليانوس أفريكانوس، بينما يشاهد قواته وهي تدمر مدينة قرطاج المعادية وتسويها بالأرض بعدما أمرهم ألا يبقوا لها أثرا، قائلا: «يا له من منظر رائع. ومع ذلك، أشعر بالجزع والرهبة من أن يقوم شخص ما في يوم من الأيام بإعطاء نفس الأمر ضد مدينتي»[14].
إقرأ أيضاً: معاوية بن أبي سفيان: رؤية تاريخية – نقدية
لا أحد يشك في أن البشرية قد أحرزت منذ ذلك الحين تقدما هائلا في الطريقة التي تتصور بها الهدف من الحرب وطبيعتها ودور غير المقاتلين فيها وكيفية معاملتهم. ومع ذلك، من الخطأ أن نتصور أن “المنهج القرطاجي” قد اختفى بالكلية. فقد شهدت محرقة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، وهي أكبر عملية قتل جماعي للمدنيين في التاريخ، عمليات قتل متعمدة لنحو ستة ملايين يهودي على يد الألمان وغيرهم ممن اعتبروا أنفسهم مسيحيين أو على الأقل منتسبين إلى منظومة القيم المسيحية. ومن الجرائم الأخرى التي ارتكبها المسيحيون خلال الحروب الأخيرة مذبحة صرب البوسنة (المسيحيون الأرثوذكس) التي راح ضحيتها 8300 رجلا وصبيا من المسلمين البوشناق في مدينة سريبرينيتشا في يوليو 1995.
ويكشف التقييم العادل للأدلة التاريخية أن المسيحية هي إيمان بالعدالة ولا يمكن إلقاء اللوم عليها في حد ذاتها بسبب الحروب الصليبية أو الهولوكوست أو مذبحة سريبرينيتشا أو هجوم “تيموثي مك في” الإرهابي على مدينة أوكلاهوما في العام 1995 ، بالرغم من ارتكاب مسيحيين لتلك الأعمال الفظيعة وغيرها الكثير. وبالمثل، يكشف التقييم العادل للإسلام أنه دين العدالة الذي لا يمكن أن يُنظر إليه حقا على أنه يستحق اللوم في حد ذاته على الإبادة الجماعية للأرمن، أو الحرب العراقية الإيرانية، أو غزو صدام حسين للكويت، أو هجمات تنظيم القاعدة على أمريكا في العام 2001، أو فظائع داعش بين عامي 2014 و 2017 ، رغم أن أشخاصا مسلمين قد ارتكبوا تلك الأعمال المشينة. ومن المؤكد أن القرآن لا يحتوي على آيات تحض على العنف مثل نصوص الكتاب المقدس المذكورة سابقا، أو على آيات قرآنية أخرى أكثر عنفا من تلك التي ذكرناها بالفعل. على أية حال، حتى الآيات القرآنية التي تبدو أكثر عنفا لم ترفد الحركات الإسلامية الكبرى، على عكس الجماعات المنشقة الأصغر والأكثر حماسا التي تعتقد أنها مفوضة لشن حرب هجومية أو ارتكاب أعمال وحشية شنيعة لا تفرق بين المقاتيلن وغير المقاتيلن.
فهم النسخ
بينما يؤمن المسلمون بأن القرآن هو آخر ما أنزل الله من الوحي بلفظه إلى الناس، فإنهم يدركون أنه لا يُقصد منه أن يُقرأ بوصفه رسالة منهجية تشريعية أو أخلاقية. فهم يفهمونه بوصفه انعكاسا خطابيا للأحداث والتجارب المرحلية التي مرّ بها النبي محمد وأتباعه المتزايد عددهم باستمرار وكذلك خصومه المتناقص عددهم باضطراد خلال الثلاثة وعشرين عاما الفاصلة بين أول نزول للوحي على النبي محمد وبين هيمنته السياسية على إقليم الحجاز بالجزيرة العربية[15]. وبالتالي، ظهر عددٌ من الأحكام التشريعية خلال ظهور القرآن أو تطورت على مراحل طوال تلك الفترة، إلى جانب بعض الأحكام المبكرة المتعلقة بالفرائض، والخمر، والشريعة، والتدابير الاجتماعية وما إلى ذلك، مع استدراك بعض الآيات على بعض، وهي الظاهرة المعروفة في اللغة العربية باسم “النسخ”، والتي تحدّث عنها القرآن ذاته. فعلى سبيل المثال، توضح الآية (106) من سورة البقرة أن الله عندما ينسخ آية، فإنه يأتي بآية مثلها أو بخير منها.
إن إلغاء حكم تشريعي ما بواسطة حكم تشريعي لاحق في بعض الحالات لا يعني بالطبع أن المسلمين يعتقدون أن جميع النصوص اللاحقة تنسخ تلقائيا النصوص السابقة في جميع الأحكام، إذ ينص القرآن ذاته في عددٍ من السور على أن رسالته عالمية للناس جميعا، وأن الله أرسل النبي للناس بشيرا ونذيرا[16]. ومع مراعاة ذلك، يعتقد المسلمون أن تجاهل النصوص المقدسة بحجة تغير الظرف الآن أمر خاطئ، تماما كاعتقاد المرء بأنه يمكن أن يفهم معنى آيات ما عند قراءتها منفردة دون رؤية كيفية تشكيلها لأجزاء من مفاهيم متسقة تظهر فقط عند قراءة النص بأكمله. ولن يكون مفيدا أن نتبنى أيا من المقاربتين السابقتين، بل سيكون ذلك مضللا في نهاية المطاف. فقط عندما تُدرَس المفاهيم الأساسية للقرآن دراسة شاملة، مع إدراك سياق الوحي وتماسُك الأفكار التي قدمها القرآن ككل، سيتمكن القرّاء من فهم المنظومة الأخلاقية للقرآن والتي يمكن تطبيقها تطبيقا عالميا.
أما منتقدو الإسلام فيتبنون وجهة نظر مختلفة، إذ يعتقدون خطأ أن جميع الآيات القرآنية اللاحقة تلغي جميع ما سبقها أو تستدرك عليه، مختلقين سردية استثنائية يرون بموجبها أن السنوات الأولى من رسالة النبي محمد، وبينما كان لا يزال في مسقط رأسه بمكة، شهدت دعوة محمد المغلوب على أمره إلى التعايش السلمي مع معتنقي الديانات الأخرى، وخاصة اليهود والمسيحيين. وبالرغم من تصاعد وتيرة المقاومة والاضطهاد، وجميعها ممارسات مهينة وبعضها عنيف، كان على محمد أن ينتهج مسلكية الصبر واللاعنف كغاندي أو المسيح. ولاحقا، بعد أن فرّ هو وأتباعه من الاضطهاد عام 622 بالهجرة إلى المدينة، حيث سنحت الفرصة لتأسيس مجتمع ديني كبير وأكثر نفوذا، شعر محمد صاحب النفوذ المتزايد بالمرارة من خصومه المعاندين في مكة وأمر بشن الحرب عليهم[17]. وأخيرا (بحسب ما يزعم هؤلاء المنتقدون)، بعد الاحتلال الإسلامي السلمي المفاجئ لمكة في العام 630، أدرك محمد القوي أن اليهود وغيرهم لن يقبلوا زعامته الدينية أو لن يعتنقوا الدين الإسلامي، لذلك بدأ حربا هجومية ضد غير المؤمنين جميعا[18]. بالإضافة إلى ذلك، يزعم المنتقدون أنه نظرا لأن محمدا لم يوضح موقفه أو يغيره قبل وفاته بعد ذلك بعامين، في العام 632، وبعد انقطاع وحي الله للبشر، فإن الآيات التي تحث على قتال الكفار لا تزال سارية الحكم حتى اليوم. ومن المفترض أن تشمل هذه الآيات الآية المذكورة آنفا المسماة بـ”آية السيف” (وكذلك الآية 29 من نفس السورة)، والتي نزلت على محمد في العام 631[19]. كما كتب الباحث ديفيد بوكاي، وهو أحد منتقدي للإسلام، قائلا:
«بنزولها قبل موت محمد … تحظى آيات سورة التوبة بالأولوية على ما نزل قبلها من الوحي. ولأن هذه السورة تحتوي على آيات تحض على ممارسة العنف، فإنها تنسخ آيات السلم السابقة عليها»[20].
ويُصرّ منتقدو الإسلام الذين يؤمنون بهذا الرأي على أن هذه الآيات الحربية نسخت عشرات الآيات السابقة التي تحض على التسامح والصبر والتي تثني على المقاومة الروحية (الصلاة والدعوة إلى الله بالموعظة الحسنة) واللاعنف الجسدي.
كما يشير هؤلاء المنتقدون إلى أن أسامة بن لادن وغيره من متطرفي “الإسلامويين” البارزين -مِمَّن يُصرون أيضًا على أن الآيات الحربية اللاحقة نسخت ما سبقها من الآيات السلمية والشاملة- قد برروا هجماتهم الإرهابية على أمريكا وغيرها من الدول بالإحالة على “آية السيف” وغيرها من الآيات الأكثر شدة على الأعداء المذكورة فيما مرّ معنا.
ومن المؤكد أن ابن لادن استدل بآية السيف وغيرها من الآيات التي تبدو عدوانية في تأسيس فتواه الصادرة في أغسطس عام 1996: «إعلان الحرب ضد الأمريكيين الذين يحتلون أرض الحرمين الشريفين»[21]، وكذلك في فتواه الصادرة في فبراير عام 1998[22]. فقد حثت الفتوى الأولى المسلمين على قتال الأمريكيين حتى ينسحبوا من احتلالهم للمملكة العربية السعودية، بينما نصت الفتوى الثانية بشكل أعمّ على قتال الأمريكيين (مدنيين وعسكريين) وحلفائهم، وخاصة الإسرائيليين، بسبب قتلهم المسلمين ونهب ثرواتهم في مختلف أنحاء العالم.
بالطبع، لم يكن ابن لادن المحارب رجل دين أو باحثا دينيا أو مؤرخا للإسلام المبكر. وإنما كان قاتلا متطرفا بلا روية ولا هوادة. ومثلما كان أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم داعش، لم يكن ابن لادن ممثلا للعقيدة أو السلوك الإسلامي، ولم يسلّم له أحد بمكانة في العلوم الإسلامية تكفل له ممارسة الإفتاء. وبالتالي لا يتمتع إصراراه على أن آية السيف والآيات المماثلة لا تزال سارية وقابلة للتطبيق عالميا بمثقال ذرة من السلطة أو المصداقية، إلا بين المتعصبين الراديكاليين الذين يشاركونه رؤيته للعالم ويعتبرونه مثالا يُحتذى به، وهم قلة لحسن الحظ.
ومن المؤكد أن معظم علماء المسلمين اليوم من المعنيين بدراسة القرآن وسيرة النبي محمد، على عكس علماء العصور الوسطى المليئة بالحروب على سبيل المثال، يقطعون بأن أكثر الآيات حربية في القرآن، حتى تلك التي نزلت في وقت متأخر جدا من رسالة محمد، لا تنسخ هذا العدد الهائل من الآيات التي تحض على التسامح والتآلف والسلام[23]. على سبيل المثال، بحسب الباحث البريطاني زكريا بشير (مؤلف العديد من الكتب حول الإسلام المبكر التي تقدم تحليلا شاملا للحرب)، فإن كل آيات الرحمة الواردة في القرآن والتي ترشد المسلمين إلى أن يكونوا مسالمين ومتسامحين وغير عدوانيين هي آيات «محكمة، أي قاطعة، وليست مجازية. ولا آيات منسوخة، لذلك فهي باقية بكل تأكيد. ولا يوجد سبب على الإطلاق للاعتقاد بأنها منسوخة»[24].
ويضيف بشير أنه حتى المعلومات السياقية التي يكشف عنها القرآن ذاته ستقود القراء إلى الاستنتاج الحتمي القائل بأن آية السيف تتعلق فقط بزمان ومكان ومجموعة ظروف معينة، وأن المزاعم القائلة بنسخها لنهج التسامح الراسخ «لا تؤكدها حقائق التاريخ»[25]. ويوافقه الرأي كذلك الباحث البريطاني لؤي فتوحي، مجادلا بأن “الغالبية العظمى” من علماء المسلمين يرفضون القول بالنسخ[26]. ويسلط فتوحي الضوء على حقيقة مفادها أن العالم الإسلامي لم يتصرف أبدًا عبر التاريخ وفقا لهذه الرؤية المتطرفة. ويشير إلى أن المسلمين تعايشوا دائما بشكل جيد جدا مع المجتمعات الدينية الأخرى، وأن 1600 مليون مسلم مسالم حول العالم اليوم لا يقبلون وجهة نظر مخالفة لذلك، لأنهم إذا قبلوا ذلك، فسيكونوا جميعا في حالة حرب كما نقول. وقد لخص محمد أبو زهرة، المفكر المصري المهم والمؤثر والباحث في الشريعة الإسلامية، وجهة النظر الإسلامية العامة برفض القول بالنسخ فيما يتعلق بالقتال مشيرا إلى أن «الحرب لفرض دين الإسلام على الكافرين أو لدعم نظام اجتماعي معين غير مأذون بها. فلم يقاتل النبي محمد إلا لدفع العدوان»[27].
تفسير آية السيف
من الصحيح تماما أن آية السيف، إذا ما نظرنا إليها منفردةً، تبدو خطابا عنيفا على نحو غير عادي قياسا إلى نبيّ كان يدعو إلى التسامح والسلام والائتلاف على مدى عشرين عاما. ومع ذلك، من الصحيح أيضا أنه عند قراءتها في سياق الآيات السابقة واللاحقة عليها، وعندما يُنظَر في ظروف تلفظ النبي بها، فلا يصعُب على القرّاء الذين ليس لديهم أفكار وتحيزات مسبقة فهمها فهما جيدا. وها هي الآية مرةً أخرى:
{فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
تشير حقيقة أن الآية تبدأ بحرف الفاء الاستئنافية إلى أن تسلسلها المنطقي ينحدر من الآية أو الآيات السابقة. وفي الواقع، تشرح الآيات الأربع السابقة سياق الآية.
تقدم لنا الآية الأولى من سورة التوبة السياق التاريخي بوصفه انتهاكا لصلح الحديبية المبرم عام 628 بين دولة المدينة وقبيلة قريش المكية. إجمالا، عُقد هذا الصلح بين محمد وأتباعه من جهة وأولئك المكيين الذين أمضوا عقدا من الزمن يحاولون القضاء على المسلمين من جهة أخرى. وبعد عامين من عقد الصلح، هاجمت قبيلة بني بكر المتحالفة مع قريش قبيلة بني خزاعة المتحالفة مع المسلمين. فاعتبر محمدٌ هجوم بني بكر انتهاكا للعهد، محاججا بأن الهجوم على أحد الحلفاء يشكل هجوما على مجتمعه ذاته[28]. وبعد أن دخل مكة دون قتال وطهّر الكعبة من الأصنام (فقد دمّر النبي ما لا يقل عن 360 صنما منصوبا حول الكعبة)، نزل الوحي القرآني بتحذير شديد اللهجة. وتكشف مصادر أخرى أن محمدا صدع بها على درجات الكعبة وأرسل نوابا عنه إلى الأحياء المحيطة بمكة لتحطيم الأوثان وإنذار القبائل المحلية[29]. وقد كان التحذير واضحا: لن يحج أي شخص مشرك بعد ذلك الحين، ولن يطوف بالبيت عريان[30]. ولن يُتسامَح بعد اليوم مع الشرك (عبادة أكثر من إله) وعبادة الأصنام (عبادة أي إنسان أو شيء بدلا من الإله الواحد) داخل المدينة الإسلامية المقدسة. ومنذ ذلك الوقت فصاعدا، ستكون المدينة مكرسة لعبادة الله وحده[31]. كما تنصّ آيتا سورة التوبة (17-18):
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّه شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ. إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ}.
كما نزلت الآيتان الثانية والثالثة على محمد لتحذير المشركين الذين يقيمون في مكة وما حولها وكذلك الحجاج المشركين أو الوثنيين المارين بطرق التجارة والحج التي يسيطر عليها المسلمون تحذيرا واضحا بضرورة التوقف عن ذلك أو مغادرة المدينة. وقد نصت الآيات على فترة عفو تستمر حتى نهاية موسم الحج. وهكذا، حصل المشركون وعبدة الأوثان العرب على فترة سماح مدتها أربعة أشهر. وتوضح الآية الرابعة أنه خلال فترة العفو تلك، تُرِك المشركون أو الوثنيون دون مساس حتى لا ينقض المسلمون عهدوهم. {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} بعد أن أوضحت الآيات أن التهديد بالعنف لا يطال إلا أولئك الذين يتجاهلون التحذيرات ويستمرون في الممارسات الشركية وعبادة الأوثان في المدينة المقدسة وما حولها، وكانوا من الحماقة بحيث أنهم لم يغادروا بعد الأشهر الأربعة، وقد حذرتهم الآية الخامسة -آية السيف- بوضوح من وجود تطهير عسكري عنيف سيخاطرون فيه بحياتهم حال بقائهم.
وبالرغم من تجاهل منتقدي آية السيف لهذا الأمر في بعض الأحيان، إلا أن الآية تنصّ في الواقع على بند ثانوي -يأتي بعد التوجيه بقتل أي شخص يتجاهل التحذيرات الواضحة ويواصل ممارسات الشرك أو عبادة الأصنام في المدينة المقدسة- يأمر المسلمين أن يكونوا رحماء {فَخَلُّوا سَبِيلَهُم} مع من تاب وقبل شعائر الإسلام. بالإضافة إلى ذلك، فإن آية السيف تتبعها مباشرة آية تحض على الخير على نحو غير عادي -ومرة أخرى عادةً ما تتجاهلها الأطروحات المنتقدة للإسلام- حيث تطالب المسلمين بإعطاء الأمان لكل من يطلبه أثناء أي حملات عسكرية قادمة، ليس هذا فحسب، بل يجب اصطحابهم إلى ملجأ آمن.
{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ}[32].
وتقدّم بقية سورة التوبة مزيدا من البيان للمسلمين حول سبب احتياجهم الآن للقتال، وبشراسة، ضد كل من ينكث عهده أو ينتهك حرمة الأماكن المقدسة، بالرغم من الآمال السابقة في السلام وفقا لبنود صلح الحديبية وبحسب البيعة التي أخذها محمد عندما دخل مكة. ومن الواضح أن هذه السورة لا تأمر المسلمين بممارسة العنف ضد جميع الكفار، وإنما ضد من ينقض عهده فحسب، كما توضح الآية (12):
{وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ}.
أما الآية (29) “المثيرة للجدل”، والتي تتحدث عن قتال المشركين وعبدة الأوثان، فتأتي في الواقع بعد الآية (28) مباشرة، والتي تتحدث عن منعهم من أداء الشعائر الدينية خاصةً أو الحج إلى الحرم الذي طُهِّرَ حديثا في مكة. إذن تشير الآية (29) أيضًا إلى الحاجة إلى تطهير مكة وما حولها، وكذلك الحاجة إلى تأمين حدود شبه الجزيرة العربية من أي قوى خارجية أكبر قد تحاول القضاء على النظام السياسي الإسلامي الوليد. وتتحدث بقية سورة التوبة أيضا عن غزوة تبوك، عندما نكثت بعض الجماعات التي لديها التزامات تعاهدية مع محمد عهودها ورفضت الانضمام إلى الغزوة أو دعمها. ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أيضا أن محمدا اختار الصفح وفرض عقوبة مالية، وليست جسدية، على أولئك الذين تابوا توبة نصوحا[33].
من الواضح إذن أن آية السيف كانت آية محددة السياق تتعلق بتطهير مكة وما حولها من كل مظاهر الشرك والوثنية العربية بحيث لا يمكن أن يكون الحرم على وجه الخصوص، مع وجود الكعبة في مركزه، نجسا مرة أخرى بسبب وثنية هؤلاء السكان المحليين والحجاج الذين طالما باشروا عبادة الأصنام هناك[34]. وقد أُعلِنَ هذا التحذير على الملأ، وتلاه فترة سماح حتى يتسنى للمشركين الإقلاع عن ممارساتهم أو المغادرة، مع وجود تحفظات إنسانية كفلت الصفح والرحمة والحماية. وبالتالي، فإن آيات سورة التوبة آيات غير متعطشة للدماء أو غير مجحفة، كما يصورها روبرت سبنسر ورفاقه. في الواقع، إنها آيات سياقية ظرفية، وحتى لو كانت سارية إلى اليوم -وأنا أتبنى الرأي القائل بأنها لم تنسخ الآيات السابقة التي تدعو إلى السلام والصفح والتصالح- فهي منبتة الصلة بالوقت الحاضر وليست قابلة للتطبيق إلا إذا حاول المشركون والوثنيون مباشرة ممارساتهم الوثنية وإعادة تأسيسها في مدن المملكة العربية السعودية المكرسة لله فقط: مكة والمدينة. وبعبارة أخرى: هذه الآيات منبتة الصلة عن عالم اليوم وغير قابلة للتطبيق فيه.
ويبدو أن هؤلاء المنتقدين يفشلون في فهم الطبيعة السياقية المحددة للآيات -تطهير مكة من الشعائر والطقوس الشركية والوثنية- ويخطئون أيضا عند النقل عن المفسر الإسلامي الشهير في العصور الوسطى، إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي، المعروف بابن كثير، إذ يزعم سبنسر أن ابن كثير فهم آية السيف بأنها ناسخة لجميع الآيات السلمية التي سبق أن جاء بها النبي[35]. بينما لم يقل ابن كثير شيئا من هذا القبيل. وإنما ينقل في تفسيره عن عالم مبكر، وهو الضحاك بن مزاحم، الذي ذكر فقط أن آية السيف نسخت كل عهد بين النبي وبين المشركين وكل معاهدة منحت حقوق الحج للوثنيين العرب وللسفر على طول الطرق التي سيطر عليها المسلمون ودخول مكة وأداء طقوس غير مقبولة هناك[36]. ولأن هذا المصدر المبكر أشار إلى أن آية السيف “نسخت” شيئا ما، استنتج سبنسر على نحو خاطئ الإدعاء القائل بأن هذه الآية بمفردها ألغت جميع الممارسات والتدابير القائمة بين الأديان، وأنها غيّرت المواقف تجاه غير المسلمين تغييرا سلبيا بشكل عام وإلى الأبد.
وفي حالة عدم اقتناع القارئ، ثمة آية أخرى في القرآن -ترجع أيضا إلى الفترة المتأخرة من حياة محمد- تحث المسلمين كذلك (باستخدام مفردات مطابقة تقريبا لمفردات آية السيف) على ممارسات “الاستيلاء والقتل”: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} بحق الكافرين أينما كانوا {حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}. ومع ذلك، فإن هذه الآية، وهي الآية (89) من سورة النساء، محاطة بعددٍ من الآيات التفسيرية والتوجيهية الأخرى بحيث يتم تقويم ظاهر معناها العنيف على الفور من خلال سياق التسامح والتفاهم لغيرها من الآيات.
أولا، هددت الآيات بممارسة العنف دفاعا عن النفس فقط ضد أولئك الأشخاص أو الجماعات التي انتهكت مواثيق السلام مع المسلمين وهاجمتهم، وهؤلاء المسلمون السابقون (المنتسبون إلى قبائل بني غطفان وبني أسد) الذين انضموا مرة أخرى إلى قوات الخصوم ويشنون الآن حربا شرسة ضد المسلمين. ثانيا، نصت الآية على أنه إذا ترك هؤلاء المعتدون المسلمين وشأنهم وحريتهم في ممارسة عقيدتهم ولم يهاجموهم، بل عرضوا عليهم التعايش السلمي، فلن يأذن الله للمسلمين بإيذائهم بأي شكل من الأشكال {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً}[37]. كما تذهب الآيات إلى أبعد من ذلك بحيث لا تعرض التعايش السلمي بين أولئك الذين ألقوا السلم رسميا إلى المسلمين فحسب، وإنما أيضا مع كل أحد -حتى المسلمين المرتدين- يختار البقاء على الحياد، أي من لم ينحز لأي طرف في هذه العلاقة المتوترة بين المسلمين من جهة، وقريش وحلفائها من جهة أخرى[38].
القضية العادلة: الدفاع عن النفس
جديرٌ بالذكر أنه خلال الاثني عشر عاما الأولى أو أكثر من دعوته (من 610 إلى 622 أو 623)، مارس محمد وأعلن سياسة سلمية غير مقاومة لممارسات الإذلال والقسوة والعنف الشديدة التي انتهجتها قريش، وهي القبيلة المهيمنة على مكة، ضده وضد أتباعه من المسلمين. وكما كتب ابن هشام: «لم يؤذن للنبي في الحرب ولم تحلل له الدماء … إنما يؤمر بالدعاء إلى الله ، والصبر على الأذى، والصفح عن الجاهل»[39].
طوال تلك الفترة قاوم النبي بشدة “الضغوط المتزايدة من داخل صفوف المسلمين للرد بالمثل” وأصرّ على “التحلي بالصبر والصمود في مواجهة هجمات خصومهم”[40]. واشتدّ الاضطهاد في مرحلةٍ ما لدرجة اضطرت محمدا إلى إرسال مجموعتين من أتباعه للجوء إلى الحبشة. وحتى بعد أن فرّ هو وبقية أتباعه من الاضطهاد في مكة واستقروا في المدينة عام 622، عانت الأمّة الوليدة من مصاعب وخوف شديد. فقد استاء بعض غير المسلمين في المدينة للغاية من وجود المسلمين بها وتآمروا على إخراجهم منها. ومن مكة، شنّت قبيلة قريش وحلفاؤها حملة عداء شديدة ضد محمد والمسلمين الذين أصبحوا الآن قوة منافسة وتهديدا لتجارتها المربحة ولشعائر الحج. ولم يسْعَ اتحاد القبائل المعادية لعقد أي تسوية على الإطلاق مع محمد. فمن وجهة نظرهم، وبحسب قواعد الحرب القبلية العربية[41]، كان الحل الوحيد هو القضاء على هذه الأمة الوليدة. فقد أبلغ زعيم قريش أبو سفيان بن حرب، متحدثا عن نيته تدمير الكيان الإسلامي، محمدا ذات مرة في رسالة قوله: «باسمك اللهم، فإني أحلف باللات والعزى، لقد سرت إليك في جمعنا، وإنا نريد ألا نعود إليك أبدا حتى نستأصلك»[42]. وفي مرة أخرى، أقسم أبو سفيان ألا يغتسل من جنابة حتى يغزو النظام السياسي الإسلامي ويهزمه[43]. فلم يكن أبو سفيان يبحث عن مجرد هزيمة عسكرية، بل كان يسعى إلى “الإبادة”.
وعقب هجرة المسلمين إلى المدينة في عام 622، أعلن محمد أخيرا أن الله أذن للمسلمين بالدفاع عن أنفسهم للحفاظ على شأفتهم من خلال القتال المسلح. ويتفق معظم العلماء على أن الآية (39) من سورة الحج هي التي أحدثت هذا التحول لأول مرة[44]. وسياق الآيات كما يلي:
{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ. أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
وتواصل الآيات الإشارة إلى أنه لو لم يأذن الله للناس في الأيام الغابرة بالدفاع عن أنفسهم ضد عدوان الآخرين واضطهادهم الديني، {لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا}. وتضيف الآيات أن الله ينصر من ينصره، وأنه قوي عزيز.
تكشف الإشارات الواردة في الآيات إلى دفاع الله عن الذين آمنوا في الآية (38)، والذين يُقاتَلون في الآية (39)، وأولئك الذين أخرجوا من ديارهم في الآية (40) بوضوح شديد أن الإذن بالقتال المسلح لم يكن لشن حرب هجومية، وإنما من أجل الدفاع عن النفس وحمايتها عند التعرض للهجوم أو الاضطهاد.
ويعتقد المفسرون أن هذا الإذن الإلهي بالقتال تزامَن مع إعلان الوحدة الصادر عن النبي محمد بعد وقت قصير من وصوله إلى المدينة، وهي بلدة تسكنها قبائل يهودية وعربية متنافسة وأحيانا متحاربة. وتلبية لرغبته في تكوين “أمة واحدة من دون الناس”، صاغ النبي “دستورا” من شأنه أن يجمع كل هذه القبائل معا كمجتمع واحد من حيث السياسات الداخلية والخارجية كما نسميها الآن. وقد نصّ هذا الدستور -الذي نطالع نصه في سيرة ابن هشام وكتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام- على تعهد بالدفاع المتبادل[45]. ففي حالة تعرُّض قبيلة واحدة داخل المجتمع الجديد للهجوم، فستهبّ القبائل الأخرى لنصرتها.
ويتفق هذا الإذن بالقتال دفاعا عن النفس (واللفظة العربية هي: قتال) تماما مع أول آية قرآنية تتحدث عن الحرب والتي يقرأها المرء عندما يشرع في قراءة القرآن من بدايته وهي الآية (190) من سورة البقرة، والتي تنصّ كما ذكرنا آنفا على ما يلي: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}. وهكذا، كان الغرض من القتال المسلح هو الدفاع عن النفس، وبالرغم من أن الحاجة إلى البقاء تعني أن الحرب ستكون صعبة، إلا أن القتال كان مشروطا بمجموعة من القيود المحددة[46]. ويأتي ذكر تلك القيود في الآية التالية التي تبدأ بكلمة “وَاقْتُلُوهُمْ”، بحرف العطف الذي يفيد استمرار المنطق العام ذاته.
بعبارة أخرى، سُمح للمسلمين بالدفاع العسكري عن أنفسهم ضد القوات أو الجيوش التي كانت تهاجمهم أينما وقع ذلك. وكان يتحتم على المسلمين الاحتياط من سفك الدماء في المسجد الحرام في مكة، ولكنهم إذا تعرضوا للهجوم هناك، بإمكانهم عندئذ قتل مهاجميهم بينما يدافعون عن أنفسهم ولا إثم عليهم. وتنتهي هذه الآيات في الواقع بتوجيهات مفادها أنه إذا انتهى هؤلاء المهاجمون عن عدوانهم، فلن يواصل المسلمون قتالهم لأن الله “غفور رحيم”[47]. وبالتالي، فإن استمرار المقاومة كان مرهونا باستمرار العدوان المباشر، ويمكنه أن يظل كذلك في الوقت الحاضر[48]. وفي كل موضع قرآني يحث على القتال لمقاومة الاضطهاد أو العنف المباشر، يمكننا مطالعة آيات تؤكد أنه إذا كفّ المعتدون عن عدوانهم، يجب على المسلمين أن يوقفوا القتال على الفور.
لا يعني الإذن القرآني بالدفاع عن النفس ضد الهجوم المباشر أن محمدا استمتع بالحرب، أو أخذته النشوة على الإطلاق بحقيقة أن الحرب الدفاعية لحماية أمته من الإبادة أو الخضوع ستؤدي إلى خسارة حتى أرواح أعدائه. فلم يكن محمد داعية حرب، وكان يغفر ويصفح عن أعداء لدودين متى سنحت الفرصة. فقد حثّ هذا “المحارب الكاره للحرب”، على حد تعبير أحد الباحثين، على استخدام الوسائل السلمية عندما يكون ذلك ممكنا، وسعى في كثير من الأحيان، بخلاف نصيحة أصحابه، إلى إنهاء الأعمال العدائية مبكرا[49]. وفي الوقت ذاته، وبحسب ما تلقاه من الوحي، وافق على القتال من أجل الدفاع عن الإسلام والمصالح الإسلامية في بعض الأحيان عندما كان لابد من الحرب. وتشير الأحاديث إلى أن محمدا أمر أتباعه ألا يتمنوا لقاء العدو، ولكن إذا حدث ذلك فعليهم أن يسألوا الله العافية ويتحلوا بالصبر[50].
ويطيب لمنتقدي الإسلام الاقتباس من السور التي يوحي ظاهرها بالوحشية التي تبدو اليوم مضرجة بالدماء. وغالبا ما يشيرون إلى الآية (4) من سورة محمد:
{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ}[51].
كذلك يأمر القرآن الجنود في المعركة، في الآية (12) من سورة الأنفال، أن يضربوا منهم الأعناق وأن يضربوا كل بنان. وبالرغم من أن هذه الآية قد تبدو في غير محلها بالنسبة إلى نص ديني، إلا أنها ليست كذلك عندما يتعلق الأمر بنصيحة يسديها قائد عسكري لجنوده قبل المعركة. فقد كان هذا تماما هو سياق تلك الآيات تحديدا. فلم تكن أمة محمد قد خاضت معركة حربيةً بعد أو أسست جيشا نظاميا، وكان ضروريا تعليم أولئك المسلمين المقبلين على خوض الحرب كيفية القتل فورا وبطريقة إنسانية. حيث يضمن ضرب العنق، خلافا للجروح الوحشية في الأطراف أو الأجساد المحمية بالدروع، ميتة إنسانية بدلا من إحداث إصابات وحشية غير مميتة. والأفضل من ذلك، إذا تمكن الجندي من الإطاحة بسلاح العدو بضرب البنان، فقد يكون قادرا على أسره. لقد كان من الأفضل ترك الجندي على قيد الحياة كأسير يمكن تحريره لاحقا، حتى مع إصابة يده، بدلا من تركه جثةً هامدة.
وفي العصر الراهن، تقوم جميع القوات العسكرية والأمنية في العالم بتدريس مهارات التعامل مع الأسلحة بنفس التركيز. حيث يتعلم المجندون والضباط كيفية القتل أو الجرح في ميادين القتال ويعلمهم المدربون المواضع المستهدفة التي ستؤدي إلى موت إنساني والمواضع التي ستتسبب في تعجيز شخصٍ ما دون وفاته. وفي ضوء ذلك، يجب قراءة الآيتين المذكورتين آنفا. بالإضافة إلى ذلك، فهي لا تمثل أوامر لجميع المسلمين في كل عصر بقتل أو جرح جميع الكفار في كل مكان؛ لأن من شأن ذلك أن يناقض كل مفهوم للعدالة راسخ في الإسلام. فقد كانت الأوامر موجهة إلى جماعة واحدة من المسلمين (الأمة الوليدة التي لم تتعلم القتال بعد) استعدادا لموقعة معينة وهي غزوة بدر التي وقعت في مارس من عام 624م.
حقيقة أن هذه التوجيهات المتعلقة بالقتال واردة بين دفتي كتاب ديني يحتوي على رسائل مركزية واضحة تدعو بوضوح إلى التسامح والعفو والشمول يمكن تفسيرها بسهولة من خلال حقيقة أن هذا القرآن، الذي نزل منجما على مدى عقود، كان (ولا يزال) يعتبره المسلمون كلام الله. وبالتالي، تم تسجيل كل الآيات التي تتناول جميع القضايا بأمانة والإبقاء عليها، بما في ذلك تلك القضايا التي تتناول جميع مناحي الحياة -الحرب، والقتال، والدبلوماسية، والأمور المالية، والزواج، وتربية الأطفال، والطلاق، والموت، والتعليم، والعلوم، وما إلى ذلك- التي تحتم على المسلمين الأوائل أن يتعاطوا معها. ومن ثم، فهو كتاب حياة، ويحتوي على ما يتعلق بأمور الحرب والقتال والتي تكون ذات صلة عندما يخوض المسلمون الحرب لأسباب دفاعية، كما يحتوي على سبيل المثال على أمور متعلقة بأداء مناسك الحج عندما يذهب المسلمون إلى الحج من أجل إشباع حاجاتهم الروحية.
ويبيّن القرآن والأحاديث (أقوال محمد المدونة وأفعاله) أن محمدا لم يسعد بحقيقة أن العنف المؤسف الواقع بين المحاربين والمقاتلين في الحرب قد يكون ضروريا أحيانا -كما تم تدريس ذلك أيضا لاحقا في نظرية الحرب العادلة الغربية- لإحلال السلام. وقد شرح محمد لأتباعه من المسلمين الحاجة في بعض الأحيان للقتال، وأقرّ بما أوحى الله به إليه من أن الحرب كانت أمرا يبدو خاطئا تماما، بل هي في الواقع عملا “كريها”، ولكنه كان صحيحا أخلاقيا بل وضروريا في ذلك الوقت، كما تنصّ الآية (216) من سورة البقرة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.
ولا يمكن إلقاء لوم أخلاقي على من يخوضون الحرب دفاعا عن النفس، يقول القرآن: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ. إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ}[52]. فالخوف والترويع في الحرب أفضل من الاضطهاد والهجوم الخطيرين المتواصلين. كما أن عدم الدفاع عن المضطهدين سيكون في الواقع تهاونا أخلاقيا[53].
كان أعظم انتصار سياسي لمحمد، وهو عودته في نهاية المطاف إلى بلدته مكة في العام 630 م على رأس جيش قوامه 10000 مقاتلا، انتصارا غير دمويّ في حد ذاته بل تميز بصفح ورحمة كبيرة. فبعد دخول قواته إلى مكة، توقعت قبيلة قريش المذعورة، والتي استسلمت فعليا بعد أن أدركت عبثية مقاومة الجيش الإسلامي، أن يُقتل قادتها ومحاربوها[54]. فقد أذلّت قريش المسلمين واضطهدتهم على مدى عقدين من الزمان، وحاولت اغتيال محمد، كما أساءت معاملته وشنت حربا وحشية ضده وضد أتباعه. ومع ذلك، وبغض النظر عن أربعة قتلى وبعض من حكم عليهم بأنهم غير صالحين لإعادة التأهيل، اختار محمد العفو العام عن أهل مكة جميعا. ولم يُعمِل فيهم السيف. وبحسب المرويات، سأل محمد قادة قريش المجتمعين عن المصير الذي يتوقعونه، فقد كانوا ينتظرون الموت، ولكنهم يأملون في الحياة، فقالوا: «خيرًا، أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريمٍ». ولابد أن هذه الإجابة أراحت محمدا وجعلته يبتسم. وردا عليهم، اقتبس من النبي يوسف، الذي غفر لإخوته الأحد عشر الذين ألقوه في البئر وتركوه ينتظر الموت، عبارته التي نقرأها الآن في الآية (92) من سورة يوسف، فخاطب محمد جميع المكيين قائلا: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}[55].
كما أنه عفا عن هند بنت عتبة، زوجة أبي سفيان، التي كانت تواجه عقوبة الموت لأنها مثلت بجسد عم محمد الحبيب، حمزة بن عبد المطلب، خلال معركة أحُد قبل ست سنوات في العام 624 م. فقد بقرت هند بنت عتبة بطن حمزة واستخرجت كبده فلاكته[56]. كما جاءت الأخبار بأنها اتخذت من آذان الرجال وأنوفهم قلائد ودخلت مكة وهي ترتديها كإكليل للنصر. وعندما جاءت لحظة العدالة أخيرا بعد ست سنوات طلبت العفو من محمد. فشملها محمد بعفوه وقبلها في مجتمعه[57].
الاستجابة المتناسبة، والملاذ الأخير، والتمييز بين المقاتلين والمدنيين
كان التراحم بين البشر، القائم على الصفح عن أخطاء الآخرين التي يعترفون بها، من بين الأمور التي اعتقد محمدٌ أنها تعكس بدقة العلاقة الإلهية بين الخالق والبشر. فقد شكلت مفاهيم الصبر والتسامح والرأفة أساسا قويا لخوض الحروب الإسلامية المبكرة. ويأتي مبدأ التناسب أيضا -وهو أحد المبادئ الأساسية للحرب الغربية العادلة- في صدارة المبادئ الأساسية للتوجيهات القرآنية للحرب. فقد أكد القرآن مرارًا على ضرورة عدم ارتكاب أي عنف يتجاوز الحد الأدنى الضروري لضمان النصر (ووصفه بقوله: ولا تعَتدَوا). كما أكد كذلك على حتمية مواجهة القوة بنفس القدر من القوة المضادة من أجل تجنب الهزيمة وإجهاض العدوان في المستقبل. فالردع يتأتى من التنكيل بالمعتدي بقدر ما نكّل بالأبرياء: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى ٱلْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}[58].
ومع مراعاة فائدة عنصر الردع، يتبنى القرآن الوحي الكتابي السابق الذي جاء لبني إسرائيل، والذي يكفل للناس الاستجابة المماثلة، فالعين بالعين، والسن بالسن. ومع ذلك، وكما الأناجيل المسيحية، يشير القرآن إلى أن هناك قيمة روحية أسمى (كَفَّارَة) تكمن في التخلي عن الانتقام لصالح إشباع روح المحبة[59]. ومن المثير للاهتمام أن هذه الآيات، وهي تنتمي لنفس الفترة التي نزلت فيها آية السيف، تضعف الفرضية القائلة بالنسخ المذكورة آنفا. بالإضافة إلى ذلك، وفيما يتعلق أيضا بضرورة الاستجابة المكافئة لعدوان الخصم، {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم}[60]، يحث القرآن المسلمين دائما على تذكر أنه يجب عليهم مواجهة الممارسات الاستفزازية بالصبر وجهود المصالحة متى ما أمكن ذلك. كما يجب عليهم أن يتجنبوا القتال ما لم يصبح خيارا ضروريا بعد بذل المحاولات للتوصل إلى حل سلمي (وهو مفهوم لا يختلف كثيرا عن مفهوم “الملاذ الأخير” الذي تطرحه النظرية الغربية للحرب العادلة)، لأن التسامح وإعادة التآلف بين الناس يحظيان بالأولوية في دين الله[61].
ورغبةً في تجنب إهراق الدماء كلما أمكن ذلك، انتهج محمدٌ ممارسة تجعل استخدام العنف القاتل ملاذا أخيرا، وقد تابعه المحاربون المسلمون على ذلك حتى يومنا هذا، وإن حدث ذلك بدرجات متفاوتة في بعض الأحيان[62]. فقبل الشروع في أي قتال -باستثناء المعارك المفاجئة التي تستوجب الدفاع عن النفس- يجب على القائد أن يعلن الحرب رسميا لقوات العدو، بغض النظر عن مدى عدوانية ذلك العدو وعنفوانه. كما يجب عليه أن ينقل رسالة إلى العدو مفادها أنه من الأفضل لهم أن يدخلوا في الإسلام. فإن فعلوا ذلك (وكان محمد يحب أن يعطي مهلة ثلاثة أيام للتفكير واتخاذ القرار، وهي سياسة مارسها أتباعه[63])، عصموا دماءهم ودخلوا في حالة من المآخاة. أما إذا رفض العدو، فسيتم تقديم اقتراح آخر يعرض السلام مقابل إنهاء الحرب ودفع الجزية. وإذا ما رفض العدو هذا العرض الأخير، ولم يكفّ عن أفعاله المشينة، فقَدَ حقه في الحصانة من بأس الحرب المشؤومة[64].
لا تعرّف المفاهيم الإسلامية للحرب الأمورَ وتصوِّرها بنفس الطريقة التي ينتهجها التفكير الغربي في نظرية الحرب العادلة. ومع ذلك، ثمة تشابهات مذهلة بينهما. تقترب أسباب خوض الحرب المُعرَب عنها في القرآن إلى حد كبير من تلك الأسباب المنصوص عليها في قانون الحرب العادلة، وهي المعايير التي تؤسس لعدالة قرار خوض القتال. وتشمل تلك المعايير المفاهيم التالية: السبب العادل للحرب، والقوة المتناسبة، والملاذ الأخير. كما أن السلوك المطلوب من المحاربين بمجرد بدء القتال يتطابق أيضا تطابقا وثيقا مع معايير الحرب العادلة التي تحدد السلوك المناسب للمحاربين وهو أمر ضروريّ للحفاظ على عدالة الحرب. وقد وصف القرآن ذلك بقوله: ولاَ تعَتدَوا[65]. ويرى ابن كثير، وهو مفسر بارز من القرن الرابع عشر الميلادي، صواب التفسيرات السابقة لتلك “الاعتداءات” المذكورة في القرآن والتي تشير إلى ممارسات مثل: المثلة، والغلول، وقتل النساء والصبيان والشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم، والرهبان وأصحاب الصوامع، وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة[66]. كما نصّ محمد نفسه على حظر هذه الممارسات كما نرى على سبيل المثال في تعليماته للجيش الذي أرسله إلى مؤتة عام 629 م:
(اغزوا بسم الله، في سبيل الله، مَنْ كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة، ولا كبيراً فانياً، ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقطعوا نخلاً ولا شجرة، ولا تهدموا بيتا)[67].
ويبين استخدام النبي لكلمة “بيت” أنه كان ينوي ترك البيوت السكنية كما هي. كما نعرف أيضا شعوره حيال الحاجة إلى حماية المنشآت الدينية كذلك. وقد نبّه الله في القرآن (سورة الحج: آية:40) على خطورة هدم المنشآت الدينية، بما في ذلك المعابد اليهودية:
{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[68].
وفي العام الذي أعقب وفاة محمد سنة 632 م، أصدر صاحبه المقرب وخليفته المباشر أبو بكر الصديق عبد الله بن أبي قحافة تعليماته للجيش الإسلامي قبل شن حملة ضد الجيوش البيزنطية في الشام، وهي ما أطلق عليها “الوصايا العشر” للحرب الإسلامية. ونطالع تلك الوصايا في رواية موطأ الإمام مالك[69]، ولكن الرواية الأكثر شيوعا نجدها في تاريخ الطبري. بناء على توجيهات الرسول المباشرة بشأن شن الحرب، وهي التوجيهات التي استُخدمت منذ ذلك الحين كأساس للفكر الإسلامي عندما يتعلق الأمر بخوض الحروب، ينص هذا الخطاب المشهور للجيش المتجه شمالا نحو الشام بقيادة يزيد بن أبي سفيان على ما يلي:
«يا أيها الناس، قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عنى: لا تخونوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع؛ فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإن أكلتم منها شيئاً بعد شيء فاذكروا اسم الله عليها»[70].
ولا توجد عبارة أو إشارة صريحة في القرآن تحدد الفارق بين المقاتلين وغير المقاتلين أثناء الحرب، تماما كما لم يرد ذلك في التوراة أو في العهد الجديد. وعلينا ألا نتفاجئ من غياب ذلك الأمر. ففي الغرب، اكتسبت الكلمة الإنجليزية “مدني” (وهي من جذور فرنسية قديمة لها معنى مختلف) معناها الحالي في القرن التاسع عشر فقط بمعنى شخص ليس في عداد قوة عسكرية أو شبه عسكرية. ومع ذلك، يجب ألا يعتقد قارئ القرآن أن أي رجل في سن القتال (مع استبعاد الأطفال دون سن الخامسة عشرة والنساء وكبار السن)[71] يمكن اعتباره هدفا مشروعا. إذ لا يسمح القرآن بذلك، بحيث توضح الآيات التي تتحدث عن القتال أن الحرب لا تجري أحكامها إلا على من يخوضونها، أي المقاتلين المشاركين فيها. وباستثناء هؤلاء المقاتلين، وأي شخص آخر يتصرف تصرفا غير عادل لمنع المسلمين من ممارسة عقيدتهم أو محاولة انتهاك حرمة الأماكن الإسلامية المقدسة، لن يتعرض أحدٌ للأذى.
والأساس المنطقي لذلك الأمر واضح. فمن بين الرسائل المركزية في الوحي القرآني، والتي تكررت بوضوح في عدد من الآيات، الرسالة التي مفادها أن الأمور المتعلقة بالحياة والموت بيد الله وحده، وإعلان الله أن الحياة البشرية -وهي هبة “مقدسة”- لا يمكن أن تُسلَب “إلا بالحق”[72]. وفي الآيات التي تروي قصة قابيل وهابيل (سورة المائدة: 27-32، وقد نزلت في فترة متأخرة جدا من حياة محمد) يمكن للمرء أن يرى تلك الحماية الصريحة المكفولة لحياة الأبرياء. وتخبرنا آيات سورة المائدة أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا:
{مِن أَجلِ ذٰلِكَ كَتَبنا عَلىٰ بَني إِسرائيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفسًا بِغَيرِ نَفسٍ أَو فَسادٍ فِي الأَرضِ فَكَأَنّمَا قَتَلَ النّاسَ جَميعًا وَمَن أَحياها فَكَأَنّمَا أَحيَا النّاسَ جَميعًا وَلَقَد جاءَتهُم رُسُلُنا بِالبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثيرًا مِنهُم بَعدَ ذٰلِكَ فِي الأَرضِ لَمُسرِفونَ}.
ومن أجل عدم تشجيع حالة الحرب، تنص الآية التالية بوضوح على أن أولئك الذين يخوضون الحرب ضد الأبرياء لا يعتبرون أبرياء، ولا أولئك الذين يمارسون الظلم أو القمع الجسيم بحق الأبرياء. إنهم يتنازلون عن حقهم فيما نسميه اليوم بـ”حصانة المدنيين”، وقد يُقتلون في معركة أو يُعدمون إذا ألقي القبض عليهم ولم يتوبوا[73].
الجهاد
لا ريب إذن في أن القرآن يتعاطى مع الحرب بوصفها نشاطا غير مرغوب فيه، بصرف النظر عن الادعاءات التي ترى الحرب في الإسلام كأساس لعقيدة قاسية لا تُحترم فيها حياة الإنسان، أو إيمانا مولعا بالقتال لا يرغب في السلام. كما يجب أن تُشنّ الحرب في ظل ظروف محددة معينة وبأساليب تكفل الاستعادة السريعة للسلام والوئام وتقلل الأذى والدمار الناجمين عن الحرب لا محالة. وبالطبع لن يكتمل تحليل مثل هذه الأمور دون التعرُّض لمسألة الجهاد، تلك الكلمة المشهورة والمصطلح الأكثر إثارة للجدل وسوء الفهم في الوقت الحاضر.
ومن المثير للاهتمام، بالنظر إلى أن مفهوم الجهاد مرتبط الآن بالمتطرفين المتخمين بالكراهية، مثل تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية وحركة بوكو حرام ومقاتلي الشباب والإرهابيين، أن القرآن لا يسمح للكراهية بأن تشكل أساسا للعمل العسكري أو غيره من الاستجابات المسلحة للظلم الواقع، إذ تنصّ سورة المائدة، وهي واحدة من أخريات السور التي نزل بها الوحي، صراحة على أن كراهية الآخرين يجب ألا تصرف أي امرئ عن وجه الصواب وتنبو به عن العدالة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[74].
وبالمثل، يثني القرآن على {الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}[75]. وهذه الآيات، وغيرها، التي تحمل نفس الرسالة واضحة بما يكفي لحث المسلمين على العفو في الوقت الحاضر[76]. كما أثّرت هذه الآيات بالتأكيد على سلوك المسلمين أثناء حياة محمد. فعلى سبيل المثال، أثناء غزوة الخندق في العام 627م، ورد في الخبر أن عليا بن أبي طالب (الذي تولى الخلافة لاحقا) أسقط عمرو بن عبد ود، وهو محارب قوي من قريش، وأوشك عليّ أن يقتله عندما بصق عدوه في وجهه. فتركه عليّ ومشى مبتعدا عنه. ثم عاد إلى المعركة مرة أخرى وتمكن من قتل عدوه. وعندما سئل لاحقًا عن سبب إطلاق سراح خصمه، أجاب عليّ بأنه أراد أن يُطهر قلبه من الغضب، وأنه كان يقاتل لله لا غضبةً لنفسه[77]. وحتى إذا كان مستحيلا إثبات صحة هذه الواقعة (فقد وردت لأول مرة في قصيدة صوفية باللغة الفارسية في القرن الثالث عشر الميلادي)، يشهد بقاء هذه القصة ورواجها على الأهمية المتصورة داخل الإسلام للتصرف بعدالة في جميع الأوقات، حتى في ذروة المشاعر المتأججة أثناء الحرب.
ونحن نعلم بالتأكيد أن النبي محمد حث أتباعه على السكينة وتجنب الغضب. وقد وردت أحاديث كثيرة تشهد على كراهيته للغضب. فعلى سبيل المثال، قال النبي: «ما تعدون الصرعة فيكم؟ قالوا: الذي لا يصرعه الرجال، قال: لا، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب»[78].
وبالمثل، رُوي عن محمد أن القاضي أيضا يجب أن يمتنع عن إصدار حكم وهو غاضب: «عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال كتب أبي إلى عبيد الله بن أبي بكرة وهو قاض أن لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان»[79].
وعلى الرغم من شيوع بعض المفاهيم الخاطئة بأن الجهاد قائم على الغضب من غير المسلمين الذين يرفضون الإسلام رفضا واعيا، فإن القرآن واضح تماما في النصّ على أن الإسلام لا يمكن اعتناقه إلا من قِبل مَن يقبلونه عن طيب خاطر. ولا يمكن فرض الإسلام على مَن لا يقبله. وتؤكد الآية (256) من سورة البقرة على أنه: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا}.
أما أولئك الذين يؤمنون بالطاغوت فسوف يخرجون من النور إلى الظلمات: وهو نفس الجحيم الذي تحدث عنه المسيح. وبالتالي، فإن الله وحده هو من يفصل في مصائر الناس بناء على اختياراتهم. ويكرر القرآن في عدة مواضع أخرى أن الإكراه في الدين لا طائل منه؛ لأن استسلام القلب الذي يريده الله سيكون مفتعلا وبالتالي غير صادق. حتى عندما اشتكى محمد من أنه يبدو محاطا بأشخاص لا يؤمنون، أوضح الوحي الإلهي أن المسلمين يجب أن يصفحوا عنهم ويقولوا “سلام” لأنهم “سوف يعلمون”[80]. كما يأمر القرآن ذاته المؤمنين أيضا بدعوة الكفار بالحكمة والموعظة الحسنة:
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[81].
ولم ييأس محمد في أي مرحلة من مراحل حياته من رغبة الناس جميعا في العيش بسلام تام. وبالرغم من خيبة أمله الشديدة كلما تناحر الناس بدلا من أن يتعاونوا فيما بينهم، إلا أنه كشف في إحدى خطبه المتأخرة عن الرسالة الإلهية التي مفادها أن الله قد جعل البشرية جميعا “شعوبا وقبائل لتعارفوا”[82]. فقد نصت سورة الحجرات التي نزلت بعد فتح مكة على ذلك:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.
وقد شملت هذه الرغبة في التعايش المشترك الأديان الأخرى كذلك، ولم يكفّ محمد أبدا عن الإيمان بجملة القواسم المشتركة بين المسلمين ومَن يخشون الله مِن أولئك الذين عرّفوا أنفسهم بأنهم يهود ومسيحيون (أهل الكتاب). فقد كانا في النهاية يشتركان في نفس الخط من الوحي النبوي. وبالرغم من رفض العديد من القبائل اليهودية القوية له، وإحباطه من مفهوم التثليث، ظل محمد مقتنعا بأن الجماعات الدينية اليهودية والمسيحية -بخلاف بعض القبائل الفردية التي تصرفت غدرا- يجب أن تطيع الله باتباع كتبهم المقدسة. وتنصّ آيتان في سورة المائدة على وجه التحديد على ذلك، وقد نزلتا في وقت قريب جدا من آية السيف، حيث تحث الآيتان اليهود والمسيحيين على الامتثال لله والعمل بمقتضى ما نزل إليهم في التوراة والإنجيل. وتنص الآيتان على أنهم، إذا فعلوا ذلك، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون مع المسلمين (من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا)[83] في يوم القيامة.
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[84].
إن نزول هذه الآيات الشاملة دينيا في فترة متأخرة جدًا من حياة محمد يقوض الرأي القائل بأن الآيات التي نزلت لاحقا تنسخ كل آيات التعايش بين الأديان التي جاء بها محمد قبل سنوات.
إذن ما هو الجهاد، ولماذا يبدو بالغ الخطورة على هذا النحو؟ الإجابة هي أن الجهاد، بعيدا عن المعنى القائل بأنه نمط من الحرب المتعصبة الموجهة دينيا ضد جميع الكافرين، كلمة عربية عادية مقابلة لـ”الجهد”، وهي تصف في الواقع نضال أي مسلم لمغالبة الأمور الصعبة أو الشهوانية بداخله أو في العالم الأوسع. وأحد الأنماط الرئيسية للجهاد هو نضال المسلم ضد “النفس”، وهي كلمة عربية يمكن ترجمتها بـ”الذات السفلى” وتشير إلى الإيجو الفردي، والطبيعة الجسدية، والعادات والأفعال السيئة النابعة من فشل المرء في مقاومة الإغراءات والرغبات[85]. فعلى سبيل المثال، المسلم الذي يسعى بوعي لمقاومة عادة الكذب أو شرب الخمر، أو الذي يصارع سوء الخلق، يجاهد كلاهما على نحو مناسب ضد هذه الأمور المنبوذة. ويشير القرآن إلى هذا المعنى في الآية (6) من سورة العنكبوت: { وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ}. وتذهب الآية التالية إلى أبعد من ذلك من خلال حث المؤمنين ليس على الإيمان الشخصي فحسب، وإنما أيضًا على “عمل الصالحات” للآخرين.
{وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
وفي الآية (69) من نفس السورة نطالع معنىً آخر للجهاد بوصفه فعل الأمور الحسنة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[86].
إن تكريس الوقت وبذل المال للفقراء والمحتاجين (من جميع الملل، وليس المسلمين فقط)، والحفاظ على الأمة وسيادتها، مذكور في عددٍ من الكتب المقدسة بوصفه جهادا إلهيا موصى به. نقرأ على سبيل المثال في الآية (78) من سورة الحج:
{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}.
وهذا يطابق روح الحديث الرائع الذي يقول: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله»[87].
وبالمثل، فإن دعوة الناس إلى اعتناق الإسلام من خلال الوعظ السلمي يشكل جهادا كبيرا. وقد أوحي إلى محمد ذاته بوصية إلهية لجهاد الكفار بالقرآن جهادا كبيرا[88].
وتستخدم لفظة الجهاد أيضا في القرآن للدلالة على المقاومة الجسدية الدفاعية ضد الخطر الخارجي. ويظهر ذلك في ثلاثين آية، ستة منها نزلت خلال سنوات دعوة محمد في مكة، وأربعة وعشرون نزلت خلال سنوات الهجوم الذي شنته قريش وحلفاؤها على المدينة، ثم الحروب الوقائية من أجل إرساء الأمن داخل حدود الدولة الإسلامية وحولها[89]. والزعم بأن هذه النسبة تكشف أن الجهاد والقتال مترادفان فعليا بغض النظر عن السياق زعم غير صحيح. فالجهاد المبذول ضد الأنا وهوى النفس هو الجهاد الأكبر، وهو جهاد غير سياقى ومطلوب دائما، كما أخبر محمد. فبعد عودته من إحدى غزواته، قال محمد لأصحابه: قدمتم من خير مقدم، من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، وعندما سئل عن الجهاد الأكبر قال: مجاهدة العبد هواه[90].
يشكك بعض العلماء في صحة هذا الحديث تحديدا، لا بسبب متنه وإنما لضعف إسناده، ولكن على أية حال، هناك العديد من الأحاديث الموثوقة المماثلة التي توضح أن أشكالا مختلفة من الجهاد الروحي تعتبر هي الجهاد الأمثل. فمثلا: روى طارق بن شهاب أن رجلا سأل النبي محمد صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: أيُّ الجهادِ أفضلُ؟ قال كلمةُ حقٍّ عند سلطانٍ جائرٍ[91]. وثمة حديث آخر ينص على أن محمدا كان يجتهد في العشر الأواخر من رمضان أكثر مما كان يجتهد في بقية الشهر[92].
بالإضافة إلى ذلك، لا تستخدم آية السيف والآيات القتالية الأخرى المذكورة في هذه المقالة كلمة “الجهاد” للتعبير عن القتال الدفاعي الموصى به. وإنما تذكر كلمة “قتال”، والتي تعني ببساطة المناجزة. نعم، يُسمح بالقتال كجزء من النضال الدفاعي ضد الظلم أو الاضطهاد الخطير، ولكن هذا لا يعني أن الجهاد محصور في القتال. فالقول بذلك يشابه المنطق التالي: لأن جميع سلالة كلاب “فوكس تيرير” من الكلاب، فإن كل الكلاب هي من سلالة “فوكس تيرير”. إذن، كل قتال مشروع هو جهاد -صراع عسكري مشروع ذو قيود صارمة ضد الشر- ولكن ليس كل جهاد (أو حتى الشطر الأكبر منه) حربا. ويناقش العلماء المسلمون أسئلة تدور حول من يمكنه الدعوة بشكل شرعي إلى القتال أو المبادرة به كجزء من أي جهاد في عالم لم يعد فيه خلفاء يحكمون إمبراطوريات إسلامية، حيث تجادل الغالبية العظمى بأن قادة الدول فقط في ديار المسلمين هم من يحق لهم اتخاذ هذا القرار إن كان ثمة سبب حقيقي وعادل يدعو لاتخاذه. وحقيقة أن الفتاوى وغيرها من دعوات القتال الصادرة في السنوات الأخيرة بواسطة تنظيم القاعدة وطالبان وداعش وبوكو حرام وغيرها هي فتاوى مرفوضة لدى الغالبية العظمى من المسلمين البالغ عددهم 1.6 مليار نسمة في العالم هي علامة واضحة على أن قلة قليلة فقط من المسلمين يرون هؤلاء كقادة شرعيين أو يوافقون على أن القتال المسلح سيكون ردا عادلا ومناسبا على المظالم المزعومة.
ومن المثير للاهتمام، أن جميع الآيات التي تشير إلى الجهاد بوصفه كفاحا مسلحا دفاعا عن الأمة الإسلامية ونظام الحكم هي آيات إرشادية بطبيعتها: مع مناشدات لبذل الجهد، والحث على الشجاعة والروح القتالية، وتأكيدات بالنصر، ووعود بالمكافآت الأخروية لمن قد يموتون في الحرب خدمة لمجتمعهم. ويكشف ذلك عن أن محمدا أدرك أن الحروب كانت ممارسة غير مستساغة لمجتمعه المحب للسلام لدرجة أنه بالرغم من أن أسباب قتال المسلمين كانت عادلة، إلا أنه كان عليه أن يذهب إلى أبعد الحدود -مثلما فعل ونستون تشرشل خلال الأيام المظلمة في الحرب العالمية الثانية- من أجل حث الناس الخائفين أو المرهقين على المثابرة والإيمان بالنصر والقتال في سبيله. ففي 4 يونيو عام 1940، ألقى تشرشل خطابا رائعا لتحفيز الشعب البريطاني على مواصلة نضاله ضد شرور النازية المطلقة، بالرغم من أن القوات المسلحة الألمانية كانت تبدو في ذلك الوقت أقوى وأفضل في المعركة. ويتضمن خطابه هذه العبارات الرائعة:
“سنحارب فى البحار والمحيطات، سنحارب بثقة متزايدة وقوة متصاعدة فى الأجواء، وسندافع عن الجزيرة مهما كان الثمن، سنحارب على الشواطئ، سنحارب فى أراضى الإنزال، سنحارب فى الحقول والشوارع، سنحارب فى التلال، لن نستسلم أبدًا”[93].
طبقا لهذا الخطاب، لن يطلق أحد على تشرشل أنه داعية حرب، أو متعطش للدماء. إن نصائح محمد للمسلمين من أجل النهوض بواجبهم -وهي عبارة استخدمها تشرشل في ذلك الخطاب وفي غيره من الخطابات- ومواجهة خطر الهزيمة على أيدي أعداء المسلمين يمكن رؤيتها بشكل أفضل في نفس الضوء. وفي الواقع، تتعلق معظم الآيات التي تحث على القتال كجزء من الجهاد ضد الأعداء بحروب الدفاع عن النفس المذكورة أعلاه، بينما تتعلق الآيات المتبقية بالحاجة الأوسع لحماية النظام الإسلامي الوليد من الدنس الروحي المحلي المتمثل في مظاهر الشرك العربية وعبادة الأصنام والتهديد الخارجي للحدود غير الآمنة حول محيط الدولة. لا توجد آيات في القرآن تشجع على ممارسة العنف ضد الأبرياء أو تسمح به، بغض النظر عن عقيدتهم، ولا توجد آيات تشجع أو تسمح بشن الحرب ضد الدول أو الأمم التي لا تهاجم الدولة الإسلامية أو تهدد حدودها أو مصالحها المباشرة أو تتدخل في إمكانية ممارسة المسلمين عقيدتهم.
ولا يزال مسموحا بالجهود المسلحة ضد أي دولة قد تقوم بهذه الممارسات القمعية حتى يومنا هذا، على الأقل وفقًا لقراءة عادلة للقرآن[94]، تماما كما هي الحال في النظرية الغربية للحرب العادلة. ومع ذلك، قد ينطوي مثل هذا الوضع على شروط مختلفة في عالم اليوم؛ وهي الشروط التي دفعت عددا صغيرا جدا من الإرهابيين الراديكاليين بشكل خاطئ إلى شن صراعات عدوانية وهجومية (ليست ذات دوافع دفاعية أو عادلة). إن أفعالهم المشينة، وخاصة تلك التي تزهق أرواحا بريئة، تنافي السلوكيات التي تسمح بها القراءة المعقولة للقرآن.
خاتمة:
هذا التحليل ليس محاولة للاعتذار الديني. وإنما هو تحليل كتبه باحث في الحروب العسكرية والقانون والأخلاق في محاولة لإثبات أن ثاني أكبر ديانة في العالم تتضمن في جوهرها مجموعة من الآيات التي ترسم إطارا واضحا وأخلاقيا للغاية لفهم الحرب وتوجيه سلوك المحاربين. وهذا الإطار لا يدعم الحرب إلا عندما تكون قائمة على معالجة المظالم المادية الكبرى (خاصة الهجوم أو الاضطهاد المباشر الخطير)، وبعد بذل محاولات أخرى لدفع تلك المظالم، ويضمن هذا الإطار وقف الأعمال العدائية وإحلال السلام حالما يتم التوصل إلى حل. كما أنه يطالب المحاربين بالتمسك بمفاهيم الاستجابة المتناسبة (عدم إلحاق ضرر أكثر مما هو ضروري) والتمييز (توجيه ممارسات العنف فقط إلى المقاتلين مع تقليل الضرر الواقع على المدنيين وممتلكاتهم والبنية التحتية). وهذا الإطار متفق للغاية مع فلسفة الحرب العادلة الغربية التي أعطت، على سبيل المثال، دعما أخلاقيا لحرب المملكة المتحدة ضد القوات الأرجنتينية التي احتلت جزر فوكلاند في العام 1982، وطرد قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة لقوات صدام حسين من الكويت في العام 1991 ، وحرب الناتو الجوية التي استمرت ثمانية وسبعين يوما ضد سلوبودان ميلوسيفيتش في يوغوسلافيا من أجل حماية سكان كوسوفو من العنف العرقي في العام 1999.
إذن، إذا كان القرآن نفسه يدين أي أعمال عنف تتجاوز الحد أو تقع خارج إطار العدالة المحدد وفقا لآياته، فكيف يمكننا تفسير هجمات الحادي عشر من سبتمبر الهمجية والتفجيرات الانتحارية التي لا حصر لها في جميع أنحاء العالم وأعمال القتل والفظائع التي ارتكبها داعش وبوكو حرام وحركة الشباب وجماعات أخرى، وكلهم يدّعون رفع راية الإسلام؟ أجابت عالمة الأديان البريطانية كارين أرمسترونج على هذا السؤال الواضح بإيجاز شديد في الأيام التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر لدرجة أن كلماتها توصلت إلى نتيجة مناسبة تماما لخاتمة هذه الدراسة. خلال القرن العشرين، كتبت أرمسترونج: «إن النزعة المتشددة للتقوى المعروفة غالبا بالأصولية اندلعت في كل الأديان الكبرى باعتبارها تمردا على الحداثة». كل حركة أصولية أقلية في تلك الأديان الرئيسية التي درستها أرمسترونج «مقتنعة بأن المجتمع الليبرالي العلماني قائم على استئصال الدين. وبالتالي، فإن القتال، في تصورهم، معركة من أجل البقاء، إذ يشعر الأصوليون في كثير من الأحيان بأن ثمة ما يبرر تجاهلهم للمبادئ الأرحم في عقيدتهم. ولكن من خلال تضخيم النصوص الأكثر عدوانية الموجودة في جميع كتبنا المقدسة، يحرف هؤلاء الأصوليون التراث»[95]. أرمسترونج محقة في تحليلها، ولكن كلمتها “تحريف” ضعيفة جدًا قياسا إلى ممارسات الإرهابيين من نوعية تنظيم القاعدة وقتلة داعش. فهم لا يحرفون الرسالة القرآنية فحسب. لقد جحدوا تماما تلك الرسالة، وخلقوا عداء إضافيا غير مفيد للإسلام، وهو إيمان بالعدالة يسعى إلى إحلال السلام والأمن لمعتنقيه وإقرار حالة من الوئام والتعايش السلمي مع الأديان الأخرى.
قائمة المراجع:
[1] جويل هيوارد باحث وكاتب وشاعر نيوزلندي يعمل حاليا أستاذا للفكر الاستراتيجي في كلية الدفاع الوطني في الإمارات العربية المتحدة. وقد شغل العديد من المناصب الأكاديمية، بما في ذلك رئيس قسم العلوم الإنسانية والاجتماعية في جامعة خليفة (الإمارات العربية المتحدة) وعميد كلية القوات الجوية الملكية (المملكة المتحدة). وهو مؤلف ومحرر لأكثر من اثنتي عشر كتابا والكثير من المقالات المحكّمة، ويشتغل بالأساس في حقول التاريخ والدراسات الإستراتيجية. ومن بين ما صدر له كتاب: “الحرب خدعة: تحليل للحديث المثير للجدل حول أخلاقيات الخداع العسكري (2017)”. كما أسدى نصائح استراتيجية للقادة السياسيين والعسكريين في العديد من البلدان ، وقدم نصائح سياسية لشيوخ بارزين، وكان معلما خاصا لصاحب السمو الملكي الأمير ويليام أمير ويلز. وفي عام 2011 ، انتُخِبَ عضوا في الجمعية الملكية للفنون، وفي عام 2012 انتُخِبَ عضوا في الجمعية التاريخية الملكية. كما حصل في عام 2016 على لقب “أفضل أستاذ في العلوم الإنسانية والاجتماعية” في حفل توزيع جوائز القيادة التربوية في الشرق الأوسط لعام 2016. وللأستاذ جويل أيضا مشاركة في ميدان الأدب، فقد صدرت له ثلاثة أعمال روائية وأربعة دواوين شعرية.
[2] يشكل المسلمون 23 % من سكان العالم البالغ عددهم 6.9 مليار نسمة، انظر: the Pew Forum on Religion & Public Life, The Future of World Religions: Population Growth Projections, 2010-2050 (Washington, DC: Pew Research Center, 2 April 2015), 7.
[3] تشتمل نسخة الملك جيمس للكتاب المقدس على 788280 كلمة: 609269 كلمة في العهد القديم، و 179011 كلمة في العهد الجديد، انظر: http://www.biblebelievers.com/believers-org/kjv-stats.htm
[4] توزيع السكان المسلمين حول العالم.
[5] أول كلمة نزلت من القرآن على محمد هي “اقرأ”، وتعني “اتل” وكلمة القرآن نفسها مشتقة من الجذر اللغوي “قرأ”، والتي تشير إلى فعل “التلاوة” أو “القراءة”.
[6] عناوين كتب سبنسر الأكثر مبيعا وإثارة للجدل هي كما يلي:
The Truth about Muhammad, Founder of the World’s Most Intolerant Religion (Washington, DC: Regnery Press, 2006). Spencer’s other books include: Islam Unveiled: Disturbing Questions about the World’s Fastest Growing Faith (New York: Encounter Books, 2002); Ed., The Myth of Islamic Tolerance: How Islamic Law treats Non-Muslims (New York: Prometheus Books, 2005); The Politically Incorrect Guide to Islam (And the Crusades), (Regnery, 2005); Religion of Peace? Why Christianity Is and Islam Isn’t (Regnery, 2007).
[7] راجع الأعمال المنشورة والمقالات الصحفية والمنشورة على الإنترنت لكل من: دانيال بايبس وبيني موريس وديفيد هورويتز وبرنارد لويس وسام هاريس وديفيد بوكاي وديفيد برايس جونز ، وغيرهم. وأحتاج هنا إلى توضيح موقفي. بصفتي سياسيا ليبراليا وأكاديميا ، أؤيد بقوة نموذج تعليم الفنون الحر والمساهمات المجتمعية المعززة التي تقدمها العقول المثقفة بشكل نقدي. وفي صميم فلسفتي، ثمة إيمان عميق بقيم الحوار والنقاش. لذلك أنا لا أصادر على حق هؤلاء الباحثين والمحللين في التعبير علنا عن مخاوفهم حيال الإسلام ، على الرغم من أنني لا أشاركهم فيها.
[8] ثمة عدد من الترجمات المختلفة للقرآن تختلف صياغاتها للآية الواحدة على نحو ما، ولكن أوثق هذه الترجمات بالنسبة إلي، وأسهلها قراءة وقربا من معنى النص العربي، هي الترجمة التي أنجزها عبد الله يوسف علي (والتي صدرت في طبعات كثيرة). كما أرشح للقارئ أيضا ترجمة مولانا وحيد الدين خان وهي ترجمة دقيقة وتتمتع بمقروئية جيدة The Quran (New Delhi: Goodword, 2009). وتوجد ترجمة حديثة أخرى شائعة للغاية وهي المسماة بـ”الترجمة الوهابية”: تفسير معاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية: نسخة مختصرة من تفاسير الطبري والقرطبي وابن كثير مع تعليقات من صحيح البخاري: لخصها في مجلد واحد الدكتور محمد محسن خان والدكتور محمد تقي الدين الهلالي (الرياض: دار السلام ، 1996. والطبعة المنقحة 2001). ومع ذلك ، تجب الإشارة إلى أن هذه الترجمة سهلة القراءة لم تكن محصنة ضد النقد، لا سيما فيما يتعلق بالعديد من الترجمات المقحمة التي يبدو أنها تقدم صورة سلبية متعمدة عن المسيحيين واليهود. ولهذا السبب لا أعتمد عليها، وأعتقد أنه يجب على الآخرين مراعاة هذا التحذير إذا رغبوا في مطالعتها. ويُنظر:
Khaleel Mohammed, “Assessing English Translations of the Qur’an,” Middle East Quarterly, Volume 12 No. 2 (Spring 2005), 59-72.
[9] الجزية هي ضريبة سنوية تفرضها الدولة الإسلامية على الذكور البالغين من غير المسلمين. وفي المقابل، يحصلون على إعفاء من الخدمة العسكرية وضمانات لسلامتهم داخل الدولة. وهذه التدابير الضريبية، وهي في الأساس نوع من أنواع الضرائب، كانت ممارسة سابقة على الإسلام استأنف المسلمون العمل بها. انظر: Majid Khadduri, War and Peace in the Law of Islam (Baltimore: Johns Hopkins Press, 1955), 178.
[10] Cf. Ibid., 96, 163; Majid Khadduri, The Islamic Conception of Justice (Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1984), 165. Spencer, ed., The Myth of Islamic Tolerance, 43-44.
[11] Cf. Spencer, The Politically Incorrect Guide to Islam, 28. بعد الاقتباس السلبي من عبارة تشيد بمحمد بوصفه “مقاتلًا شرسًا وقائدًا عسكريًا ماهرًا”، كتب صمويل هنتنجتون أن أحدا “لن يقول هذا عن المسيح أو بوذا”. ويضيف أن العقيدة الإسلامية “تأمر بشن الحرب على الكفار … وأن القرآن وغيره من نصوص المعتقدات الإسلامية تحتوي على القليل من الأحكام التي تحرم العنف، وأن مفهوم اللاعنف غائب عن العقيدة والممارسات الإسلامية كليهما”. انظر:
Huntington, The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order (London: Simon & Schuster, 1996), 263.
[12] سفر يشوع، 21:6.
[13] سفر التثنية، 7 :1-3، وانظر: 20: 16-17.
[14] Polybius, Histories, XXXVIII.21.
[15] Sohail H. Hashmi, ed., Islamic Political Ethics: Civil Society, Pluralism, and Conflict (Princeton: Princeton University Press, 2002), 196.
[16] سورة سبأ: آية (28)، وسورة الزمر: آية (41)، وسورة التكوير: آية (27).
[17] Spencer, The Politically Incorrect Guide to Islam, 24-26. Cf. also: http://www.answering islam.org/Bailey/jihad.html
[18] Cf. David Bukay, “Peace or Jihad: Abrogation in Islam,” in Middle East Quarterly, Fall 2007, 3-11, available online at: http://www.meforum.org/1754/peace-or-jihad-abrogation-in-islam. Access date: 1 April 2011.
[19] Zakaria Bashier, War and Peace in the Life of the Prophet Muhammad (Markfield: The Islamic Foundation, 2006), vii—viii; Khadduri, War and Peace, 105.
[20] Bukay, “Peace or Jihad,” cited above.
[21] https://is.muni.cz/el/1423/jaro2010/MVZ448/OBL___AQ__Fatwa_1996.pdf
[22] https://fas.org/irp/world/para/docs/980223-fatwa.htm
[23] راجع على سبيل المثال معالجة لؤي فتوحي الشاملة لمسألة النسخ: Abrogation in the Qur’an and Islamic Law: A Critical Study of the Concept of Naskh and its Impact (Kuala Lumpur: Islamic Book Trust ed., 2013. First published by Routledge in New York and Oxon, 2013).
[24] Bashier, War and Peace, 284.
[25] Ibid., 288.
[26] Fatoohi, Abrogation in the Qur’an and Islamic Law, o cit., 180. See also Fatoohi, Jihad in the Qur’an: The Truth from the Source (Birmingham: Luna Plena, 2009).
[27] محمد أبو زهرة، نظرية الحرب في الإسلام (القاهرة، وزارة الأوقاف، 1961) ص 18، نقلا عن: Hashmi, ed., Islamic Political Ethics, 208..
[28] محمد بن عمر الواقدي، كتاب المغازي (بيروت: مؤسسة الأعلمي، 1989) المجلد الثاني، ص780-795.
[29] إسماعيل ابن كثير، تفسير ابن كثير (بيروت: المكتبة العصرية، طبعة 2013) مجلد 4، ص332 وما تلاها، وانظر:
Lt. Gen. A. I. Akram, The Sword of Allah: Khalid bin al-Waleed, His Life and Campaigns (New Delhi: Adam, 2009), 97-98; Bashier, War and Peace, 237-8, 241.
[30] تفسير ابن كثير، المجلد الرابع، ص332.
[31] W. Montgomery Watt, Muhammad at Medina (Oxford University Press, 1956. 2004 Edition), 311; Ibn Kathir, The Life of Muhammad (Karachi: Darul-Ishaat, 2004), 516, 522; Shaykh Muhammad al-Ghazali, A Thematic Commentary on the Qur’an (Herndon: International Institute of Islamic Thought, 2000), 182.
[32] سورة التوبة: الآية (6).
[33] Sayyid Ameenul Hasan Rizvi, Battles by the Prophet in Light of the Qur’an (Jeddah: Abul-Qasim, 2002), 126-130.
[34] ابن كثير، سيرة محمد، ص516، ص522.
[35] Spencer, Religion of Peace? 78.
[36] بالرغم من أن الضحاك بن مزاحم ، كما نقل عنه إسماعيل ابن كثير (تفسير ابن كثير، المجلد 4، ص 338)، يرى في ذلك رفضًا لجميع اتفاقيات الحج التي أبرمها محمد مع جميع الوثنيين، تصر المصادر المبكرة الأخرى على أن الأمر لم يكن كذلك، ولو كان الأمر كذلك لعكس رغبة في الانتقام لم تكن معروفة في محمد. وانظر:Rizwi Faizer, “Expeditions and Battles,” in Jane Dammen McAuliffe, ed., Encyclopaedia of the Qur’an (Leiden and Boston: Brill, 2002), Vol. II, 151.
[37] سورة النساء: آية (90).
[38] Fatoohi, Jihad in the Qur’an, 34.
[39] ابن هشام، السيرة النبوية (بيروت: المكتبة العصرية، 2012)، ص249.
[40] Hashmi, ed., Islamic Political Ethics, 201.
[41] انظر: ابن هشام، السيرة النبوية، ص74.
[42] الواقدي، كتاب المغازي، المجلد 2، ص 492.
[43] ابن هشام، السيرة النبوية، ص 435.
[44] بالطبع هذه هي وجهة نظر ابن هشام: السيرة النبوية، ص249. ولمطالعة آراء الباحثين المعاصرين الذين يتفقون معه، يُنظر:
Fatoohi, Jihad in the Qur’an, 31; Zakaria Bashier, War and Peace in the Life of the Prophet Muhammad (Markfield: The Islamic Foundation, 2006), 2-4; Martin Lings, Muhammad: His Life based on the Earliest Sources (London: George Allen & Unwin, 1983. Islamic Texts Society edition, 2009), 135; Sohail H. Hashmi, “Sunni Islam,” in Gabriel Palmer-Fernandez, ed., Encyclopedia of Religion and War (London: Routledge, 2004), 217. Sohail H. Hashmi, ed., Islamic Political Ethics: Civil Society, Pluralism, and Conflict (Princeton: Princeton University Press, 2002), 198.
[45] Cf. Michael Lecker, The Constitution of Medina: Muhammad’s First Legal Document (Princeton, NJ: Darwin, 2004).
[46] تفسير ابن كثير، المجلد الأول، ص609.
[47] سورة البقرة، آية (192).
[48] سورة البقرة، آية (193).
[49] Hashmi, ed., Islamic Political Ethics, 204.
[50] صحيح البخاري (القاهرة: دار الآفاق العربية ، 2004)، ص 607 ، حديث 3025: حَدَّثنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثنَا عَاصِمُ بْنُ يُوسُفَ اليرُبوعِيُّ، حَدَّثنَا أبَو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، قَالَ حدثني سَالِمٌ أبو النضر، مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ كُنْتُ كَاتِبًا لَهُ قَالَ كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي أَوْفَى حِينَ خَرَجَ إِلَ الْحَرُورِيَّةِ فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا فِيهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ قَامَ فِي النَّاسِ فَقَالَ ” أَيُّهَا النَّاسُ لاَ تتمنوا لقاء العدو وَسَلوُا اللهَّ العافية، فإذا لقَيتمُوهُمْ فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظِلاَلِ السُّيُوفِ -ثمُّ قاَلَ- اللهم مُنْزِلَ الْكِتَابِ وَمُجْرِيَ السَّحَابِ وَهَازِمَ الأَحْزَابِ اهْزِمْهُمْ وانصرنا عَلَيْهِمْ ” . وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنِي سَالِم أَبُو النضر كُنْتُ كَاتِبًا لِعُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فَأَتَاهُ كِتَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي أوفى رضى الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ “لاَ تمنوا لِقَاءَ الْعَدُو”.
[51] سورة محمد: الآية (44)
[52] سورة البقرة: الآية (216)، وانظر: سورة الشورى: الآية (41).
[53] سورة البقرة: الآية (217)، والآية: (191)، وسورة النساء: الآيات: (78:75).
[54] Bashier, War and Peace, 229-233.
[55] سورة يوسف، الآية (92).
[56] ابن إسحاق، كتاب المغازي، المجلد 1، ص 285-286، وأبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الرسل والملوك (بيروت: دار صادر، 2008)، مجلد 1، ص397.
[57] ابن إسحاق، كتاب المغازي، مجلد 2، ص 850، والطبري، تاريخ، مجلد 2، ص 459.
[58] سورة الأنفال: آية (57).
[59] سورة المائدة: آية (45).
[60] سورة البقرة: آية (194): فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ.
[61] انظر على سبيل المثال: سورة الشورى:الآيات (40-42).
[62] Cf. Khadduri, War and Peace, 96-8.
[63] المرجع السابق، ص98. وانظر على سبيل المثال: سنن الترمذي (القاهرة: دار الحديث، 1999)، المجلد الثالث، ص526، حديث: 1548: حدثنا قتيبة حدثنا أبو عوانة عن عطاء بن السائب عن أبي البختري أن جيشا من جيوش المسلمين كان أميرهم سلمان الفارسي حاصروا قصرا من قصور فارس فقالوا يا أبا عبد الله ألا ننهد إليهم قال دعوني أدعهم كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم فأتاهم سلمان فقال لهم إنما أنا رجل منكم فارسي ترون العرب يطيعونني فإن أسلمتم فلكم مثل الذي لنا وعليكم مثل الذي علينا وإن أبيتم إلا دينكم تركناكم عليه وأعطونا الجزية عن يد وأنتم صاغرون قال ورطن إليهم بالفارسية وأنتم غير محمودين وإن أبيتم نابذناكم على سواء قالوا ما نحن بالذي نعطي الجزية ولكنا نقاتلكم فقالوا يا أبا عبد الله ألا ننهد إليهم قال لا فدعاهم ثلاثة أيام إلى مثل هذا ثم قال انهدوا إليهم قال فنهدنا إليهم ففتحنا ذلك القصر. قال وفي الباب عن بريدة والنعمان بن مقرن وابن عمر وابن عباس وحديث سلمان حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث عطاء بن السائب وسمعت محمدا يقول أبو البختري لم يدرك سلمان لأنه لم يدرك عليا وسلمان مات قبل علي وقد ذهب بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم إلى هذا ورأوا أن يدعوا قبل القتال وهو قول إسحق بن إبراهيم قال إن تقدم إليهم في الدعوة فحسن يكون ذلك أهيب وقال بعض أهل العلم لا دعوة اليوم وقال أحمد لا أعرف اليوم أحدا يدعى وقال الشافعي لا يقاتل العدو حتى يدعوا إلا أن يعجلوا عن ذلك فإن لم يفعل فقد بلغتهم الدعوة.
[64] Imam Muhammad Shirazi, War, Peace and Non-violence: An Islamic Perspective (London: Fountain Books, 2003 ed.), 28-9.
[65] كما ينطبق ذلك على الخلافات التي ينتقدها القرآن أكثر من غيرها، وهي الخلافات التي تقع بين المؤمنين: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، سورة الشورى: الآيتان (10:9).
[66] تفسير ابن كثير، المجلد الأول، ص 609.
[67] الواقدي، كتاب المغازي، مجلد 2، ص758.
[68] سورة الحج: آية (42).
[69] الموطأ، الإمام مالك بن أنس (القاهرة: دار الحديث، 2005) ص 319، كتاب 21، باب 3، حديث 10: وحدثني عن مالك عن يحيى بن سعيد أن أبا بكر الصديق بعث جيوشا إلى الشام فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان وكان أمير ربع من تلك الأرباع فزعموا أن يزيد قال لأبي بكر إما أن تركب وإما أن أنزل فقال أبو بكر ما أنت بنازل وما أنا براكب إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله ثم قال له إنك ستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له وستجد قوما فحصوا عن أوساط رءوسهم من الشعر فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف وإني موصيك بعشر لا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما ولا تقطعن شجرا مثمرا ولا تخربن عامرا ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكلة ولا تحرقن نحلا ولا تغرقنه ولا تغلل ولا تجبن.
[70] الطبري، تاريخ، مجلد 2، ص518.
[71] Muhammad Munir, “The Protection of Civilians in War: Non-Combatant Immunity in Islamic Law”, Hamdard Islamicus, Vol. XXXIV, No. 4 (October-December 2011), 7-39; Ahmed Mohsen Al-Dawoodi, The Islamic Law of War: Justifications and Regulations (New York: Palgrave , 2011), 111-4.
[72] سورة الأنعام: آية (151)، سورة الإسراء: آية (33)، سورة الفرقان: آية (68).
[73] سورة المائدة: الآيتان (34:33).
[74] سورة المائدة: الآية (8)، وانظر الآية (2).
[75] سورة آل عمران: الآية (134).
[76] Fatoohi, Jihad in the Qur’an, 73.
[77] Mathnawi I: 3721ff. published online at: http://www.dar-al-masnavi.org/n-I-3721.html
[78] سنن أبي داوود، (الرياض، دار الحضارة للنشر والتوزيع، 2015)، ص 599، حديث رقم 4779: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد عن عبد الله أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون الصرعة فيكم؟ قالوا: الذي لا يصرعه الرجال، قال: لا، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب).
[79] سنن الترمذي، مجلد 3، ص 400، حديث رقم 1334: حدثنا قتيبة، حدثنا أبو عوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال كتب أبي إلى عبيد الله بن أبي بكرة وهو قاض أن لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان”. قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح، وأبو بكرة اسمه نفيع.
[80] سورة الزخرف: الآيتان (88-89).
[81] سورة النحل: الآيات (125-128).
[82] سورة الحجرات: آية (13).
[83] سورة البقرة: آية (62).
[84] سورة المائدة: آية (69).
[85] Fatoohi, Jihad in the Qur’an, 25-6.
[86] سورة العنكبوت: آية (69).
[87] سنن النسائي (الرياض، دار السلام، طبعة 1999) ص357، حديث 2578.
[88] سورة الفرقان: آية (52).
[89] Fatoohi, Jihad in the Qur’an, 87.
[90] نقرأ هذا الحديث في كتاب جلال الدين السيوطي الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة، تحقيق: محمد عبد الرحيم (بيروت: دار الفقه، طبعة 1995).
[91] سنن النسائي، مجلد 3، ص 587، حديث رقم 4214: أخبرنا إسحق بن منصور، قال حدثنا عبد الرحمن عن سفيان، عن علقمة بن مرتد، عن طارق بن شهاب البجلي أنّ رجُلًا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد وضَع رِجله في الغَرْزِ: أَيُّ الجهاد أفضل؟ قال: “كَلِمَةُ حَقًّ عِند سُلطَان جَائِرٍ”.
[92] سنن الترمذي، مجلد 3، ص 100، حديث رقم 796: حدثنا قتيبة حدثنا عبد الواحد بن زياد عن الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت كان رسول الله ﷺ يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح غريب. وانظر: صحيح مسلم (القاهرة: دار الغد الجديد، 2007) ص398، حديث 1175.
[93]http://www.winstonchurchill.org/learn/speeches/speeches-of-winstonchurchill/1940-finest-hour/128-we-shall-fight-on-the-beaches
[94] Cf. Chapter V in Khadduri, War and Peace.
[95] Karen Armstrong, “The True, Peaceful Face of Islam” Time, 23 September 2001, available online at: http://www.time.com/time/magazine/article/0,9171,1101011001-175987,00.html. Access date: 1 April 2011.