هو النعمان بن ثابت بن زوطى الكوفي.. اختلفت المصادر في أصله ، فيقال أنه من أبناء الفرس , وهناك من يقول أن أصوله ترجع إلى كابل بأفغانستان، وهناك من يرجحون أنه ينحدر من عرب الأنباط الذين سكنوا العراق قبل الإسلام.
و أبو حنيفة كنيته الشخصية ,أما كنيته البنوية (أبو حماد ) وهو ابنه الأكبر واشتهر بالفقه كوالده.. ولد أبو حنيفة عام80هجرية في الكوفة ونشأ فيها .. توفر على طلب العلم منذ صباه, وكان يقسم وقته بين هذا التوفر وبين بيع الخز وهو صنف من أصناف الحرير, وربما كان ذلك سبباً في تميز ملكته الفقهية في المعاملات فيما بعد..وبعد أن اكتملت لأبي حنيفة أداة العلم جلس للتدريس والإفتاء و وجه معظم اهتمامه إلى الفقه وتخصص فيه ليصبح صاحب مدرسة متميزة و واحداً من أعلام الفقه في جميع الأجيال ,و صار “المذهب الحنفي ” هو الأوسع انتشاراً بين المسلمين المنتشرين في جميع أنحاء العالم , وكان هو المذهب المتبع في الإمبراطورية العثمانية.
وقد تتلمذ أبو حنيفة فقهيا على يد أستاذه حماد بن أبى سليمان فقيه العراق الذي قد تتلمذ على يد الفقيه الكبير إبراهيم النخعي.. و قد وصف الذهبي في ( سير أعلام النبلاء) حماد بأنه أهم تلاميذ النخعي و أنه صاحب نبل وفقه و براعة في القياس و مقدرة فذة في المناظرة و بصيرة في الرأي.
وبحاسته الدقيقة استشعر حماد نبوغ أبي حنيفة ،لما لمسه فيه من ذكاء وسرعة حفظ وسلامة تفكير و قدرة على النقاش و إثارة الأسئلة و الاستفسارات، و تقريبا كان ينازع أستاذه النظر في كل قضية و لا يستقبل فكرة دون أن يعرضها على عقله الناقد البصير ، و يُحسب لحماد تشجعيه المستمر لتلميذه أبي حنيفة على التفكير و الاجتهاد والاستقلال بالرأي، فلم تضايقه مشاغباته المشروعة في كثرة الأسئلة و الاستفهامات و البحث عن الأدلة المقنعة وما قد يصاحب ذلك من تعب و إرهاق و ربما إحراج للفقيه الأستاذ.
كل هذه التفاصيل تعكس لنا مدى ما تمتع به أبو حنيفة من عقلية نقدية فاحصة و مستقلة و قادرة على الإبداع و الاستقلال الفكري و الفقهي..
في كتابه (الآثار) يسجل لنا محمد بن الحسن الشيباني مجموعة من الاختيارات الفقهية التي استقل فيها أبو حنيفة بالرأي عن حماد وشيخه إبراهيم النخعي.. فعلى سبيل المثال يرى النخعي أن من قال لامرأته: “أنت عليَّ حرام.” ونوى بذلك الطلاق، كانت طلقة واحدة رجعية، أما أبو حنيفة فيرى أن الأمر يكون على ما نوى واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا، وإن نوى الكذب فليس بشيء.
وإذا سرق رجل وقُطعت يده جزاء ما اقترف، هل يضمن المال الذي سرقه؟ يرى النخعي أنه يضمن. في حين يرى أبو حنيفة أنه لا يضمن, إلا أن يوجد المال المسروق بعينه فهنا يُرَد لصاحبه.
وإذا عدنا إلى زمان أبى حنيفة وجدنا أنه كانت هناك فئتان من الفقهاء, أهل الحديث وأهل الرأي .. وكان أبو حنيفة خريج المدرسة الثانية التي سيصبح بعد فترة قصيرة زعيمها بلا منازع .. لذلك قد يكون مفهوماً أن نكتشف أن أكثر الذين عادوا أبا حنيفة من أصحاب مدرسة الحديث وهذا منطق أشياء فمنهجه غير منهجهم , وهو متشدد فى قبول الروايات بشكل لم يألفوه ، فضلا عن عرضه للروايات على العقل .. وقد أحصى عليه أهل الحديث أنه أفتى بنحو مائتي مسألة خالف فيها الحديث منها : قال النبي “الفرس سهمان وللرجل سهم ” فقال أبو حنيفة “أنا لا أجعل سهم بهيمة أكثر من سهم المؤمن .
وقال(صلى الله عليه وسلم) :” البيعان بالخيار ما لم يتفرقا” ..فقال أبو حنيفة :” إذا وجب البيع فلا خيار “.
وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقرع بين نسائه إذا أراد أن يخرج في سفر , أما أبو حنيفة فقد قال : القرعة قمار.
وواضح في هذا كله , أن الشروط الدقيقة التي اشترطها في الأخذ بالحديث قد خالفت أنظاره وأنظارهم .. وجعلت الحديث يصح عندهم ولا يصح عنده .. فإذا استعمل القياس لأن الحديث لم يصح عنده , اتهموه بأنه يقدم رأيه على الحديث.
و الحقيقة أن المرجعية العليا لمذهب الإمام أبي حنيفة هي أحكام القرآن أولا و السنة ثانيا , إلا أنه في المرجعية الثانية لا يأخذ إلا بالأحاديث الصحيحة ولا يقيم للضعيفة منها وزناً في مجال الأحكام.. و كان له موقف من بعض المرويات يمكن فهمه في ضوء قوله : ” ردي على كل رجل يُحدث عن النبي (صلى الله عليه وسلم) بخلاف القرآن ,ليس رداً علي النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا تكذيبا ً له , ولكنه رد على من يحدث عنه بالباطل “.. وهو أيضا القائل: ” كل ما خالف القرآن ليس عن رسول الله وإن جاءت به الرواية”..
و هو أيضا القائل :” إذا صح الحديث فهو مذهبي “، و :” لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه ” ، وفي رواية عنه :” حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي … فإننا بشر ، نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا “، و :” إذا قلت قولا يخالف كتاب الله تعالى ، وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي “.
و قد قادته عقليته النقدية إلى رفض ما روي : “إن المؤمن إن زنا خلع الإيمان من رأسه كما يخلع القميص، ثم إذا تاب أعيد له إيمانه” , و جاء رفضه على أساس أن من لم يكفر بالله ولا برسوله ولا بكتابه وارتكب شيئا من المحرمات و الكبائر فقد ينسب إلى الفسق بذلك، ولكنه لا ينسب إلى الكفر.. وحين قال له أحدهم: يا أبا حنيفة أنت حين تقول ذلك فإنهم يتهمونك بأنك تكذب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال أبو حنيفة موضحا : أنا أكذب هؤلاء ( أي الرواة) ولا يكون تكذيبي لهؤلاء وردي عليهم تكذيبا للنبي (صلى الله عليه و آله وسلم)..
ثم زاد الأمر إيضاحا بقوله : إنما يكون التكذيب لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول الرجل: أنا مكذب لقول نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأما إذا قال الرجل: أنا مؤمن بكل شيء تكلم به النبي (عليه الصلاة والسلام) غير أن النبي، صلى الله عليه وسلم لا يتكلم بالجور، ولم يخالف القرآن، فإن هذا القول منه هو التصديق بالنبي وبالقرآن وتنزيه له من الخلاف على القرآن. ولو خالف النبي القرآن. وتقول على الله غير الحق لم يدعه الله حتى يأخذه باليمين، ويقطع منه الوتين، كما قال الله عز وجل: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} , ونبي الله لا يخالف كتاب الله تعالى، ومخالف كتاب الله لا يكون نبي الله … فرد كل رجل يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف القرآن ليس ردًّا على النبي عليه السلام ولا تكذيبًا له ولكن رد على من يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالباطل والتهمة دخلت عليه، ليس على نبي الله عليه السلام”.
و هنا نلاحظ اتحادا فكريا بين أبي حنيفة و بين الفقيه الكبير ورائد مدرسة الرأي بالعراق إبراهيم النخعي الذي تلقى أبو حنيفة فقهه من شيخه المباشر حماد بن أبي سليمان.. و في كتابه المهم ( أبو حنيفة.. حياته و عصره.. آراؤه وفقهه) ينبهنا الإمام محمد أبو زهرة إلى ذلك الاتحاد مشيرا إلى أن النخعي كان ينظر إلى متن الأحاديث أكثر من النظر في متونها ، و كان ينقد الأحاديث من ناحية المتن و المعنى أكثر مما ينتقدها من ناحية السند و الرواة، و دائما ما كان يقول” لا يستقيم رأي بلا رواية، و لا رواية بلا رأي” , فكان يدرس الفقه من الروايات ويفهم الروايات بالرأي و العقل فيأخذ فقهها، و بذلك كان النخعي بحق أول شخصية فقهية في العراق جعلت لفقه الرأي به كونا و وجودا و معنى مقبولا.
و لا ينسى أبو زهرة أن يبين لنا أن الاتحاد الفكري بين أبي حنيفة و بين إبراهيم النخعي يختلف تماما عن الاتحاد في الآراء ، فالأول نوع من المشاركة و الاتفاق العقلي ، أما الثاني فهو نوع من التقليد و الاتباع تفنى فيه شخصية المتأخر ( أبو حنيفة) في السابق المتقدم ( النخعي), و لم يكن أبو حنيفة مقلدا بل كان مجتهدا مستقلا ومجددا وهو القائل صراحة:
“ما جاء عن اللهِ تعالى فعلى الرأس والعينين، وما جاء عن رسولِ الله صلى اللهُ عليه وسلم فسمعاً وطاعةً، وما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم تخيرنا من أقوالهم، ولم نخرج عنهم، وما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال”.
و لا شك في أن أبا حنيفة كان واحدا من رواد النهي عن التقليد، فهو القائل :” لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعرف من أين أخذناه ”
وقيل له ذات مرة: يا أبا حنيفة هذا الذي تفتي فيه هو الحق الذي لا شك فيه؟
فقال: ” لا أدري، لعله الباطل الذي لا شك فيه!
وكرر كثيرا أن: “قولنا هذا رأي وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا ”
وقال تلميذه زفر: ” كنا نختلف إلى أبي حنيفة ومعنا أبو يوسف ومحمد بن الحسن فكنا نكتب عنه، فقال يوما لأبي يوسف: ويحك يا يعقوب! لا تكتب كل ما تسمعه مني، فإني قد أرى الرأي اليوم فأتركه غدا، وأرى الرأي غدا فأتركه بعد غد”.
وفى الواقع كان أبو حنيفة قياساً, سلك في القياس مسلكاً فاق كل من سبقه, ولم يكن يتحرج من الفتيا تحرج أهل الحديث, وقد ذكر عنده مره قول القائل :” لا أدرى نصف العلم “فقال ساخراً . فليقل لا أدرى مرتين ليستكمل العلم!
وسئل ذات مرة : ما قولك في الشرب في قدح أو كأس في بعض جوانبها فضة ؟ فقال: لا بأس به.
فقيل له : أليس قد ورد النهى عن الشرب في إناء الفضة والذهب , فقال : ما تقول في رجل مر على نهر وقد أصابه عطش وليس معه إناء فاغترف الماء من النهر فشربه بكفه وفى إصبعه خاتم , فقال مناظره :لا بأس بذلك .
فقال أبو حنيفة : فهذا كذلك.
وجاءه جماعة من أهل المدينة ليناظروه فى القراءة خلف الإمام- وأبو حنيفة يقول بعدم القراءة- .. فقال لهم : لا يمكنني مناظرة الجميع , فولوا الكلام أعلمكم . فأشاروا إلى واحد منهم .
فقال أبو حنيفة : هذا أعلمكم ؟ قالوا : نعم .
قال : والحجة عليه كالحجة عليكم ؟ قالوا : نعم .
فقال : إن ناظرته لزمتكم الحجة لأنكم اخترتموه فجعلتم كلامه كلامكم , وكذا نحن اخترنا الإمام فقراءته قراءتنا.
ومن أقيسته العقلانية المثيرة للجدل إفتاؤه بعدم قتل من سب النبي (صلى الله عليه وسلم) من أهل الذمة و لكن يعاقبه الإمام بما يراه مصلحة في ذلك, خلافاً لبقية الفقهاء الذين أوجبوا فيه القتل , واستند في هذا الحكم إلى أن الذمي مسموح له بالكفر , أي بعدم الإيمان بالإسلام , والكفر في التوصيف أشد و أكبر من السب حتى ولو كان سب النبي.
وعلى الجانب الآخر , فقد وقع أبو حنيفة – لشدة تمسكه بالقياس- في بعض الأخطاء التي نتجت عن القياس الشكلي في بعض الوقائع على حد تعبير هادي العلوي في كتابه ( شخصيات غير قلقة في الإسلام) .. ومنها أنه اعتبر أن ما يخرج من البحر من اللآلئ والمرجان والنفائس الأخرى في حكم السمك المٌصاد من البحر , فلم يوجب فيها فريضة الخمس.. وهكذا فهو لم يراع الفرق في النٌدرة ولا في القيمة المادية.. وهو ما خالفه فيه تلميذه أبو يوسف, فأوجب الخمس فيها مخالفاً مذهب أستاذه.
و هنا لابد من التوقف أمام علاقة الإمام أبي حنيفة بتلامذته في الفقه و العلم الشرعي ، فقد تخرج على يديه جمع كبير من الفقهاء، من أمثال الإمام أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم , وهو أشهر هؤلاء التلاميذ و كان أول من كتب في المذهب الحنفي و إليه يعود الفضل في نشره وترويجه بين الناس.
وكان أبو يوسف قاضي القضاة في عهود خلفاء ثلاثة منهم هارون الرشيد. أما الإمام محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة النجيب الذي وصفه الإمام الشافعي بأنه واحد من أذكى خلق الله تعالى على وجه الأرض، ومحمد هذا هو من قام بتدوين المذهب الحنفي وتسجيله و تقييد مسائله. و لأن الأستاذ كان كبيرا في نفسه , فإنه قد نهى تلامذته عن التقليد ومنحهم الحرية المطلقة في الاختيار و الترجيح و الإبداع ، بحيث لا يكونوا مجرد نسخ مكررة من أستاذهم مهما كان علمه و قدره ، وفي ضوء هذا المنحى العلمي و الإنساني الذي اتخذه أبو حنيفة مع تلامذته، نفهم كيف حصلت مخالفة الصاحبين ( أبو يوسف و محمد بن الحسن) لأستاذهم أبي حنيفة في نحو ثلث المذهب ,بعد أن رباهم على الاستقلال و حرية التفكير و الاجتهاد و الإبداع.
و قد بلغ من عقل أبي حنيفة ، أنه توسع في ما يسمى بالفقه الافتراضي أو فقه التوقع وزاد فيه و رسخ له ، و يُقصد بهذا أنه كان يفترض مسألة لم تقع بعد، ثم يبدأ في إعمال عقله كي يأتي لها بالأدلة والحلول والأجوبة التي تناسب الزمان والمكان الذي ستكون فيه هذه المسألة ، وربما كان ذلك سببا في ذيوع و انتشار المذهب الحنفي لحيويته وقدرته على مسايرة المستجدات ، و الفضل في ذلك لأبي حنيفة الذي كان يكثر من التفريعات و يفرض الفروض و يقدر مسائل لم تقع ثم يبين حكمها و يوضح أدلتها ، غير مقيد بما هو واقع بالفعل أو مقتصر على ما كان يسأل عنه.. و للعلم فقد كان النخعي لا يفتى إلا حين يسأل إذ لم يكن ممن يفترضون المسائل أو يسيرون وراء الفروض الفقهية المجردة بل كان مقيدا بما هو حاصل بالفعل و مقتصر على ما يرد إليه من أسئلة و استفتاءات.
و في تفسير اتجاهه لهذا النوع من الفقه التقديري و الافتراضي ، ينقل لنا الخطيب البغدادي في تاريخه أنه عندما نزل قتادة الكوفة قال: والله الذي لا إله إلا هو ما يسألني اليوم أحد عن الحلال والحرام إلا أجبته، فقام إليه أبو حنيفة فقال: يا أبا الخطاب ما تقول في رجل غاب عن أهله أعواما فظنت امرأته أن زوجها مات فتزوجت، ثم رجع زوجها الأول ما تقول في صداقها؟ .. فقال قتادة: ويحك أوقعت هذه المسألة؟ قال لا، قال: فلم تسألني عما لم يقع؟ قال أبو حنيفة إنا نستعد للبلاء قبل نزوله، فإذا ما وقع عرفنا الدخول فيه والخروج منه”.
و بسبب جرأته على توليد المسائل وافتراضها، و استغراقه فى تنزيل النوازل، و عدم تردده في استعمال الرأى فى الفروع قبل أن تنزل، والحكم عليها قبل أن تكون، اتسع الفقه التقديري النظري اتساعا لم يحدث من قبل، كل ذلك عرضه للهجوم و النقد ، من ذلك مثلا أنه حين سئل رقبة بن مصقلة عن أبى حنيفة قال: ” هو أعلم الناس بما لم يكن، وأجهلهم بما قد كان ” وكأنه يشير بذلك إلى أن أبا حنيفة كان يعيش في واقع فقهي افتراضي لا أكثر ولا أقل.
جانب آخر من جوانب العقلية النقدية عند أبي حنيفة نقده لأحكام القضاة , و الأخبار كثيرة في ذلك ، منها ما ذكره الخطيب البغدادي و السرخسي في ( المبسوط) و غيرهما من كتب التاريخ و المناقب أن ابن أبي ليلى قاضي الكوفة قد نظر في أمر امرأة معتوهة آذاها رجل فقالت له يا ابن الزانيين, فأُتي بها إلى ابن أبي ليلى فاعترفت فأقام عليها حدين.. فلما حكي ذلك لأبي حنيفة اعترض و قال إنه أخطأ في سبع مواضع.. ثم فسر ذلك فقال: بنى الحكم على إقرار المعتوهة وإقرارها هدر , وألزمها الحد والمعتوهة ليست من أهل العقوبة , وأقام عليها حدين ومن قذف جماعة لا يقام عليه إلا حد واحد , وأقام حدين معا ومن اجتمع عليه حدان لا يوالي بينهما ولكن يضرب أحدهما ثم يترك حتى يبرأ ثم يقام الآخر , وأقام الحد في المسجد وليس للإمام أن يقيم الحد في المسجد , وضربها قائمة وإنما تضرب المرأة قاعدة , وضربها لا بحضرة وليها وإنما يقام الحد على المرأة بحضرة وليها حتى إذا انكشف شيء من بدنها في اضطرابها ستر الولي ذلك عليها.. فانتشر بالكوفة أن القاضي أخطأ في مسألة واحدة في سبع مواضع أحصاها عليه أبو حنيفة .
ومن العلامات المضيئة في حياة الإمام أبى حنيفة علاقته بأمه , فكان باراً بها وعطوفاً عليها وحريصاً دائماً على إرضائها.. وقد بلغ في حرصه على إرضاء أمه, أنه كان يحملها على دابة ويسير بها مسافات طويلة لتصلى خلف فقيه بعينه, يرى هو نفسه أن أبا حنيفة أفضل منه وأعلم .
وقد انعكست تلك العلاقة على تقدير أبى حنيفة للمرأة النابع من فهمه الواعي للإسلام ومقاصده العامة .. وفى هذا الصدد فقد قاده اجتهاده إلى الإفتاء بجواز تولى المرأة للوظائف العامة بالدولة بما فيها القضاء.. وأفتى بأن للبالغة أن تزوج نفسها وهى حرة في اختيار زوجها دون تدخل أحد.
أما بالنسبة لمسألة تعدد الزوجات, و هي القضية الأكثر حضورا في الجدل بين النساء والرجال، فيتجلى موقف الإمام أبي حنيفة منها من تلك الواقعة الفعلية حين اختلف في أحد الأيام الخليفة أبو جعفر المنصور وزوجته الحرة حول تلك المسألة، فكانت تشكو زوجته من أنه يميل عنها إلى غيرها، وطالبته بالعدل بين زوجاته وإمائه، ولكن الأمر تطور إلى شقاق بينهما، و في النهاية ارتضت الحرة أن يكون الإمام أبو حنيفة النعمان حكما بينهما في تلك القضية الشائكة.
فأمر أبو جعفر المنصور بإحضار الإمام أبي حنيفة إلى مجلسه ، فلما حضر قال : يا أبا حنيفة الحرة تخاصمني فأنصفني منها، فقال أبو حنيفة: ليتكلم أمير المؤمنين، فقال: كم يحل للرجل أن يتزوج من النساء فيجمع بينهن؟ قال: أربع، قال: وكم يحل له من الإماء؟ قال: ما شاء، ليس لهن عدد، قال: وهل يجوز لأحد أن يقول خلاف ذلك؟ فقال أبو حنيفة: لا.
قال أبو جعفر: قد سمعت .. فقال أبو حنيفة معقبًا: إنما أحل الله هذا لأهل العدل، فمن لم يعدل أو خاف ألا يعدل فينبغي ألا يجاوز الواحدة، قال تعالى: “فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة”، فينبغي لنا أن نتأدب بأدب الله ونتعظ بمواعظه، فسكت أبو جعفر وطال سكوته، فخرج أبو حنيفة، فلما وصل إلى منزله أرسلت إليه زوجة الخليفة خادمًا ومعه مال وثياب وجارية وحمار، فردها وقال للخادم: أقرئها سلامي وقل لها: إنما ناضلت عن ديني وقمت ذلك المقام لله، لم أرد بذلك تقربًا لأحد، ولا التمست به دنيا.
وبالطبع لم يكن من الممكن أن تخلو شخصية بهذا الأفق الواسع من خفة الظل وحلاوة الروح..فيروى أنه جاء رجل إلى أبي حنيفة فقال له إذا خلعت ثيابي ودخلت النهر أغتسل فإلى القبلة أحول وجهي أم خلافها فقال له أبو حنيفة: الأفضل أن تحول وجهك إلى الجهة التي فيها ثيابك لئلا يسرقها أحد.
وفي أخبار الأذكياء لابن الجوزي : “أخبرنا أحمد بن الدقاق قال : بلغني أن رجلاً من أصحاب أبي حنيفة أراد أن يتزوج فقال أهل المرأة نسأل عنه أبا حنيفة… فأوصاه أبو حنيفة فقال: إذا دخلت علي فضع يدك على ذكرك، ففعل ذلك، فلما سألوه عنه قال: قد رأيته وضع يده على ما قيمته عشرة آلاف درهم”.
وإذا حاولنا الرجوع إلى العصر الذي عاش فيه أبو حنيفة , وهو الوقت الذي شهد انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين , لنرى كيف كان يرى أهل هذا العصر ” فقه الرجل ” وكيف ينظرون إلى تميز ملكته الفقهية واقتحاماته الفكرية غير المسبوقة, فإننا قد نكتشف أن الناس لم يختلفوا على ” فقيه ” كما اختلفت آراؤهم في أبى حنيفة .. تغالى البعض في تقديره حتى زعموا أنه أوتى الحكمة كلها . واشتط الآخرون في كراهيته حتى رموه بالمروق من الدين وبالإلحاد والزندقة .. وبالغ آخرون وتجاوزوا حدود المنطق والمعقول فأذاعوا عنه أنه مجوسي مدسوس علي الإسلام لهدم بنائه وتشويه معالمه .
وعلي العموم فيمكن القول أن أعداء أبي حنيفة هم ( فقهاء السلطان ) وعلي رأسهم ابن أبي ليلي وتابعه شبرمة ومن علي شاكلتهم .. وهؤلاء كانوا فقهاء للدولة في عصر الأمويين وحتى بعد انتقال السلطة للعباسيين تحولوا إلى الحكام الجدد وتقربوا إليهم بالملق والنفاق حتى أصبحوا هم أهل الشورى , يزينون للحكام الجدد كل ما زينوه للحكام السابقين , ويبررون كل ما ارتكبوه من طغيان وبطش واستبداد وتنكيل بالمعارضين .
وفي وسط هذا الجو الخانق يقف أبو حنيفة مثالا شامخا للفقيه المستقل النزيه , المحتفظ بهيبته و شرفه و جلاله أمام هؤلاء الحكام .. وقد بلغ في ذلك أنه رفض تولي القضاء في العهدين الأموي والعباسي حتى لا يكون من أعوان الظلمة.. فقد كان يري رأيا صريحا أن الحكم الأموي غير شرعي لعدم استناده علي أصول الحكم في الإسلام , وكان يري نفس الرأي في ملك بني العباس .. وكان له ميل واضح للأئمة من آل البيت – دون أن يتشيع- وهو الأمر الذي أوغر عليه صدور الأمويين والعباسيين علي السواء.
ففي العهد الأموي أراده يزيد بن هبيره علي القضاء بالكوفة أيام مروان بن محمد أخر خلفاء بني أمية فرفض فضربه مائة سوط , وظل يضربه كل يوم عشرة أسواط لإقناعه فلما يئس منه أطلق سراحه وخلى سبيله.
وفي دولة بني العباس, عرض عليه الخليفة المنصور تولي القضاء فاعتذر أبو حنيفة فأمر المنصور بحبسه وبضربه بالسياط حتى يقبل منصب قاضي قضاه بغداد.
وفي السجن تعرض أبو حنيفة لأشد أنواع التعذيب والضغط والإهانة وهو شيخ في سن السبعين.. وأثناء ذلك كانوا يكررون عليه عرض المنصب فيكرر هو الرفض داعيا ربه “اللهم ابعد عني شرهم بقدرتك “.
و قد اختلفت الروايات في وفاته , هل مات محبوسا بعد الضرب , أم مات في منزلة بعد أن أطلق سراحه ومنع من التدريس و الاتصال بالناس ؟ أم أنه
لما تدهورت صحته وأشرف علي الهلاك وخشي معذبوه أن يخرج فيروي للناس ما لاقاه من تضييق وتعذيب , قرروا أن يتخلصوا منه بالسم .. فقد ذكر ابن حجر الهيتمي في ( الخيرات الحسان في مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان) : روي جماعة أنه رفع إليه قدح فيه سم ليشرب , فامتنع وقال : إني لأعلم ما فيه ولا أعين علي قتل نفسي .. فطرح ثم صب في فيه قهراً.. ولما أحس بالموت سجد فخرجت روحه وهو ساجد.
روايات مختلفة و كلها قابلة للاحتمال و العلم عند الله أي النهايات كانت من نصيب أبي حنيفة المظلوم المقهور بلا ذنب أو جريرة.
و في أيامه الأخيرة أوصى الفقيه النبيل بأن يدفن في مقابر الخيزران, لأنها أرض طيبة لم يغتصبها الخليفة أو أحد رجاله, و كان هذا آخر احتجاج ضد الخليفة المنصور الذي قال حين بلغته الوصية:” من يعذرني من أبي حنيفة حيا و ميتا؟”.
وقبره في الأعظمية ببغداد مزار معروف. روى الخطيب البغدادي في تاريخه عن علي بن ميمون قال : سمعت الشافعي يقول : إني لأتبرك بأبي حنيفة وأجئ إلى قبره في كل يوم ـ يعني زائرا ـ فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين وجئت إلى قـبـره وسـألـت اللّه تـعـالـى الـحـاجة عنده فما تبعد[عني] حتى تقضى.
المصادر و المراجع :
– سير أعلام النبلاء الذهبي
– تاريخ بغداد الخطيب البغدادي
– الآثار محمد بن الحسن الشيباني
– الانتقاء ابن عبد البر
– وفيات الأعيان ابن خلكان
– الخيرات الحسان ابن حجر الهيتمي
– المبسوط السرخسي
– أبو حنيفة حياته و عصره- آراؤه و فقهه محمد أبو زهرة
– شخصيات غير قلقة في الإسلام هادي العلوي