العدالة في الإسلام أو ما بعد مجتمع الصحابة المتخيل!

ما يمكن توصيفه بـ”تسييس” العدالة في الإسلام كان وما زال سبباً مباشراً لحالة الدمج والمزاوجة بين الدين والحكم، والخلط بين الإسلام والسياسة. وقد قام الخلفاء منذ وفاة النبي محمد بتوظيف الدين في عملية الصعود السياسي وتحقيق النفوذ لإخضاع الشعوب. بالتالي كان السؤال عن العدالة ومدى تحققها، لا سيما في ظل الثورات والهبات الشعبية والانتفاضات المجتمعية إشكالياً وملحاً. ولعل الحرج في هذا السؤال المهم والمعقد ناتج عن ارتباط الدين والمقدس بشخوص هذه التجربة التاريخية حد التماهي والتطابق. وقد أضفى عليهم ذلك عصمة كما وضع حواجز بينهم وبين النقد.

فالعلاقة الترابطية بين الدين والدولة والاتحاد بين السلطتين الدينية والزمنية جعلت مفهوم العدالة يخضع لمعضلات كثيرة، منها بطش الحكام والخلفاء أو تهميشهم لفئات معينة لأسباب سياسية وأيدولوجية كما حدث مثلًا مع الصحابي أبي ذر الغفاري، وقد اصطدم مع الخليفة عثمان بن عفان بسبب إداراته السياسية في الحكم وانحيازه في توزيع الثروة والنفوذ لبني أمية على حساب الآخرين، وظهور تفاوتات طبقية، الأمر الذي تسبب بنفي الصحابي إلى الشام ثم لصحراء الربذة وقضى في ظروف مأساوية. وكان أبو ذر من المحرضين للتمرد والثورة على عثمان. ومن أقواله الشهيرة التي رددها أبو ذر ضد سياسات بني أمية: “عجبت لمن لم يجد قوت يومه، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه”.

انقسمت النخبة السياسية في الفترة الإسلامية المبكرة إلى المهاجرين والأنصار. ورغم العدالة المفترضة بين المكونين المؤسسين والتي حث عليها النبي مرارًا وتكرارًا، بل كرر أنه “لا فرق بين اعجمي وعربي إلا بالتقوى”، بيد أن التمايزات بين المسلمين سواء على أساس قومي أو عرقي أو طبقي ظلت قائمة ومهيمنة على مسار التاريخ. الأمر الذي أدى لبوادر فرقة وخلاف وصراع طوال العهود الإسلامية. ففي اجتماع السقيفة بعد وفاة الرسول سارع الأنصار بالاجتماع بقيادة زعيم الخزرج سعد بن عبادة، وعندما علم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب ذهب كل منهما إلى السقيفة مع أبي عبيدة بن الجراح. ويقول الطبري: “…. كان الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، وتركوا الرسول يغسله أهله فقالوا: نولي هذا الأمر بعد محمد، سعد ابن عبادة· وأخرجوا سعدا إليهم وهو مريض، فحمد الله وأثنى عليه وذكر سابقة الأنصار في الدين وأفضليتهم في الإسلام حتى توفى الرسول وهو عنهم راض وقال: استبدوا بهذا الأمر (الحكم) دون الناس، فأجابوه بإجماعهم أن قد وفقت في الرأي، فقالوا: فإن أبت مهاجرة قريش فقالوا: (نحن المهاجرون وصحابة رسول الله  الأولون، ونحن عشيرته وأولياؤه، فعلامَ تنازعوننا هذا الأمر بعده؟) فقالت طائفة منهم (الأنصار): فإنا نقول إذًا منا أمير ومنكم أمير. فقال سعد بن عبادة: هذا أول الوهن!!”

ويظهر من هذا الحديث والجدال أن جماعة المسلمين لم تصل إلى مبدأ العدالة والمساواة. بل إن العصبيات المختلفة ظلت هي التي تتسيد الموقف.

ومن هنا، برزت المعارضة القوية من جانب الأنصار لغياب العدالة بحقهم، كما ظهرت المعارضة من الهاشميين لتكشف عن نمط آخر من غياب العدالة، حيث كانت مبايعة أبى بكر بالخلافة مغايرة لما اعتاد عليه العرب في السابق بتغليب جملة أمور منها السن والثروة والنفوذ. وكان أبو بكر ينتمي لفرع (تيم) الأقل نفوذا والأقل ثروة.

يقول فرج فودة المفكر المصري في كتابه: الحقيقة الغائبة”، إنه بعد وفاة الإمام على بن أبى طالب بطعنات من عبدالرحمن بن ملجم، دعا عبد الله بن جعفر بابن ملجم، فقطع يديه ورجليه وسمل عينيه فجعل يقول: “إنك يا ابن جعفر لتكحل عينى بملمول مض” أى (بمكحال حار محرق)، ثم أمر بلسانه أن يخرج ليقطع، فجزع من ذلك، فقل له ابن جعفر: قطعنا يديك ورجليك، وسملنا عينيك، فلم تجزع، فكيف تجزع من قطع لسانك، قال: إنى ما جزعت من ذلك خوفا من الموت، لكنى جزعت أن أكون حيا فى الدنيا ساعة لا أذكر الله فيها. ثم قطع لسانه، فمات.

والرواية يذكرها ابن سعد، مضيفًا إليها حرقه بعد موته. ويذكرها ابن كثير دون ترجيح ويقتصر كل من الطبرى وابن الأثير على الحرق بعد القتل.

ويقول فودة إن “الرواية لا تعبر فى رأينا عن روح الإسلام أو تعاليمه، حتى لو اقتصرت على حرق الجثمان بعد القصاص فقد نهى الرسول عن المُثلة ولو بالكلب العقور، ونهى علي بن أبي طالب قبل وفاته فى رواية لابن الأثير عن المُثلة بقاتله، لكنها تعبر من وجهة نظرنا عن روح عصر، سادته القسوة، وتحجر القلب وكان مقبولًا فيه أن يحدث ما فعله عبدالله بن جعفر بابن ملجم، دون استنكار، بل ويكمل المشاهدون المشهد بحرق الجثمان، بينما أضافت الحضارة إلى سلوكنا كثيرًا من الإحساس بعذاب الآخرين، وصعوبة تقبل التمثيل بهم أو تعذيبهم، بل إنه من الصعب أن نتصور صمود مجموعة من المشاهدين لمثل ما فعله عبدالله بن جعفر، بكلب ضال أو بقط شارد”.

ويروى المفكر المصري في الكتاب ذاته مثالًا آخر عن تسييس العدالة وغيابها. ففي أعقاب مقتل عمر ابن الخطاب، انطلق ابنه عبيدالله ابن عمر، وقتل ثلاثة ظن فيهم التآمر على مقتل والده، ولم يثبت ذلك فى حق أحد منهم، وكان أحدهم الهرمزان، الذى أسلم وصح إسلامه، وقد واجه عثمان هذا الموقف فى بدء ولايته وكان رأى الدين فيه واضحا، أعلنه على وأصر عليه، وهو أن يقتل عبيدالله بدم من قتل. لكن عثمان لم يملك إلا المخالفة لأسباب (إنسانية)، فقد تساءل الناس فى شفقة، أيقتل عمر بالأمس، ويقتل ابنه اليوم؟ ألا يكفى آل عمر قتل عمر؟، أيفجعون فيه ثم فى ولده قبل أن تجف دموعهم عليه؟.. منطق.. وإنسانية.. وظروف متغيرة.. لكن حكم الدين ثابت وواضح ولا لبس فيه.. حكم الدين هو القصاص، ولا بد من قتل عبيد الله.

ويقال إن عمرو بن العاص أفتى بفتوى بالغة الذكاء والمهارة عندما تولى عثمان، وسأل عمرو أن يخرجه من المأزق الصعب، فسأله عمرو: هل قتل الهرمزان فى ولاية عمر؟ فأجابه عثمان: لا، كان عمر قد قتل، فسأله ثانية: وهل قتل فى ولايتك؟ فأجابه عثمان: لا، لم أكن قد توليت بعد، فقال عمرو: إذن يتولاه الله.

والشاهد هنا، وفق فودة، أن عثمان حاول التخلص من المأزق بدفع دية الهرمزان من ماله، ولم يتحمل عبيد الله وزر القتل أو حتى دية القتلى، وهو ما رفضه على، الذى ظل يتوعد عبيد الله كلما لقيه بأنه إذا تولى فسوف يقتله بدم الهرمزان، وما إن تولى على حتى هرب (عبيد الله) إلى جيش معاوية، وحارب عليا إلى أن قتل فى معركة صفين. ويشاء القدر أن يقع على فى المأزق نفسه، بل ربما بصورة أعقد، فقد ولى ولم يقدر على قتَلة عثمان لأنهم كانوا مسيطرين على المدينة، ثم انتقل من حرب إلى حرب وهم على رأس جيشه فلم يتمكن منهم، وعندما أعلن معاوية أن مطلبه الوحيد أن يدفع على إليه قتَلة عثمان، فوجئ على بجيشه يهتف فى صوت واحد، كلنا قتلة عثمان، فزاد الموقف تعقيدًا، وأصبح مستحيلًا على الإمام على أن يثأر من القتَلة أو حتى يحاسبهم.

ومع ذروة تسييس العدالة في التاريخ الإسلام كما ظهرت في ما عرف بـ”الفتنة الكبرى”، حيث الاستعانة بالدين أو توظيف المقدس (حمل المصحف على أسنة السيوف والرماح) في تبرير العنف والقتل والبطش وكل الدماء التي سالت من أجل السلطة، ونجم عن ذلك ظهور فرق مثل الخوارج وطرحهم السياسي والأيدولوجي المعروف ب”الحاكمية”، فإن تعقيب علي بن أبي طالب على ذلك بأن “الكلام بين دفتي المصحف لاينطق، وإنما يتكلم به الرجال”، بمعنى أن الدين دائما ما يحتاج إلى تأويل وتفسير من خلال عقول رجال كل مرحلة.

لكن منظرو الحاكمية اعتبروا حاكمية الله الواحد الأحد المتصرف في شئون الأرض يحكمها كيف يشاء، وهناك خليفة لله، ولا تأتي هذه الخلافة بشكل تام وصحيح ونهائي إلا من جهتين: إما أن يكون ذلك الخليفة رسولًا، أو رجلًا يتبع الرسول فيما جاء به الشرع والقانون من عند ربه، وهنا كان أساس الخلط بين الديني والسياسي الذي أدى إلى تسييس العدالة، واعتبار ما يقوم به الخليفة عادلًا حتى لو به ظلم أو بطش لأنه ممثل الله على الأرض. فالحكم بالحق الإلهي يترتب عليه القوة والاستبداد ونفي الآخر وتكفيره واستحلال دمه.

وبغض النظر عن ما دار في التحكيم أثناء الفتنة والصراع بين علي بن أبي طالب ومعاوية، فإن النزاع الذي تسبب في موت صحابة كثيرين هو أساسه سياسي ودوافع للوصول إلى الحكم ولا يمت للدين أو تحقيق العدالة السياسية والدينية أو الاجتماعية بصلة، حتى في ظل محاولات أي من طرفي النزاع رفع المصحف على أسنة الرماح، والنتيجة كانت ظهور فرق دينية مسيسة سنية وشيعية وخوارج وحركات شعوبية، حاولت جميعها احتكار مبدأ العدالة والحقيقة المطلقة.

مع بدء الخلافة الأموية مع معاوية بن أبي سفيان نجد بوضوح محاولات قصوى لاستغلال الدين بهدف إضفاء القداسة والعدالة على الخلفاء والتي لن تكون بالضرورة قائمة في الواقع، فكان معاوية مثلًا اتخذ لنفسة مسميات وألقاب مثل (مالك، الأول، الناصر لدين الله، خال المؤمنين، أحد كتاب النبي” ثم قام بالانقلاب الشهير في نظام الحكم بفرض مبدأ الوراثة حيث نقل السلطة لابنه يزيد بالتوريث وعبر وسائل منها الترهيب والترغيب والتهديد، ورغم معارض الحجاز إعطاء البيعة ليزيد، لكنها أخذت قسرًا وإجبارًا.

وفي أعقاب وفاة معاوية تولى يزيد الخلافة بينما امتنع الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر عن البيعة. فحاول يزيد أن يأخذ البيعة منهم بالإكراه، فبايع ابن عمر وابن عباس كرهاً، بينما امتنع الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير الذي لاذ بالبيت الحرام بمكة. بالتالي، انفجر الخلاف في ساحات الحرب، وحدثت موقعة كربلاء التي قتل فيها عمرو بن سعد قائد جيش يزيد الحسين بن علي وبعض أخوته وابنته فاطمة، فضلًا عن آخرين من بني عقيل وبني هاشم من مؤيدي الحسين في معركة لم تكن متكافئة. ويظهر تسييس العدالة في هذه الواقعة مما ذكره ابن كثير: “فقد حمل عمرو بن الحجاج، أمير ميمنة جيش ابن زياد، على جماعة الحسين وهو يقول للناس معه: “قاتلوا من مرَقَ من الدين وفارق الجماعة …” فيرد عليه الحسين: “ويحك يا حجاج، أَعَلَيَّ تحرّضُ الناسَ؟! أَنَحنُ مرقنا من الدين وأنت تقيم عليه؟ ستعلمون إذا فارقت أرواحنا أجسادنا من أولى بصِلِيِّ النار”.

لم يكن وصول الأمويين للسلطة التي انتزعوها بقوة السيف يعني أنهم نجحوا في الحصول على الشرعية او حققوا العدالة، بل على العكس من ذلك تواصلت الثورات ضدهم، واعتبرهم كل الخصوم من هاشميين وخوارج وشيعة مغتصبين لحكم لا حق لهم فيه، فلجأوا إلى اختلاق شرعية دينية ترتكز على أيديولوجيا تعتمد على تسييس الدين في المقام الأول، وبما أن المرجعيات الدينية لم تكن قد تبلورت آنذاك، سواء عند الأمويين أو عند خصومهم، كان البديل أمامهم فئة كانت في طور النشأة تتألف من علماء الدين والمحدثين، فشملوهم بالتأييد والرعاية مقابل أن تسوغ لهم تلك الفئة استبدادهم، وخير مثال على ذلك هو تأييدهم للفئة الجبرية، وهى فرقة أسسها جهم بن صفوان تقول بأن الإنسان مجبر على أفعاله ولا يملك حق الاختيار، بل هو من وجهة نظرها أشبه بريشة معلقة في الهواء تحركها الريح أينما شاءت، وهو مذهب يكرس للخضوع والاستسلام للقضاء والقدر الذي جاء بالأمويين إلى الحكم، حسبما يوضح الدكتور سامح محمد إسماعيل في كتابه: أيدولوجيا الإسلام السياسي والشيوعية.

وقد وافق هذا المذهب هوى الأمويين. فالسلطة يتم تحديدها من الله وليس للناس فيها إرادة ولا مشورة، والخليفة هو خليفة الله وعلى الناس القبول والطاعة. وكان زياد بن أبيه أول من بشر بهذا المذهب حيث قال في خطبة له: “أيها الناس، إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم زادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خول لنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا.

وفي ظل مبدأ التفويض الإلهي والحاكم الذي يتولى الحكم باسم الله والعدالة المطلقة، وتغييب الأمة عن المشاركة أو تكون مصدر السلطة والحكم، كان السيف وحده هو مصدر استمرار السلطة وإسكات أي معارضة وإنهاء أي تمرد. فلم يجد معاوية معاوية مثلًا أزمة في أن يقول في إحدى خطبة: “أما بعد، فإني والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم، ولكني جالدتكم بسيفي هذا مجالدة”. ويتكرر الامر ذاته مع عبد الملك بن مروان الذي أوصي ابنه الوليد بينما كان على فراش الموت: “إذا مت فشمر واتزر، والبس جلد النمر، وضع سيفك على عاتقك، فمن أبدى ذات نفسه لك فاضرب عنقه”. هي لغة العنف المطلق لتحقيق السلطة المطلقة. وتضحى المعارضة للحكام مروقًا في الدين وهرطة. وقد صرح عبد الملك بن مروان بقوله ناهيا ومهددا المعارضين: “والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه”. بل إن الحجاج بن يوسف يكرس هذا المبدأ في كلماته “والله لا آمر أحدا أن يخرج من باب من أبواب المسجد فيخرج من الباب الذي يليه إلا ضربت عنقه”.

وهكذا أضحى الحكم بحسب إرادة الفرد صاحب السلطة من دون مسائلة أو محاسبة ونقد ولا حتى رقيب، كما أمضى الخليفة هو السيد الأول الأوحد الذي لا يكترث بقبول الرعية لأنه اغتصب الحكم بحد السيف، فلا يكون ثمة قانون بل الحكم بإرادة الفرد الذي لا يتحمل مسؤولية من أي نوع، فهو غير مسئول أمام أحد ولا يجرؤ على محاسبته أحد في الدنيا، وقد أعفته السماء من حساب الآخرة.

شهدت الفترة الاموية “حالات عنصرية، حيث روجت للعصبية القبلية، وأغفل حكامها مبادئ العدالة والمساواة، فانخرطوا في اضطهاد الموالي بل كان العرب في العصر الأموي لا يصاهرون غير العرب”، وفق صاحب: “أيدولوجيا الإسلام السياسي والشيوعية”. وهناك وقائع عن احتقار للموالي وبلغ الأمر بالعرب أن قالوا: “لا يقطع الصلاة إلا ثلاثة: حمار أو كلب أو مولى”. وكان الحجاج لا يسقط عنهم الجزية حتى وإن أسلموا. ولم تسقط عنهم الجزية إلا في عهد عمر بن عبد العزيز صاحب المقولة الشهيرة لأحد الولاة “ارفع الجزية عمن أسلم، فقد بُعث محمد  هاديا ولم يبعث جابيا”.

الفقهاء الذين كانوا يجرؤون على التصريح بأن الحاكم يستمد شرعيته من الرعية التي تملك حق سحب الثقة منه، فإنهم ما كانوا يملكون وسائل عملية لتنفيذ تلك التعاليم أو أجهزة لمراقبة الحاكم ومحاسبته على أخطائه. فيما وضع بنو أمية تنظيمًا اجتماعيًا اعتمد على العنصرية والعصبية للعنصر العربي، مما أعاد تشكيل المجتمع الإسلامي، وفق دراسة الدكتور سامح محمد إسماعيل المعنونة بـ”ليسوا أمراء وليسوا مؤمنين”، وذلك على أساس معيار العرق والعصبية ومدى القرب من السلطة وأصحابها، ليظهر هرم اجتماعي جاء على قمته الأسرة الأموية الحاكمة وأفرادها، ثم ولاتهم، ثم رؤساء القبائل العربية من حلفاء بني أمية، ثم الموالي من شعوب البلاد المفتوحة، وعد العنصر العربي أشرف وأعلى مرتبة من المسلمين غير العرب، ونتيجة لهذا التقسيم الطبقي القائم على تفاوت القوة استشرت العصبية في المجتمع العربي بشكل يفوق ما حدث أيام الجاهلية، وانحرفت الدولة المنحازة لعنصر على آخر بالرعية عن المنهج الإسلامي في العدالة والمساواة، فضعفت الأخوة بين العرب وغير العرب، الأمر الذي أدى إلى حدوث صراعات قبلية مثل التي نشأت بين القبائل القيسية واليمانية. ذلك الصراع الذي قسم العالم الإسلامي وشقه إلى نصفين.

كما ساد التعالي على الصناع وأصحاب الحرف، واستنكف العرب عن العمل اليدوي الذي استأثر به الموالي والرقيق. كما تبوأ الشعراء مكانة عظيمة ونالوا الحظوة لدى الحكام والولاة واكتسبوا الكثير من الأموال عبر النفاق والتملق وقصائد المدح والهجاء.

وبذلك أخذت الأيديولوجيا الدولة الإسلامية على الطريق نفسه الذي سلكته الإمبراطوريات المجاورة، وفق صاحب الدراسة ذاتها. وانتفى مبدأ المساواة أو العدالة على معتنقي الدين الجديد، وظهر ترتيب اجتماعي برز من خلاله مصطلح الموالي الذين جاؤوا في المرتبة الثانية بعد السادة الفاتحين وفق الانقسام العرقي الطبقي والديني، فأصبح السيد الحاكم بقوة السلاح والقادم من شبه الجزيرة العربية يملك مقاليد كل شيء، بينما يرسف الموالي المفتوحين (الأعاجم) تحت نير السلطة التي استخدمتهم في الزراعة كأجراء، كما مارس السادة الفاتحون انقسامًا دينيًا بينهم وبين أهل الذمة. فكان تردي أوضاع الموالي منذ وفاة عمر بن الخطاب سببًا في انحيازهم لعلى بن أبي طالب في مواجهته الدامية مع الأمويين، حيث حارب ضمن صفوف جيشه نحو ثمانية آلاف من الموالي قبل أن تتبلور حركة المعارضة في العصر الأموي، وهي ما عرفت بالحركة الشعوبية التي أججت نيران صراع اجتماعي وسياسي انتهى بسقوط الدولة الأموية.

كان الانقسام الطبقي في الدولة الأموية وما مارسته أجهزتها القمعية من جرائم قد أديا إلى تصاعد حدة الصراع الاجتماعي، وكان ظهور العلويين رافدًا مؤثرًا من روافد هذا الصراع، حيث حاول كل من الفريقين شرعنة وجوده وأهدافه السياسية من الناحية الدينية، فتحدث كل باسم الحقيقة المطلقة وفق أيديولوجيا وضعته في إطار تنظيري لتجعله يتحدث دوما باسم السماء، لا يعترف بالآخر الذي تمثل في الفرق المعارضة سياسيًا له والطبقات الاجتماعية الساعية نحو تحقيق العدالة الاجتماعية. ووصل الأمر إلى حد رفض وجود التنوع العرقي والديني، واغتصاب حقوق الأقليات الاجتماعية والسياسية من خلال سلسلة من عمليات القمع مارستها الدولة المؤدلجة التي لا تعترف إلا بمنهجها عبر سلسلة من أعمال العنف من خلال رموز دموية كالحجاج بن يوسف وضعت سيفها في خدمة السلطة.

وعلى صعيد آخر فقد واجه العباسيون معارضة مستمرة ودائمة، لا تقل شدة وعنفًا عن تلك التي واجهها الأمويون، وتنوعت هذه المعارضة بين سياسية ودينية وطائفية واجتماعية وعرقية، وكانت المعارضة المسلحة هي الطريقة الوحيدة المتاحة أمام الناس للتعبير عن احتجاجهم أو رفضهم للسياسات العباسية. ففي شمال أفريقيا نجح الفاطميون في نشر دعوتهم لآل البيت، ومن ثم تأسيس مملكة سيطرت على الشمال الإفريقي ومصر والشام والجزيرة العربية وصقلية، بالإضافة إلى الأمويين في الأندلس، في حين انشغلت الدولة العباسية في الشرق بقمع حركات الزنادقة، وثورات القرامطة الذين قدموا نظاما سياسيًا جديدًا أشبه بالنظام الجمهوري فبدلا من الحكم الفردي للخليفة العباسي شكلوا نوعا من القيادة الجماعية، كما ألغوا الملكية الفردية احتجاجًا على الفوارق الطبقية الكبيرة في ملكية الأراضي، ودعوا إلى المساواة بين الأجناس والأعراق، وبين الرجال والنساء. وفي منتصف القرن الثالث الهجري ثار الزنج الذين عملوا في المزارع جنوب البصرة بقيادة علي بن محمد بسبب ما تعرضوا له من استغلال واضطهاد ودعوا إلى العدالة والمساواة، واستمرت ثورتهم لعقدين من الزمان. وهكذا انفجرت الثورات هنا وهناك في وجه الأيديولوجيا العرقية، وانطلقت الحركات الثورية كالنار تحرق هشيم الظلم والاستعباد.

وفي المقابل اعتمد العباسيون بالدرجة الأولى على جيوشهم في قمع الثورات وحفظ الأمن، وعلى عكس الأمويين فضل العباسيون استعمال غير العرب في قواتهم، فاعتمدوا في البدء على الفرس، ثم استبدلوهم بالأتراك، فبعد أن أوقف المعتصم العطاء للقبائل العربية استقدم عشرات الآلاف من الأتراك، وأدخلهم في جيشه، واضطر على أثر ازدياد شكاوى أهل بغداد من تصرفاتهم وقلة انضباطهم إلى بناء مدينة خاصة بهم في شمال بغداد، وهي سامراء، وسنحت للقادة الأتراك الفرصة للتحكم بالخلافة بعد استعانة أفراد الأسرة العباسية بهم في حسم صراعاتهم الداخلية حول الحكم، وكان ذلك مما كلف العباسيين الكثير، وأسهم بصورة رئيسة في انهيار دولتهم، إذ أخل العباسيون بمبدأ احتكار القوة والسلطة وعدم السماح للغرباء بالنفوذ إلى الدائرة العليا الضيقة التي تضم الحاكم وولي عهده وأفراد عائلته، فصار العديد من الحكام العباسيين في العصر الوسيط خاضعين أو شبه مسيرين من قبل هؤلاء القادة، الذين لعبوا دورا في تحديد مصائر العديد من الخلفاء العباسيين، إذ أنهم قتلوا المتوكل والمعتز، وسمموا المنتصر، وخلعوا المستعين والمهتدي، ونصبوا المعتمد والمكتفي، وكانت تلك البداية الحقيقية لانهيار قوة بني العباس وأفول حكمهم، حتى لم يبق لهم في النهاية سوى مظاهر السلطة وشكلياتها، مثل الدعاء لهم في خطبة الجمعة وسك النقود بأسمائهم.

وقد اختلف توزيع النفوذ في المجتمع العباسي عما كان عليه في العهد الأموي، وأهم فرق بين النظامين الاجتماعيين فقدان العرب لامتيازاتهم على غيرهم من المسلمين، وربما شعر العرب بأنهم أبعدوا عن مركز السلطة، وبخاصة في العصرين الأوسط والأخير من هذا العهد، وبأن الأتراك تقدموا عليهم في الحظوة والنفوذ، وبشكل عام فقد توزع المجتمع العباسي إلى أربع طبقات أو فئات رئيسة وفقا لمعيار القوة، حيث جلس الخليفة العباسي وأفراد عائلته وأقربائه على قمة الهرم، وتأتي بعدها مباشرة طبقة “الخاصة”، التي تكونت من أصحاب السلطات المفوضة والنفوذ والثروة في المجتمع مثل الوزراء الولاة والقادة والقضاة وكبار الفقهاء المقربين من السلطة (فقهاء السلطان) ورؤساء التجار وكبار الأثرياء والإقطاعيين، وهي ليست طبقة أرستقراطية بكامل معنى الكلمة، لأن الحسب والنسب والمناصب والثروة الموروثة لم تكن قاسما مشتركا بين الجميع، وكان من الممكن لأحد أفراد هذه الطبقة أن يفقد مكانته فيها بطرده من وظيفته أو مصادرة أمواله بقرار علوي، فيهبط إلى الطبقة الأدنى منها وهي طبقة “العامة”.

وكما يستدل من تسمية الأخيرة تكونت هذه الطبقة من عامة الناس، الذين لا يمتلكون قوة أو نفوذا بسبب منصب أو ثروة أو صلات اجتماعية، وتشمل هذه الفئة صغار التجار والكسبة وأصحاب الحوانيت والحرفيين والفلاحين، واحتل العبيد والإماء، الدرك الأسفل من هيكل القوة الاجتماعية في المجتمع العباسي، كما ضم هذا المجتمع جماعات هامشية مثل العيارين والشطار، الذين خرجوا على قيم المجتمع، فامتهنوا الأعمال الممنوعة مثل اللصوصية والاحتيال، وشكلوا أحيانا تنظيمات مؤقتة بهدف رص صفوفهم، واستغلوا مراحل ضعف السلطة والاضطرابات الداخلية للحصول على المكاسب وفرض أنفسهم على الناس.

ونتيجة للتطورات السياسية والعسكرية في العهود الإسلامية ‏الأولى، حدثت انقسامات سياسية وشرعية، أدت بدورها فيما بعد إلى نشوء المذاهب ‏الدينية، واهتم المسلمون الأوائل بتأليف كتب خاصة فيها مفاضلة بين العرب والعجم‏، منها على سبيل المثال: فضل العجم على العرب لـسعيد بن حميد الجمحي، وفضل العرب‏على العجم لـإسحق بن سلمة، وكتاب الانتصار في الرد على الشعوبية للجمحي وسواها، مما يؤجج النزعة العنصرية، ويشغل الرعية في صراع داخلي يحقق بلا ريب مصالح الطبقة الحاكمة وفقا لنظرية “فرق تسد” طالما كانت قادرة على السيطرة والتدخل الدائم، قبل أن تتخذ الأمور شكل ثورات جامحة قد تخرج عن نطاق السيطرة.

اتبع العباسيون النهج الأموي الذي يعتبر الخليفة ظل الله على الأرض وليس للناس إلا الطاعة، وفي هذا يقول السفاح أول خلفاء بني العباس عقب مبايعته 132هـ في أول خطبة له بالكوفة: “يا أهل الكوفة، أنتم أهل محبتنا ومنزل مودتنا… فاستعدوا فأنا السفاح المبيح والثائر المبير”. وبالفعل كان الرجل سريعا إلى سفك الدماء، حيث عمل على تصفية بقايا الأمويين ومطاردتهم في قسوة بالغة حتى أنه أخرج جثث خلفاء بنى أمية من قبورهم فانتهك حرمتها وأحرقها، وقتل الآلاف من الأمويين وحلفائهم، وكان منهم الأطفال والشيوخ والنساء بلا رحمة مثل ما قام به واليه على البصرة سليمان بن علي من سحل للأمويين على الطريق وبمنتهى القسوة؛ لأن الرجل ببساطة كان ينفذ مشيئة السماء وفق مرجعية أيديولوجية لا تعرف الرحمة، فكان يحمد الله ويثني عليه عقب كل سفك للدماء، وكل مجزرة يرتكبها جنده، فها هو يضع رأس مروان بن محمد بين يديه ويسجد ويطيل السجود قائلا “الحمد لله الذي أظفرني بك، وأظهرني عليك”.

ويستهل أبو جعفر المنصور حكمه بخطابه الشهير: “أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده، وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئته وإرادته وأعطيه بإذنه” وفي موضع آخر يقول الخليفة المهدي: “أيها الناس من طاعتنا نهبكم العافية، وتحمدون العاقبة، اخفضوا جناح الطاعة لمن نشر معدلته فيكم وطوى الإصر عنكم.. والله لأفنين عمري بين معاقبتكم والإحسان إليكم”.

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete