تكوين
ثمّة حوادث سياسية وتاريخية، وربما ثقافية، عديدة، تؤشر إلى الانسداد التاريخي الذي يفرض وطأته على العقل العربي. هذا العقل المتخم بالماضي والانجذاب للتراث بكليته، واعتباره مقدسًا. فلا يمكن مسائلة فصوله، ومحاسبة شخوصه، ونقد حوادثه، وتفكيك المقولات المروية حوله. فضلا عن إمكانية دحض بعضها أحياناً ومقاربتها بالمناهج المعرفية الحديثة وكذا الوثائق المكتشفة.
ثورة الخميني
فيما يسجل التاريخ في حركته الدائرية انتصار التيار التمجيدي ويغيب أو يتم تغييب قسرًا التيار النقدي.
هذا تحديدًا ما يمكن اختباره مع اندلاع ثورة الخميني، عام 1979، ووصول “آيات الله” إلى الحكم، وقد انبرى مثقفون، في تأييدها، بل وتمجيدها، والاصطفاف في مربعها. كما حدث مع رواية “آيات شيطانية” للأديب سلمان رشدي والذي طعن، قبل فترة وجيزة، من شاب لبناني شيعي تنفيذًا لفتوى المرشد الإيراني المؤسس بعد قرابة أربعة عقود.
تكرار التاريخ في هيئة “مهزلة” مرة ثم “ملهاة” في مرات أخرى كما يقول الفيلسوف الألماني كارل ماركس، هو ما يجري مع وقائع عديدة تتباين في تفاصيلها وملابساتها. لكن الموقف الارتدادي يفضح ارتهانات فقدت صلاحيتها، وليس آخرها الاصطفاف مع نماذج سياسية وقوى إقليمية باعتبارها “ممانعة” و”مقاومة” بينما هي تصنع مربعات أمنية/ طائفية، بل تؤسس لدويلات طائفية ينتشر فيها الرعب و”كاتم الصوت”.
إذ إن قطاعات من النخبة لم تتعاف بعد من انجراح الذات المتضخمة في حين أنها ما تزال بوعيها عند لحظة التباين أو الصدام الحضاري مع الغرب الكولونيالي، بما أدى لاستمرار المواقف الارتدادية والنكوصية للعقل العربي (في تاريخ دائري) المهموم برد الاعتبار لذاته القومية/ الدينية الإسلامية.
الانتلجنسيا العربية المتورطة في تأييد “الولي الفقيه” والاصطفاف مع سلطة الملالي “الثورية” في نسختها الخمينية، تؤشر الأفخاخ التي وقعت فيها إلى حجم الارتباك التاريخي نتيجة غياب منهجية معرفية تتبنى الانعتاق من الماضي وحمولاته الثقيلة. بل إن التشوش في المواقف راكمته الثنائيات التقليدية بين “التراث” و”الحداثة” و”نحن” و”الآخر” و”الإسلام” و”الغرب”.
ولهذا كانت حوادث سياسية مثل وصول المعممين للحكم في إيران، لحظة انتصار متوهم، أو بالأحرى احتجاج على الإخفاق والشعور بالإذعان. فتنبعث في البيئة العربية والإسلامية المهزومة، لترمم الهوية المأزومة.
متى كان العصر الذهبي للاسلام؟
هذه الحركة الدائرية للتاريخ والتي تجعل الفكر ارتداديًا والمواقف عصابية، عبر عنها المفكر اللبناني مهدي عامل بأنّ “لا حياة لفاقد الحياة، فإن ألحَّ، استحالت عنده الحياة توقًا إلى ما مات، أو ما يشبه الذات في لغةٍ تؤسطر الماضي وترفعه إلى المطلق، وتطمح، في شهوتها الفارغة كتجويف صدى، إلى أن يقتصر عليها الوجود في خريطة العدم، فلا يبقى في التاريخ من التاريخ المتوقِّف عند الآن الذاهب في الموت سوى لغة منها تبدأ كل الأشياء، وفيها تسقط كل الأشياء، فتنتهي إلى تمارين في الإنشاء يمارسها، في أصفى حالات استمنائه، فكر عاجز عن إدراك العقل التاريخي، يستبدل ديالكتيكية عصر الثورات بصفر كلِّي يغمر سطح الأشياء، فتحتجب الأعماق، وتحتجب الحركة”.
ويقول في كتابه: “نقد الفكر اليومي” بعبارات موجزة تحمل قدرًا هائلًا من البلاغة السياسية والفلسفية: “في الصفر الكلي يتوقف الزمن عن دورانه: لا الماضي يمضي، ولا الآتي يأتي. والزمن لا يراوح مكانه. يتصدع وينهار، ولا يتضح غير المستحيل، من جهتين معاً: ما كان يتكرَر لم يعد يتكرر، والأفق بلون غامض، إنه زمن مكسور من جهة الماضي، مبتور من جهة المستقبل، والحاضر فيه يتفتت”.
حالة عدم النضوج هي ما يركن إليها المفكر السوري جورج طرابيشي في تفسيره لعدم الانعتاق من الماضي وهو المفكر المهتم بالتحليل النفسي من سيغموند فرويد إلى جاك لاكان وله ترجمات بخصوص مؤلفاتهما. ويصف هذا الوضع بأنه “سيكولوجية” أو “عقدة” طفولية، ؤدي إلى “ميل الطفل إلى أمثلة الراشد (التراث في حالتنا) وإعارته قدرة كلية وسحرية”.
ما زال سؤال الانسداد التاريخي ومعضلة الأفول الحضاري مرتهنين بجهود مفكرين وباحثين كثر، كما يخضع لإرادات أخرى، تاريخية، تحتاج لقطع عدة أشواط جادة مع الماضي في صورته البدائية والخروج من الانسداد والأفول إلى الانفتاح والانفراجة. فالحداثة ممكنة وتطوير الخطاب الديني محتمل وقائم. بل إنّ فرصه ضائعة بفعل هيمنة الخطابات الأصولية التي تعم المجال العام، واستمرار تسييس وأدلجة الدين، وتوليد لغة عنف فقهي، يتسيّد فيها منطق الغلبة، والإكراه على الحرية والتنوع.
الحاجة الملحة إلى الخروج من الماضي بتصوراته المتوهمة، ربما، تبدو عملية شاقة في ظل هذا الكم المخيف من الحوامل الاجتماعية المرتهنة بفعل خطابات أصولية، في حين تصطف وتحتشد في مربعات طائفية ملغمة، وتمارس عنفها الرمزي والمادي ضد خصومها الافتراضيين.
وهنا، نجد ضمن الكتل الصلبة التي تعيق عملية التحديث، التشريعات المنضبطة وفق أحكام قديمة تضع اشتراطات متعسفة بل تجعل تغييرها أو تعديلها بمثابة مروق، ويجعل الجدال المجتمعي خارج أطره الحقوقية المدنية إلى الدينية والفقهية. ذلك ما جرى في تونس التي شهدت درجة علمنة غير مسبوقة في محيطه العربي، عند مناقشة “دين الدولة” بالدستور، قبل أعوام قليلة. وسبق ذلك حوادث عديدة سواء في تونس أو مصر ولبنان، لا سيما في ما يتصل بالتشريعات الحقوقية لتحسين شروط ووضع المراة والأقليات.
فيما تعد مسألة المساواة التامة مع الرجل من بين أمور إشكالية عديدة، خاصة مع تعميم فكرة القوامة الدينية، وارتباطاتها بتفسيرات تغلب عليها نظرة تقليدية أو تلغي من حساباتها الشروط الاجتماعية والتاريخية وحتى السياسية التي حكمت تشكل النص الديني المؤسس. بالتالي، يستمر قسرًا تغليب التمايز الماهوي بين الرجل والمراة الذي فرض التراتبية البطريركية والهيراركية. وكان هذا المستوى من التفكير هو الغالب بفعل الوضع الاجتماعي القبلي، وقتذاك، والذي جعل السيادة للرجل في حين لا تتخطى المرأة حيز المنفعة الذكورية.
إقرأ أيضاً: الاسلاموفوبيا: من خطاب المظلومية الأصولي إلى قراءة الذات
المفكر المصري نصر حامد أبو زيد في كتابه: “دوائر الخوف” يقول: “هناك أبعاداً ذات طبيعة إنسانية تتجاوز حدود البنية المجتمعية الخاصة. يضاف إلى هذا التشابك والذي له بعد خاص في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، بعد الدين الذي ما زال يمثل مرجعية شرعية وقانونية مستمدة من مرجعيته الأخلاقية والروحية. ومنذ بداية ما يسمى عصر النهضة العربي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقضية تعليم المرأة (أولاً) ثم تحريرها من التقاليد البالية الراكدة التي تعوق حركة المجتمع بأسره (ثانياً) تحتل أولوية في سلم المهام النهضوية العاجلة”. لكن هناك “البعد المفقود للمرأة في الخطاب الديني الذي يعالجه النص القرآني بمعزل عن سياق الواقع الاجتماعي العام، فيجري الحديث عن المرأة بوصفها أنثى ونداً للرجل، مركزاً على الفروق العقلية والذهنية والعصبية”.
وحول قضية “القوامة”، فيوضح أبو زيد أنها ليست حكماً دينياً مطلقاً، بل هي تعكس الوضع الاجتماعي والثقافية لبيئة النص. بالتالي، من الضروري تعديل المسار التقليدي بما يتلاءم مع الشروط الجديدة والراهنة. فتولي المسؤولية الاجتماعية لا يخضع لأفضلية جندرية وتباين على أساس جنسي وبيولوجي إنما على أساس الكفاءة والقدرة.
كما أن قضية الميراث ما تزال تطرح أسئلة عديدة نظرًا للتشريعات القائمة في بعض البلدان العربية والتي تستند إلى الشرائع الدينية في بعض أحكامها المتعلقة بالقوانين الشخصية كالطلاق والزواج والمواريث. وفي ظل غموض بعض النصوص الدينية، التي لم تقطع بشكل نهائي بكيفية إدارة الميراث، بل وضعت أحكاما عامة تحث على “المحبة” ونبذ “الطمع” كما في المسيحية، فإن مشاكل عديدة تقع نتيجة جملة أمور تتحكم فيها حالة كل شخص وبلد وفق الوضع القانوني وكذا الأعراف المجتمعية.
ففي تونس عندما أقر مجلس الوزراء التونسي مشروع قانون تعديل أحكام المواريث، وأعلن المساواة التامة بين الرجل والمرأة في مسألة الميراث، عام 2018، كان الجدل عنيفًا في مصر، خاصة في مؤسسة الأزهر وهيئة كبار العلماء. وعندما تصدى سعد الدين الهلالي، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر إلى الآراء المتشددة التي اعتبرت القانون يتصادم وثوابت الدين، ثم صرح بأنه صحيح من الناحية الفقيه، خرج الدكتور أحمد زارع، الناطق بلسان جامعة الأزهر وقال إن “الدكتور الهلالي لا يمثل جامعة الأزهر من قريب أو بعيد بل يمثل شخصه، وما قاله يخالف نص القرآن ومنهج الأزهر”. وتابع: “مجلس جامعة الأزهر يبحث الموقف مما قاله الدكتور الهلالي، الذي لا يمثلنا في شيء”.
بل إن مركز الفتوي الإلكترونية بالأزهر، قد أصدر بيانًا وصف فيه كلام الهلالي بأنه “يظهر عليه التخبط والتناقض، كما نعيب عليه أنه يُدخل في العلم ما ليس منه وإنما يتكلم كلاماً غريباً يظهر –لغير المتخصص- بأنه يقعد القواعد لكلامه وكأن الكلام هذا من أبجديات العلم”. وقال إن “الأحكام الأساسية النصية بالأمر أو النهي، لا تتغير بتغير الأزمان، ولا بتغير الأماكن، ولا بتغير الناس، كوجوب الصلاة والصيام والزكاة والجهاد والأمانة والصدق …إلخ”.
البيان قال إن الميراث من الأحكام الشرعية، ولا تتصل بالفتوى “فلا يدخلها التغيير والتبديل لاباختلاف الأحوال ولا الأشخاص ولا الزمان ولا المكان”. ووصف أي اجتهاد في قضية الميراث بأنه “تلاعب وتدليس وكذب على الدين والعلم”.
من جهتها، أصدرت هيئة “كبار العلماء بالأزهر” بيانًا يحمل لغة مشحونة بالغضب، ذكرت فيه: “تابعنا باهتمام بالغ ما يثار في الآونة الأخيرة حول بعض الثوابت الشرعية المحكمة التي يحاول البعض التحقير من شأنها والاستخفاف بأحكامها، بينما يجتهد آخرون في التقليل من قيمتها، بإخراجها من إطار القطعيات المحكمات إلى فضاء الظنيات”. ووصفت الهيئة المجتهدين في مسألة الميراث بـ “المضللين”. بينما ذكروا ببيانهم: “من تلك القضايا التي زاد فيها تجاوز المضللين بغير علم في ثوابت قطعية معلومة من الدين بالضرورة، ومن تقسيم القرآن الكريم المحكم للمواريث، ما يتعلق بنصيب المرأة فيه، والذي ورد في آيتين محكمتين من كتاب الله المجيد في سورة النساء، وهو أمر تجاوزت فيه حملة التشنيع الجائرة على الشريعة كل حدود العقل والإنصاف”.
وجاء في البيان انتقادات جمة لهذا الاتجاه الذي يعطي للمرأة حقوق متساوية مع الرجل فيه الميراث. وقال: “بناء على تلك الخيالات المناقضة لقطعيات القرآن ثبوتا ودلالة، والتي يحسبها أصحابها انتصاراً لحقوق المرأة، جهلاً منهم بالتفاصيل الحكيمة لصور ميراث المرأة في الإسلام، والتي تأخذ في بعضها أكبر من نصيب الرجل، بل أحياناً ترث ولا يرث الرجل، فإنهم راحوا يطالبون بسن قوانين تلزم بالتسوية المطلقة بين المرأة والرجل في الميراث، ضاربين بأحكام القرآن القطعية المحكمة عرض الحائط”.
الباحثة في التراث العربي المسيحي وعلوم اللاهوت، مارسيل فؤاد، ترى أن الأزمة ليست في النصوص بقدر ما في التفسيرات والتأويلات التي لا تخرج من نطاق سيطرة القراءة الذكورية الغرائزية ووعيها البدائي، بينما لا تراعي المسافة الزمنية التي كانت الأوضاع فيها مختلفة عن وضعنا الراهن الذي تنافس فيه المراة الرجل في المجال العام. وهذا السياق التاريخي أيضًا يجعل كثير من المفسرين يغفلون وضع المراة في فترة رسالة بولس الرسول الأولى لأهل كورنثوس مثلًا حيث رفض وجود المراة في المجال العام، كما تشير في كتابها: “الله والمراة والآخرون”. لكن ينبغي النظر إلى رؤية أخرى أكثر اتساعًا تنحاز فيها النصوص إلى المراة كقيمة وظهورها كنموذج يمكن الاقتداء به.
بالتالي يتعين عدم إهمالها أو هضم حقوقها ووضعها في تبعية للرجل. ففي العهدين القديم والجديد هناك نماذج نسوية مثل دبورة النبية والقاضية والتي حكمت وقادت الشعب رجالا ونساء..”، و”حنة النبية التي تكلمت عن الرب على مسمع من كل الحاضرين في الهيكل”.
ما هي اهم مظاهر العصر الذهبي الاسلامي؟
كما أن المفكر التونسي الطاهر الحداد كان قد أصدر كتابه المهم: “امرأتنا في الشريعة والمجتمع”، وفي الباب الأول من القسم التشريعي لكتابه المتعلق بـ “المرأة في الإسلام”، قدم تصوره لأحكام الميراث في القرآن، فنفى عنها الثبوت، معتبرًا أنها مجرد أحكام من نتاج الواقع. بالتالي هي عرضة للمتغيرات التاريخية وإعادة النظر باستمرار من دون أن يعني ذلك صداما مع جوهر الدين بل تأكيد على حيويته وتفاعله المستمر مع التطور الاجتماعي في التاريخ.
فيقول: “وبعد ذلك، فالإسلام لم يقرر نزول ميراث المرأة عن الرجل كأصل من أصوله التي لا يتخطاها، فقد سواها به في مسائل كميراث الأبوين مع وجود الولد في الآية السالفة وميراث الإخوة في الكلالة المنصوص عليه في الآية السالفة (وللرجال عليهن درجة) أيضًا، بل قد ذهب معها أكثر من ذلك، فجعل حظها أوفر منه في وجه من مسألة ميراث الأبوين مع فقد الولد عكس الصورة الأولى كما في الآية: “فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث.. وبهذا أخرس كل من نطق عن اعتبار نقص ميراث المرأة قد نشأ عن أنوثتها”.
كتابات الطاهر الحداد مثلًا ساهمت بقدر كبير في تعديل منظومة أحكام الأحوال الشخصية بتونس بعد الاستقلال، ومن ثم، مراجعة أحكام الزواج والطلاق وإلغاء التعدد وقيامها على تحويل هذه المسائل من الحيز الديني إلى حيز القانون المدني، مما يقوض سلطة وامتيازات المؤسسات الدينية.
لكن، ورغم الإرادة السياسية التي تجلت في الخطاب المبني على مقاربة النص القرآني تاريخيًا، والتأكيد على “زوال الأسباب التي كانت تبرر عدم المساواة في الإرث وتطور مفهوم العدل ونمط الحياة”، وفق آمال موسى في كتابها: “بورقيبة والمسألة الدينية الأستاذة”، إلا أنها عجزت عن استلهام رؤيته الاستشرافية للمساواة في الميراث، وذلك لإجماع رجال الدين على أن النص القرآني صريح وثابت بما لا يسمح بإعمال آليات الاجتهاد من جهة، وتحذير القضاة من اقتراف كبيرة بالتشريع للمساواة في الإرث، من جهة أخرى.
جدل المساواة في الميراث مرتبط بشكل أو بآخر بضرورة التحديث الاجتماعي والفكري والسياسي، وترسيخ مقومات الدولة الحديثة، وعلمنة القوانين، الأمر الذي لن يحدث سوى بتحييد المؤسسات الدينية الممانعة لأي تطور تشريعي يسمح بالمساواة، وغلق دائرة اتهام المطالبين بالمساواة بالابتعاد عن الدين والطعن في عقائدهم ووصفهم بالعابثين، خاصة أن هذا الدور الديني للمؤسسات الرسمية يؤدي إلى تحريض شرائح اجتماعية تقف أمام مسار المساواة، وبما يهدد أحيانا التماسك الاجتماعي وبنية العلاقات الاجتماعية عامة والأسرية خاصة. فالتهافت على التأثيم، بل التكفير، هو آلية المتشبثين بآخر قلاع القوامة أي قوامة الرجل على المراة كما توضح الباحثة هاجر خنفير في دراستها المعنونة بـ”المساواة في الميراث.. الطريق إلى الرجولة بلا ثمن”.
فالرفض أو الخوف من مناقشة مسألة الميراث، إنما يكشف عن رغبة في البقاء على هذه القضايا في صورتها التقليدية لمنع التحديث وتغييب أنصار الدعوة للحرية المدنية في مقابل الأصوليين والمتشددين. هذا بالضبط ما يجعل محاولات الانعتاق من التخلف والاستبداد باسم الدين، تعاني من الفشل وتصبح الجدالات في قضايا عديدة تتخذ طابع النزاع الأيدولوجي بين القوى المدنية وحاملي لواء “الأمة” والهوية الإسلامية.
فيقول المفكر التونسي فتحي المسكيني، وهو يناقش الجدل الذي أعقب ثورات الربيع العربي بهذا الخصوص وكان يحمل الطابع الأيدولجي في قضايا الحرية والحقوق الشخصية: “لقد تم فجأة تحويل ثورات الحرية إلى نزاعات هوياتية حول حرمة المقدسات أو حدود الحياة الخاصة.. كان القصد هو إفراغها من بعدها المدني ما بعد القومي وما بعد الديكتاتوري واختزالها في معادلة مزيفة عن رسالة الأمة”. كما جاء في كتابه: “الهجرة الى الانسانية”.
اعتقاد تمييز الذكر بنصيب أوفر في الميراث، امتياز تفرضه مسألة القوامة الدينية بتفسيراتها القديمة والتقلدية، وتدعمه تلك الدرجة التي حظى الله بها الرجل، هو ضرب من ضروب التمويه التي يعمد إليها النظام الأبوي البطريركي والذي يجعل وضع المرأة في درجة أدنى وخاضعة، والمطالبة بالطاعة والإذعان أو حتى التأديب أحيانًا. وليس الميراث سوى إحدى القيم المضافة للرجل، حتى يحظى بالاحترام والطاعة، من جهة، وحتى ينهض بعبء القوامة، من جهة أخرى، كما تشير هاجر خنفير في دراستها.
إقرأ أيضاًًً: سؤال الدولة في الفكر الإيديولوجي العربي
وتقول إن “الفرق بينه وبين المرأة، رغم أن كليهما موسوم بالنقص، يتمثل في أن لكل منهما علاقته بنقصه في المنظور الديني، فهي تتبنى نقصها وتسعى إلى تلافيه من خلال قبولها بموقعها في مجتمع القوامة، وارتضاء الخضوع لسلطة الرجل المادية والاجتماعية، بينما هو يخاف افتضاح نقصه وما يلحقه من عار سلب الرجولة عنه، فيكون المال والعمل عنوان القوة ومصدر السلطة”.
لكن كلما اشتد تعلق الرجل بهذه الامتيازات التي يمنحه إياها الشرع السماوي ودفاعه المستميت عنها، والحديث للمسكيني، ازداد ذاك الخوف من افتضاح حقيقة أنه لا يفوق الأنثى في شيء وأن موقعه الاجتماعي ضمن علاقات الهيمنة يحتاج إلى مزيد الضمانات ومزيد ممارسة العنف. وهنا، كان تشكيل منظومة أحكام التمييز الشرعية، ومنها الميراث، أدوات ضرورية لصناعة رجولة “إسلامية”، فلا تنفي نقصه إنما تستره.
في النهاية، موقف الرافضين للمساواة في الميراث هو موقف يكشف عن “عنصرية تسكن أصحابه، فالمتشبث بحقه الشرعي من الرجال هو ذاك الذي يعتبر أنه بفقده لذاك الامتياز، قد فقد ما جعله متميزا عن المرأة أو ما يجعله مساويا لها”. تقول هاجر خنفير.
ففي قصية مثل تعدد الزوجات والمساواة في الميراث، لا يمكن أن يظل مثلًا مفهوم المراة الذي ساد قبل قرون وفي بيئة الإسلام التأسيسية بشبه الجزيرة العربية هو ذاته اليوم. فالمراة، التي كانت في صورتها التقليدية أدنى قيمة من الرجل وامتيازاته ترقى به لمصاف الآلهة والقداسة، اكتسبت جملة حقوق تجعلها في صورة ندية للرجل. كما أن مسائل تشريعية مثل العقوبات الدينية البدنية القاسية والتي كانت مستمدة من البيئة التشريعية (المكانية والزمنية) لفترة نشوء الرسالة مثل قطع يد السارق وغيرها تحتاج إلى فهم وتأويل آخر مع القوانين المدنية ومباديء حقوق الإنسان، وتطور أنماط الإنتاج التي لم تعد بحاجة إلى حد الحرابة لردع العناصر والقوى التي تهدد القوافل في الصحراء.
فضلًا عن غياب المنطق القديم الحاكم للجرائم الفردية والتي كان ينظر لها باعتبارها إثمًا بتحريض من الشيطان، الأمر الذي يترتب عليه عقوبة خلاصية تطهرية تعمد إلى البتر والقتل الدموي.
الحداثة الدينية، إذاً، تتطلب أن لا نحبس ذواتنا في الماضي حد التقديس. ووفق نصر حامد أبو زيد، في كتابه: “مفهوم النص”، فإن الحداثة ممكنة، لا سيما أن حركة التاريخ وتدفقه مع نزول الوحي وظهور الإسلام كانت تكشف طوال الوقت عن ميل المجتمع للتكيف مع النص الديني لكن بشرط عدم فقدان وحدته أو حدوث اضطربات، بما يعني أن النص كان دائمًا يلازم استقرار المجتمعات، ويدعم بقاءها، مع الأخذ في الاعتبار أن التنوع المجتمعي فرض القبول بتنوع ديني أو تباين في تلقي الدين وتعدد أشكال الإيمان مع اتساع الرسالة التي ضمت قوميات وأفراد من مرجعيات ثقافية وحضارية مختلفة.
فيقول أبو زيد: “وإذا كان المجتمع الإسلامي الأول قد جعل همه الأول التكيف مع معطيات النص وفرض سيادته على النصوص الأخرى، فإن تحقق هذه الغاية كان مرهونًا بوحدة المجتمع وعدم تنافر عناصره ومكوناته الاجتماعية. وقد كان من الطبيعي أن يؤدي قيام الدولة واتساع أطرافها إلى تعدد في طبيعة القوى الاجتماعية المكونة، وهو تعدد سرعان ما تحول إلى صراع اقتصادي اجتماعي سياسي ديني. وقد أفضى هذا الصراع إلى تعدد الرؤى والتصورات حول طبيعة النص الديني وحول غايته وهدفه”.
ويردف: “وعلى حين ركزت الاتجاهات العقلية التي يُعد المعتزلة أشهر ممثليها على الإنسان بوصفه المخاطَب بالنص والمستهدَف من تعاليمه، كما أنها استوعبت النص على أساس أنه “فعل مخلوق”، نجد أن الأشاعرة قد ركزوا على الطرف الآخر، طرف القائل، ومن ثم كان تصورهم للنص أنه “صفة” ذاتية للقائل لا فعلًا من أفعاله. وكان من الطبيعي أن تتضاءل وفق هذا التصور الأخير قيمة “الإنسان” الذي يمثل الطرف الآخر طرف المتلقي في عملية الوحي، بل وفي مفهوم النص”.
هذه المراجعة المعرفية للنص الديني المؤسس من خلال الأدوات المعرفية الحديثة، إنما تهدف إلى تخليص القرآن من الحمولات الأيدولوجية والقراءات السياسية المتعسفة، ومن ثم إنتاج مقولات معرفية قابلة للنقد والمسائلة بدلًا من الانغلاق والشمولية ثم القدرة على الانفتاح والحرية.
فمحاولات التعاطي مع النص القرآني كخطاب ينبغي تلقيه على ضوء المعرفة الحديثة وتعيينه وفق شروط التاريخ الراهن، لعصرنته أو عقلنته، تكاد لا تختلف عن الدور المماثل في الغرب للانعتاق من المرحلة القروسطية بوحشيتها وتعصبها ودمويتها، وحتماً الاستقادة من المناهج التحليلية والتاريخية، كالهرمنيوطيقية (التأويلية) والفيلولوجية (فقه اللغة) والأركيولوجية التي تتعقب التحولات بالحفر التاريخي والظواهر الصوتية والصرفية (المورفولجية). وهذه الجهود النقدية الشاقة في البيئة الثقافية العربية، التي تغلب عليها النظرة الماضوية السلفية والأصولية، تباشر دورها في حلحلة هذه البنى التقليدية، وتتعدد الجهود وتتباين في مستواها المعرفي، وكذا جسارتها على تخطي ما قد يبدو ثوابت مصنوعة ومتخيلة بفعل عملية المأسسة التي تعرض لها الدين لخدمة الجهاز السياسي.
إذ إن “أصالة القول القرآني ليس مجرد تحد غير مجد لقدرات البشر وضعها الله، وليس لاختبارنا كمنافسين له، هذا التحدي يبقي التفسير في دائرة مغلقة لأنه يفهم كتحد شكلي من غير المجدي الوصول إليه، وكذا خوفًا من الوقوع في الخطيئة والكفر”. هذه العبارة المهمة والملهمة التي ذكرها المفكر التونسي يوسف الصديق في كتابه: “هل قرآنا القرآن؟ أم على قلوب أقفالها” تكشف عن مستوى فهم القرآن باعتباره خطابًا تبادليًا وليس توجيهًا صارمًا متشددًا، تتحقق فيه سلطة على حساب الآخر وهذا الآخر المطلوب منه الإذعان، وفقط.
ويعد الصديق أحد أهم المفكرين الذين خاضوا تجربة تقديم رؤية حداثية للإسلام. فالإنسان هنا وفق الصديق ليس متلقيًا سلبيًا، إنما فاعل ويتعين عليه فهم وتأويل القرآن كنص مفتوح، يسعى للكشف عن الدلالات والمعاني، لا سيما أن اللغة العربية تتميز بالترادف واللغة مثل الكائن الحي تتطور في التاريخ.
فاستدعاء الماضي بوعاء من القداسة والاستعانة به لتفسير القرآن وتغييب أي محاولة لقراءة جديدة عصرية وحداثية، إنما هو نتيجة هيمنة “العقلية السحرية، التي تتحقق رغباتها بموجب ممارسة بعض الطقوس والتلاوات، لتصبح أحلام اليقظة تتسم بها الشعوب التي تعيش مراحل طفولة العقلية البدائية”، بحسب توصيف الصديق، ويتسائل: “فهل من المعقول أن نعيش الحاضر بعيون الماضي؟”.
تحليل الخطاب الديني
ثمة شكل آخر من الحداثة الممكنة للإسلام قدمها المفكر السوري محمد شحرور، والذي كان يعنى بالتحليل اللساني وبيان تطور المعنى لغويًا كما في كتاب: “الكتاب والقرآن” وكذا “القصص القرآني”، فضلًا عن المفكر الجزائري محمد أركون الذي اعتمد على تاريخية النص إلى جانب المنهج السيميائي واللساني التحليلي كما في كتاب “قراءات في القرآن” الذي صدر ثمانينات القرن الماضي وأعقبه بكتاب آخر تناول فيه سورتي الفاتحة والكهف عنونه بـ”القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني” واعتمد فيه القراءة اللسانية.
وقال أركون عن قراءته الأخيرة: “تحليل الخطاب الديني أو تفكيكه لتقديم معانيه الصحيحة وإبطال التفاسير الموروثة، بل لإبراز الصفات اللسانية اللغوية وآلات العرض والاستقلال والإقناع والتّبليغ والمقاصد المعنوية الخاصة بما أسميته الخطاب النبوي”.
واستبق أركون في كتاباته الهجوم المضاد عليه، وحاول تهدئة الأصوليين بعدم إصدار الأحكام النهائية والمطلقة، وقد ظل المفكر الجزائري يعلن صراحة البون الشاسع تاريخيًا وحضاريًا مع الغرب الذي تمكن من تطبيق المنهجيات الحديثة والتاريخية على الإنجيل والتوراة، ثم الانعتاق من سلطة رجال الدين والتفسير الأحادي. وبعبارة أخرى التخلص من كون الدين مرجعية عليا (في السياسة والقانون والتربية). ثم الفصل بين ما هو إيماني يخضع لمجال الفرد وما هو تشريعي غير ثابت أو مطلق ومتطور، والوصول، حتمًا، لعلمنة المؤسسات السياسية والتعليمية وغيرهما.
وفي كتابه: “القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني” أوضح أركون: “نلتمس هنا طفرة معرفية في تحليل الخطاب الديني عامة، وهذه الطفرة لا تمس العقيدة في محتواها وممارستها، وإنما تحيلها إلى مستوى أوسع ومنظومة معرفية أكثر تفتحا وأشمل إحاطة، بما أضافته الحداثة العلمية من نظريات وشروح وتأويلات واكتشافات ووسائل إحقاق الحق والحقيقة، أقول ذلك لكيلا يسارع القراء المؤمنون إلى رفض القراءات التي اقترحها للقرآن لأنها خارجة عن إطار ما أسميته بالتفسير الموروث، وهناك من يكفر هذه القراءات بناء لا على ما فهمه واجتهد من إدراك مقاصد المؤلف ولكن على أساس ما غاب عن فكره ومعلوماته إذا كان لم يكتشف بعد تعاليم اللسانيات والسيميائيات والأنتروبولوجيا والسوسيولوجيا الدينية والثقافية وعلم النفس التاريخي”.
وألح المفكر الجزائرة على ضرورة تطبيق “التحليل الألسني، والتحليل السيميائي الدلالي، والتحليل التاريخي، والتحليل الاجتماعي أو السوسيولوجي، والتحليل الأنثروبولوجي، والتحليل الفلسفي”. موضحاً أنه بهذه المناهج “نفسح المجال لولادة فكر تأويلي جديد للظاهرة الدينية، ولكن من دون أن نعزلها أبدًا عن الظواهر الأخرى المشكلة للواقع الاجتماعي – التاريخي الكلي”. بل إنه يلمح إلى النقص وعدم اكتمال المناهج الحديثة، بحيث لا يشكل من خلالها سلطة في مقابل أخرى. كما يؤكد على طبيعة المعرفة التي لا تعنى بتقديم رؤى مفارقة أو نهائية وشمولية وقطعية، إنما هي مقاربات خاضعة طوال الوقت للمراجعة والنقد.
إذ إن “العلوم الإنسانية تزعزع أشياء كثيرة وتقدم لنا أشياء كثيرة، ولكن كلما جربتها ومارستها كلما أصبحت حذرا ومرتابا.. نحن واعون، في الواقع، بالنواقص أو نقط الضعف التي تعتري القراءة الألسنية، وبخاصة عندما تطبق على ما يدعى بالكتابات المقدسة. والأمر لا يتعلق أبدا بإخضاع القرآن –أو التوراة، أو الأناجيل– إلى امتحان علم واثق من أسسه وإمكانياته أو وسائله، بل على العكس، فنحن لا نستبعد أبدا فكرة إخضاع الألسنيات المعاصرة إلى امتحان نص يمكنه أن يزعزع الكثير من اليقينيات الدوغمائية” كما ذكر في كتابه: “القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني”.
لدى أركون ثلاث مقاربات لقراءة القرآن هي التاريخية- الأنتروبولوجية ثم الألسنية والسيميائية، وأخيرًا الإيمانية. ويؤكد أن تلك القراءات هي بشرية وضد أي محاولة تمجيدية غير عقلاتية أو لاهوتية أرثوكسية. فـ”القراءة اللاهوتية الإيمانية للقرآن هي ترسيخ للإيمان”، واللسانية السيميائية تعنى بدراسة القرآن كخطاب يسعى من خلاله إلى فهم تاريخية النص المقدس. من هنا يكشف عن أهمية المجاز في الخطاب القرآني والذي يخفي داخله معاني عديدة تهدم التصور الأحادي في التفسير، وتجعل المعنى متشظيًا في العوالم والفضاءات المفتوحة بحركة دائمة مطردة تتسع للوعي بقدر قدرة (هذا الوعي) وجسارته على الانفتاح، وتلقي الإشارات الملغزة والدلالات اللا نهائية.
يقول أركون: “التركيبة المجازية للخطاب القرآني ليست فقط مجرد تصعيد للواقع أو اعتلاء به، وليست أيضًا مجرد حلية أدبية أو تزويق أسلوبي جذاب يظل مع ذلك ماديا ومباشرًا وذا دلالة معنوية، إنها ليست كل ذلك فقط، كما أراد أن يوهمنا التفسير الإسلامي الكلاسيكي، وإنما هي عبارة عن تحريك للحياة والوجود بواسطة إمكانات اللغة الجمالية والفنية” كما ورد في كتابه: “الإسلام، الأخلاق والسياسة”.
وهنا يوظف أركون علم اللسانيات في فهم الخطاب القرآني الذي “لم يكن مكتوبًا في البداية، وإنما كان كلامًا شفهيًا أو عبارات لغوية شفهية تنبثق على هوى المناسبات والظروف المتغيرة، وقد استمر ذلك عشرين سنة” كما ذكر في كتابه: “العلمنة والدين”. وتبعًا لذلك، يميز المفكر الجزائري بين الخطاب “الشفهي (القرآن) والذي هو مختلف عن الخطاب الكتابي (المصحف)”.
لاحظ أركون في مجمل كتاباته، كيف يقوم الخطاب القرآني بإعادة بناء حدث أو واقعة بشكل يمنحها صفة التعالي، ويحولها من هذا الحدث بصفاته المكانية والزمانية إلى رمز مفارق مجاله التاريخي المؤقت، بحيث يضحى له الصفة الدائمة والمعنى الذي ينتظر ولادات جديدة. لذا، يلح على المنهج الأنثروبولوجي باعتباره الفضاء المعرفي الذي نتبين منه علاقة النص، أي نص، بما فيه الديني، بالثقافة والشروط الاجتماعية والسياسية.
وعليه، دشن أركون ما وصفه بـ”الإسلاميات التطبيقية” لجهة مراجعة كل الأفكار التمجيدية، والاشتباك مع “اللامفكر فيها” بخصوص الوحي والقرآن والمصحف والتدوين، وهي أمور “يتفادى المسلم مراجعتها أو تقليب النظر فيها”، وتبدو أمامه كشيء ملغم. فالمصحف وفق أركون “العبارات الشفهية في البداية إلا أنها دونت في ظروف تاريخية لم توضح حتى الآن، أو لم يكشف عنها النقاب، ثم رفعت هذه المدونة إلى مستوى الكتاب المقدس بواسطة العمل الجبار والمتواصل لأجيال من الفاعلين التاريخيين، اعتبر هذا الكتاب بمثابة الحافظ للكلام المتعالي لله والذي يشكل المرجعية المطلقة الإجبارية التي ينبغي أن تتقيد بها كل أعمال المؤمنين وتصرفاتهم وأفكارهم”. كما جاء في كتابه: “الفكر الأصولي واستحالة التأصيل”. ويسميه “النص الرسمي المغلق، والذي استهلكته الأمة المفسرة، وقد عاشت عليه طيلة قرون وقرون، وسوف تستهلكه أيضا طيلة فترة مقبلة لا يعرف إلا الله مداها بصفته تنزيلًا، أي وحيًا معطى”.
وبالتبعية، يرى أن المهمة المطلوبة “القيام بنقد تاريخي لتحديد أنواع الخلط، والحذف، والإضافة، والمغالطات التي أحدثتها الروايات بالقياس إلى معطيات التاريخ الواقعي المحسوس”. فضلاً عن “اختراق اللا مفكر فيه، قصد تجاوز كل ذلك إلى أفق الحداثة الرحب”. هذا الأفق الذي من المفترض أن يقلص من حالات العنف في التاريخ، وعزل أي مرجعية مقدسة تمنح تفويضًا إلهيًا بالقتل نظراً للتفسير الحرفي والظاهري للنص القرآني، وبتر النصوص والآيات عن سياقاتها الاجتماعية والتاريخية بما أدى إلى “أسطرة القرآن” وإلغاء تاريخيته وقدرته على التطور.
ويمكن القول إن المدونة التفسيرية جعلت من الإسلام مجرد “فضاء طقوسي مغلق، أنتج المعنى الأحادي، ولم ينل منها سوى العزل والانفصال عن دائرة التفكر الكوني الأعدل قسمة بين البشر” كما يقول المفكر التونسي يوسف الصديق. الأمر الذي استدعاه لصياغته مقاربة إشكالية أو عبر سؤال يبدو سهلًا ظاهريًا. لكنه يكبت رؤية صلبة وخيالًا جامحًا: “فلماذا لا نزاوج بين اجتهادات المفسرين من أمثال الرازي، والزمخشري، والقشيري، والطبري، ثم إسهامات إبداعات تشومسكي، وألتوسير، ورولان بارت، إذ علينا (…) أن نستفيد من هذه العلوم الجديدة المتعاملة مع النص، وعلينا أيضا أن نهتم بعلم الفلك وعلم الرياضيات، فما يمنعنا أن نهتم بالنص القرآني والنصوص الدينية عموما، ونعيد النظر الجدي فيها لنخصبها من جديد”.
إذاً، تعزى أزمة عدم الخروج من الماضي إلى التعاطي مع التراث والتاريخ من قبل رجالات الدين الرسميين والحركيين على حد سواء على أن هذا التاريخ ليس تاريخًا لبشر عاديين. ويتم تقديم (أو بالأحرى الترويج) للتاريخ/ التراث بوصفه “العصر الذهبي” لـ”الأمة” ويحفل بـ”الفتوحات” باعتباره ذلك كله النصر/ التأييد الإلهي لجماعة من البشر في تاريخ وزمان محددين كانت تتعين فيهم إرادة المقدس. ومن خلال تسييس هذا التاريخ وتصوير الماضي في هيئة امبراطورية حكمها المسلمون، وقد امتدت للشام والعرق مرورًا بفارس ومصر وشمال إفريقيا وحتى حدود الهند وتاخمت الصين، تهافت كثيرون لجهة استعادة هذا التاريخ المتخيل.
وهذا ما تروج له التيارات الأصولية والسلفية ومن لف لفهم، من دون تقديم رواية نقدية أخرى بأن ما جرى كان مجرد مبادرات سياسية توسعية تتصل بحكام مسلمين لحماية مصالحهم وحدودهم. وقد ساهمت في نجاحاتها ظروف تاريخية كانت تشهد انحسار الامبراطوريتين الفارسية والبيزنطية وصعود مرحلة التمكين والسيطرة بشبه الجزيرة العربية.
ففي التاريخ الإسلامي كما في أي تاريخ آخر هناك رؤية تمجيدية للأحداث والوقائع والشخصيات. وعلى الجهة الأخرى هناك رؤية نقدية تسعى إلى مسائلة كافة الأطراف بأدوات ومناهج علمية، ولا تستهدف أسطرة التاريخ وجعل شخصياته نماذج مفارقة تحمل صفات متعالية على الواقع وطوباوية مثالية.
هذا النزاع والصراع بين تيارين في كتابة التاريخ موجود وممتد، ويظل الطرف الذي يقوم بتقديم كتابة تمجيدية هو الذي يعتمد على أفكار مسبقة وله وجهة نظر شمولية ويستهدف تشكيل ذاكرة انتقائية يكون فيها تجميع الأحداث أو صياغة صورة عن شخصية ليست كاملة إنما منتقاة بالدرجة التي تساهم في صنع النموذج المطلوب والذي سيحقق الأهداف الأيديولجية النهائية.
ومع عسكرة الإسلام، وفي ظل الانقسام المذهبي بفعل الصراع الدموي في ما عرف بـ”الفتنة”، برز استخدام التاريخ أو إعادة توليد أحداثه وصناعة شخوصه بشكل نفعي ووظيفي في الشحن العاطفي والتعبئة الدينية السياسية ثم التحريضية.
مثلًا في المدونات الشيعية، نلمح هذا التأريخ القائم على التمجيد والتبجيل وترقية الأشخاص بهدف التقديس. وذلك في مقابل انزياح مقصود لشخصيات مماثلة في المتخيل السني. والمقابلة نجدها، مثلًا، بين علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب، وكل منهما له الحيز الضخم لدى كل مذهب.
فعلي هو “الإمام الأول” “وباب مدينة العلم”. أما عمر بن الخطاب، فهو “الفاروق”. وبلغ حد اعتباره في المدونة السنية، أنه الشخص الذي كان الملاك جبريل ينزل بالوحي تأييدًا لما قاله. وذلك نموذج على استمرار الماضي بانقساماته واصطفاقاته واستقطاباته بين المسلمين.
وفي السيرة النبوية لابن هشام عرجت على قدرة عمر بن الخطاب، المعروف عنه الشجاعة والفروسية، بعد إسلامه لمواجهة الكفار بعدما نما لعلمهم إيمانه بالدعوة المحمدية، فضربهم حتى أصابهم بالإعياء والإرهاق.
ومن الروايات الأخرى التي وردت في تاريخ دمشق لابن عساكر وتحمل مبالغات مماثلة هدفها وضع الدعوة الناشئة في حماية قوة ونفوذ بن الخطاب، تحدي الصحابي بعد إسلامه لقريش. فقال: “من أراد أن يثكل أمه أو يرمل زوجته أو ييتم ولده، فليلقني وراء هذا الوادي”.
علي بن ابي طالب وعمر بن الخطاب
المؤرخون الشيعة صاغوا سردية لافتة بشأن علي بن أبي طالب تكشف عن تميزه عن عمر بن الخطاب تحديداً في مقاربة واضحة ومباشرة وتفوقه عليه وتقديم النصح له.
وقد ذكر ابن شهر أشوب في كتابه “مناقب آل أبي طالب” أن علي بن أبي طالب قد نصح عمر بعد استخلافه، وقال له: “ثلاث إن حفظتهن وعملت بهن كفيتك ما سواهن وإن تركتهن فلا ينفعك شيء سواهن، قال وما هن؟ فقال: الحدود على القريب والبعيد، والحكم بكتاب الله في الرضا والسخط، والقسم بالعدل بين الأحمر والأسود، فقال له عمر: أبلغت وأوجزت”.
وفي المصدر ذاته، إشارة إلى فقه وعدالة علي بن أبي في حادثة تظهر فيها المقارنة مع عمر بن الخطاب، حيث قطع عمر يد رجل سرق، ثم عندما سرق، مرة أخرى، قطع رجله، وفي المرة الثالثة تدخل علي وعارض موقف عمر الذي هم بتنفيذ الحد، وقال له: “لا تفعل، فقد قطعت يده ورجله، ولكن احبسه”. ومن المواقف الأخرى التي خالف فيها علي الخلفية عمر عندنا زنا خمسة رجال، فأصدر الحكم بالرجم، فعارضه علي وأصدر أحكامًا متباينة. وقال: “فأما الأول فكان ذميًا زنا بمسلمة فخرج عن ذمته، وأما الثاني فرجل محصن زنا فرجمناه، وأما الثالث فغير محصن فضربناه الحد، وأما الرابع فعبد زنا فضربناه نصف الحد، وأما الخامس فمغلوب على عقله مجنون فعزرناه”.
محاولة الاحتماء بالماضي وطلب استعادته كصيغة جاهزة وناجزة للحل كما تفعل التيارات الأصولية والسلفية، على مستوى السياسة والقيم الأخلاقية مرورًا بالاقتصاد وحتى العلاقات الخارجية مع الدول والجماعات والأفراد، هي مناورة للتعمية عن الفشل والانسداد التاريخي. وبدلًا من البحث في شروط التقدم يتم تغييب العقل ليستيدير متوهمًا نحو الماضي وتكون النتيجة عدم الخروج من دوائر مغلقة معتمة تجعل حواضن وأتباع هذا التيار في حالة من العصبية والتشنج والعنف الدائم.
يمثل النزوع الأيدولوجي أو الكتابة التمجيدية للتاريخ الإسلامي محاولة لاستدعاء سيرة الشخصيات في هذا التاريخ لتكريسهم كقديسين معصومية لفرض المزيد من الهيمنة على المجتمع، كما يقول الباحث في فلسفة التاريخ الدكتور سامح إسماعيل في كتابه: “أيدولوجيا الإسلام السياسي والشيوعية” الدكتور سامح إسماعيل. فما كتبه عدة مؤرخين وكتاب إسلاميين أو محسوبين على التيار الإسلامي الأصولي والسلفي، هو تنقية التاريخ الإسلامي وحوادثه من أي صراعات طبيعية تحدث في إطار الخلاف بين البشر على السلطة، أو فهم وتأويل الدين في تطوره ونموه بين الأفراد والجماعات الذين هم من مرجعيات قومية وعرقية وإثنية، وكذا ثقافات وانتماءات اجتماعية متباينة. بحيث تظل هذه الصراعات سواء على مستوى الفقه والدين أو مسائل الحكم والخلافة والإمامة مجرد “فتنة” وينبغي تجنبها.
هؤلاء الكتاب سعوا إلى تكريس نظرة ماضوية فيها حنين لهذا الماضي المقدس، الذي ينبغي إعادة تحقيقه مجدداً والنداء المتكرر بعودة “الخلافة الإسلامية” وترديد حديث منسوب للنبي: “خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته”.
عسكرة الإسلام
عسكرة الإسلام، والحال هكذا، تبدو عملية لها إغراءات عديدة، بينما تتوافر بيئة تؤكد على الطابع القتالي العنيف وله مركزية دينية. راكم الفكر الأصولي الراديكالي والسلفي المتشدد مقولات كثيرة لشرعنه هذا العنف المقدس بدعوى الجهاد والذي بعث صحوات موت كثيرة وثقافة “خلاصية” لا تعير الحياة كثيراً من الاعتبار أمام فرضية القتال وتمجيد الحروب لبناء سلطان الله على الأرض والانقلاب على الكفر (هو نفسه المنطق الذي توارثه الإسلاميون المعاصرون مع حسن البنا وسيد قطب والمودودي والخميني).
ويوضح المفكر المصري عبد الجواد ياسين بكتابه “الدين والتدين” هذا الالتباس الذي أدى إلى ظهور “الغزوات القبلية” كما يصفها على “صفحة الفقه”، ثم تحول إلى “أحكام دينية”، بأنه نجم عن “التعامل مع النص الذي سجلها، كمصدر مفارق ومطلق في ذاته”. بل إن عبد الجواد ياسين يرى في تاريخ النبي الكثير من الممارسات العملية ما يخالف فكرة تعميم التوسع العسكري والامبراطوري كغرض وغاية دينية، مثلًا، وقد أقام العهود والمواثيق بينه وبين القبائل العربية إثر نزول سورة براءة منذ السنة العاشرة للهجرة، فكتب لأهل نجران، ولأهل هجر، والبحرين ودومة الجندل. ولم تكن كما يصور الفقهاء كلها حروب وقتال.
الباحث المغربي إبراهيم الإمامي المختص في الفكر الإسلامي يرى في مواقف الفقهاء “تحولاً مثيراً وعجيباً” بخصوص تفسير معنى الجهاد، وتبريره الديني لمنحه شرعية بالمعنى الحربي، ما يجعل فكرة الجهاد مغرية حتى الآن وتحرض المسلمين على الانخراط في أعمال عنف بهدف التوسع العسكري واستعادة الأمجاد الإمبراطورية المفقودة لتحكم من خلال “الخلافة” و”ظل الله على الأرض”.
فيقول في دراسة بعنوان: “العنف وسؤال الشرعية في التراث الفقهي”، إن الجهاد تحول إلى قتال في سبيل الله عند كثير من الفقهاء، وكأن أصحابه لم يقرؤوا قول الحق سبحانه: “وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا. وأيضا “وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا”.
فالحديث في الآيتين يدور حول بر الوالدين وطاعتهما، ويستحيل عند العقلاء أن يكون جهاد الوالدين قتالًا. لكن الأعجب من هذا وذاك أن الفقهاء لم يكتفوا بتحويل الجهاد إلى قتال، بل حولوا الجهاد إلى غزو والقتال إلى قتل.
مفهوم الجهاد بالمعنى العسكري ووفق الممارسة التاريخية له، قد برز في ظل شروط ومعطيات عصره، حيث لم يكن السبي كما هو الآن “جريمة حرب”. مفارقة مهمة تكشف الاستبعاد المقصود لمفهوم الجهاد بمعناه الواسع وتضييقه في حدود وظيفية لصالح العنف والحرب والقتال، أن آيات السيف وعددها سبع في القرآن، تكاد لا تتجاوز 5% من مجمل الآيات التي تلح على فيم الإنسانية والتسامح ومبادئ الحرية.
فيما تظل مسألة الجهاد أو عملية “صناعة الموت” أو “الميتة الحسنة” بتعبير حسن البنا المرشد المؤسس لجماعة الإخوان المسلمين، من الأمور التي تعكس إشكاليات عديدة بعضها مرتبط بإسقاط وتجاهل السياق الزمني والتاريخي للسور الحربية في القرآن باعتبارها لم تكن تشريعًا أو تجعل من الجهاد ركن في الدين، إنما توثيق لحوادث مر بها الدين في فترة النشوء والتكوين. فضلًا عن المعنى اللغوي الأشمل لكلمة الجهاد والذي ليس بالضرورة يعني صدامًا دمويًا فوضويًا وصراعًا مريرًا بين فريقين متناحرين، أحدهما يحمل راية الإسلام، والآخر يحمل راية الكفر. وينبغي أن ينتهي ذلك الصراع بـ”نصر من الله” وإعلاء راية الدين والرماح والسيوف تلمع أو تقطر بدماء الضحايا.
هذا المتخيل الديني يجري تضخميه والترويج له وتغذيته ببرامج عديدة، تصنعها جماعات متطرفة وفقهاء متشددون يلعب فيها هؤلاء جميعًا على وتر الشعور بالهزيمة ربما التاريخية والإحساس بالضعف والانسحاق، بدليل أن حتى بالتاريخ الإسلامي لم تكن هناك مركزية للجهاد في فترات استقرار الدولة والخلافة. وفي كتب الفقه ومع عصر التدوين نجد الجهاد في الأبواب الأخيرة ضمن المسائل الثانوية والفرعية، بل يخضع هذا الأمر لسلطة الإمام بصيغة أشبه باحتكار العنف لدى الدولة الحديثة. فالجهاد بمفهومه الرائج في أدبيات المتشددين وتبنيه بسياقه الحربي والعسكري، جاء مباشرة نتيجة التأويل المتعسف للآيات المعروفة بآيات السيف.
يعد المفكر السوري هاشم صالح في كتاباته المختلفة، وتحديداً كتاب: “الانسداد التاريخي”، أحد الذين حاولوا البحث والتفتيش وراء أسباب إخفاق النهضة العربية والإسلامية عن وأسباب نكوص العقل الإسلامي وارتداداته، وسقوطه بوهن شديد تجاه الماضي، والتعلق به لهذا الحد الذي يجعل الانعتاق منه أو قطع الحبل السري للنضوج أمرًا شاقًا ويبدو مستحيلاً وصعباً.
فيقول هاشم صالح أو بالأحرى يجيب عن هذا السؤال بأن العقل الإسلامي يعيش تحت وطأة “اليقينيات النهائية” و”الأجوبة المطلقة” التي تحميها أو “تحرسها” على حد تعبيره “جيوش كاملة من المراقبين والشيوخ”. ويقول إن “الأمة” الإسلامية بنت كامل هويتها ومشروعها على “طمس السؤال”.
وبمنطق أو فلسفة هاشم صالح الهيغيلية الذي يتبناه، فإنه يرى في حدوث “كارثة” أو “زلزال” تهز تلك اليقينيات وتشكك في الثوابت وتجعل الأرض الثابتة متحركة وقلقة تحت أقدام المسلمين وسيلة ضرورية ستؤدي حتماً إلى الخروج نحو المستقبل والتخلي عن هذا الكسل والركود. وهذا المعنى الرمزي الذي يشير إليه يقصد به حدوث شيئ ما يجعلنا مرغمين على الحفر وراء الحقيقة التي تصل بنا إلى أن النص الديني ليس بحرفيته إنما دلالته.
وهذه الدلالة، التي تحل “التناقض المطلق بين النص والواقع”، ستقرب المسافة مع الحداثة، بينما لن تصطدم بها أو بمنجزاتها. ومن ثم، الاعتراف بشروط النص التاريخية والاجتماعية، وأن جماعة المسلمين في فترة من الزمن لا يمكن أن تكون هي ذاتها في الوقت الراهن المعاصر. ومن هنا، يمكن خروج المسلمين من الماضي وعبادة التراث والانجرار وراء المستقبل وليس استعادة الماضي وإحياء الموتى!.
ويخلص هاشم صالح في كتابه، إلى أن أزمة عدم خروج المسلمين من الماضي أيضًا هو عدم قدرتنا على الخروج من عصر الأيدولوجيا إلى عصر المعرفة والابستمولوجيا. بمعنى أن كافة التيارات ماركسية وقومية وإسلامية قدمت رؤى مؤدلجة للتاريخ والماضي لجهة تحقيق ذاكرة انتقائية عوضا عن العقل النقدي. وبدلًا من تقديم الحقيقة، كان يتم بلورة تصورات شمولية ومقولات تحمل اليقين وتنبذ الشك والبحث والتدقيق والنقد.
المصادر:
إبراهيم الإمامي: العنف وسؤال الشرعية في التراث الفقهي، مؤمنون بلا حدود، 27 مارس 2021.
الطاهر الحداد: امرأتنا في الشريعة والمجتمع، وكالة الصحافة العربية، 2020.
سامح إسماعيل: أيدولوجيا الإسلام السياسي والشيوعية، دار الساقي، بيروت، 2010.
عبد الجواد ياسين: الدين والتدين، مؤمنون بلا حدود، بيروت، 2020.
فتحي المسكيني: الهجرة الى الإنسانية، ضفاف، بيروت، 2016.
مارسيل فؤاد: الله والمرأة والآخرون
محمد أركون :قراءات في القرآن، دار الساقي، بيروت، 1982.
محمد أركون: القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، دار الطليعة، بيروت، ط2، 2005.
محمد شحرور: الكتاب والقرآن، دار الساقي، ط7، بيروت، 2011.
مهدي عامل: نقد الفكر اليومي، دار الفارابي، بيروت، 2011.
نصر حامد أبو زيد: دوائر الخوف، قراءة في خطاب المرأة، مؤمنون بلا حدود، 2017.
نصر حامد أبو زيد: مفهوم النص، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1990.
هاشم صالح: الانسداد التاريخي، دار الساقي، بيروت، 2007.
يوسف الصديق: هل قرآنا القرآن؟ أم على قلوب أقفالها، دار التنوير، بيروت، 2013.