تكوين
تميزت المشاريع التجديدية بالخروج من هم الواقع الإسلامي وحاجته إلى التجديد، وصنعت هزيمة حزيران عام 1967 هزة عنيفة في الوجدان العربي الإسلامي، حيث أوضحت عدم الجاهزية لمواجهة أي اعتداء أو بناء دفاع قوي، فعلى حد قول نصر حامد ـبو زيد عبرت الهزيمة عن الشلل العام الذي يعانيه العقل والعالم الإسلاميين. وخرج من رحم هذه الهزيمة جيل عمل على أشكلة الواقع الإسلامي والبحث في سبل الخروج من وضع الثبات الذي يعانيه، وكان من هذا الجيل (صادق جلالا العظم، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد أركون، ومحمد عابد الجابري وغيرهم). وتهتم الدراسة هنا بمشروع أركون حول الإسلاميات التطبيقية؛ التي حاول من خلالها بناء نسق معرفي يؤسس لمنهجية النقد والزحزحة على حد قوله، ليزحزح به البديهيات الواقعة في إطار المستحيل التفكير فيه إلى إطار المفكر فيه. وذلك لخروج النحنن الإسلامية من السياقات الدوجماطيقية المغلقة، التي تجعلها تدور حول نفسها لا تفعل شيء غير تكرار ما قاله السابقون، أو الاختيار بين مقولاتهم.
مشروع الإسلاميات التطبيقية محمد أركون
وأطلق أركون على مشروعه اسم ((الإسلاميات التطبيقية)) ليميزها عن الدراسات الاستشراقية التي أطلق عليها اسم ((الإسلاميات الكلاسيكية))، وأخذ أركون على الإسلاميات الكلاسيكية مقاربتها الثقافوية النظرية التي لا تعطي للديناميات الواقعية والأيديولوجيات الموجودة عادة خلف أي مشهد دور في بنيتها المعرفية، وهذا ما دفعه لأن يطلق على مشروعه الإسلاميات التطبيقية لانطلاقها من الواقع المعيش ووضع الأيديولوجيات غير المنطوقة التي تحركه في الاعتبار. والإسلاميات التطبيقية بهذا المعنى مهمة الباحثين المقيمين داخل المجتمعات الإسلامية، وذلك لإدراكهم لثقافة هذه المجتمعات وواقعها وحاجتها إلى التقدم، وخروجهم من هم هذه المجتمعات. وهنا يأتي الشق الثاني من الدراسة حول الخطاب الإسلامي المعاصر وموقعه من إسلاميات أركون التطبيقية، حيث يعد الخطاب الإسلامي المعاصر الآراء والاجتهادات القديمة هبات إلهية مخصوصة وهبها الله لهؤلاء الأشخاص لعلاقتهم بالصالحين واجتهادهم في الدين، ويتضمن هذا قدسيتها، حيث إنها لا تعد اكتسابًا بشريًا بقدر ما هي هبة وفيض إلهي. ومن ثم يجتهد في عدم الخروج عنها وإثبات تمثيلها للهوية الإسلامية، ووضعها في حالة تماهي مع هوية الأمة والدين، حيث تعبر السياقات الدوجماطيقية المغلقة عن الهوية والدين الإسلاميين.
وإذا كان مشروع أركون يهدف بالأساس إلى خروج المجتمعات الإسلامية من السياقات المغلقة، فإن الخطاب الإسلامي المعاصر يسعى إلى حراسة وحماية هذه السياقات بدعوى أنها تمثل هوية الأمة والدين. ومن ثم يخرج خطابها في صورة إنشائية تؤكد على صلاحية هذه الاجتهادات والمعارف القديمة، وتسعى إلى حفظها وتحرك الأطر الاجتماعية من خلالها، فلازالت الإجابات التي تأتي على العديد من التساؤلات الفقهية ترجع بحزم إلى ما قدمه السابقون، ويضع العقل الإسلامي المعاصر التفسيرات القديمة موضع المرجع للقرآن نفيه، بدعوى أن هؤلاء أوتوا العلم. ولا ينطلق خطابهم من الواقع المعيش الضي لا يمكن للفرد ان يخرج منه أو يعيش خارجه، بل يحاولون قولبة هذا الواقع في الاجتهادات السابقة، وهو ما يفضي إلى أن يكون الواقع والنص القرآني وهذه التفسيرات أساطير حسب ما يقول نصر حامد أبو زيد، فلا الواقع موجود باحتياجاته، ولا الاجتهادات ولا النص في تصور رجال الدين عنه، ما يوجد فقط ضغط يُمارس على الجميع باسم الدين.
- في بناء الإسلاميات التطبيقية
يصرح أركون، ب “أن عقل التنوير الذي ظهر في أوروبا الغربية، قد زعزع قلعة الأستاذية العقائدية الدينية، أو المدعوة كذلك”([1])، فقد هزها وأجبرها على عمل قطيعة ما بين السيادة الإلهية والسيادة البشرية، التي كانت تتخذ موضع السلطة الإلهية عادة، كما هو حال الجماعات الجهادية اليوم. ومن ثم يعد أركون عصر الأنوار ثورة هائلة في التاريخ البشري، حيث تم خلع المشروعية الإلهية عن الأنظمة المعنوية، والأخلاقية، والقانونية، والمنجزات البشرية، وردها إلى التقييم البشري. وهكذا لم تعد القوانين مقدسة، وقابلة للتعديل والتطوير حسب حاجة المجتمع، كما أصبحت الحكومات السياسية بشرية، جاءت بانتخابات بشرية ولا تستعصى على العزل، وأصبح الشعب هو مصدر السيادة([2]).
بيد أنه يرى أن المجتمعات الإسلامية (من عربية وغير عربية) لم تسهم في هذا المشروع العقلي بشيء، ولكن نقلت السلطة الدينية في يد الدولة البشرية، فأضحى البشر يحكمون (باسم الله) ويطلق رجال الدين لحاهم، ويعملون على تدوير المجتمع بوصفهم نواب الله على الأرض وإبداء أن كل ما يطرأ على المجتمع هو بأمر الله، أو انتقام منه لذنوبهم، وصرف اهتمامهم من الدنيا إلى الآخرة([3]). فالواقع الإسلامي –حسب أركون- يتشكل من خلال هوس جماعي بأمة خيالية مفترضة، هي أشبه باليوتوبيا، يحاول تحقيقها من خلال تاريخ متخيل مفترض أيضا. ويجد هذا الوعي جذوره في الخطاب القرآني وفي التركيبات الاجتماعية، والشخصيات الرمزية. ويقوم الوعي الإسلامي على الفكر الأسطوري في التاريخ([4]).
ويدعو أركون إلى مشاركة العقل الإسلامي في هذه الثورة العقلية الكبرى (الأنوار)، ويعمل على خروج العقل الإسلامي من السياقات الدوجماطيقية المغلقة التي لا تخلف سوى العنف والتخلف على كل حال. ويرى أن هذا لا يتحقق إلا من خلال ما يسميه ب ((الأنسنة)) (وارتبط ظهور النزعة الإنسانية ومصطلح ((الأنسنة))، في عصر النهضة الأوروبية، في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، بوصفه المرحلة الانتقالية من الدين إلى العلم، ومن الله إلى الإنسان([5]). ومفهوم ((الأنسنة)) عند محمد أركون يعني: “فلسفة عقلانية تهتم بالإنسان وتتركز عليه، وليس على الله”([6]) فنجد أنه يحاول أن تكون المركزية للواقع القائم الذي لا يمكن إغفاله، لا لما يدعوه العرب ((بالتراث)) الذي يلعب دوراً كبيراً في المتخيل العربي إلى اليوم، حيث يمثل في أغلب الأحيان الغاية والمنطلقات للفكر العربي الإسلامي؛ ومن ثم يلجأ إلى دراسة التراث يُخضعه فيها لكل وسائل الفحص التاريخي، والسيسيولوجي، والأثنولوجي، والألسني، والفلسفي.
أولا: السياقات الدوجماطيقية المغلقة
من أهم التساؤلات التي يطرحها أركون التساؤل التالي: لماذا عمل التراث الإسلامي جاهداً على تحويل الفترة النبوية وفترة حكم الخلفاء الراشدين إلى عصر أسطوري تأسيسي؟
ويجيب عن هذا التساؤل، بأن العمل الدؤوب داخل التراث الإسلامي على تحويل الفترة النبوية، والخلافة الراشدة، إلى نماذج سياسية إلهية، لا تخضع لسياقها التاريخي والإنساني. وزواج السيادة الدينية بالسيادة السياسية (الميتافزيقي بالسياسي) لم يكن إلا تعبيراً عن الجهد المبذول من الوعي الإسلامي للحفاظ على مكانة السيادة العليا في مواجهة اعتباطية السلطة السياسية؛ وذلك عبر صياغة السلطة السياسية من داخل السلطة الدينية، والتماهي بين السلطة السياسية والدينية، لتعد السلطة السياسية نتيجة للالتزام الديني، وضرورية للحفاظ على الدين وتمثل اختيارًا إلهيًا يعطيه من التنزيه ما يكفي لعدم المسألة أو الخلع([7]). ومن ثم يعد كل فعل، فعلاً إلهياً، وتختفي المسؤولية الإنسانية، وعليه يوهم رجال الدين الناس بأن الله يتحكم من خلالهم، بيد أن الواقع غير ذلك؛ إذ إنهم بشر يستخدمون التكتيكات البشرية والسلطوية، فالله ليس مسؤولاً عن ارتفاع الأسعار والاستبداد السياسي، ونزوات البشر، وصراعاتهم على نيل الرزق والمكانة والسلطة([8])، وهذا ما يسميه بالسياقات الدوجماطيقية المغلقة.
وتتمثل السياقات الدوجماطيقية عند محمد أركون في الفكرة المستقرة في الذهن العربي عن أن الوحي يقول: “كل شيء عن العالم والإنسان، والتاريخ، والعالم الآخر، والمعنى الكلي، والنهائي للأشياء وكل ما سيكتشفه العقل لاحقاً لن يكون صحيحاً أو صالحاً مؤكداً، ما لم يكن مستنداً بشكل دقيق وصحيح إلى حد تعاليم الله، أو إلى امتداداته لدى النبي ﷺ”([9])، وفي لائحة الأسماء والمذاهب والجماعات والآراء التي وضعت لنفسها إطاراً من التقديس(محايثاً للوحي)، حيث أضحى العقل المعاصر يفكر من خلالها([10]). وتتشكل السياجات الدوجماطيقية المغلقة من خلال التفسيرات الكلاسيكية، وتحديد السيادة العليا في الإسلام، التي تتمثل في بعض الاجتهادات والشخوص.
- التفسيرات الكلاسيكية في ميزان المشروع الأركوني
يضع أركون التفسيرات الكلاسيكية المقدمة من قبل المسلمين القدامى في إطار الأيديولوجيا، فيصرح بأن النصوص الإلهية، “توراة وإنجيل وقرآن. هذه الكتابات المقدسة يتلاعب بها الفقهاء – المفسرون، أو قل يشرحونها ويفسرونها طبقاً لحاجات كل مجتمع”([11])، ولكن المشكل أن الأجيال المتتابعة عملت على تأبيد تفسيراتهم، ووضعها في حالة قدسية مع النص يمكن الاجتهاد عليها فقط ولا يمكن تجاوزها. فقد كان التفسير الإسلامي الكلاسيكي بالطبع يجهل العلوم الحديثة، ويعجز عن التفكير بطريقة تاريخية، حيث ينظر إلى أفكاره في إطارها الزمكاني، ويبدأ الطبري، على سبيل المثال، جمله التفسيرية ب ((يقول الله)) وكأنه يملك القدرة على معرفة المعنى في الضمير الإلهي، وهو معذور في ذلك تبعاً لآليات عصره؛ بيد أن العقل الإسلامي المعاصر ما زال يعمل بالآلية نفسها، وهو الذي احتك بالمناهج المعاصرة وعايشها([12])، بل إن الأدهى من ذلك أنه يجعل هذه التفسيرات مؤبدة لطريقة كتابتها([13])، التي تحمل اليقين، ولغة الأمر، وعدم الشك. وينعتها أركون بالكلاسيكية؛ لأنها نجحت في فرض نماذجها المعرفية وخطوطها التفسيرية حتى الآن([14])، ويرى أن المسلمين لا يزالون يفضلون ((استهلاك)) القرآن في حياتهم اليومية على أن يخضعوه للدراسة والتفحص، العلمي الحديث، وليس أدل على ذلك، من غياب أي دراسة علمية لتفسير الطبري، ويعد أهم كتب التفسير التي يعتمد عليها العقل الإسلامي المعاصر([15]).
يرى أركون أن التفسيرات القديمة، خصوصاً تفسير الطبري، لم يكن حيادياً كما هو مُتَصَوَرْ، ومهيمن على العقل العربي، حيث إنه تبعاً لإطاره الإنساني وتكوينه الفكري وانتمائه العقائدي والسياسي؛ فقد انتقى وانتخب وحذف ما لا يعجبه ونظم معلوماته طبقاً لمواقفه السياسية والعقائدية؛ فقد حاول إقامة التصالح بين المسلمين تبعاً لانتمائه إلى المذهب الزيدي المعتدل، وتجلى ذلك في إضفائه للمشروعية على العباسيين والتسفيه من الحكم الأموي. ولا يغفل أركون عما تدره هذه المحاولة التوفيقية على تفسير الطبري من مشروعية وقبول لدى التيارات الإسلامية كافة، بوصفها تفادياً للفتنة والخلاف وسعياً إلى الوسطية وتوحيد الكلمة. ويرى أن هذا ما يفسر شيوع وانتشار الطبري، وتأثيره حتى لدى فخر الدين الرازي([16])، وسيطرته الظاهرة، التي وصلت إلى حد خلطه بمضمون المصحف نفسه([17]).
وعلى ذلك يصرح أركون بأن “مسلمي اليوم يجدون صعوبة بالغة في الفصل بين المكانة اللاهوتية للنص القرآني، وبين الشرط التاريخي واللغوي للعقل الذي ينتج خطابات بشرية ارتكازاً على العقل الإلهي”.([18]) فثمة اعتقاد راسخ بأن كلام القدماء صحيح ومعصوم؛ لمجرد أنهم علماء مسلمون يرتكزون على القرآن في شروحهم وتفاسيرهم. وتتفق معه الباحثة “سهيلة يلدز* في أن المسلمين يتعاملون مع القرآن بوصفه كائناً في الفراغ منقطعاً عن أي ظروف تاريخية كانت أم ثقافية، أو اجتماعية، ويتم التعامل مع اجتهادات المؤول ونصوصه بنفس الطريقة، وكأن كتاباته وتحليلاته مجاوزة حدود الكون، لا لشيء إلا لأنها مرتكزة على النص([19]).
وقد استقر في الذهن العربي أن كلام الله (القرآن) يتعالى على كل الكفاءات اللغوية السابقة والقابلة للتحقق فيما بعد، ومن ثم فلا يخضع للمناهج البشرية والفكر الإنساني. وبالتبعية يعد العقل المنبثق عن هذه الأنماط الفكرية، والمتبع لها، هو الآخر متعالياً على التاريخ وهذا العقل ظل مهيمنا على الانظمة اللاهوتية إلى يومنا هذا، يعترف عادة بتعدد الفلسفات، إلا أنه يظل محتفظاً بمبدأ وحدة الحقيقة، الذي يخلف عادة نمطاً موحداً من التفكير، يكون إعاقة أمام التفكير السوي الحر المتعدد في أغلب الأحيان([20]).
-
تأسيس السيادة العليا في الإسلام
يرى أركون أن للشافعي دور البطولة في تحديد أسس السيادة العليا المقدسة في الإسلام (السياقات الدوجماطيقية)، والتي تتمثل في السيادة الإلهية الموضحة والمجسدة في الوحي، والسيادة البشرية الممارسة من قبل الفقهاء المأذونين([21])؛ إذ رأى الشافعي أن علاقة الحقيقة بالتاريخ تسير في اتجاه واحد –وهذا يعد مقبولاً لظروفه التاريخية– تكون الحقيقة هي المؤثرة في التاريخ، وليس العكس؛ أي إن الحقيقة ثابتة، وهي التي تحرك التاريخ، على العكس مما يراه المعاصرون من أن الظروف التاريخية هي التي تُشكل رؤية الفرد للحقيقة، وعليه لا يمكن للفرد أن يفهم نصّاً ما أو فعلاً ما إلا في ظروفه التاريخية التي تُشكِل وعيه ومطلقاته. تبعاً لرؤية الشافعي؛ فالقرآن لا يدين للتاريخ بشيء، بل إن التاريخ يدمج ضمن صيرورة الزمن الأخروي، المعلنة في القرآن. وبوضع الزمان الأخروي كغاية ومعيار للأفعال والتصرفات، تعد كل التصرفات والأعمال في هذه الحياة الدنيا فاقدة للمعنى، وتحصل على المعنى في الحياة الأخرى. وعلي إثر ذلك تكون الآخرة هي الغاية، ومن ثم على الفقيه أو رجل الدين ورجال السلطة، السعي لضمان الآخرة، التي تهدر في طياتها البعد الحي للواقع الحاكم على كل السلطات والمشروعات([22]). ومن ثم أضحى العقل الإسلامي يفكر عبر مراتب سبع متراصة هرميا: “كتاب الله، سنة رسوله، قول عامة من سلفنا، قياس على كتاب الله، قياس على الحديث أو السنة النبوية، قياس على قول عامة من سلفنا، الإجماع.”([23]) بوصفها ممر ضمان الآخرة، واتباع الشريعة وعدم اتباع الهوى كما حدها ورسمها الشافعي.
ثانيًا: الواقع الإسلامي والحاجة إلى عصر الأنوار
يرى أركون أنه إبان المرحلة الاستعمارية، طفت على السطح آمال وتطلعات لم تنل سوى الخيبة، فظهرت الحاجة الملحة إلى مُخلص، ومن ثم ظهور الحزب الواحد ومنطق تكميم الأفواه، حيث بدت الليبرالية عاجزة عن تلبية حاجات الأفراد وإرضاء طموحهم، كما ساعدت القيادات السياسية التي جاءت من خلفيات ايديولوجية حاملة للنزعة الطوباوية الثورية والاشتراكية، على تدعيم وترسيخ منطق الحزب الواحد، الذي يفضي عادة إلى سياق دوجماطيقي مغلق([24]). ومن ثم انبنت بيئة خصبة لميلاد وشيوع الفكر الأصولي الراعي الرسمي والحارس على السياقات الدوجماطيقية– خاصة في حالة الإحباط والكآبة العامة التي اجتاحت المجتمعات العربية، والتزايد المهول في التعداد السكاني، والاتساع العشوائي للمباني، وتزايد أعداد التلاميذ في ظل غياب أي دور توعوي للمعلم، افضى في النهاية إلى وجود أنصاف أميين([25]) مشتتين عاجزين عن بناء رؤية، يطمحون إلى مناطق آمنة. والمعيارية التي يتبناها العقل اللاهوتي-الأشعري (المعاصر)- في تحديد مطلق لما هو الخير وما هو الشر، وما هو الحق وما هو الباطل، تبيح لجمهور المؤمنين سهولة استيعابها وفهمها([26])، وتوفر المساحة الآمنة الكافية، حيث لا يقدم الشك إلا التوتر والأرضية غير الثابتة، وعليه يعمل المجتمع على تقديسها ومحاولة حمايتها.
وعلى ذلك، استقرت الثقافة العربية على أن يكون معيارها لما هو جدير بالثقة وما هو غير جدير بالثقة، في اقترابه من مراحل تكوين الدين الإسلامي، وليس ثبات الأمر أو المعتقد أو الرأي أمام العقل الإنساني؛ وعليه يكون كل ما هو تاريخي مقدس، وتمزج تلك الثقافة بين الفكر الديني وبين الدين. لهذا يرى أركون أنه يجب أن يكون هناك نقد تاريخي موضوعي للخطاب الديني، لا يخرج عن مصادر المعقولية الإنسانية والتفكير، التي تعتني بهما علوم الإنسان وتقدمهم لنا، لنتمكن من زحزحة التراث الإسلامي من النظام الفكري الدوجماطيقي، إلى فضاءات الفهم والتحليل والتأويل([27]). فالواقع يقرّ الإسلامي الراهن بأن الخطاب الأصولي اليوم ينكر وجود أي مسافة فكرية بين ما أصله الشافعي وما أنتجه الأشعري والغزالي، وأوصى به ابن تيمية([28])، وفي حالة خلط وتشويش، يتم الاستشهاد والاقتداء بهم جميعاً، إلى حد أنهم أصبحوا يرسمون الأورجانون الذي يسير به العقل الإسلامي اليوم، والتعاطي مع اجتهاداتهم على أنها متعالية على إطارها الزمكاني.
نقد العقل الإسلامي محمد أركون
ومن ثم يلجأ أركون إلى بناء مشروعه لنقد العقل الإسلامي، ومحاولة تقديم دراسة إبستمولوجية نقدية للتراث الإسلامي؛ فالفكر الإسلامي لا يتطرق بالنقد والدراسة إلى هذا المنجز المعرفي الهائل (التراث) لا على المستوى الأكاديمي –إلا فيما ندر– ولا على مستوى الشارع، ولا يضعه داخل السياق العلمي والفكري المعني بالدراسة والفهم، بيد أنه يسعى إلى مسار ضمني يعمل على شرعنة علمية للاستمرارية التراث([29])، من خلال وضعه في حيز المطلق الذي لا نملك حياله إلا الإذعان والتنفيذ. ويعترف أركون أن محاولته هذه لم تكن الأولى من نوعها، فقد قدم الاستشراق العديد من الدراسات النقدية للتراث والفكر الإسلاميين، ويمايز أركون بين مشروعه (الذي يسميه الإسلاميات التطبيقية) والاستشراق الذي يسميه بالإسلاميات الكلاسيكية. ويعد الإسلاميات الكلاسيكية تعاملت مع الواقع الإسلامي على المستوى النظري من خلال الدراسات الإسلامية، دون أن تنتبه لديناميات الواقع المعاش الخاضع للسلطة السياسية وأيديولوجيات تعمل في الخفاء ولها سلطتها ودورها في تكوين الفكر والواقع.
أولا: الإسلاميات الكلاسيكية (الاستشراق)*
إن رؤية أركون للإسلاميات الكلاسيكية تمثل ركناً أساسياً في مشروعه الفكري؛ فقد قدم نقداً مهمّاً للإسلاميات الكلاسيكية توسل فيه بالمناهج المعاصرة المعترف بها من العقل الإنساني المعاصر، وهذا ما يجعلنا نسعى إلى تقديم رؤيته للإسلاميات الكلاسيكية، خاصة وأنه عادة ما وصف مشروعه بالمشروع المقابل لها تحت عنوان الإسلاميات التطبيقية.
يرى أركون أن الإسلاميات الكلاسيكية (الاستشراق) قد اختزلت الإسلام في تعريف مبدئي، من خلال نصوصه الكبرى فحسب([30]). فعالم الإسلاميات الكلاسيكية يتعامل بشكل بارد وكأنه في متحف([31]) يحاول أن ينظر إلى المجتمع الإسلامي كعينة للدراسة، لا تتمتع بالحياة الكافية، ومن ثم يعمل على تأويل المشكلات الواقعية كنتيجة طبيعية للنصوص التي يعمل على دراستها، مغفلاً أي دور اجتماعي، أو سياسي. فالعلاقة الحقيقية المعيشة كانت مهدورة داخل الإسلاميات الكلاسيكية. لذلك يرى أركون أن ثمة إهمالاً نسبياً لبعض الجوانب من قبل الإسلاميات الكلاسيكية، كالتالي:
الممارسة والتعبير الشفهي للإسلام عند الجماهير الشعبية بشكل عام.
إهمال المعيش وغير المكتوب وغير المنطوق، كالهيمنة الأيديولوجية على المواطنين، وسيطرة الحزب الواحد على المنعطفات التاريخية، ونضالات التحرر الوطني، التي عادة ما تجبر على قول أشياء قد لا ترغبها، وتخفي أشياء ترغب في قولها وكتابتها.
إهمال المُعيش غير المكتوب لكن المحكي؛ وذلك لأن أركون يرى أن الإسلام المحكي في اللقاءات اليومية، والاجتماعات، والمؤتمرات، والدروس الملقاة في المساجد، والمدارس والجامعات، هو أكثر دلالة بكثير من الإسلام المكتوب، خاصة حين يُختَزَل الإسلام المكتوب، ليشمل المؤلفات الرائجة فحسب.
إهمال المؤلفات والكتابات المتعلقة بالإسلام، المنظور إليها على أنها غير نموذجية، من قبل علماء الإسلاميات الكلاسيكية. فالغالبية الساحقة من هؤلاء العلماء يهتمون فقط، بإسلام الأغلبية ((الأرثوذكسي)) السني الذي هو في الحقيقة ليس إلا تنظيرا دوجماطيقيا جاء فيما بعد لسلسلة من الأعمال التاريخية المنجزة. فالإسلام السني مرتبط بشدة بالأيديولوجيا الرسمية للسلطات التي كانت قد فرضت نفسها منذ العهد الأموي.
إهمال الأنظمة السميائية* غير اللغوية، التي تشكل الحقل الديني المرتبط به مثل: الميثيولوجيات، والشعائر، والطقوس، والظروف التاريخية والجغرافية (التي يسميها أركون بالزمكان) والبنى الاجتماعية والسيكلوجية، وفن العمارة، والملابس.
فالإسلاميات الكلاسيكية، قد قلصت دراستها في حدود الفكر المنطقي المركزي. وما بين الإسلام كظاهرة دينية من تفاعلات، وبين المستويات الأخرى للوجود الإنساني (كالاقتصاد، والسياسة، والعلاقات والظروف الاجتماعية، والمحددات الحياتية، .. إلخ) لم تتم دراسته حتى الآن([32]). ويرجع أركون هذا الإهمال إلى أن معظم ممارسيها انطلقوا من رؤيتهم العرقية المركزية، التي تبيح لهم التفوق بطبيعة الحال، وأفقهم التاريخي والمعرفي الذي يعمل بصورة انتقائية، سواء عن وعي أو غير وعي([33]).
ولا ينكر أركون ما للإسلاميات الكلاسيكية (الاستشراق) من إيجابيات، حيث يقر بـ” أنه لا يمكن في الواقع إنكار أن (الاستشراق) كان قد أسهم بشكل واسع في إعادة تنشيط الفكر العربي – الإسلامي”([34]) ويعترف بأن هناك معلمين كباراً قد قدموا وحققوا نصوصاً ذات أهمية كبرى من نسيان طويل، وأوضحوا مجالات أساسية للبحث كاللهجات المهملة اليوم([35]).
ثانيا: الإسلاميات التطبيقية
ينطلق أركون في إسلامياته التطبيقية من الفكر الإسلامي الذي تغلبه النزعة الأصولية، ويقر بأنه قد اكتفى بالدراسة الإيجابية لتاريخ الإسلام. ويرى أن الفكر الإنساني اليوم لا يسعه غير استخدام غير الدراسة السلبية من أجل فهم نظام الوجود البشري ونمط التفكير في المجتمعات الإسلامية([36]). ومن ثم سعى أركون إلى تدشين علم جديد يطلق عليه الإسلاميات التطبيقية، الذي يعلن أنه متضامن كلياً مع الإسلاميات الكلاسيكية (الاستشراق التقليدي) شريطة أن تُخضِع خطابها إلى نقد إبستمولوجي شديد، حيث لم يعد بالإمكان تقديم الإسلام في نطاق جوهري ذاتي وذهني محكوم بتحديدات ثقافية وتاريخية ومادية محددة؛ وعليه يتجاوز ما تقدمه الإسلاميات الكلاسيكية في مشروعه (الإسلاميات التطبيقية)، حيث ينظر إلى ما هو مهمل من قبلها-ما ذُكر في السطور السالفة- المتمثل في الواقع المعيش، ومحدداته الأيديولوجية والحياتية والسياسية، التي تغفل عنها الإسلاميات الكلاسيكية، ولعل هذا ما دفعه إلى تسمية مشروعه بالإسلاميات التطبيقية. والإسلاميات التطبيقية هي “تطبيق منهجيات العلوم الإنسانية ومصطلحاتها على دراسة الإسلام عبر مراحل تاريخه الطويل”([37])؛ فهي تعد ممارسة علمية متعددة الاختصاصات، وينبع هذا من اهتماماتها المعاصرة وموضوع دراستها الذي يتسم بالتنوع والاختلاف، ليقدم من خلاله محاولة إبستمولوجية للتاريخ الإسلامي تضع في اعتبارها المسافة التاريخية والدور السوسيولوجي في نشأة هذا التاريخ والفكر.
ويحدد أركون دور الإسلاميات التطبيقية في نقد أي خطاب أو منهج؛ وذلك لعلمها بأنه ليس ثمة خطاب أو منهج بريء؛ وفق هذا تلجأ إلى تعددية المناهج، من أجل عدم اختزال المادة المدروسة([38]). وهذا ما يجعله ينطلق من مناهج تحكمها آليات التفكير المعاصر؛ ففي حديثه عن مشروعه يقول: “إن مشروعي في نقد العقل الإسلامي يتمايز عن كل ما عداه… فأنا أهدف إلى نقده بطريقة تاريخية، وليس بطريقة تأملية، تجريدية، سّكولاستيكيّة …إن مشروعي هنا ينخرط إبستمولوجيا في العمق، بل وفي عمق المعمق، ويختلف بالتالي عن كل مشاريع الفكر”([39])، وأتفق مع الباحثة سهيلة يلدز، في أن أركون يتخطى ما قدمه مجددو الفكر الديني في التراث المسيحي، فهو يصنف مباحثه تحت مصطلح جديد هو: العقل الاستطلاعي الجديد المنبثق، وهو يختلف عن العقل الحداثي؛ في أنه يعمل على تعطيل الأحكام اللاهوتية التي تقول إن القرآن يتجاوز التاريخ، ولكن عدم القيام بحذفها([40])، وهو بذلك يكون أكثر نضجاً من العقل الحداثي، الذي يرى أنه يمكن إلغاء مثل هذا التصور، بيد أنه يعمل على حصره داخل مساحته؛ أي عدم السماح له بالتغلغل داخل الأنساق المعرفية والاجتماعية، لما يقدمه من ثبات معرفي، حيث تتمثل المعرفة والعلم في كشف معاني القرآن كالإعجاز العلمي للقرآن الذي يسحب منجزات العلم ونسبها للقرآن، وقياس المعرفة عليه، ليصبح المرجع لكل المعارف والعلوم وما يخالفه (فهم البشر له في هذه الأثناء) يكون غير صحيح علمياً.
ويوضح أركون أن مشروعه المعرفي (الإسلاميات التطبيقية) يسعى إلى ثلاثة أهداف:
” أولا: تجاوز العقلية العرقية المركزية وأيديولوجيات النبذ المتبادل؛
ثانيا: تدشين بحث علمي ينظر إلى الوحي والحقيقة والتاريخ في علاقاتها الجدلية بصفتها مصطلحات تعبر عن القوى المفصلية التي تشكل الوجود البشري؛
ثالثا: توحيد الوعي المعاصر، وإيجاد اللغات المناسبة للتعبير عنه وتوليد تاريخ جديد يتجاوز كل أنواع الوعي المغلقة الموروثة عن مختلف التراثات الدينية والثقافية والسياسية “([41]).
على الرغم من أن هذه الأهداف التي يحددها أركون، تأخذ طابع التمني أكثر مما تأخذ الطابع التطبيقي، فإنها تمثل المراحل الأساسية في مشروعه، حيث إنه سعى إلى تحرير العقل الإسلامي من التفكير العرقي المركزي المتمثل في؛ رؤيته لذاته أنه يملك امتيازاً أنطولوجياً يخرج عن امتياز عقائدي؛ فالعقل الإسلامي يرى أنه متفوق على الآخرين، لا لشيء إلا لأنه معتنق الإسلام دون الانتباه حتى إلى مدى تطبيقه للتعاليم الإسلامية. والتفكير العرقي المركزي عادة ما ينتج نبذاً متبادلاً بطبيعة الحال؛ وبالتالي سعى إلى تجاوزه من خلال نقد العقل الإسلامي والخطاب الديني والتراث. وسعى إلى إخضاع النص القرآني للمناهج المعاصرة التي تنظر إلى النص –أي نص- على أنه مفهوم في إطاره التاريخي والثقافي، والتي تؤمن بتأثير التاريخ على الحقيقة، حيث تكون الحقيقة تصوراً يحكمه التاريخ وليس العكس، وتطبيق هذه المناهج والرؤى المعاصرة على القرآن للخروج به من حيز الاستهلاك الأيديولوجي إلى الحيز الإبستمولوجي. وما يعطيه تطبيق المناهج المعاصرة على القرآن من طرح فهم تعددي للنص، يعد تمهيداً لهدفه الثالث، وهو وجود وعي بالاختلاف وتجاوز السياقات الاجتماعية والقيم المتوارثة والتراثات الدينية التي عادة ما تدعي التفوق على نظيرتها ويكون لها دور رئيس في وجود الرفض والعداء.
التراث الإسلامي محمد أركون
يحاول أركون في مشروعه خلق رؤية موضوعية للتراث الإسلامي، خلافاً للرؤية المطروحة من قبل العقل الإسلامي الكلاسيكي، والمطروحة من قبل المستشرقين التي يسميها ب(الإسلاميات الكلاسيكية). ويعلن أنه سيبدأ “بالفحص عن العقل الإسلامي الكلاسيكي؛ لأنه مسؤول عن إنشاء متون الإيمان والقانون والمعرفة العلمية الدنيوية، التي ظلت تعد مرجعيات ضرورية لاستخدامات العقل لاحقاً، في سياقات إسلامية”([42]). ويلجأ إلى النقد الإبستمولوجي، والقراءة التاريخية للتراث الإسلامي، وهو يطرح منظوراً مهمّاً لطبيعة التراث الإسلامي، والذي يتمثل في غياب التاريخ كعلم عن هذه المنظومة، كونه أحد العلوم الكائنة في حيز اللامفكر فيه* بالنسبة إلى هذه العصور. فكانت النظرة شبه مؤبدة لا تعترف بالتاريخ والتأثير التاريخي -وهو منجز حداثي بامتياز- لم يكن موجوداً حينها؛ وفق ذلك يعد التعالي على التاريخ وعدم الاعتراف به من قبل العقل الإسلامي القديم مقبولاً نسبة إلى واقعه المحكوم به والمحدد لأفقه الفكري والمعرفي([43])؛ بيد أن العقل الإسلامي المعاصر – الذي احتك وتفاعل مع المناهج الحداثية والمعاصرة– لم يعد مقبولاً منه تعالي هذه التفسيرات المقدمة من قبل القدماء على التاريخ، لا لشيء إلا لأنها لم تقدم نفسها كرؤية إنسانية مرحلية مرهونة بظروفها التاريخية؛ وبالتالي يلجأ إلى نقد التاريخ الإسلامي.
ويقوم نقد أركون للتاريخ الإسلامي على ثلاثة مفاهيم رئيسة (المنسي- المتنكِّر – اللامفكَّر فيه)، وتمثل هذه المفاهيم جزءاً كبيراً من البعد المهمل من قبل الإسلاميات الكلاسيكية، ويرى أنها ترتبط مع بعضها، حيث إن كلّاً منهم يسهم في مشروعية الآخر. فالمنسي هو ما راح في طيات النسيان وكان ناتجاً عن بترٍ تاريخي وضغوط يمارسها السياق الثقافي على المؤلفات التي وصلتنا متأخرة. والمتنكر هو العمل التنكري الذي يعمل على صياغة الدين في صورة الأيديولوجيا، ورسخ العمل التنكري الأيديولوجي -الذي يُمكِّن أي تراث من تحديد اختياراته– إهمال ما هو منسي أو إلغاؤه وحذفه. ويؤسس مفهوما، المنسي والمتنكر(المتخذ قناعاً)، مضمون اللامفكر فيه في الفكر الإسلامي، المتضمن لكل الحركات الفكرية التي أنجبها النمو الصناعي للحضارة الغربية. فالعقل الإسلامي يجتهد في فهم العقل الإسلامي الكلاسيكي دون أن ينتبه لأي منجز حضاري آخر، لذلك تعد الحركات الفكرية التي أنتجها التقدم الحضاري، في حيز اللامفكر فيه بالنسبة إلى العقل الإسلامي اليوم؛ وذلك لسيطرة الأيديولوجيا على العقل الإسلامي المعاصر من خلال مفهومي المنسي والمُتَنَكر (المُقنع)، كما أوضحت السطور السابقة.
ويوضح أركون ببساطة أن ما يفعله في مشروعه هو زحزحة ما يدخل في حيز “المستحيل التفكير فيه “إلى حيز” الممكن التفكير فيه” ويقصد هنا الوحي، وما انبثقت عنه من خطابات أعطت لنفسها قدسية محايثة ومساوية لقدسية الوحي([44])، كما سعى في مشروعه إلى خروج الخطاب العربي بكل أوجهه، من نطاق التسنين إلى النطاق العالمي، ويعرف التسنين بـ: “إخضاع الفكر للأوامر القطعية للتراث النبوي (التسنين مشتق من سُنة)”([45])؛ فالخطاب الإسلامي حتى وإن توجه إلى العالم يلجأ إلى التسنين، ويغفل أن ثلاثة أرباع العالم لا تعترف بتلك السنة، ويتحدث بصيغة كونية عالمية، بوصفه الممثل الأوحد للعالم([46]).
وتتم هذه الزحزحة عبر الحفر الأركيولوجي عن الشروط التي يتم فيها إنتاج المعنى وقيمته نسبة إلى الوجود الإنساني، حيث يسعى إلى فهم الشروط التاريخية والاجتماعية والسياسية والجغرافية التي تؤثر في إنتاج المعنى بطبيعة الحال، وقيمة هذا المعنى والاحتياج إليه بالنسبة إلى الوجود الإنساني. وعليه، يتم بناء وسير شؤون القيم التي تحسم مصير كل شخص بشري داخل إطار اجتماعي محدد تتوافر لديه شروطه المعنية بهذا الإطار لإنتاج المعنى([47]).
فتمثل زعزعة المشروعية الدينية والسلطة العقدية، أحد مرتكزات الفعل النقدي عند أركون، من خلال فرض قطعية حاسمة بين السيادة الإلهية العليا من جهة، والسيادة البشرية من جهة أخرى. فمهمة خلع المشروعية على الأنظمة المعنوية والأخلاقية، والسياسية، تقع على عاتق العقل النقدي الواعي النابع من الواقع، ويعمل على حل أزمات الواقع ويتطور من خلالها([48]). ولكنه لا يكتفي بهذا، بل يسعى إلى نقد الأيديولوجيات المقدمة من قبل العقل الغربي والمسيطرة على المحيط الإسلامي، فهو ينطلق من الحاضر،([49])وهذه ميزته التطبيقية، وعليه يحاول تحرير العقل الإسلامي أيضا من الأيديولوجيات الناشئة حديثا، والمسيطرة على الواقع الإسلامي اليوم.
ويحدد أركون بوضوح شديد غايته ومنطلقه، حيث يصرح قائلاً: “الهدف النهائي للإسلاميات التطبيقية، هو خلق الظروف الملائمة لممارسة فكر إسلامي محرر من المحرمات العتيقة، والمثيولوجيات البالية، ومحرر من الأيديولوجيات الناشئة حديثاً، فإننا سوف ننطلق من المشاكل الحاضرة، ومن الأسلوب الذي عولجت به هذه المشكلات في المجتمعات الإسلامية”([50])؛ ومن ثم يعتمد في أبحاثه على المراقبة والتجريب قبل الوصول إلى التنظير الفلسفي؛ وذلك لعدم تفضيله للعنصر التنظيري عن العنصر التطبيقي، الذي هو محور عمله، فمسمى مشروعه الإسلاميات التطبيقية([51]). وبهذا يختلف عن الرؤية الاستشراقية التي وصفها بالجامدة، حيث إنه سعى إلى فهم الواقع وحيثياته بآليات الفهم والمناهج المعاصرة، ورؤيته للحياة الإسلامية كحياة ديناميكية متحركة طبيعية تحمل في طياتها كل المحددات الطبيعية للحياة البشرية، ومن ثم سعى إلى فهمها على هذا النحو على خلاف الجمود الذي اتسمت به الإسلاميات الكلاسيكية.
- الواقع الإسلامي المعاصر من إسلاميات أركون التطبيقية
انطلق مشروع أركون من الواقع الإسلامي ومشاكله، ورؤيته للبلدان العربية على أنها منغلقة على نفسها تحرم حتى دخول الكفار إلى مناطقها المقدسة([52])، ويصر على أن “هناك تقاليد كثيرة جدّاً ينبغي أن تراجع، وتراثات عديدة جدّاً ينبغي أن تفكك، ومؤسسات ينبغي أن تُدَمر، وأصحاب نفوذ ينبغي أن يواجهوا، ورواسب ثقافية واجتماعية ينبغي أن تزحزح وتتجاوز، وقوى سياسية ينبغي أن تعرى وتنزع عنها المشروعية؛ لأنها تحاول باستمرار أن تحتكر ((المقدس)) لنفسها بسبب نقص مشروعيتها”([53])، وحاول أركون من خلال مشروعه الذي أعطاه عنوان الإسلاميات التطبيقية أن يقدم رؤية نقدية للفكر الإسلامي، والسعي نحو أفق أقل انغلاقًا وأكثر رحابة. وانتقد أركون في الإسلاميات الكلاسيكية انطلاقها من الرؤية الثقافوية وعدم ادراك الوقاع المعيش وتعقيداته، ولا يدرك هذا الواقع المعيش وتعقيداته غير الذوات التي تعيش أزماته وتفهم احتياجاته. ومن المنطقي أن يعيش كل مجتمع أزماته وواقعه المعاش وينطلق من احتياجاته، فهو غير موكل بأزمات الآخر. ومن المؤسف أن الواقع الإسلامي المعاصر لا زال يدور في ذلك الفلك المغلق، بل يمكن القول إنه أضحى أكثر انغلاقَا، ليحرم دراسة أركون، ونصر أبو زيد، وعلي مبروك، وعبد المجيد الشرفي، بل ومحمد عابد الجابري، ويدور في فلك التراث وإعادة بناء الحاضر على غرار التراث ووضعه نموذج للمستقبل.
أولا: منطلقات التقدم في العقل الإسلامي المعاصر (السياقات المغلقة تمثل الذات الإسلامية)
يحدد المفكر والباحث الأردني ((فهمي جدعان)) (1940) منطلقات التقدم في العقل الإسلامي المعاصر في كتابه (أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث) بأنها ميتافيزيقية تأتي من خارج العالم بأمر إلهي فقد “مثل الإسلام منذ البداية لدى المسلمين أنفسهم أسمى صورة من صور الحياة الدينية والدنيوية على حد سواء”([54]). وهذا ما يجعل غياب التقدم هو انحراف عن الإسلام، وهذا ما تم التعبير عنه من خلال تيار الإصلاح الديني؛ وعليه نما تياران: التيار الأصولي/ المدرسي، والتيار السلفي. ويرى التيار الأصولي/ المدرسي أن جوهر الإسلام وحقيقته جاء في التفسيرات القديمة والمذاهب الفقهية، معتبرا إياها هبات إلهية مخصوصة، وهبها الله لمن قدموها لتفانيهم في عبادته وليست مكتسبة، ويفضي هذا إلى أن التفسيرات المتوارثة تكون مبرأة من الأهواء والتحيزات الإنسانية الطبيعية بوصفها هبات إلهية وليست اكتسابا إنسانيًا([55])، وعليه تحمل هذه التفسيرات قدسية تتماهى مع قدسية النص، وتبعا لرؤيته بأن الاعتصام داخل هذه التفاسير المتوارثة لمفاهيم النص، ضمانة لوحدة المجتمع الإسلامي، ودفاع عن الهوية الإسلامية وحفظ لها ([56]) تصبح هذه التفسيرات والاجتهادات الفقهية أرجانون للتقدم وصياغة المستقبل وإجابة جاهزة عن السؤال الفلسفي الطامح عادة للتقدم.
فما دعا أركون إلى الخروج منه بوصفه سياقات دوجماطيقية مغلقة، يرى التيار الأصولي/ المدرسي أنها الحل للواقع العربي المأزوم، بوصفها تمثل الذات الإسلامية المفتقدة، والتي عليها أن تعود لتسترد الذات الإسلامية هوتيها وهيبتها وتتقدم مثل ما فعل السابقون. والتيار السلفي: كما يعلن عن نفسه، يمثل الإسلام الخالص النقي الخالي من كل بدعة أو شائبة، بلا انحراف او زيادة، ويمثل الإسلام الصافي الذي أجمع عليه السلف الصالح، ولعل هذا ما دفع ((هنري لوزير)) إلى تسميتهم (بالسلفية النقاوية)([57]). وتمثل السلفية النقاوية أحد مردودات الحداثة، حيث إنها تستدعي منهج السلف الصالح لمواجهة أزمات العصر، التي ظهرت إبان احتكاك العقل العربي بمنجزات الحداثة، وتقدم نفسها بوصفها حاملة حقيقة الدين النهائية والفهم السلفي الصحيح، ومن ثم تتخذ مذهب اللاتمذهب؛ أي أنها ترفض التعدد المذهبي بشكل واضح وصريح وتراه بدعة وفرقة للدين، فلا تقر بأي سلطة أو دور للمذاهب الفقهية الأربعة([58])، فيصرح ((ابن تيمية)) – وهو المنظر الرئيس بالنسبة للعقل السلفي حتى أُطلق عليه لقب “شيخ الإسلام” – عندما سألوه عما قدمه بأنه موافق ومطابق لما قدمه الإمام أحمد بن حنبل قال: “مَا جَمَعْت إلَّا عَقِيدَةَ السَّلَفِ الصَّالِحِ جَمِيعِهِمْ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ اخْتِصَاصٌ بِهَذَا، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ إنَّمَا هُوَ مُبَلِّغُ الْعِلْمِ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ قَالَ أَحْمَدُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مَا لَمْ يَجِئْ بِهِ الرَّسُولُ لَمْ نَقْبَلْهُ وَهَذِهِ عَقِيدَةُ مُحَمَّدٍ ﷺ.”[59] وعليه ترفض كافة الاجتهادات الفقهية والعقلية التي مارسها العقل الإسلامي تجاه واقعه والنص القرآني.
وترى في النص (القرآن والحديث) الدستور الإسلامي، والمخطط للنجاة في الدنيا والآخرة، وتعتمد على النص الخام، وتراه مجموعة من الأوامر والأحكام واجبة التنفيذ ولا حاجة إلى التفكير فيها، حيث يقود العقل الإنساني إلى الاختلاف دوما، في حين يقود الشرع (وهو في حالة تماهٍ مع النص، وفقا لغياب أي وسيط معرفي يعمل على إنتاج الاحكام) إلى التوحد والصلاح الإلهيين. فهم ينطلقون من قضية أساسية للفكر السلفي، فحواها أن القرآن عبارة عن المرجع النهائي والكلي للبشر أجمعين، وجامع لكافة الأنواع المعرفية الدنيوية والأخروية وحامل الجواب لكل سؤال. ولا حاجة للبشر إلى العلوم، حيث يحتوي النص القرآني والسني على كافة الحلول التي يحتاجها البشر في كل زمان ومكان. ويتعالى على أي فهم تاريخي([60]).
والثقافة الإسلامية، ثقافة عقائدية تحمل في طياتها ما يحمله النزوع العقائدي الإيماني (غير العقلاني) ذو الطابع الغيبي في أغلب الأحيان، والتوسع في العقيدة ليشمل كافة المناحي الحياتية يورث منطق الانغلاق من باب الحفاظ على العقيدة من التشوه. ويزداد هذا الانغلاق مع دور الغرب الإمبريالي، ويتضح هذا من خلال معاملة هذه الثقافة مع التحديات المعاصرة، وهي تحديات غربية بالأساس، كون الغرب يمثل الطرف المالك لأدوات الإنتاج، ولا تملك الثقافة الإسلامية غير استهلاكها من خلال الاستهلاك التكنولوجي، أو السطو على هذه المعارف والإنجازات العلمية واستنطاق النص القرآني بها، أو نسبها إلى العرب القدامى، وتهميش الدور الغربي في بنائها وانتاجها ([61]). ومن ناحية أخرى تنظر لهذه المنجزات –ما يخالف عادتها في غالبية الأمر- على أنها مؤامرات تمت صياغتها للنيل من الذات الإسلامية؛ ومن ثم اضحت الذات الإسلامية غير مسئولة عن أزماتها، وعليه ليست في حاجة إلى دراسة الواقع وفهمه ومحاولة نقده لبناء واقع أكثر قدرة على مواجهة أزماته، وتنظر لأزماتها نظرتين لا ثالث لهما؛ إما أن تكون بلاء من الله عز وجل لارتكابهم المعاصي أو ابتعادهم عن الدين، أو تكون عبارة عن مخطط غربي تمت حياكته للنيل من هذه الذات؛ لذا تتمثل مواجهة الأزمات في الدعاء على المنابر ودعوة النساء إلى التحجب وحس المجتمع على العودة إلى الدين، ولعن المنجزات والمنتجات الغربية واتهامها بارتكاب الجرائم الاجتماعية التي لا تعبر عن شيء بقدر ما تعبر عن خلل اجتماعي يتفاقم يوما عن الآخر.
الإسلام هو الحل (السياقات المغلقة هي الحل)
يرى الشيخ يوسف القرضاوي (9 سبتمبر 1926 – 26 سبتمبر 2022) أننا نعيش جاهلية أخرى([62])، سادها الطغيان على السلطان الإلهي، كما سادها العمار المادي والخراب الإنساني، وحكم الله تجاه هذه المجتمعات وفقاً لزعمه، هي مجتمعات كافرة لتعميرهم الأرض وتخريب الإنسان؛ لهذا أخذها الله أخذ عزيز مقتدر([63])؛ ومن ثم فنحن في حاجة للدعوة بالعودة إلى الإسلام، قناعة منه بأن ما لحق بالبلاد الإسلامية من تراجع تجاه الحضارة في كافة مناحيها الاقتصادية والسياسية والمعرفية يتمثل في بعد هذه الأمة عن الدين وعدم احتكامها إلى القرآن؛ “فالقرآن لم يصبح هو الموجه الأول لعقول المسلمين، ولا المؤثر الأول في قلوب المسلمين، ولا المحرك الأول لسلوك المسلمين”([64])؛ ومن ثم يكون العلاج لما يعانيه المسلمون من ضعف وتمزق وانحطاط وتشتت وتخلف تجاه الحضارة يتمثل في العودة إلى الإسلام الصحيح بالنسبة إلى القرضاوي([65])، ويقدم الحل الإسلامي بوصفه الحل الطبيعي الذي تفرضه قوانين الطبيعة في مقابل الحلول الأخرى المصطنعة([66])! ولا يقف هذا الحل عند حدود المشكلات التي يعاني منها المجتمع العربي والإسلامي، ولكنها تمثل حلولاً لما تعانيه البشرية من عبثية وتخبط وضياع؛ وذلك لأنها نابعة من مصدر إلهي كما يدعي القرضاوي ومن قبله قطب([67])؛ ومن ثم يكون لدعاة الأصولية وتيارات الإسلام السياسي الريادة العالمية، وفقا لما يعطونه لأنفسهم من حق الوصاية على العقل البشري.
ويصر القرضاوي على أن الحل الإسلامي ليس مقصوراً على تطبيق الشريعة من قطع يد السارق ورجم الزاني وما إلى ذلك، بل أن يصبح الإسلام هو الموجه لكافة نواحي الحياة، ويكون هو الغاية أيضاً([68]). وينهج القرضاوي نهج قطب في رؤيته لعودة الإسلام التي تتمثل في عمل القرآن داخل الساحة الاجتماعية كمنهاج للحياة ودستور حاكم للعلاقات الاجتماعية والحياة السياسية والدعوة الإسلامية([69])؛ ف”العقلية التي ينشئها القرآن بوصاياه، وتوجيهاته وأحكامه، هي التي تحقق الازدهار العلمي، وتهيئ المناخ لظهور علماء يبحثون ويبتكرون في كل مجال”([70]) ويستشهد بنمط تعامل الصحابة مع القرآن، ويرى أنهم وقفوا منه موقف الآمر، وهم المنفذون، فكانوا يسارعون إلى تنفيذ أوامره واجتناب نواهيه([71]). من تنفيذ دعوى القرآن للجهاد وتلبيتها، والوقوف عن شرب الخمر حين بت القرآن في الأمر بعد سؤال عمر عن البت في أمرها([72]). ويعدّ المسبب الأول والأوحد للنهضة والتغير اللذين حدثا داخل شبه الجزيرة العربية، اتباع أصحاب النبي للقرآن كسلطة ودستور حاكم([73])، ومن ثم تكون النهضة في عودة القرآن كدستور حاكم. ولا يقف الموضوع إلى حد القرآن كما هو عند سيد قطب، بل إنه يتجاوزه إلى السنة النبوية، فالسُنة تدخل لتحدد أهداف الإنسان كلها، ليسعى إلى الغاية الإلهية والأخلاق المثلى، وترسم الآداب الإنسانية المميزة للإنسان عن الحيوان([74]). ويرفض بطبيعة الحال خروج الأحوال المدنية عن النطاق السني والنظر لاجتماعانية الأمر([75]). أما عن الحديث النبوي “أنتم أعلم بشؤون دنياكم” فيؤوله تأويلا غير مفهوم على الإطلاق “وهو أن الدين لا يتدخل في أمور البشر التي تدفع إليها غرائزهم وحاجاتهم الدنيوية، إلا حيث يكون فيها إفراط أو تفريط أو انحراف”([76])، ولكنه يعود ويدخل الدين في كل جوانب الحياة، من مأكل ومشرب وزينة وملبس وما إلى ذلك([77]). ويضرب مثالاً على ذلك بالقتال، فالإسلام جاء يحدد أهداف القتال والاستعداد له والحذر من العدو، لكنه لم يدخل في كيفية هذا الاستعداد والحذر، فمن الممكن أن يكون الاستعداد بالخيل والسيوف وكذا بالدبابات والصواريخ، فكل ملائم لعصره. ويضرب مثالاً آخر على الزراعة، وآخر على التداوي، ويسير على نفس المنوال([78]). وبالرغم من ذلك يرفض لجوء الأمور السياسية إلى المجتمع وحاجاته([79])، والتي جاء النص القرآني صامتاً عنها، ولم يحدد سمات الحكم الإسلامي أو غيره، بل طالبهم بالحكم بالعدل، دون الدخول في المسائل السياسية الدقيقة*.
وليس ثمة اختلاف بين التيارات الإسلامية إزاء رؤيتهم لقضية تخلف العقل العربي عن الركب الحضاري؛ فيحددها شيخ الأزهر “أحمد الطيب” ويصرح قائلاً: “علينا أن نعلم علم اليقين أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وما صلح به أولها هو مذهب ((أهل السنة والجماعة))“([80])، كما يرى أحد أقطاب الوسطية الكبرى “محمد متولي الشعراوي ” أنه لا حل غير الإسلام([81]).
يرى الخطاب الديني المعاصر أن السياقات المغلقة تمثل الذات الإسلامية المفتقدة، وأدوات التقدم المجربة والتي أثبتت نجاحها في الماضي وعلى الواقع الإسلامي المعاصر الامثال لها وتطبيقها، فالاتفاق على أن الإسلام المتمثل في اجتهادات السابقين هو الحل، شبه قائم داخل التيارات الإسلامية، وليس أدل على ذلك من تغنيهم عادة بالماضي، والنزوع الثيوقراطي المضمر داخل المجتمع لإقامة الخلافة، الذي تعززه جمل رجال الدين من الحديث عن أمجاد الماضي وسماحته، وانتساب العديد من الإنجازات العلمية والفكرية إلى نظام الخلافة، الذي لا توجد علاقة مفهومة بين النظام السياسي أو الديني بهذه المنجزات العلمية؛ بيد أنها محصلة الانفتاح الفكري والتحصيل العلمي، والسماح بالاختلاف. ولا ينفي الاختلاف الجوهري فيما بين هذه التيارات الدينية، أنها في مجملها ترى في الإسلام (تطبيق التاريخ المتخيل على الواقع الذي يمثل عودة الإسلام) حلاًّ فورياً لكل ما يواجه المجتمع من أزمات (اقتصادية، اجتماعية، سياسية، علمية،…)، وتختلف في كيفية التطبيق فيرى الاتجاه العام (الوسطي) أن الإسلام يفرض بالدعوة واللين والموعظة الحسنة- حسب النص القرآني- ويرى آخر أنه يجب فرضه على الآخرين، حتى وإن اضطر إلى العنف.
ثانيا: الخطاب الديني وحراسة المجتمع الإسلامي
والواقع الإسلامي المعاصر يوضح أن الخطاب الديني المعاصر يُنصب نفسه حارساً للعقيدة، وللحقيقة الدينية، ويتسلل داخل السياقات والأطر الاجتماعية، فتصبح محكومة به([82])؛ ومن ثم ساد نمط الفقيه الذي يحفظ عن ظهر قلب، ويكرر إنتاج السابقين من الفقهاء دون أي تجديد أو تفكير([83])، وأصبح رجال الدين وحدهم القادرون على تقديم خطاب قابل للمعرفة والفهم، ويتمتع بالمشروعية والمصداقية لدى المؤمنين، وتعد هذه الكيفية التي كُتبت بها السيادة لرجال الدين على المجتمعات الإسلامية([84]). وانطلاقاً من هذه السلطة، فإن رجال الدين يفضلون استهلاك التراث الديني، على إخضاعه للدراسة والفحص والتمحيص وفقا لآليات البحث العلمي الحديث([85]) لتحقيق السيادة العليا لهم، ويظهر هذا في إعلان كل جماعة نفسها على أنها الفرقة الناجية القابضة على الدين، تبعاً للحديث المعروف، وعليه يصبح انتماء الفرد إلى الأمة الإسلامية –التي تدعي كل جماعة أنها الممثل الأوحد لها– تعطيه مصداقية خاصة، يفتقدها غير المسلم([86]) (المنتمي لجماعات أخرى). ونسبت كل جماعة نفسها للقرآن والنبي، ومن ثم عليها حماية هذه التعاليم التي تراها ممثلة للدين والأوامر الإلهية([87]) .
وإذا كان الخطابات الدينية والمفردات الدينية المسيطران على الوعي الإسلامي المعاصر، ويرون أن الإسلام هو الحل، فإن مجمل الوعي الإسلامي يعمل على إثبات صلاحية الإسلام المتخيل في ذهن هذه التيارات للواقع المعاصر، وحسب أسس التقدم التي قدمها فهمي جدعان فإن العقل الإسلامي المعاصر غير قادر على انتاج الإسلاميات التطبيقية التي سعى أركون لتدشينها. فأركون أصر على انطلاقها من الواقع المعاش وأزماته، وهذه التيارات تسعى لقيادة الواقع إلى إسلام متخيل غير موجود، بل إن تركيزها على إثبات صلاحية الإسلام جعل للبحوث الأكاديمية في السياق الإسلامي نتائج مسبقة لا يمكن الحياد عنها، وإلا خضع للمحاكمة أو الطرد والاستهجان من الأطر الاجتماعية، ونلمس هذا في قضايا ازدراء الأديان الموجودة، وفي حادث نصر حامد أبو زيد ومحمد أحمد خلف الله.
فالخطاب الإسلامي المعاصر ينطلق من هوية مشكلة ومعدة مسبقًا وما عليه غير تطبيقها، أو إعادتها، وهذا ما أشار به الفيلسوف اللبناني علي حرب قائلا: “نحن هنا إزاء هوية ناجزة ومسبقة ((تبقى هي هي في جوهرها))، بحسب مقولة ميشيل عفلق، وذلك بقدر ما تصدر عن ((إرادة الله)). ولذا في قدر لا مرد له ينبغي على العربي أن يكون خليقا به”([88])، ويؤخذ على المسلمين في المجتمعات الإسلامية عدم التزامهم بتعاليم الإسلام التي تخلق أزماتهم جميعا، وليس أدل على ذلك من قيام حلمة من قبل الجماعة السلفية في مصر بعنوان (ينتهي الغلاء إذا تحجبت النساء) دون فهم العلاقة بينهما، أو الانتباه للمجتمعات التي لا تتحجب فيها النساء وتتمتع باستقرار كبير عن المجتمعات الإسلامية.
- الخطاب البنائي (انطلاق من الواقع وإلى الواقع).
يخرج مطلب التجديد المعاصر والملح على الواقع الإسلامي والذي تمت ترجمته الواقعية في انتفاضات الربيع العربي، من الحاضر الذي لم يعد بإمكانه التعايش مع الخطاب الديني المعاصر، ولم يعد هذا الخطاب قادرًا على تقديم النمط المرضي للذات، مع تقادم أدوات الحاضر وآلياته، خاصة أن الخطاب الديني يهتم بهيمنته من خلال إعطاء المشروعية لشيء جديد أو دخيل أو رفضها. ويعمل الخطاب الديني المعاصر على قلب الأساس الديني ((أصل الأشياء الإباحة إلا ما حرم)) لتصبح كل الأشياء محرمة منتظرة فتواهُ بأنها حلال؛ أي ((أصل الأشياء التحريم إلا ما أبيح))، ومن خلال هذه الهيمنة يصبح هو المسؤول عن الأطر الاجتماعية بسبب دخوله في أدق تفاصيل حياتهم اليومية. ومن ثم فإن تراجع المجتمعات الإسلامية تجاه الحضارة المهيمنة، ينتج جزء كبير منه نتيجة عدم استجابة الخطاب الديني والمؤسسات الدينية الرسمية لمتطلبات الحاضر، وإدراك أبعادها وأبعاد الإنسان المعاصر، وعليه يخرج مطلب التجديد من حاجة الحاضر لتلبية رغباته وإنتاج خطاب يضعه في الحسبان.
ويخرج الخطاب البنائي من مطلب التجديد، حيث يعمل على إعادة بناء خطابه وترتيب أدواته بشكل يضمن تلبية احتياجات المجتمع، وإعادة بنائه بصورة تتفادى الأخطار والمشكلات المتعلقة به، وأول مقومات هذا الخطاب الانتباه إلى طبيعة المجتمع وحاجاته، والاعتراف بالدور التكاملي للمعرفة، ليهتم العاملين بالمناهج بإنتاج المناهج التي تحتاجها المؤسسة الدينية والالتزام بإطارها المنهجي دون التدخل في وظيفة المؤسسة الدينية، في الحين نفسه تعمل المؤسسة الدينية من خلال هذه المناهج بشكل أكثر تواضعًا، وتعترف بعدم قبضها على كافة القوانين التاريخية والأنماط المعرفية. فالمؤسسات الدينية تتمتع بامتياز واحترام كبيرين يجعلُ لها سيطرة غير قليلة على المجتمع، وفي الوقت عينه يجعلها ترفض مشاركة أي خطابٍ آخرٍ لها في تشكيل الواقع الإسلامي المعاصر، وربما تكون محقة في مخاوفها، ولكنها أيضًا ترفض الاطلاع على المناهج المعاصرة، وتكتفي بذكر أنها مناهج ذات إنتاج غربي، دون العمل على تطبيقها وتطويرها بشكلٍ يلائم طبيعة خطابها، خاصةً أن هذه المناهج تفتح باب الإضافة والتنقيح أمام الجميع.
والخطاب البنائي هو خطاب يعترف بالطبيعة التكاملية للكون والخروج من الرغبة في السيطرة، حيث يقوم كل عنصر بدوره في هذا الخطاب في جميع النواحي والزوايا، دون أن يسعى للسيادة والسيطرة، ومن ثم فإن غياب هذا الخطاب لا يقع على عاتق المؤسسات الدينية وحدها، ويشترك فيه جميع عناصر المجتمع عامةً والنخبوية خاصًة. وغياب الخطاب البنائي الذي يخرج منه المطالبة المستمرة بالتجديد في السياق العربي، والوقوف عند التجديد والمعاصرة منذ ما يقرب من قرنٍ من الزمن، لا يقع على العاملين بالشأن الديني والمؤسسة الدينية فحسب، بل يعني تقصير معظم الجهات المعنية بصناعة الوعي؛ من المفكرين والأدباء والباحثين…، واتخاذهم الدور النضالي الإرشادي الذي يفرض على المجتمعات نماذج غريبة قد لا تساعده في حل أزماته ومشاكله، ولا تنتج خطابًا بنائيًا يخرج من بنية المجتمع ويعود إليها، ويعمل من خلالها.
- الخطاب الإنشائي والأسس المفارقة للواقع
حسب المعطيات التاريخية وما تقدمه لنا المعارف الإنسانية فلم يُكتب النجاح لخطاب دون أن يراعي حاجة المجتمع المعني بمخاطبته ولغته واستيعابه، ويتضح هذا في الخطاب القرآني الموجه من الله إلى الإنسان، حيث خاطب أهل شبه الجزيرة العربية بأعرافهم وتقاليديهم، بل أمر النبي محمد (ص) باتخاذ العرف قائلًا عز وجل: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (الأعراف 199)([89])، فالقرآن لم يأتي يتحدث بلغة مفارقة لا تراعي حاجة المجتمع في شبه الجزيرة العربية عام 610 م، وإلا أصبح خطابًا إنشائيًا غير فعَّال في الواقع المعاش، فإنه جاء من الواقع ومخاطبا في الوقت نفسه له. وإذا كان لخطابٍ ما يعمل على تغيير مقومات الواقع الإسلامي، فإن عليه أن ينطلق من هذا الواقع، ولا غيره، وإلا فإن الخطاب يعد محض إنشاء يكرر نفسه دون دراية، ويلوم المجتمع لعدم الامتثال إليه، غير مراعٍ أن المجتمع يمتثل عادة لما يلبي ويراعي احتياجاته، خاصة في ظل التردي الذي تعانيه المجتمعات الإسلامية.
- حراسة العقيدة.
ينطلق الخطاب الدعوي المعاصر من الزعم بحراسة العقيدة، ودعوة المجتمع بالعودة إليها، ويرى أن العودة لعقيدة السلف حل لجميع الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي هذا الخصوص يتفق شقي الخطاب الدعوي (العنيف والوسطي) على مهمة حراسة الدين، فأصبحت كل جماعة تدعي أنها حاملة التفسير الصحيح للدين. ومن ثم تكون هي الحاملة للكاريزما النبوية، ولها وحدها السلطة على الآخرين، وما تراه هو الدين([90])، وما على الآخرين إلا أن يسمعوا ويطيعوا محصورين في دور التلقي السلبي عاجزين عن التفكير، مما يعكس شكلا من أشكال الكهنوت في علم التدين المعاصر([91]). كما أنهما يتفقا أيضًا على أن العودة للماضي وعقيدة السلف هي الحل لجميع الأزمات التي تعانيها المجتمعات المسلمة.
في دراسة له عن السنة والجماعة يصرح الإمام الأكبر شيخ الأزهر “أحمد الطيب” بأن بحثه في تعريف أهل السنة والجماعة يمثل بحثًا عن شخصية الأمة وهويتها، وبحثًا في تشخيص المرض الذي أضعف الأمة وأنهكها. ([92]) وإحياء هذا المذهب يمثل طوق النجاة للأمة ([93]) ويشير الإمام إلى الصراع على الانتماء إلى أهل السنة والجماعة والحديث باسمها ([94]). ثم ينتقل الإمام إلى تعريف أهل السنة والجماعة من خلال منهج الأزهر منذ المرحلة الابتدائية حتى الماجستير والدكتوراه، ويصر على أنهم أتباع أبي الحسن الأشعري وأبي ناصر الماتريدي، ويسوق الكثير من الشواهد التاريخية وآراء الرموز التي يعتد بها العقل الإسلامي، ([95]) غافلًا عن أنه وفقا لما يعلنه الأزهر من انتمائه إلى المذهب الأشعري فلابد أن يكون أهل الحق (أهل السنة والجماعة) هم الأشاعرة، والاعتصام بالأشاعرة، والاحتماء بالأزهر اعتصام بحبل الله تعالى.([96])
ويعلن أبو قتادة الفلسطيني* أنهم أتباع أهل السنة والجماعة، والفرقة المنتصرة أيضا!، فلتعريفه للعقيدة يقول: ” نعتقد ما كان عليه سلفنا الصالح من القرون الأولى جملةً وتفصيلا.
فنحن على قول أهل السنة والجماعة في مسمَّى الإيمان، وسط بين المرجئة والخوارج.”([97]) ويرى شيخ الأزهر أن أهل السنة والجماعة هم الأشاعرة – وهذا أمر طبيعي لانتمائه للمذهب الاشعري – ولكنه يغفل أن كل فرقة تزعم أنها أهل السنة والجماعة، فحاكم المطيري* يرى أن من ينكر الجهاد المسلح هو خارج دائرة السنة والجماعة([98])، ويعتقد أبو قتادة أنهم أهل الوسطية وأهل السنة والجماعة، والقحطاني… وغيرهم.([99]) كل فرقة تزعم أنها الفرقة الناجية، وتقدم خطابها بوصفه خطابا إلهيا، وتعتقد أنها وحدها مالكة الحقيقة. إلا أن الفارق يتمثل في لهجة الخطاب، فالخطاب الأزهري يتسم باللين واللطف، ولا يعرف لغة العنف أو لهجة الزجر، فهو خطاب دعوي يمكننا أن ننعته بالمشروع، ولكن خطاب الجماعات الجهادية، رغم زعمه بالوسطية، فإنه يرفض تمامًا أي مذهب آخر، ويخرج من الطور الدعوي إلى طور استباحة الدم والقتل.
العقل العربي بين الأخلاقي والديني عند الجابري
والواقع أن الصراع على الوسطية وأهل السنة والجماعة ما هو إلا صراع على امتلاك حق القيادة والتقويم، حيث يكون لممثل أهل السنة والجماعة حق قيادة المجتمع، بوصفه يملك الراية النبوية الإرشادية، وعلى معرفة بصحيح الدين وما يجب وما لا يجب. وتنطلق الجماعات الجهادية من أنها على معرفة بصحيح الدين، وما يجب وما لا يجب، وعليها أن تُلزم المجتمعات به ولو بالقوة. ومن المؤسف أن الحال لا يتغير كثيرًا حيال المؤسسات الدينية الرسمية غير أنها ترفض ممارسة العنف، ولكن بالنظر لأنها تعمل على تشكيل المجتمع وأفراده، فإنها بهذا تعمل على تفريخ الإرهاب، وتجهيز الأفراد للانقياد للجماعات الإرهابية.
- حراسة المجتمع
يأخذ الخطاب الديني المعاصر بعدًا نضاليًا و”يزعم تنقية الدين من الشوائب الي علقت به، وذلك في مسعى لتأكيد أن الدين يمتلك الحقيقة الطلقة التي يجب فرضها على الجميع”([100])، وينطلق من حراسة الدين إلى حراسة المجتمع من خلال رغبته في حفظ الدين، وحراسة المجتمع تقتضي عدم أهلية المجتمع لتنظيم نفسه، وتحمل في طياتها شيء من التعالي والرغبة في السيطرة، وفي الوقت عينه تورث في المجتمع ثقافة الانقياد وعدم الاستقلال، خاصة أن الانقياد هنا يكون باسم الدين، والحياة الأخرة، التي تمثل غاية كل فرد. ومن ثم ظهر النقاش حول الحجاب ونوع الحجاب وطريقته من باب التأكيد على الهوية الإسلامية، والعودة لصحيح الدين “وأصبح نوع الحجاب وطريقة ارتدائه والملابس التي ترتديها المرأة المحجبة من الأمور الدالة على شدة التدين أو شدة التمسك بالدين”([101])، وتعد هذه إحدى أدوات الاستحواذ على المجتمع وقيادته تحت بند حراسة الدين، وهذا ما أقره الدكتور أحمد زايد قائلا: “يعمل الخطاب الديني … على خلق نوع من الترفع والوصاية من جانب النخبة الدينية. وهي تتربع على عرشها هناك”[102].
والخطاب الذي يقتضيه منطق حراسة المجتمع والاستحواذ هو خطاب ينطلق من مسلمات مسبقة، لا تأتي من حاجة الواقع ودينامياته، وإلا ما كان بحاجة للحراسة، ومثل هذا الخطاب الذي ينطلق من منطق السيطرة والقيادة والدور البطولي والنضالي يعد خطابًا إنشائيا بالضرورة، يركز على كيفية التأثير في الجموع، وليس ما يحتاجه الجموع، ويتضح هذا في تركيز الخطيب على حركاته وصوته وبعض الأبيات الشعرية والقصص أكثر من تركيزه في مضمون الخطبة، وحاجات الأفراد الذين يحدثهم. ومثل هذا الخطاب لا يمكنه أن يفعل أي شيء غير الارتكاز على الماضي، واستدعائه في حالات الحاضر، حيث إن الماضي يمثل أداة سيطرته التي من خلالها يقود الجموع؛ ومن ثم يبدأ من الماضي ويعود إليه في حلقة مفرغة تبدأ حيث تنتهي ولا تتعدى إنجازاتها صفر.
الخاتمة.
من أهم النقاط اتي يجب التأكيد عليها هنا أن أركون رأي فيما قدمه السابقون اجتهاد انساني محكوم بسياقه الزماني، والمشكل أن العقل المعاصر يتكاسل ويعتمد عليه كليًا، وأضحى يفكر من خلاله ووضعه حاجبًا على عقله؛ ومن ثم تكون المشكلة في وضع هذه الاجتهادات موضع التقديس والتفكير من خلالها، أي أن المشكل في السياقات الدوجماطيقية. ويرى العقل الإسلامي المعاصر أن الاجتهادات القديمة تتماهي مع الدين، وتحمل الصلاح الواقعي والأصيل للأمة، ويعمل على وضعها كإطار عام تدور في خلاله العمليات العقلية والمعرفية والواقعية في المجتمعات الإسلامية؛ أي أنه يرى فما أسماه أركون السياقات الدوجماطيقة المغلقة الحل. فيمكن القول إن الخطاب الإسلامي المعاصر يسير عكس ما طرحه أركون ورغب فيه، ويظهر هذا بوضوح في تكفير فكره وتحريمه في العديد من الأحيان.
النقطة الثانية: أن الخطاب الديني المعاصر هو الذي يقود عملية الوعي في المجتمعات الإسلامية، وهو غير مؤهل لصياغة خطاب بنائي يخرج من بنية الواقع ويعود إليها، يعمل على تغييرها وصياغة الوعي العام بمشكلاته وأزماته، فلا ينتج غير الخطابات الإنشائية التي تؤكد صلاحية الماضي وقدسية المعارف القديمة. وتأخذ قدسية المعارف القديمة (السياقات الدوجماطيقة المغلقة) بعد الأدب مع هؤلاء الأشخاص، وذلك تحت ضغط التأكيد على بشريتهم وخضوعهم للنقصان البشري، ويترادف الأدب هنا مع التقديس، حيث يحتوي الأدب على عدم النقد ووضعهم في إطار خارج إطار أي اجتهاد بشري آخر.
النقطة الثالثة: أنه بالرغم من سيادة الخطاب الديني على الواقع الإسلامي المعاصر إلا ان مسؤولية الواقع المتردي، ووقوع العقل الإسلامي داخل السياقات المغلقة وغياب الخطاب البنائي لا يقع عليه وحده، بل على التيارات التجديدية كذلك، كافة المشتغلين بالسياق المعرفي في المجتمعات الإسلامية. فمقومات الخطاب البنائي الاعتراف بالدور التكاملي بين المعارف، والانطلاق من الواقع ومشكلاته، واتخاذ الباحثين والمفكرين الدور النضالي المتسم بالمسلمات المسبقة الذي يدافع عنها، يجعلهم يفرضون نظريات ومشكلات غير لا تنطلق من هذا الواقع. والدور النضالي كذلك لا يعترف بالدور التكاملي بقدر ما يؤسس للنبذ والإقصاء واللوم.
المصادر والمراجع:
[1] – أركون، قضايا في نقد العقل الديني (كيف نفهم الإسلام اليوم)، ترجمةت هاشام صالح، دار الطليعة بيروت، د.ت.، ص239
[2] – المصدر السابق، ص239
[3] – المصدر السابق، ص 239- 240
[4] – أركون، نحو نقد العقل الإسلامي، ط1، ترجمة، هاشام صالح، دار الطليعة، بيروت، 2009، ص 219
[5] – مصطفى (كيحيل)، الأنسنة والتأويل في فكر محمد أركون، منشورات الاختلاف، دار الأمان، الرباط 2011، ص 55
[6] – أركون، نزعة الأنسنة في الفكر الإسلامي (جيل مسكويه والتوحيدي)، ترجمة هاشام صالح، ط1، دار الساقي، بيروت لبنان، ص 606
[7] – أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ترجمة ت هاشام صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت، ط2، 1996، ص 168
[8] – أركون، قضايا في نقد العقل الديني، ص 239، 240
[9] – أركون، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ، ط6، ترجمة هاشام صالح، دار الساقي، بيروت، 2012.ص 13
[10] – أركون، الإسلاميات التطبيقية وأسئلة العقل الإسلامي، ترجمة، عبد اللطيف فتح الدين، مؤمنون بلا حدود، الرباط، 2010، ص 123
[11] – أركون، قراءات في القرآن (الوصية الفكرية الاخيرة لمحمد أركون)، ترجمة. هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، 2017، ص 386
[12] – أركون، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ص 99
[13] – أركون، قراءات في القرآن، ص 200
[14] – المصدر السابق، ص 197
[15] – أركون، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ص 98
[16] – أركون، قراءات في القرآن، ص 198- 199
[17] – أركون، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ص 95
[18] – أركون، قراءات في القرآن، ص 272
* -باحثة في الدراسات الإسلامية، ولدت بالمدينة المنورة لأب تركي وأم بلجيكية، حاصلة على ماجستير في اللغة والدراسات الإسلامية من جامعة جنت ببلجيكا عام 2019
[19] – يلدز (سهيلة)، سبق ذكره ص 132
[20] – أركون، القرآن من التفسير الموروث إلى نقد الخطاب الديني، ترجمة هاشام صالح، دار الطليعة بيروت، ط2، 2005، ص 104
[21] – أركون، نحو نقد العقل الإسلامي، ص90- 91
[22] – المصدر السابق، ص 102
[23] – المصدر السابق، ص 109
[24] – أركون، تحرير الوعي الإسلامي (نحو الخروج من السياجات الدوجمائية المغلقة) ط1، ترجمة هاشام صالح، دار الطليعة بيروت، 2011، ص 145
[25] – المصدر السابق، ص 52-53
[26] – أركون، نحو نقد العقل الإسلامي، ص 95
[27] – أركون، القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص 58
[28] – مناف (علاء هاشم)، إبستمولوجيا النص بين التأويل والتأصيل، دار التنوير بيروت، 2011 ص 13
[29] – المرجع السابق، ص 60-61
* – الإسلاميات الكلاسيكية، هو مصطلح يقدمه أركون في مقابل الإسلاميات التطبيقية، ويعني بالاستشراق، وعلينا أن ننتبه إلى أنه لا يعني العقل الإسلامي الكلاسيكي، حيث يمثل الأخير اجتهادات وأعمال القدماء من مفسرين وفقهاء.
[30] – أركون، تاريخية الفكر العربي، ص 53-54
[31] – المصدر السابق، ص 52
* – علم العلامات علم يدرس أنساق العلامات والأدلة والرموز، سواء أكانت طبيعية أم صناعية. وتُعدّ اللسانيات جزءا من السيميائيات التي تدرس العلامات أو الأدلة اللغوية وغير اللغوية، في حين أن اللسانيات لا تدرس سوى الأدلة أو العلامات اللغوية.
[32] – أركون، تاريخية الفكر العربي، ص 52- 53
[33] – المصدر السابق، ص 53
[34] – أركون، تاريخية الفكر العربي، ص 54
[35] – المصدر السابق، ص 54
[36] – المصدر السابق، ص 57-59
[37] – أركون (محمد)، الإسلام، أوروبا، الغرب، رهانات المعنى وارادات الهيمنة، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، بيروت ط2، 2001، ص 178
[38] – أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ص 57
[39] – أركون، قضايا نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم ؟، ص 48-49. نقلا عن، محمد هلال المزغومي العقل والتاريخ منابع إسلاميات محمد أركون، مركز دراسات الوحدة العربية، مج 30،ع342،2007، ص 36- 71
[40] – يلدز(سهيلة)، القرآن والهرمنيوطيقا، سبق ذكره، ص 77
[41] – أركون، قراءات في القرآن، ص 107
[42] – أركون، الإسلاميات التطبيقية، ص 89
* – (اللامفكر فيه) مصطلح جديد يقدمه أركون، عني: تلك القضايا التي تغفل عن العقل الإنساني؛ لأنها لم تكن مطروحة في زمانه، فلا يسعنا أن نفكر من قرنين في الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي؛ لأن هذه الفترة التاريخية لم تكن مؤهلة للتفكير في مثل هذه الأشياء.
[43] – أركون، نحو نقد العقل الإسلامي، ص 101
[44] أركون القرآن من التفسير الموروث، ص 83
[45] – أركون نحو نقد العقل الإسلامي، ص 221-222
[46] – المصدر السابق، ص 218- 220
[47] – أركون، الفكر الأصولي، واستحالة التأصيل(نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي)، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، 1999، ص 302
[48] – أبي نادر (نايلة)، التراث والمنهج بين أركون والجابري، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت ط1، 2008، ص 42
[49] – أركون تاريخية الفكر العربي، ص 58
[50] – أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ص 58
[51] – أركون، نحو نقد العقل الإسلامي، ص 29
[52] – أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ص 261
[53] – المصدر السابق، ص 264
[54] – فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، ط 3، دار الشروق، القاهرة، 1988، صـ 25.
[55] – نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 3، 2007، صـ 31.
[56] – أحمد النفير، الإنسان والقرآن وجها لوجه (التفسيرات القرآنية المعاصرة) قراءة في المنهج، دار الفكر المعاصر، دمشق، 2000، صـ 32. راجع أيضا، على حرب، الأختام الأصولية والشعائر التقدمية (مصائر المشروع الثقافي العربي)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2001، صـ 116.
[57] – لوزير (هنري)، صناعة السلفية: الإصلاح الإسلامي في القرن العشرين، ترجمة أسامة عباس عمرو بسيوني، ط 1، ابن النديم للنشر والتوزيع، صـ 109.
[58] – لوزير، صناعة السلفية، صـ 111.
[59] – ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج 3، وزارة الشؤون الإسلامية السعودية، 2004، صـ 169.
[60] – أركون، القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، صـ 14.
[61] – علي حرب، الأختام الأصولية والشعائر التقدمية (مصائر المشروع الثقافي العربي)، ط 1، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2001، صـ 116-120.
[62] – القرضاوي (يوسف)، من أجل صحوة راشدة دار الشروق، القاهرة، 2001، ص 163
[63] – القرضاوي (يوسف)، الإسلام حضارة الغد، مكتبة وهبة القاهرة، 1995، ص 119
[64] – القرضاوي (يوسف)، كيف نتعامل مع القرآن، ط3، دار الشروق، القاهرة، 2000، ص 405
[65] – القرضاوي، من أجل صحوة راشدة، ص 120
[66] – القرضاوي (يوسف)، الحلول المستوردة كيف جنت على أمتنا، ط5، مكتبة وهبة، القاهرة، 1993، ص13
[67] – القرضاوي الإسلام حضارة الغد، ص 149
[68] – القرضاوي (يوسف)، الحل الإسلامي فريضة وضرورة، ط5، مكتبة وهبة، القاهرة، 1993، ص 39
[69] – القرضاوي، كيف نتعامل مع القرآن، ص 405- 431. راجع أيضا، القرضاوي، الحل الإسلامي فريضة، ص 207
[70] – المرجع السابق، ص 401
[71] – المرجع السابق، ص 411-412
[72] – المرجع السابق، ص 414-416.، وأيضا، القرضاوي الحل الإسلامي، ص 207
[73] – القرضاوي، كيف نتعامل مع القرآن، ص 410-411
[74] – القرضاوي، (يوسف) السنة مصدر للمعرفة والحضارة، ط3، دار الشروق، القاهرة،2002، ص 14
[75] – المرجع السابق، ص 17
[76] – المرجع السابق، ص 14
[77] – المرجع السابق، ص 21
[78] – المرجع السابق، ص 14-17
[79] – المرجع السابق، ص 20
* – أنظر في هذا، ما كتبه مصطفى عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،
[80] – الطيب (أحمد)، أهل السنة والجماعة، الحكماء للنشر، أبو ظبي 2019، ص 44
[81] – لطفي (وائل)، دعاة عصر السادات (كيف تمت صناعة التشدد في مصر)، دار العين للنشر، القاهرة، 2021، ص 64
[82] – أركون، نحو نقد العقل الإسلامي، ص 21، 27
[83] – أركون، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ص 12
[84] – المصدر السابق ص 15
[85] – المصدر السابق، ص 98
[86] – أركون، تاريخية الفكر العربي، ص 253
[87] – أركون، الفكر الإسلامي، قراءة علمية، ترجمة هاشم صالح، ط2، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1996، ص 135
[88]– علي حرب، الأختام الأصولية والشعائر التقدمية (مصائر المشروع الثقافي العربي)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2001، ص 58.
[89] – راجع في هذا أيضا، ما كتبه سامي الرياحي تحت عنوان “العرف والشريعة، مؤمنون للنشر والتوزيع، بيروت،
[90] – أحمد زايد، صوت الإمام(الخطاب الديني من السياق إلى التلقي)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2019، ص 99. وراجع، أيضا، محمد عمارة، العلمانية بين الغرب والإسلام، ط1، دار الدعوة للنشر والتوزيع، الكويت 1996، صـ 26.
[91] – راجع، المرجع السابق، صـ 171. وراجع أيضا، علي مبروك، أفكار مؤثمة، مصر العربية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2015، صـ 131.
[92] – راجع أحمد الطيب، أهل السنة والجماعة، الحكماء للنشر، أبو ظبي 2019، صـ 10.
[93] – راجع، المرجع السابق، صـ 15.
[94] – راجع ، المرجع السابق، صـ 12.
[95] – راجع، المرجع السابق، صـ 16- 59..
[96] – راجع، المرجع السابق، صـ 57.
* – عمر محمود عثمان أو كما يكني نفسه: أبو عمر، أو: أبو قتادة الفلسطيني. هو إسلامي أردني من أصل فلسطيني، متهم بالإرهاب من قبل بلدان عدة حول العالم، كما ضم اسمه ضمن القرار الدولي رقم الصادر من مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة الذي صدر في عام 1999م، والذي يختص بالأفراد والمؤسسات التي ترتبط بحركة القاعدة أو حركة طالبان.
[97] – عمرو بن محمود أبو عمر ( أبي قتادة الفلسطيني) ، معالم الطائفة المنصورة، منبر التوحيد والجهاد، صـ 3- 4. http://www.ilmway.com/site/maqdis/index.html
http://taiar.freeservers.com/Dtaefamontasera.htm
* – حاكم عبيسان الحميدي المطيري ولد في الكويت بتاريخ 7 نوفمبر 1964، أستاذ التفسير والحديث في كلية الشريعة بجامعة الكويت فقيه محدث وكاتب ومفكر إسلامي وناشط سياسي له العديد من الكتب والبحوث والمقالات الشرعية التي تهتم بالشأن السياسي، وسبق له أن شغل منصب أمين عام الحركة السلفية في الكويت وحزب الأمة الذي شارك في تأسيسه.
[98] – راجع، حاكم المطيري، أهل السنة والجماعة .. إشكالية الشعار وجدلية المضمون – 1، تاريخ الإضافة 4-10-2010. http://www.ilmway.com/site/maqdis/MS_5335.html
[99] – راجع، الفكر الإسلامي الجهادي المعاصر، إعداد محمد مختار/ مراجعة أحمد عبد ربه، دار المرايا للإنتاج الثقافي، القاهرة، 2016، صـ 55.
[100] – محمد حافظ دياب نقد الخطاب السلفي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2017، ص 46.
[101] – أحمد زايد، صوت الإمام (الخطاب الديني من السياق إلى التلقي)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2019، ص 118.
[102] – المرجع السابق، ص 262-263.