جذور العقل السياسي والأخلاقي في الإسلام: قراءة محمد أركون لـ”نظرية القيم القرآنية”

تكوين

نبدأ المقال، في وسط ما يحيط بنا من أحداث تهزّ الوعي القلق، بطرح بعض الأسئلة الملحّة التي لا يمكن التغاضي عنها :

  • أين ذهب كلّ الجهد الذي بذله النهضويون؟
  • ما هو أثر كل المشاريع النقدية التي تبلورت في النصف الثاني من القرن الماضي؟
  • ما هي الثمار التي جناها العقل العربي من الحداثة الغربية وممّا أتى بعدها؟
  • وما جدوى كل ما كُتب على الرغم من جدّته ورصانته ورسوخ بنائه؟

إن هذ الأسئلة كان قد انهمّ بها عددٌ من المفكرين النقديين المعاصرين الذين اعتمدوا على العقل والمنهج النقدي، وعلى ما أنتجته الحداثة وما بعدها من أدوات معرفية ومناهج بحثية، لكي يقدّموا القراءة الفكرية التي من شأنها أن تكشفَ مكمنَ الخلل. لقد عملوا على تسليط الضوء على ما بإمكانه أن يرسم مسار إنقاذٍ لما تبقّى من قدرة وطاقة على النهوض ومواكبة العصر لدى الشعوب العربية الإسلامية، هذه المجتمعات التي ما زالت ترزح اليوم تحت وطأة تحدّيات وجودية ضخمة.

من بين الذين تصدّوا لهذه الأسئلة المقلقة، وحاولوا التفكير فيها، والبحث في كيفية فهم الواقع الذي نبعت منه، وتفكيك تعقيداته، نتوقّف عند محمد أركون. اخترتُ أن أستلّ من نصّه بعض الأسئلة التي كان قد طرحها ممهّداً لدراسة أنجزها حول الدالات الثلاث كما يسمّيها: “دين، دولة، دنيا“، أو ذرى الوجود البشري الثلاث التي تمحور حولها الفكر الإسلامي وما زال. نجده يسأل مشكّكاً:

“هل يمكن للبشر أن يقبلوا بأن يتسلّط عليهم بشرٌ آخرون، ويتحكّموا بحياتهم كمصائر روحية مثبتة ومحدّدة من قبل الله؟ (…) كيف وضمن أية شروط، يمكن للسلطة التي يتحكّم بها شخصٌ واحدٌ، أو مجموعة أشخاص، أن تصبح سيادة عليا مرتبطة بسيادة الله ذاتها وتسيطر على القلوب والنفوس عبر الكلام الموحى؟ كيف يمكن لشخص بشري، أو عدّة أشخاص أن يتوصّلوا الى إيهام الآخرين بأنهم يحكمون باسم الله ويمثّلون الله على الأرض؟”.[1]

هذه الأسئلة حفرت عميقاً في وعي محمد أركون منذ زمن، فانكبّ، في سبيل تلمّس الإجابات المقنعة، على دراسة وتفكيك الخطاب الإسلامي في مجالَي الدين والسياسية، متوقّفاً عند كيفية استثمار الروحي في ما هو زمني، وإسقاط التقديس على ما هو دنيوي عبر حقبات تاريخ الفكر الإسلامي. نجده يصرّ على ضرورة تفعيل الفكر النقدي الحر والمستقل والمرِن في آن معاً في ما يتعلّق بعلم الأخلاق وعلم السياسة. من هنا نجده يغوص في التنقيب في مرحلة الاسلام الكلاسيكي، أي المرحلة التاريخية الممتدّة بين القرنين الأول والخامس للهجرة، من أجل الاطّلاع على العوامل الاجتماعية والتاريخية التي يعتبرها الركيزة الأساس لمعرفة كيفية تشكّل وتطور الأفكار الأخلاقية والسياسية منذ القرن الهجري الأول وحتى يومنا .

إن التوقف عند كتاب أركون الإسلام، الأخلاق والسياسة، الذي صدر بالفرنسية عن منظّمة اليونسكو عام 1986، ومن ثم نقله هاشم صالح إلى العربية ليصدر في العام 1990 عن مركز الإنماء القومي، من شأنه أن يلقي الضوء على حلقة مهمّة من مشروعه النقدي الذي طاول العقل الإسلامي في بُعديه الأخلاقي والسياسي. لا أظن أن الكتاب قد أخذ حقّه في حينه، لذا هذا المبحث سيحاول أن يسلّط الضوء على أبرز ما جاء في هذا المؤلّف من أفكار ومواقف نقدية بعامة، لكي نفصّل القول في قراءة أركون النقدية لـ “نظرية القيم القرآنية” باعتبارها تؤسس للعقل الأخلاقي والعقل السياسي في الإسلام.

يذكر في المدخل أن هذا الكتاب جاء حصيلة أعمال الندوة الدولية التي أعدّتها منظّمة اليونسكو حول: “الرؤية الأخلاقية والسياسية للإسلام“، والتي أسهم فيها حوالي ثلاثين مفكراً وباحثاً توقّفوا عند “وظيفة الدولة طبقاً للنظرية الإسلامية“، وعند “مساهمة الرؤيا الإسلامية في تحسين الواقع الأخلاقي والسياسي اليوم“، كما عند “الروابط بين الفرد والدولة في الإسلام“.

نشير في البداية إلى أن الدراسة التي قدّمها أركون في كتابه “ الإسلام، الأخلاق، والسياسة” تهدف إلى قياس حجم الحاجة والضرورة الملحّة، على حدّ تعبيره، ” لإعادة التفكير بتراث الإسلام بدءاً من أسسه وجذوره“. يلفت الكاتب النظر إلى أن القرآن كان قد أسّس رؤية دينية حول العالم والمصير البشري تتحكّم بالمجتمعات والبيئات التي انتشر فيها. لقد مارست هذه الرؤيا دورها في التاريخ على “ هيئة محورية أخلاقية، أو منظومة أخلاقية“، نتج عنها عدّة مقترحات تتضمّن “إمكانيات عديدة من الدلالة والمعنى“.

من هنا، وانطلاقاً مما تقدّم، يمكن أن نطرح الأسئلة الآتية:

  • هل يمكن حصر الإهتمام برؤيا واحدة تعتبر نفسها إسلامية حقاً من دون غيرها، أم أنه أصبح ضرورياً تسليط الضوء على تاريخ التعدّدية العقيدية التي ميّزت مرحلة الإسلام الكلاسيكي بين القرنين الاول والخامس للهجرة؟
  • ما هي المكانة التي ينبغي أن تُعطى للعوامل الاجتماعية والتاريخية في عملية تشكّل وتطور الأفكار الأخلاقية والسياسية منذ القرن الهجري الأول وحتى يومنا هذا؟
  • ما الذي يمكن أن تقدّمه قراءة الحالة التاريخية السائدة في المجتمعات العربية والاسلامية منذ الخمسينيات ضمن إطار الاخلاق والسياسة؟ وما هي العراقيل والصعوبات التي من شأنها أن تعرقل هذه القراءة؟
  • ما هو دور المخيال الديني في إنتاج الادبيات الأخلاقية والسياسية التي تنظم حياة المسلم وتضبط فكره وتؤطّر مساره؟ وما هي آثار ذلك على خطاب الحركات السلفية المعاصرة؟

للإجابة على هذه الأسئلة يقسّم أركون كتابه الى أربعة فصول وخاتمة تحمل العناوين الآتية:

  1.  نظرية القيم القرآنية
  2. دين، دولة، دنيا
  3. رؤى أخلاقية وحس عملي عفوي ومباشر
  4. الرؤى السياسية والتاريخ المحسوس، ومن ثم الخاتمة تحت عنوان: الاسلام اليوم.

كما سبق أن ذكرت سوف أتوقّف عند نظرية القيم القرآنية التي أفرد لها أركون الفصل الأول من كتابه، وذلك لأنها تُعتبر القاعدة المؤسّسة لكل من العقل الأخلاقي والعقل السياسي الإسلامي.

 

في نظرية القيم القرآنية

يرى أركون على الصعيد العملي، أن القرآن حاضر في حياة الناس اليومية أكثر من أي وقت سابق، وأثر ذلك واضح من الناحية الاجتماعية والايديولوجية. ويلحظ أن وسائل الإعلام قامت بتحوير طريقة حضوره في المجتمع وغيّرتها، وهي قد تكون قد زادت من “هيمنة” هذا الحضور على النفوس. أما من الناحية النظرية فيبدو القرآن بمنزلة “الدستور النموذجي” الأعلى، وهو “ذروة المشروعية القصوى، إنه بمثابة المصدر الغني الذي لا ينفد والذي ينبغي أن يُبنى عليه المجتمع الإسلامي. من هنا نجده يتوقّف عند استخراج النظرية الأخلاقية القرآنية التي وجّهت وما تزال مسار الفكر العربي الإسلامي في مختلف حقبات التاريخ. يقصد بنظرية القيم الأخلاقية القرآنية ما دعاه بـ ” المبادئ المحورية الخلُقية التي رسخها القرآن“، وهي تشير إلى نقد القيمة كما إلى نظام القيم المحورية التي رسخّها هذا النقد واقترحها على المؤمن، ليس للتأمل بها وحسب، إنما لتجسيدها في الحياة اليومية لكي يشهد المؤمن “في كل لحظة على المطلق المتعالي الذي يحيط به.”[2]

يركّز أركون في دراسته على موضعة القيم القرآنية المحورية

“بالقياس إلى القيم المحورية الخاصة بالعقل المستقلّ الذي يَعتبر معطى الوحي بمثابة مادة للمعرفة النقدية، وليس فقط مصدراً للتربية والتأسيس وتهذيب الأخلاق”.[3]

نلحظ أنه عالج الموضوع من زاوية التداخل والتفاعل المتبادل بين المحورية الأخلاقية القرآنية من جهة، والمحورية الأخلاقية الخاصة بالعقل النقدي الذي لا يمكنه أن يخضع للاهوت التقليدي، من جهة أخرى. أعلن الخطاب القرآني الحقيقة المطلقة عن العالم والمخلوقات والتاريخ، مرسخاً بواسطة العمل التاريخي المحسوس للنبي ” هرمية مراتبية للقيم “، سبق أن أطلق عليها أركون التسمية الآتية: “النظرية الأخلاقية القرآنية“، أو “المحورية القيمية القرآنية” ( Axiologie coranique)، وذلك عن طريق استخدام الأساليب الأدبية والبلاغية كالقصص على سبيل المثال.

من هنا نجد أركون يتوقّف عند تحليل المعايير الحاسمة التي يستخدمها القرآن لكي يفصل بين أنواع السلوك الإيجابية التي تتوافق مع نظام قيمه، من جهة، وبين أنواع السلوك السلبية التي تهدم هذا النظام، من جهة أخرى، فيُحصي أربعة معايير هي:

  1. أسماء الله الحسنى
  2. الشهادة
  3. الأمة، المؤمنون
  4. الشرع، الأمر

ويشير إلى أن الترابط والتشابك المتين بين هذه المعايير يؤسّس المحورية الأخلاقية القرآنية ويؤطّرها، وذلك بهدف الحطّ من قِيم “المجتمع الجاهلي المتوحّش”، وإحلال قيم طائفة المؤمنين التي انخرطت في “التحالف الأبدي مع الله” كبديل عنها.[4]

المعيار الأول: أسماء الله الحسنى

قام أركون بالتوقّف عند كل معيار على حدة لكي يكشف كيفية تفاعله وتأثيره في التاريخ والمجتمع. بدأ بدرس المعيار الأول: أسماء الله الحسنى، لكي يشير إلى أن اله القرآن بخلاف اله الفلاسفة المتأثرين بأفلاطون هو اله حيّ وناشط وفاعل ينخرط في التاريخ، على علاقة دائمة بالمخلوقات. إنه الفاعل الأول المسيطر على تاريخ النجاة في الدنيا والآخرة. من هنا كان على كل مسلم أن ” يتلقّى الله بواسطة التجربة التاريخية للأمة ومن خلالها“. لذلك لم تعد الصفات المنسوبة لله مجرّد موضوعات للتأمل النظري، لا علاقة لها بالوجود المحسوس، “إنما هي عبارة عن المفردات والتعابير المطابقة التي ينبغي على الإنسان أن يستخدمها من أجل التكلّم عنه، والتوجّه إليه، ومن أجل شكره وطاعته لنعَمِه التي أسبغها على المؤمنين“.[5]

الله في القرآن لا يتجلّى فقط من خلال اللغة، إنما أيضاً من خلال الحركة الروحية والزمنية على نحوٍ متداخل لا ينفصم، وذلك بخلاف اله الفلاسفة الذين عزلوا الله فحصروه في الواحد الأمثل والنقي ببساطته العقليّة التأمّلية.

رأى أركون في صفات الله الآتية: الجبار، والمهيمن، والرحمن، والرحيم، والمريد، وكاشف الغيب، نقاط ارتكاز رئيسة يستند إليها الفكر “من أجل الإمساك بالكينونة“، ثم إنها تجعل الله هذا الكائن المطلق يخترق الإنسان المحدود. من هنا يصبح الخطاب القرآني خطاباً تكوينياً فاعلاً ومؤثراً، بتعبير آخر، إنه قادر على خلق المؤمن وصياغته طبقاً لتحديداته الخاصة في كل مرّة تتمّ تلاوته والتلفّظ بآياته.

نلحظ أن أركون قد أصرّ في هذا السياق على وظيفة المجاز المستخدم في الخطاب القرآني والدور الذي يلعبه في ابتكار المعنى، وترسيخ مادة رمزية خصبة تبدع المعنى بشكلٍ دائمٍ، ومن دون توقّف عند تفسيرٍ واحدٍ محدّد. من هنا نجده يلفت النظر إلى الصراعات والتوتّرات التي ألهَبت التفاسير الإسلامية بمختلف أنواعها: الصوفية، والكلامية، والفقهية، الأمر الذي يؤدّي إلى تجاوز التقابل الثنائي التاريخي بين أهل الظاهر وأهل الباطن. يقول:

” إن التركيبة المجازية للخطاب القرآني ليست فقط مجرّد تصعيد للواقع أو اعتلاء به، وليست أيضاً مجرّد حلية أدبية أو تزويق أسلوبي جذّاب يظلّ مع ذلك مادياً ومباشراً وذا دلالة معنوية. إنها ليست كلّ ذلك فقط كما أراد أن يوهمنا التفسير الإسلامي الكلاسيكي ( وخصوصاً تفسيرالفقهاء)، وإنما هي عبارة عن تحريكٍ للحياة والوجود بواسطة إمكانيات اللغة الجمالية والفنية “.[6]

هنا يكمن، في نظره، الفرق الأساس الذي يميّز الفيلسوف عن النبي، أي التأمّل الذهني عن اندفاع القلب، والفكر النخبوي عن التجربة المرتبطة بالعمل التاريخي المحسوس داخل الامة. يشير أركون إلى أنه من خلال حكاية سقوط آدم وعقد الإيمان، أو الميثاق تنجلي المعركة الأساس التي يخوضها الإنسان في حياته. هذه الحياة التي يجب أن تشهد باستمرار على نِعم الله، وتتميّز بالخضوع المطلق له، والطاعة لأوامره ونواهيه، والتفاني في عبادته. والطاعة هنا يُقصَد بها المعنى الأصلي والقرآني للكلمة، أي الإسلام، وليس الإسلام كما تبلور في القوانين الفقهية.

 المعيار الثاني: الشهادة

بدأ أركون بلفت الانتباه إلى أهمية الأذُن التي من شأنها أن تُصغي للكلام الموحى الذي تُليَ منذ البداية ليُسمع في لحظة الانبثاق الأولى. فاستخدام البصر والسمع يعني أن المرء شاهدٌ فعلاً على ما كان يجري، لذا يصبح بامكانه أن يُخَزِّن في وعيه الكلام والحركات، بالإضافة إلى العلاقات التي تربط الأشخاص والجماعات، والظروف المادية المحيطة بما يسمّيه أركونعملية الوحي“. الأمر الذي ينتج عنه حكماً اليقين والإيمان المطلق بالدعوة. يشير إلى أنه

“وحدهم أولئك الذين شهدوا التبليغ في لحظته الاولى يمكنهم أن يشكلّوا الشهادة الأصلية التي تولّد الاحساس نفسه باليقين ويحملونها كوديعة”.[7]

من هنا أشار أركون إلى أن الدور المحوري للشهادة يتجلّى في “شهادة الإيمان ذاتها“، وهي حظيت بقيمة الطقس أو الشعائر الدينية، إذ يكفي أن ينطقها الإنسان لكي يصير عضواً في جماعة يربطها عقد الإيمان فيصبح بذلك مسلماً. نجده قد لحظ من الناحية الألسنية أن استخدام ضمير المتكلّم المفرد “أشهدُ” يُلزم صاحب الشهادة شخصياً في عقد الإيمان الأوّلي المتجسّد في وعيه لكي تصبح كلّ أفكاره وهواجسه وأعماله منسجمة مع إسلامه، أي مع خضوعه وطاعته لكلام الله. لذا نراه يؤكّد في هذا السياق على أن الشهادة ترسّخ الوعي الفردي بصفته “حرية مطيعة ومشروطة“، أي أن المؤمن يحمل الشهادة بحرية لأنه استنبط بداهةَ ما يشهد عليه، وما هو مؤتمن عليه، في آن، من قِبل الكلام المطلق. لكن يجب التنبّه إلى أن هذه البداهة لن تترك للمؤمن حرية الاختيار بعد ذاك، ولا السير في الانحراف أو التخلّي عن الالتزام الأطولوجي الذي تبنّاه أبناء آدم، أي لا مجال للتراجع. لهذا السبب بالذات، استنتج أركون الخلاصة المهمّة الآتية:

نجد أن الاخلاق والسياسة والقانون تتداخل وتتشابك كلّها في ممارسة الاختيار المقيّد أو الحرية المستعبدة“.[8]

لذلك، وفق ما لحظ، يمكن الربط بين الشهادة والسلوك اليومي في المجتمع، إذ يصبح الوعي مسكوناً بالميثاق مكان ترسّخ الحق والنطق به. عندها ينطق المؤمن بالحق من وجهة الله المطلق وليس من وجهة الأمور الدنيوية العارضة والزائلة، وهذا أمر من المهمّ للغاية أن تتمّ الإشارة إليه.

بتعبير آخر، عندما ينخرط المؤمن في ساحة القتال، أو يقرأ حديثاً من أحاديث الرسول، أو يشهد في المحكمة أمام القاضي، فهو يقوم بتأدية الشهادة عينها، أي أنه يجسّد الحق على نحوٍ كاملٍ في الحياة الدنيا. ويؤكّد أركون في هذا السياق على أن الشهادة في هذا المفهوم مرتبطةٌ بشكلٍ وثيق بأسماء الله وبالعصبية الروحية التي تجمع بين مختلف أبناء الأمة، وهي تشكّل سلوكيّة الوعي الإسلامي الفريدة من نوعها. ويضيف أنه

“على هذا الصعيد بالذات تتموضع القطيعة الفاصلة بين الرؤيا الأنطولوجية والأخلاقية للإسلام، وبين الرؤيا الفلسفية”.[9]

ولكن على الرغم من  ضخامة الخلافات بين مدارس الفكر الإسلامي في القرون الوسطى، فإنها، حسب أركون، لم تؤثّر على الخلاف الكبير والقطيعة الأكبر التي حصلت بين الثقافات المؤسّسة على التراث الشفهي والثقافات المؤسّسة على العقل الكتابي، والتي من شأنها أن توجّه الكثير من السلوكات والمعتقدات في آن معاً. هذا الصراع كان من شأنه أن يغير في شروط ممارسة العقل وأشكال المعرفة، فالعقل المبني على التعبير الشفهي لا غير، له ما يميّزه عن العقل الذي تكوّن انطلاقاً من تأثير المطابع. أما اليوم ومع انتشار الثقافة السمعية البصرية، فالتغيّر حاصلٌ لا محالة في شروط ممارسة العقل وأشكال المعرفة أيضاً. تبقى الاشارة في هذا السياق إلى ملاحظة دقيقة أوردها أركون مفادها أن

” القيمة الأساسية للشهادة الشفهية استمرّت في فرض نفسها في المجال الإسلامي، لأن الدولة الرسمية بكل ثقافتها الكتابية الفصحى والحواضر الأساسية المرتبطة بها لم تستطع أن تقضي على تلك القطاعات الواسعة من المجتمع التي استمرّت في الخضوع للثقافة الشفهية (كالأرياف والأمصار البعيدة والجبال…)”.[10]

هذه الإشارة المهمّة إلى دور الثقافة الشعبية الشفهية من شأنها أن تشير إلى حال التوتر الدائم بين الدولة بأجهزتها الرسمية وبين القبائل والعشائر البعيدة بخاصة على الصعيدين الأخلاقي والسياسي. إن “المجتمع المدجّن” الذي خضع لرقابة الدولة الرسمية قام بتطوير قانون توحيدي خاص ومنتظم، فوُضع بذلك علم الأخلاق إما تحت سيطرة المحورية الأخلاقية القرآنية، أو تحت سيطرة المحورية الأخلاقية الفلسفية. هذا في حين أنه في المجتمع المتوحّش الذي يُطلق عليه القرآن صفة الجاهلي نجد أنماطاً متعدّدة من القوانين العُرفية والأخلاقية بعدد القبائل والفئات الاجتماعية المعزولة والمتنافسة في ما بينها.

تجدر الإشارة في هذا السياق إلى استفادة أركون من مناهج علوم الإنسان التي طوّرها الغرب، وبخاصة الأنتروبولوجيا، وإلى كيفية توظيفها في عملية تفكيك وفهم التشابك بين الأخلاق والسياسة، كما بين الروحي والزمني، في المجتمعات العربية الإسلامية.

من الملفت أن القرآن كان قد استوعب، برأي أركون، واستعاد عدداً من القيم الأخلاقية وحتى العقائد الإيمانية والشعائر التي كانت سائدة سابقاً، على الرغم من رفض وثنية المجتمع بكل تجليّاتها. نجده يذكر هنا على سبيل المثال فريضة الحج. بيّن كيف أن القرآن قد

“أسبغ على هذه الاستعارات والإلحاقات رداءه، وخلع عليها أنواره ومشروعيته الاخلاقية. وعلى الرغم من ذلك فلم ينته هذا الصراع أبداً على مدار التاريخ وحتى اليوم، لأن جذوره الأنتروبولوجية لم تنل منها، ولم تمحُها استراتيجية القرآن النضالية وتجربة المدينة. وقد أصبح هذا التضاد الصراعي أكثر عنفاً وقوة عندما حلّت الظاهرة الإسلامية التي تُمسِك بها الدولة الرسمية، محلّ الظاهرة القرآنية، وذلك بدءاً من العصر الأموي”.[11]

المعيار الثالث: الأمة

يشير أركون بداية إلى أن لفظة الأمة قد شُحنت بدلالات معنوية لا تعود كلّها بالضرورة إلى زمن القرآن، بل إلى العصور اللاحقة. قام المعنى اللاهوتي والفقهي بحجب المعنى القرآني مما زاد الأمر صعوبة في بلوغ الهدف، لذا نجده قد توجّه نحو صحيفة المدينة باعتبارها وثيقة نادرة وهامة، تعود بتاريخها إلى زمن القرآن، وهي بإمكانها أن تُسهم في الكشف عن معنى الأمة. لقد أكّد على أن كلمة الأمة مثل كلمة الإسلام جاءت نتيجة عملية مزدوجة، هناك، أوّلاً، العمل التاريخي المحسوس للنبي الذي تمكّن بمساعدة مجموعة صغيرة من تلامذته، أن يوسّع تباعاً من تحالفاته ومن دائرة نفوذه ليؤسّس “اتحاداً فيديرالياً” يتخطّى القبيلة ويتمركز سياسياً في المدينة. وهناك، ثانياً، الدور الذي لعبة المنطق القرآني أو الخطاب القرآني في عمق هذه التشكيلة الاجتماعية السياسية الحديثة عندما خلق وعياً خاصاً بهذه الجماعة من ناحية رسالتها الدينية التي تتجاوز التاريخ وتخترقه في آن.

“هكذا نجد أن الأمة تشكّل جزءاً لا يتجزأ من المحورية الأخلاقية القرآنية، لأنها تمثل التجسيد التاريخي المحسوس للسلطة التي رسّخت المنطق القرآني”.[12]

أصرّ أركون على البحث عن المعنى التزامني للفظة الأمة، فوجد أنه عندما كان النبي يقوم بالتحالفات القبلية المعروفة في المجتمع العربي البدوي من أجل تأسيس قاعدة لوحدة اجتماعية تتجاوز القبيلة، كان القرآن ينفخ فيها روح الوعي والعقل، مقدّماً للأمة إطاراً فكرياً ونظاماً قيمياً يجعل من المؤمنين قوماً مميّزين. لكن الكلمات المستخدمة في القرآن للدلالة على الجماعة الأولى، وهي: الأمة، أو القوم، أو المؤمنين، كانت تدلّ على مجموعة بشرية محدودة العدد زمن النبي، وهي تشير بخاصة إلى أولئك الذين قبلوا أن يطيعوا الله والرسول، والذين قبلوا بمحمد زعيماً وقائداً سياسياً. إن المعنى اللاهوتي والإيماني للأمّة لم يتحقّق بالنسبة إلى أركون إلا لاحقاً.

نلحظ أنه توقّف تالياً عند إبراز العمليات الأسلوبية والبلاغية التي قام بها القرآن من أجل تصعيد الخطاب وتعميمه والتعالي به فوق الأحداث المحدّدة، والمعالم المحسوسة، والإشارات التاريخية الدقيقة. لقد تمّ إسباغ الروحانية الدينية والكونية على مفردات لها مضمون اجتماعيّ وسياسيّ وقانونيّ في الأصل. الأمر الذي أدّى فعلاً إلى محوِ كلّ التفاصيل والدقائق التاريخية للأحداث، وارتقى الخطاب إلى المستوى الكوني الموجّه إلى البشر في كل زمان ومكان. يلحظ أركون أن هذه العملية أفقدت الخطاب القرآني تاريخيته، فبدا وكأنه خارج التاريخ أو يعلو عليه، مما يسمح بتأويله وتحيينه وجعله فاعلاً يوجّه أدقّ السلوكات السياسية والاجتماعية.

لقد أوضح في هذا السياق أن القرآن قد توصّل إلى تشكيل وعي الأمة بواسطة الأوامر والدعوات وضرب الأمثلة والتحذيرات. ” فعندما تستبطن هذه الأخيرة – أيّ الأمّة – القيم وأنواع السلوك التي يقترحها عليها الله، فإنها تصبح وكيلة الله في العمل المخلص للبشر. ( على هذا النحو فَهِم المسلمون، لاحقاً، نجاحاتهم في الفتوحات أو، استرجاع المناطق الداخلة في الإسلام، فلأنهم أطاعوا الله فقد وهبهم كلّ هذه الأراضي الشاسعة الواسعة). وعلى هذا النحو فسّروا سبب الهزائم التي حصلت مؤخراً، كهزيمة 5 حزيران فقالوا: لقد تخلّينا عن الدين فتخلّى الله عنا “. [13]

لكن عاد أركون ليسأل باحثاً عن نسبة المسلمين الذين انخرطوا فعلياً في تعاليم القرآن ومارسوا القيم التي بثّها شهادةً لله، وليس في سبيل تحقيق مصالح سياسيّة واقتصادية للعائلة أو للعشيرة التي ينتمي إليها. وتأكيداً على ذلك يُلفت الانتباه إلى أن القرآن يتحدّث علناً وبلهجة التوبيخ عن أولئك الذين تقاعسوا عن الجهاد فاختاروا خدمة عصبيّاتهم فامتنعوا عن مقاتلة أخٍ أو قريبٍ في الجهّة المعادية. هكذا انغرس وعيُ الأمّة، بالنسبة إليه، في الإطار الزمكاني المقدس، فحاولت أن تجسّده في تاريخها الخاص. من هنا استمرّت الأمّة، حسب رأي أركون، في التعلّق بالمحورية الأخلاقية القرآنية حتى ظهور “الأمة القومية الحديثة” التي ترتكز على المعنى العلماني الحديث:Etat-Nation

لكن ذلك لا يجب أن ينسينا ما سبق أن أشار إليه أركون في

” أن الأمة الناتجة عن الخطاب القرآني وتجربة المدينة قد أصبحت بظهور العلماء (الفقهاء) الذروة العليا للسيادة الدينية والمشروعية التي ارتدّت في بعض الأحيان على الخليفة ذاته وعارضته في ما يخصّ بعض شؤون العقيدة” (مثلا محنة ابن حنبل).[14]

بيّن أركون في تحليله أن القرآن سبق أن كلّف الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي بترسيخ وتأبيد النظام الذي أراده الله. من هنا أصبح ما يبرّر حكم الخليفة-الإمام يكمن في رعاية كيفية تطبيق هذا الأمر والتحقّق من تمامه. لذا، جاء كان الكلام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ملحقاً باستمرار بالكلام على الإمامة في الأدبيات اللاهوتية، حيث التعاليم الأخلاقية التي تطبع العقلية الجماعية للمسلمين من خلال خطبة الجمعة وفي التعاليم التربوية. إن هذا الأمر قد أسهم في نظر أركون بترسيخ النظام الالهي في الحياة الدنيا، ورسم بالتالي الدور الأساس الذي يجب أن تقوم به الأمة قبل تشظّيها إلى قوميات مختلفة ومتناحرة في ما بينها.

المعيار الرابع: القانون أو الامر

بدأ أركون بالإشارة أوّلاً إلى أن القرآن لا يستخدم كلمة شرع التي أصبحت تعني لاحقاً القانون الالهي، وأشار إلى أن لفظة الشريعة واردة مرّة واحدة في القرآن وهي تعني السبيل أو الطريق مع ربطها بكلمة أمر. جاء في سورة الجاثية الآية 17 ما يلي: “ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتَّبِعها ولا تتّبع أهواء الذين لا يعملون”. والأمر، بالنسبة إليه، يفيد هنا “النظام ومجمل الوصايا والإيعازات الصادرة عن سيادة عليا مستقلة ومشروعية مطلقة“. كما أن القرآن غالباً ما يستخدم الفعل في صيغة الأمر، إذ أن الله يمارس سلطته بالكامل على النبي كما على الأنبياء السابقين، ويمارسها على كل البشر من مؤمنين ومعارضين بواسطة النبي محمد. انطلاقاً مما تقدّم أوضح أركون ما توصّل إليه مشيراً إلى أن

” الوحي القرآني كلّه يمارس فعله كقانونٍ ضخم، وكأمرٍ لا يُناقش ولا يُرَد لأنه خيرٌ ومتعالٍ. ولهذا السبب فإن الفقهاء والمشرّعين الذين سيبلورون القانون الديني، اعتماداً على الأمر، سوف يقولون بأن السلطة التشريعية لا تنتمي الا لله. وعلى هذا فإن الفقهاء من مؤسّسي المدارس والمذاهب لم يقوموا الا بجهدٍ عقليّ بسيطٍ لكي يستنبطوا الأحكام من أوامر الله ونواهيه. إن مهمّتهم هي مهمّة استنباط لا أكثر ولا أقل “.[15]

إن هذا الكلام من شأنه أن يسلّط الضوء على مكمن الأصول الأخلاقية في القانون الإسلامي، إنه القرآن، لذلك كانت الأمة ملزمة بتطبيقه والالتزام بأوامره ونواهيه. كذلك هناك أيضاً عملية رئيسة يشير إليها أركون في هذا السياق، إنها محاولة تطبيق كليّة النص القرآني والأحاديث النبوية ضمن ما بات يُعرف بأصول الفقه، الأمر الذي أبرز بوضوحٍ أثر المحورية الأخلاقية القرآنية على النفوس وعلى غزارة إنتاجيتها النفسية والثقافية.

نجده لا يهتمّ  في تقييم المنهجيّات المستخدمة في علم أصول الفقه، إنما ينشغل في تبيان مدى الحرص الذي تفصح عنه هذه المنهجية في إطاعة القانون الالهي والخضوع له. لذا يلحظ أنه عندما وضع الفقهاء تراتبية هرمية لمصادر القانون على الشكل التالي: القرآن، الحديث، الإجماع، القياس، كانوا يهدفون إلى إخضاع كلّ مصادر التشريع الأخرى للقرآن نفسه. وأوضح ذلك عندما أشار إلى أن العبارة الشهيرة: “لا حكم إلا لله” ليست محصورة بمعارضة الخوارج فقط، إنما تجسّد “مقولة الإيمان الأولى” عند كلّ المسلمين، فهي تمنع بوضوح “أي حكم شرعي من دخول كتب الفقه والقانون إذا لم يتمّ التأكّد من توافقه مع القانون القرآني الأعلى”.[16]

يلفت أركون الانتباه إلى أن القانون الديني باعتباره محوراً من محاور التعاليم القرآنية تمكّن من التوسّع أيضاً في مجال الصوفية ومجال الأخلاق المتعلّق بآداب السلوك. لقد كان الصراع محتدماً بين الفقهاء الذين التزموا بتطبيق الشريعة حرفياً وبين المتصوّفة الذين حاولوا التحرّر منها، هذا الأمر كان صحيحاً على مستوى القانون الديني المُعاش باعتباره تطبيقاً للقضاء والعقوبات الدنيوية. لكن الأمر سيختلف على صعيد القانون الديني باعتباره تبياناً عن إرادة الله ونظامه في خلقه، إذ بيّن، حسب رأيه، أن الصوفية هم أيضاً قد ذهبوا بعيداً جداً في استبطان روح الأوامر والنواهي الالهية، عندما أضافوا إليها بُعداً جديداً هو الحب المثالي المطلق. كما لحظ، في هذا السياق، أن أهل التصوّف ركّزوا على بعض صفات الله من دون غيرها، كصفة المحبة مثلاً، وأعطوها أهميةً مطلقة. لذا نراهم قد تمكّنوا من أن يوضحوا المضامين التلميحية والإشارات الخاطفة التي توحي بها الآيات القرآنية، معتمدين على منهجيّتهم الروحيّة ولغتهم التقنيّة. لقد برهن المتصوّفة على أن هذه الآيات لا يمكن استنفادها بواسطة منهجيّة التفسير النحوي واللفظي والبلاغي كما حاول أن يوهمنا بذلك الفقهاء والأصوليون، مصرّين على أن الكلام الالهي الذي ينصّ على القانون الأكبر يمكن أن يُفسّر بصيغة أخرى ومنهجية مغايرة انطلاقاً من التدريبات الروحية والمسار الصوفي.

أما على صعيد الأخلاق وآداب السلوك فيرى أركون أن الحرص على اتّباع القانون الديني الأعلى قد ظهر بوضوح من خلال المناقشات التي دارت حول مكانة العقل البشري. ويستشهد بما حدث في هذا الخصوص بين المعتزلة والأشاعرة. فالمعتزلة سبق أن اعتبروا أن الأفعال البشرية تخضع كما أفعال الله للتقييم الأخلاقي إذا أخذنا بالاعتبار مرجعية الشروط الداخلية والخارجية لإنتاجها أو توليدها، لأن الله، بالنسبة إليهم، قد زوّد البشر بمعرفة داخلية تمنحهم القدرة على تمييز الخير من الشر. من هنا أصبح مفهوم القانون الديني مطبّقاً من قبل الإنسان العاقل والمسؤول عن أفعاله. كذلك، كان هناك أيضاً في الجهة المقابلة الموقف الأشعري الذي أراد المحافظة على “الأولوية الأنطولوجية” لقدرة الله وجبروته. نلحظ ذلك على وجه الخصوص عندما جعل الأشاعرة الأحكام الخُلقية المتعلّقة بالافعال لا تستمدّ شرعيتها إلا من كلام الله، بعيداً عن الأفعال وصفاتها.

ما يهمّ أركون في هذا الإطار يكمن في التوقّف عند أنماط تلقّي القانون الديني كما نصّ عليه القرآن من قبل مختلف الفئات، وذلك أكثر من التوقّف عند تفاصيل الخلافات بحدّ ذاتها التي سيطرت على الفِرَق المتنافسة. ثم إن أنماط التلقّي هذه تعيد، برأيه، كتابة القرآن أو فهمه طبقاً لإدراكات وتحديدات مختلفة وهي متأثّرة في كلّ حالة معيّنة بالثقافة السائدة، وبالمجادلات الفكرية المحيطة بكل بيئة تاريخية. لذا نجده ينهمّ بكيفية المرور والانتقال من مستوى المحورية القرآنية إلى النظام العقيدي المعتزلي أو الأشعري المرتبط بالشروط التاريخية التي تتحكّم بإنتاجه. يعتقد بـ “أن الديالكتيك الكائن بين الأخلاقية القرآنية والتاريخ يمثّل فصلاً من فصول تاريخ الفكر العربي الإسلامي” الذي لم يُدرس كما يجب، من أجل التمكّن من فهم ” المكانة المعرفية لكلّ أخلاقية موضوعة على محكّ التاريخ“.[17]

وفي كلامه على الموقف الأشعري، يعرّج أركون على ابن حنبل لكي يشير إلى أهمية ما زرعه في نفوس الأغلبية في الإسلام من ضرورة تلقّي الكلام الالهي بلا كيف، فيقول: ” الأسوأ من ذلك هو أنه بعد الأشعري وتلامذته المباشرين كالباقلاني والجويني والغزالي… راح هذا الموقف يُستعاد ضمن إطار الفكر السكولاستيكي الاتّباعي، وتجمّد وتخشّب وفقد حيويته الأولى لأنه أصبح لا علاقة له بالتوتّر التاريخي الخلّاق الذي ميّز المرحلة الأولى (المرحلة الكلاسيكية). أقصد مرحلة الفقيه المؤسّس الذي قام بجهد شخصيّ للإبداع العقائدي: أي قام بالاجتهاد، في حين أن تابعيه في المرحلة السكولاستيكية اكتفوا بالتقليد والتكرار”. [18]

ملاحظات قبل الختام:

إن توقّف محمد أركون بداية عند المعايير الأربعة الحاسمة التي يرسم القرآن بواسطتها الحدود الفاصلة بين السلوك الإيجابي والسلوك السلبي المخالف لنظام قيمه، وهي: أسماء الله الحسنى، والشهادة، والأمة-المؤمنون، والشرع-الأمر، ومن ثم غوصه في دراسة الرؤى الأخلاقية والسياسية للإسلام، يشكّلان خطوتين منهجيتين قد أبرزتا الحاجة إلى إعادة التفكير في تراث هذا الفكر بدءاً من جذوره.

لقد ركّز بقوّة على الصراع والتنافس بين رؤيتين نتجتا عن كيانين مختلفين ومتمايزين هما: النظرة الإسلامية المرتكزة على القاعدة الأخلاقية القرآنية وتجربة المدينة، من جهة، والنظرة الفلسفية التي تجمع بين الموروث الفلسفي الأفلاطوني والأرسطي والأفلوطيني، من جهة أخرى. وبما أن الفلاسفة لم يرفضوا بشكلٍ صريحٍ النظرة الإسلامية بل دمجوها في رؤاهم الخاصة، وبما أن الرؤى الحالية في أرض الإسلام تستعيدُ الثوابت الأرثوذكسية التي تشكّلت سابقاً وتكرّرها كما هي، فإننا نجد أركون يصوّب مطرقة النقد نحو هذه الأخيرة بهدف إعادة التفكير في الإسلام اليوم. نراه يعلن

” أنه منذ لحظة ابن رشد وابن خلدون لم تحصل في أرض الإسلام أية بادرة عقلية، للتفكير ولو جزئياً، بالمشاكل التي يطرحها الإسلام بصفته نموذجاً معيارياً أعلى للوجود: إن كتب ومؤلّفات المسلمين، منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم، لا تفعل إلا أن تؤكّد على صحة هذا النموذج المعياري وصلاحياته وعلى أصله الالهي وتفوّقه الكوني على كل ما عداه من أديان. وهذا ما يؤدّي إلى استغلاله من قبل الحركات السياسية على الصعيد الإيديولوجي المحض. ويؤجَّل بذلك خطّ البحث النقدي المتحرّر والمحرِّر “.[19]

نلحظ بوضوح كم أن أركون مسكون بالهمّ النقدي، ليس بهدف النقد وحسب، إنما في سبيل التعرية والكشف عن مكامن الخلل التي لم يعد جائزاً التغاضي عنها، لأن المخاطر تتفاقم إلى حدٍّ لم يعد سهلاً معه الخروج من المآزق المتراكمة جيلاً بعد جيل. من هنا جاءت دعوته إلى التمييز بين الأخلاقية القرآنية، من جهة، وبين الآيات المستشهد بها في المناسبات المتغايرة، من جهة أخرى، وذلك من أجل أن يتمّ قياس مدى الفقر الفكري والبؤس الثقافي للقراءات التلفيقية والتوفيقية المنتشرة بكثرة اليوم تحت شعار الإسلام. يقصد أركون بهذه القراءات تلك التي تبرهن بنظرة مختزلة على أن القرآن قد اخترع مسبقاً كلّ المفاهيم الخاصة بالعصر الحديث بما فيها الذرة، وحقوق الإنسان، ومكانة المرأة، وحتى الإشتراكية. انتقد بشدّة العقلية السائدة بتفوّق المفاهيم السياسية والاقتصادية الإسلامية على النظم الغربية، فيذكر على سبيل المثال مقطعاً للرئيس جمال عبد الناصر عندما كان في ذروة مجده الإيديولوجي يقول فيه ما يأتي:

“إن الثورة التي أعلناها في 23 يوليو عام 1952 في مصر تحمِل الهدف نفسه الذي أعلنه الإسلام في بدايته. ينبغي تحرير الفرد من العبودية والإقطاع والقمع الرأسمالي. إن الحرية الوطنية مشروطة بالمساواة والإخاء بين البشر. وهما يشكّلان قاعدة الاشتراكية الاقتصادية. إن أوّل دين دعا البشر الى الاشتراكية كان هو الإسلام، ومحمد هو إمام الاشتراكية “.[20]

يبقى أن نختم ببعض الخطوات النقدية التي يمكن أن نستخلصها من النص الأركوني الذي هو في الأصل نص يحمل طرحاً منهجياً نقدياً، ومقاربة تحمل في طياتها مطرقة تهدم المسلّمات والبداهات والتلفيقات التي اعتاد عليها الخطاب السائد منذ زمن على ساحة الفكر الإسلامي.

خاتمة: نحو خطوات نقدية عملية

يمكن أن نلحظ إصرار أركون على السعي الدؤوب نحو استقلالية الساحة العقلية والثقافية التي كان قد عرفها الفكر الإسلامي في الحقبة الكلاسيكية الذهبية بالقياس إلى الساحة الإيديولوجية والسياسية، وذلك عن طريق التخلّي عن المماحكات الجدالية، والتصريحات التبجيلية، واستبدالها بإعادة التفكير الجذري بمجمل المسائل المتعلّقة بالخطابات الإيديولوجية الشائعة حالياً، وفق منظورٍ “معرفيّ منفتح على الظاهرة الدينية” بشكل عام، ورفض التقوقع داخل دين واحد، لكي يُصار في ما بعد إلى الخروج منهجيّاً ومفهوميّاً من السياج الاتّباعي القروسطي الذي وضعه التراث اللاهوتي. لذا، وانطلاقاً مما تقدّم، يمكن تلخيص الخطوات النقدية التي يزخر بها كتاب “الإسلام، الأخلاق، والسياسة” بثماني نقاط :

  • يجب، من وراء التركيبات العقيدية لأصول الدين وأصول الفقه، استخلاص ما يأتي: توجد في ما وراء الآيات القرآنية وتعاليم تجربة المدينة نواة فريدة من المعاني والدلالات، لا يجوز التغاضي عنها والاكتفاء فقط بما يقدّمه علماء الدين من تفسيرات.
  • من الضروري أن تؤخذ بالاعتبار كلّ المنتوجات العقيدية والتجارب الدينية المتفرّعة عن التجربة التأسيسية، والتي تمثّلت بالمذاهب والمدارس والطوائف على تعدّدها، لكونها محاولات لتجسيد الأخلاقية القرآنية في التاريخ البشري المحسوس.
  • الخروج مرة واحدة وإلى الأبد من إطار الأدبيات البدعوية الموروثة.
  • من الأفضل أن يتمّ تقويم الطوائف والمذاهب بالقياس إلى مقاصد الأخلاقية القرآنية، من جهة، ثم بالقياس إلى إكراهات وحتميات كلّ منعطفٍ تاريخيّ، وكلّ وسطٍ اجتماعيّ ثقافيّ، من جهة أخرى.
  • من الضروري موضعة الأخلاقية القرآنية بالقياس إلى الشروط النقدية لكل إنتاج معرفي، باعتبار أن الخطاب الديني ليس إلا إنتاجاً معرفياً من ضمن منتوجات أخرى وخطابات أخرى مختلفة.
  • وضع حدّ للامتيازات اللاهوتية التي خلعتها على نفسها بعض الفئات سابقاً باسم الدين الصحيح، أو الإسلام الصحيح الذي ينفي ما عداه، ويرميه في ساحة الخطأ والضلال والزندقة.
  • ضرورة الانتقال من مرحلة التفكير اللاهوتي العقيدي إلى مرحلة البحث العلمي المنفتح على دراسة تجسيدات وفتوحات الأخلاقية القرآنية داخل مجرى الزمن التاريخي الأرضي، وليس داخل مجرى الزمكان المقدس والمقدِّس للمتخيّل الديني، كما لا يزال يفعل المسلمون اليوم.
  • إعادة الاعتبار للمنظور المعرفي الذي أسّسه فلاسفة العرب والمسلمين، ثم فرض النقد الفلسفي داخل نطاق الفكر العربي الإسلامي من جديد.

يبقى أن نشير ختاماً إلى أن غياب الهمّ الأخلاقي والفكر الأخلاقي قد ترك، حسب أركون، الساحة شاغرة أمام اتباع الحركات الإيديولوجية الذين يدعون إلى تطبيق الشريعة كما هي، بحرفيّتها، باعتبارها قد حُدّدت وفقاً للمبادئ الأخلاقية والدينية للقرآن والسنة. لقد نتج عن هذا الغياب انتشار الايديولوجيا الطوباوية الوردية التي بإمكانها تحريك الجماهير في سبيل ردّ هجمة الغرب والوقوف سدّاً في وجه التحدّيات التي أوجدها.

لذا اخترت أن أختم بالنقد الذي وجّهه أركون الى النهج المتّبع من قبل الحركات الإسلامية كما إلى خطاباتها المعبّئة للجماهير، إذ يجدها تتحرّك ضمن ازدواجية فاضحة تفصل بين الشعارات المطلَقة وبين حقيقة الفعل والواقع، كما أنها تحقّق قطيعة بين الدعوة القرآنية وما تتضمّنه من تعالٍ وتنزيه وبين الممارسات السياسية الضيّقة باسم الإسلام، فيقول: ” إن هذه الحركات السياسيّة إذ ألقت على كاهل الإسلام مسؤولية كلّ الأعمال المنقذة والمخلّصة للشعب من همومه وآلامه، قد خلقت نوعاً من الأقنوم الضخم الذي أنساها حتى الله مؤلّف هذا الدين، بحسب المنظور الأكثر أرثوذكسية. وقد اختفى علم التيولوجيات والالهيات من الساحة الثقافية الإسلامية كما اختفى علم الاخلاق والفلسفة السياسية. لقد انقرض العلم والعقل والفكر الحر. (…) إن هذا الإسلام التاريخي السياسي قد أساء إلى فكرة التعالي والتنزيه التي دشّنها القرآن في اللغة العربية، والتي تجلّت على مدار التاريخ في شخصيات روحية ذات ورع وزهد كبيرين. والواقع أن التحليل الدقيق يبيّن لنا أن هذا الإسلام الأقنومي ليس هو في نهاية المطاف إلا خطاب الملجأ والملاذ، خطاب المأوى والمخبأ، خطاب الحجة والتعلّة، خطاب الوسيلة والعذر لتاريخ معقّد مليء بالمشاكل والآلام ” .[21]

نسأل في الأخير إلى متى ستبقى هذه المشاريع النقدية أسيرة دفتي الكتب، وجدران القاعات المغلقة، والحلقات الفكرية الخجولة، في حين تحتلّ شاشات البث المباشر، وبلا رادع، نماذج تحوير المعنى وتشويه الحقائق؟

 

المراجع:

[1] – محمد أركون، الإسلام، الأخلاق، والسياسة، بيروت، مركز الانماء القومي، ط1، 1990، ص 71

[2] – محمد أركون، الإسلام، الأخلاق، والسياسة، م.س. ص 22.

[3] – محمد أركون، الإسلام الأخلاق والسياسة، م.س. ص 22.

[4] – محمد أركون، الإسلام، الأخلاق، والسياسة، م.س. ص 23.

[5] – محمد أركون، الإسلام، الأخلاق، والسياسة، م.س. ص 23.

[6] – محمد أركون، الإسلام، الأخلاق، والسياسة، م.س. ص 25.

[7] – محمد أركون، الإسلام، الأخلاق، والسياسة، م.س. ص 27.

[8] – محمد أركون، الإسلام، الأخلاق، والسياسة، م.س. ص 28.

[9] – محمد أركون، الإسلام، الأخلاق، والسياسة، م.س. ص 28.

[10] – محمد أركون، الإسلام، الأخلاق، والسياسة، م.س. ص 28.

[11] – محمد أركون، الإسلام، الأخلاق، والسياسة، م.س. ص 29.

[12] – محمد أركون، الإسلام، الأخلاق، والسياسة، م.س. ص 30.

[13] – محمد اركون، الإسلام، الأخلاق، والسياسة، م.س. ص 32.

[14] – محمد أركون، الإسلام، الأخلاق، والسياسة، م.س. ص 33.

[15] – محمد أركون، الإسلام، الأخلاق، والسياسة، م.س. ص 34.

[16] – محمد أركون، الإسلام، الأخلاق، والسياسة، م.س. ص 34.

[17] – محمد أركون، الإسلام، الأخلاق، والسياسة، م.س. ص 36.

[18] – محمد أركون، الإسلام، الأخلاق، والسياسة، م.س. ص 37.

[19] – محمد أركون، الإسلام، الأخلاق، والسياسة، م.س. ص 171-172.

[20] – محمد أركون، الإسلام، الأخلاق، والسياسة، م.س. ص 38.

[21] – محمد اركون، الإسلام، الأخلاق، والسياسة، م.س. ص 168.

إقتباسات

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete