العقل بوصفه وحيًا داخليًا عند بيير بايل

تكوين

مقدمة

شغلت قضية العلاقة بين العقل والوحي، أو الفلسفة والدين، أو الحكمة والشريعة، الكثير من الفلاسفة والمفكرين منذ أن ظهرت الأديان الإبراهيمية وانتشرت، وكانت هذه القضية سائدة منتشرة في الأديان الثلاثة وساهم فيها علماء لاهوت وعلماء كلام وفلاسفة؛ وقد مال أغلب هؤلاء إلى معالجة القضية على أنها مسألة تناقض وخلاف بين العقل والوحي، وهذا هو السبب في أنهم حاولوا “التوفيق” بينهما، هذا “التوفيق” أو “الجمع” الذي يفترض تناقضهما الأصلي. وقد كانت مببراتهم للنظر إلى العلاقة بين العقل والوحي على أنها علاقة تناقض واستبعاد متبادل، أن العقل بشري والوحي إلهي، والعقل محدود بالزمان والمكان ومشروط بالإمكانات والقدرات البشرية المحدودة، والوحي يأتي من الكائن المطلق اللامتناهي غير المشروط وغير المحدود. ومن ثم تم النظر إلى العقل على أنه المعرفة العادية الطبيعية، وإلى الوحي على أنه يأتي بمعرفة فائقة للطبيعة ومتجاوزة لقدرة العقل البشري ولامتناهية ومتميزة عن أي معرفة بشرية. هذا هو الانطباع الأول لدى كل من يبدأ في تناول مسألة العقل والوحي؛ لكنه مجرد انطباع أول، ذلك لأن الأمر أعقد من هذا المستوى الانطباعي الأول كما نعرف من الفلاسفة الذين بحثوا في هذه المسألة.

ومن بين أبرز الفلاسفة الذين تناولوا مسألة العلاقة بين العقل والوحي، الفيلسوف الفرنسي بيير بايل Pierre Bayle (1646 – 1707)، الذي كان من الهوجونوت Huguenots، أي البروتستانت الفرنسيين الذين تعرضوا للاضطهاد في عصر لويس الرابع عشر بداية من 1681 والإجبار على التحول إلى الكاثوليكية. وفي تلك السنة رحل بايل إلى هولندا، التي كانت أكثر تسامحًا وتنعم بمناخ نسبي من الحرية، وظل فيها حتى وفاته. اشتهر بايل بنزعته الشكية إزاء العقائد المسيحية، وبديكارتيته التي ظهرت في تمسكه بالعقل وبتوجهه العقلاني في البحث والتفكير، وبمذهبه في التسامح، الذي صار مركز اهتمام أغلب الباحثين الذين درسوه.

لكنني في هذه الدراسة لن أركز على مذهبه في التسامح الذي صار منتشرًا للغاية في الأدبيات الأكاديمية الحديثة، وإن كنت سأذكره سريعًا عندما نأتي على موضعه المناسب من هذه الدراسة؛ ولن أركز كذلك على ديكارتيته، التي صارت من المحفوظات المملة التي تتردد كلما ذُكِرَ بايل، بل سأركز على رأيه في العلاقة بين العقل والوحي، والتي يتميز رأيه فيها بأنه جديد وجريء وراديكالي، وإن لم يكن غير مسبوق؛ وبدلًا من التركيز على ديكارتيته سأبرز سبينوزيته، أي الأصل السبينوزي لأفكاره[1].

والواضح من عنوان هذه الدراسة أن بايل يقول إن العقل هو وحي داخلي؛ ومن ثم سيكون لهذه الدراسة هدف جانبي، وهو محاولة تتبع أصول هذه الفكرة، عبر سبينوزا، إلى فلاسفة الإسلام، وخاصة الفارابي وابن رشد. قد تكون لفكرة الوحي الداخلي جوانب صوفية وربما تكون قد ظهرت لدى بعض رواد التصوف العقلي الفلسفي، لكنني أهتم هنا بأصول الفكرة لدى الاتجاهات الفلسفية العقلية لا لدى التصوف العقلي. وقد تكون بعض أفكار المعتزلة قريبة بجهةٍ ما من فكرة “العقل وحي داخلي”، لكن هذه الفكرة مختلفة جوهريًا عند المعتزلة. لقد قطع المعتزلة بأسبقية العقل على الوحي وأولويته[2]، لكن لم تظهر لدى أحدهم على حد علمي فكرة بايل بنصها، أي “العقل وحي داخلي”. ولم يكن المعتزلة ولا الفلاسفة وحدهم الذين ظهرت لديهم فكرة “العقل بوصفه وحيًا داخليًا”، إذ نجد ابن حزم الظاهري (384 هـ/ 994م –  456 هـ/  1064م) قد عالج العقل بطريقة مشباهة سوف تدشهنا في قربها من معالجة بيير بايل؛ إذ يحتوي كتابه “الإحكام في أصول الأحكام” على نصوص يكاد ينطق فيها لفظًا بفكرة بايل، وسوف نتناولها في مواضعها المناسبة من هذه الدراسة.

أعمال بايل وفكره

من أهم أعمال بايل، “القاموس التاريخي النقدي” Dictionnaire Historique et Critique، الذي صدر في أربعة مجلدات بين  1695 و1697، والذي كان من أوائل الموسوعات الفلسفية في العصر الحديث، واستوحاه ديدرو (1713 – 1784) وزملاءه أثناء عصر التنوير الفرنسي وأقاموا على نموذجه “الموسوعة” الشهيرة. ومن مؤلفاته الهامة، كتابه “أفكار متنوعة بمناسبة ظهور مُذَنَّب سنة 1680” Pensées diverses écrites à un docteur de Sorbonne à l’occasion de la Comète qui parut au mois de décembre 1680[3]، حيث بحث في قضايا عقائدية شائكة، مثل مسألة إرسال الله للبشر برسائل تحذيرية منذرًا بعقاب آت، في صورة مذنبات أو ظواهر فلكية، أو برسائل تبشرهم بنعمة آتية؛ ومسألة تَدَخُّل الإله في مسار العالم الطبيعي، وفكرة العناية الإلهية وما إذا كانت خاصة بشعب معين أم عامة للجنس البشري كله، ومسألة الكوارث الطبيعية وما إذا كانت عقابًا من الله للبشر أم مجرد أحداث طبيعية ترجع إلى أسباب طبيعية.

وأما مؤلفه الذي ظهرت فيه نظريته في العقل بوصفه وحيًا داخليًا فهو بعنوان طويل: “تفسير فلسفي لقول المسيح ’[فَقَالَ السَّيِّدُ لِلْعَبْدِ: اخْرُجْ إِلَى الطُّرُقِ وَالسِّيَاجَاتِ] وَأَلْزِمْهُمْ بِالدُّخُولِ حَتَّى يَمْتَلِئَ بَيْتِي‘]”[4] Commentaire philosophique sur ces paroles de Jésus-Christ “Constrains les d’entrer (1686). وقول المسيح من إنجيل لوقا (14: 23)، وهو يأتي في سياق قصة دعوة أحد الوجهاء للناس للحضور إلى بيته وإقامة مأدبة طعام لهم؛ وعندما وجد أن الحضور قليل، أمر عبده أن يصر على دعوة كل الناس من كل مكان. كتب بايل هذا الكتاب على خلفية اضطهاد الملك لويس الرابع عشر للهوجونوت البروتستانت، فقام بايل بوضع هذا الكتاب كتأويل فلسفي لقول للمسيح تم استخدامه دومًا لإرغام الآخرين على الدخول إلى الكاثوليكية. والكلمة المفتاحية في قول المسيح هي “وَأَلْزِمْهُمْ بِالدُّخُولِ“. والإلزام يعني الجبر والإرغام، وهو المفهوم من الترجمة الفرنسية Constrains، ومن الترجمة الإنجليزية Compel Them؛ وفي الترجمات العربية لإنجيل لوقا تُتَرجم هذه العبارة بصور متنوعة: “وأجبر الناس على الدخول…” (ترجمة كتاب الحياة)؛  “وَأَلْزِمْهُمْ بِالدُّخُولِ…” (ترجمة سميث وفاندايك)؛ “وألزم النـاس بالدخول” (ترجمة الأخبار السارة)؛ “وأرغم من فيها على الدخول” (الترجمة اليسوعية). إذن تنوعت الترجمات العربية بين “ألزم” و”أرغم”، و”أجبر”. عالج بايل هذه المقولة بطريقة تعزلها عن التوظيف الكنسي الكاثوليكي لها بوصفها رخصةً لاستخدام العنف والقوة من أجل التنصير الإجباري أو الإلزام العنيف لإدخال أي أحد إلى ديانة أو مذهب ديني معين، وقال إن هذا التوظيف يتناقض مع روح المسيحية ومع الأخلاق التي دعا إليها المسيح في مواضع كثيرة من الأناجيل[5]. وقدم بايل في هذا الكتاب فلسفة راقية في التسامح الديني مع أتباع كل الأديان: اليهود والمسلمون والبروتستانت من كل الفرق والمذاهب، والملحدون، والكاثوليك أيضًا. وكان بايل بذلك متجاوزًا لنظرية جون لوك اللاحقة عليه في التسامح والتي قصر فيها التسامح على الطوائف المسيحية فيما بينها.

الوحي الطبيعي عند فلاسفة الإسلام

في مقابل الاعتقاد السائد في عدد من الدراسات الحديثة، القائل إن أثر فلاسفة الإسلام في أوروبا قد شهد اضمحلالًا شديدًا، بل توقفًا منذ القرن السابع عشر[6]، تسعى هذه الدراسة إلى إثبات عدم صحة هذا الاعتقاد، وذلك برصد أحد الآثار القوية الباقية لفلاسفة الإسلام في القرن السابع عشر، وبالأخص لدى بيير بايل ومن قبله لدى سبينوزا، ذلك الأثر الذي تجلى في فكرة مشتركة بينهما، أعتقد أنها انتقلت إلى بايل من سبينوزا، وهي فكرة الوحي الداخلي المفطور في كل إنسان، والمتمثل في العقل الإنساني، الواحد والمشترك بين كل الناس، والضمير الأخلاقي بوصفه جزءًا من هذا العقل الإنساني المشترك والمفطور. والوحي المفطور هو قدرة أصلية مشتركة بين كل البشر، وضعها الله في الإنسان كجزء من تكوينه، أو built in.

تقوم هذه الفكرة على التمييز بين الوحي الخارجي في الأديان، ووحي آخر داخلي يمثل قدرة إنسانية طبيعية على إدراك حقائق الكون والوصول إلى الإله الواحد بوصفه مبدأ الكون، بل والوصول إلى طبيعة ذاته من حيث كونه جوهر واحد بسيط، وصفاته من حياة وعلم وقدرة وإرادة. ظهرت هذه الفكرة بوضوح لدى فلاسفة الإسلام، خاصة الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن باجة وابن طفيل؛ والمحتمل أنها انتقلت إلى سبينوزا عن طريق كتاب ابن طفيل “حي بن يقظان”، ذلك الإنسان الذي وُلِدَ على جزيرة منعزلة، نضج وكبر واستخدم عقله لمعرفة وفهم الكون، وتوصل في النهاية إلى فكرة الإله الواحد مبدأ الكون، دون مساعدة من أحد ودون شرائع سماوية ودون توجيه من نبوة أو رسالة أو وحي خارجي، اعتمادًا على عقله فقط بوصفه النور الطبيعي الفطري. ويشير عدد من الدراسات الحديثة إلى قراءة سبينوزا لقصة “حي بن يقظان”، في الترجمة اللاتينية التي قام بها المستعرب الإنجليزي إدوارد بوكوك، والتي منها تمت الترجمة الهولندية، بتوصية من سبينوزا وتحت إشرافه، بل وربما بترجمته هو وفق إحدى التخمينات. كما كانت فكرة إمكان وصول العقل الإنساني وحده إلى فكرة الإله الواحد منتشرة لدى الرشديين اليهود الذين قرأ لهم سبينوزا كما أثبتنا في كثير من الدراسات[7]، وانتقلت من سبينوزا إلى بيير بايل.

وكان فلاسفة الإسلام قد فسروا النبوة بوصفها فيضًا من العقل الفعال على مخيلة النبي وعقله، كما ذهبوا إلى أن إمكان اتصال البشر من غير الأنبياء بهذا العقل الفعال (الفارابي وابن سينا)؛ ثم أتى ابن رشد بنظرية ثورية تقول بإمكان اتصال الإنسان بالعقل الفعال من حيث كونه إنسان ومن حيث هو ملتبس بالبدن[8]، فليس شرطًا في حدوث هذا الاتصال أن تفارق النفس البدن، إذ يمكن أن يحدث الاتصال في الحالة الإنسانية العادية الطبيعية أثناء اتحاد النفس بالبدن. انتقلت هذه النظرية إلى الرشديين واليهود وابرزهم موسى الناربوني (ت 1362) الذي كتب شرحًا على رسالة ابن رشد “في إمكان الاتصال بالعقل الفعال”. ورغم أن سبينوزا كان على علم وثيق بهذه النظرية من قراءته لأعمال الفلاسفة اليهود الذين تأثروا بها أو نقدوها، مثل ليفي بن جرشوم (1288 – 1344) وحسداي كريسكاس (1340 – 1410)، إلا أنه لم يلتزم بها من حيث كونها نظرية في الفيض الإلهي على النبي، بل احتفظ بجوهرها وهو أن العقل الإنساني قادر بذاته على الوصول إلى فكرة الإله الواحد مبدأ الكون، ومن ثم يكون العقل بمثابة وحي داخلي مفطور، بما أن الوحي الخارجي هدفه هو الآخر إيصال الفكرة ذاتها إلى البشر. ومن سبينوزا انتقلت هذه الفكرة إلى بيير بايل.

وسوف أبدأ بعرض الفكرة عند بايل رغم أنه تالٍ على سبينوزا، ثم أعرض لها عند سبينوزا، عكس الترتيب التاريخي، بهدف توضيح تأثر بايل بسبينوزا.

كسر احتكار الكنيسة لتفسير الكتاب

ولأن بايل كان يتعامل مع نص من الإنجيل وهو قول المسيح آنف الذكر، فقد كانت تواجهه مشكلة سيطرة الكنيسة على تفسير الكتاب، وادعائها أحقية حصرية في هذا التفسير، اعتمادًا على سلطة تراثية قديمة اتخذتها باعتبارها ممثلة لرسل المسيح، ونائبة للمسيح نفسه؛ وقد كان البابوات يتخذون لقب “نائب المسيح” Vicarius Christi/ Vicar of Christ منذ العصور الوسطى. في هذا السياق، ومنعًا لاعتراض محتمل على بايل بأنه يتدخل دون وجه حق في تفسير الكتاب الذي هو حق حصري للكنيسة، يبدأ كتابه بوضع سلطة أخرى تستطيع تفسير الكتاب ومن حقها التفسير، وهي سلطة العقل. ولهذا السبب أطلق على كتابه “تفسير فلسفي لقول المسيح…”، والتفسير الفلسفي هو المستخدم للعقل، المستقل عن سلطة التراث الديني والمؤسسة الدينية الرسمية. لكن كانت تواجه بايل مشكلة أخرى، وهي أن العقل كان يُنظر إليه دومًا على أنه ضد الوحي وعلى النقيض منه، فكيف سيستخدم بايل العقل في تفسير الكتاب الآتي من الوحي وهما متعارضين؟ لا سبيل أمامه إلا إزالة ذلك التعارض المُدَّعى بين العقل والوحي، وتقديم نظريته الجديدة في أن العقل الإنساني نفسه هو نوع من الوحي، الداخلي، بل هو في نظره الوحي الأصلي.

النور الطبيعي للعقل

يقول بايل: “إن النور الطبيعي، أو المبادئ الأولى للعقل المشتركة بين الجميع، هي القواعد الأصلية والأساسية لكل تفسير للكتاب [المقدس]، خاصة في مسائل المعاملات والأخلاق”[9]. إن ما يقصده بايل بالمبادئ الأولى للعقل، هي التي سبق وأن درسها فلاسفة الإسلام وأطلقوا عليها “مبادئ العقول”، وهي عندهم أيضًا جزءًا من القدرة الأصلية والاستعداد الأساسي للعقل الإنساني كي يميز بين الصواب والخطأ ويهتدي بنفسه إلى الحقيقة، انطلاقًا من البديهيات العقلية التي يعرفها بدون استدلال أو وسائط.

وهذا ما يجعل بايل يمتد بمبادئ العقول حتى يصل بها إلى القدرة على إدراك الحقائق الميتافيزيقية،لا حقائق العالم الطبيعي وحده. وبايل بذلك يمهد لقوله بعد ذلك بقدرة العقل البشري الأصلية وبنوره الطبيعي على الوصول إلى الإله. يقول بايل: “إذا بحثنا في العقل الحق، سنجد أن هناك موجودًا متميزًا منيرًا بشدة، ينير كل البشر في اللحظة التي يفتحون فيها أعينهم، والذي يجعلهم يقتنعون بوجوده وحقيقته دون مقاومة؛ وأن هذا الموجود يجب الاعتراف له بأنه هو الإله نفسه، الحق الأعلى، الذي ينير عقولهم مباشرة، ويجعلهم يدركون بماهيته الأفكار المتضمنة حقائقها الأزلية في المبادئ الأولى للعقل، أو في المفاهيم العامة للميتافيزيقا”[10]. هذا الكيان الذي ينير العقل من داخله، ينير البشرية كلها في كل زمان ومكان، وكل أمم الأرض بالتساوي، إذا انتبهوا إليه. هذا الكيان يتعامل مع البشرية كلها، يتصل بها من داخلها، من ضميرها وعقلها، إذ وضع فيها مبادئ وقواعد للحكم على كل الأشياء، التي أحيانًا ما تكون صادقة جزئيًا، زائفة جزئيًا. إن الإله الذي “ضمن توافقًا دقيقًا بين النفس والبدن، واتحادًا أصليًا بينهما،، ضمن بالمثل اتحادًا بين النفس والجوهر الإلهي… لإيصال كل أنواع الحقائق بأوضح الأدلة، وحافظًا [النفس] من الخطأ”، ووضع في النفس الإنسانية القدرة على التمييز بين الحق والباطل؛ “وهذا ليس سوى نور الطبيعة، أو المبادئ العامة للميتافيزيقا” التي ليست مقتصرة على مبحث الميتافيزيقا وحسب، بل نجدها فاعلة كذلك في مجال الأخلاق؛ إذ “لا يمكننا التيقن من أي شيء”، سواء في مجال معرفة الطبيعة أو في مجال الأخلاق والسلوك العملي، “إلا بعرضه على هذا النور الأصلي الذي نشره الله في نفوس البشر، والذي يحوز على إجماعهم في اللحظة التي يوجهون انتباههم إليه”[11]. ونشدد هنا على قول بايل إن الإله “ضمن اتحادًا بين النفس والجوهر الإلهي”، ذلك لأن فكرة الاتحاد هذه متكررة في تراث فلاسفة الإسلام وكذلك في التصوف العقلي الفلسفي في الإسلام، وظهرت لدى ابن رشد في رسائله في الاتصال بالعقل الفعال، إذ بعد أن يطور الإنسان إمكاناته العقلية إلى حدها الأقصى الممكن له، يصل إلى مرتبة الكمال الأقصى والذي يكون اتحادًا بالعقل الفعال. وفي هذا السياق نجد اتفاقًا مذهلًا مع ابن حزم، إذ نجده يقول: فاهتدوا بنور الله التام الذي هو العقل الذي به تُعرَف الأمور على ما هي عليه ويمتاز الحق من الباطل”[12].

ويشدد بايل على ارتباط مبادئ العقل الأولى والكلية بمسألة الأخلاق في ذهابه إلى أن كل القوانين الأخلاقية يجب دون استثناء أن تُنظَّم عن طريق الفكرة الطبيعية عن العدالة والإنصاف، والتي يحملها كل إنسان بداخله بالفطرة والطبيعة[13]، قبل أن يفسدهما المجتمع والسلطة والمال، إذ تعمل هذه الأشياء على إعاقة عمل هذا النور الطبيعي، وتجعل الناس لا يستطيعون التمييز بين الفعل الصالح والفعل الضار، لسيطرة الأطماع عليهم من كل نوع. هنا نلاحظ كيف يربط بايل بين العقل الفطري والأخلاق الفطرية ويجعلهما شيئًا واحدًا، قبل أن يفصل كانط بينهما في صورة “عقل نظري” و”عقل عملي”، متناقضان، إذ يقبل العقل العملي ما يرفضه العقل النظري، وحيث يتسع العقل العملي للميتافيزيقا التي قطع كانط بعدم إمكانها للعقل النظري، لكنه قَبِلَ بإمكان الميتافيزيقا للعقل العملي من حيث هي ميتافيزيقا أخلاقية عملية. هذا الانشقاق بين العقلين النظري والعملي عند كانط لا نجده لدى بيير بايل، بل نجد اتحادًا أصيلًا بينهما، فقد كان يعيش على عتبة عصر التنوير، مؤسسًا له، وكان عصر الثقة الكاملة في العقل في جانبيه النظري والعملي.

إقرأ أيضاً: العقل كوازع أخلاقي

ولعل القارئ قد لاحظ أن بايل يقر بأن المبادئ الأولى للعقل تستطيع أن تصل إلى الحقائق الميتافيزيقية، وأنه يساوي بين النور الطبيعي والمبادئ العامة للميتافيزيقا. وقد يبدو هذا القول غريبًا على الحس الفلسفي الحديث الذي تَشَكَّل عن طريق كانط وفي أعقابه، والذي يفصل فصلًا حاسمًا بين العالم الطبيعي والعالم الميتافيزيقي، ويقيد العقل بالعالم الطبيعي وحده، منكرًا عليه إمكان معرفة الميتافيزيقا معرفة علمية يقينية. لكن يجب أن نأخذ في اعتبارنا أن بايل يسبق كانط بمائة سنة، وأنه كان يعيش في عصر لا يزال يثق في القدرة اللامقيدة واللامحدودة للعقل وإمكان معرفته للحقائق الميتافيزيقية، قبل أن يفقد الفكر الأوروبي ثقته الأولى هذه في أواخر عصر التنوير مع كانط؛ كما يجب أن نأخذ في اعتبارنا أن التراث الفلسفي الذي يقف بايل على رأسه لم يكن يفصل الفصل الكانطي اللاحق بين المعرفة بالطبيعة والمعرفة بمابعد الطبيعة، بل كان ينظر إلى نوعي المعرفة على أنهما متصلين ومستمرين؛ هذا التراث الفلسفي الطويل بدأ مع اليونان، لكن أعاد فلاسفة الإسلام إحياؤه. عندما يساوي بايل بين النور الطبيعي والمبادئ العامة للميتافيزيقا، فلا يسعنا إلا أن نتذكر ابن سينا في إلهيات الشفاء، عندما يقيم نسقًا ميتافيزيقيًا متكاملًا انطلاقًا من تصورات عقلية بسيطة مثل الوجوب والإمكان، ويتوصل استنباطًا من العقل وحده إلى فكرة واجب الوجود بذاته. كما لا يسعنا إلا أن نتذكر عبارة سبينوزا الشهيرة إن “نظام وترابط الأفكار هو نفسه نظام وترابط الأشياء”، وقول ابن رشد إن العقل ليس شيئًا سوى النظام والترتيب الموجود في الأشياء، ذلك النظام والترتيب اللذان يدركهما العقل البشري ومن ثم تَحْصُل له معرفة كما المرآة بحقائق الأشياء كما هي.

ويقول بايل إن العقل هو “شعاع النور الأصلي الكلي الذي يشع من الألوهية”[14]. يذكرنا قوله هذا بمذهب الأفلاطونية المحدثة، وبنظرية الصدور لدى فلاسفة الإسلام، وببعض العبارات الشهيرة من ابن رشد في “تهافت التهافت” حين يتحدث عن العقل والنفس وفكرة العقل الواحد لدى كل البشر. ويبدو أن هذه الأفكار ذات التاريخ الفلسفي الطويل الضارب في عمق تاريخ الفكر الإنساني كانت شائعة في مطلع أوروبا الحديثة، بحيث كانت تظهر لدى مفكرين عديدين تلقائيًا، وليس شرطًا أن يكونوا قد أخذوها بحرفها من مصادر بعينها، لأنها كانت معرفة فلسفية عامة شائعة، دخلت إلى نسيج الفكر الأوروبي وصارت أحد مكوناته الأصيلة.

إن النور الطبيعي الداخلي في العقل والضمير الإنساني هو الذي يستقبل الوحي الخارجي، إنه جهاز الاستقبال الذي يفك شفرة الوحي الخارجي، وهو من نفس طبيعته؛ الوحي الخارجي يستقبله وحي داخلي؛ فالوحي الخارجي هو في النهاية اتصال العقل الإلهي بالعقل الإنساني، ومن ثم يجب أن يكون المستقبِل من طبيعة المُرسِل حتى يحدث الاتصال من الأصل، ولما كان الله هو العقل الأول، فرسالته معقولة، والذي يستقبلها هو عقل أيضًا. ولعل هذا هو المقصود في الآية القرآنية: “وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ” (النور 40)؛ يجب أن يكون للإنسان نور أصلي، كي يستقبل به النور الإلهي: أما الذي لم يكن لديه نور داخلي جعله الله فيه، فلا يمكنه أن يستقبل نور الوحي الخارجي. هذا علاوة على أن الوحي يخاطب العقل، فالقرآن الكريم ذكر عبارات “لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” 8 مرات؛ و”لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ” 8 مرات؛ و” أَفَلَا تَعْقِلُونَ” 13 مرة؛ و”إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ” مرتان، و”لَا يَعْقِلُونَ” 12 مرة. كما يصف القرآن “الذين كفروا” بأنهم الذين يفتقدون في داخلهم القدرة على تعقل الوحي وقبول الرسالة في قلوبهم؛ إذ يقول: “خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ” (البقرة 7)؛ أي أنهم لم يتصفوا بالقدرة الذاتية الداخلية التي يستطيعون بها التمييز وإدراك صدق الوحي الخارجي، إذ أن مُستقبِلات رسالة الوحي عندهم مفقودة، عليها “غشاوة”، وقلوبهم مختومة، والعقل محله القلب، أي أن عقولهم مقيدة لا تستطيع من ذاتها إدراك حقيقة رسالة الوحي.

الوحي الطبيعي

يذهب بايل إلى أن الله قبل أن يتحدث إلى آدم بأوامر ونواهٍ، تحدث إلى ضميره بأن وضع فيه القدرة على التعرف على الله، وطبع في عقله القوانين الأساسية للعدل والاستقامة والصدق؛ وهذه القدرة والقوانين المطبوعة في قلبه وعقله هي التي أتاحت لآدم معرفة الإلزام الإلهي، ليس بسبب الحظر الذي وضعه الله أمام آدم، بل بسبب هذا النور الداخلي الذي أضاء ضميره. “ومن ثم يمكننا التأكيد على أنه بالنظر إلى آدم، كانت الحقيقة الموحاة إليه تندرج تحت النور الطبيعي في داخله، وأنه من خلال هذا النور الطبيعي استقبل”[15] الوحي وأوامره ونواهيه. والاتفاق هنا مذهل مع ابن حزم الذي يقول: قد أخبرنا فيما خلا وفي سائر كتبنا بأننا مضطرون إلى معرفة أن الأشياء حقائق وأنها موجودة على حسب ما هي عليه وبأنه لا يدري أحد كيف وقع له ذلك وبينا أن هذه المعرفة التي اضطرنا إليها وخلقها الباري تعالى في أنفسنا في أول أوقات فهمنا بعد تركيبها في الجسد هي أصل لتمييز الحقائق من البواطن وهي عنصر لكل معرفة وإننا عرفنا إيجاب الأوامر ببديهة العقل وبالتمييز الموضوعين فينا لنعرف بها الأشياء على ما هي عليه”[16].

والذي يقوله بايل على آدم ينطبق بالمثل من باب أولى على البشر بعد السقوط وبعد أن انقطع تواصلهم مع الله عن طريق الوحي الخارجي؛ إذ ظل الوحي الداخلي الذي هو النور الطبيعي مُوَجِّهًا لهم، خاصة وأنهم بعد السقوط كانوا بين الأوامر الإلهية وإغواءات الشيطان، وإزاء هذين الخيارين، فلم يكن أمامهم إلا ما يملكونه من النور الطبيعي للعقل الكلي، كي يستطيعوا التمييز بين إرادة الله وحبائل الشيطان[17]. وكل ما أوصله الله إلى البشرية عن طريق الأنبياء بالوحي، كان معروضًا على نور العقل الطبيعي لدى البشرية، وبه تمكنوا من التمييز بين وحي الله الحقيقي للأنبياء الصادقين، وأباطيل الأنبياء الكذبة حتى ولو صنعوا المعجزات، وذلك بفضل المبادئ الكلية في العقل والتي بها استطاعوا تمييز الوحي الصادق، إذ هو الذي يتفق مع تلك المبادئ[18]. والذي يوجه البشر إلى معرفة الوحي الصادق، هو ما لديهم مسبقًا من مبادئ أخلاقية فطرية، إذ يكون الوحي صادقًا طالما اتفق مع هذه المبادئ، كاذبًا إذا خالفها[19]. مما يدل وفق بيير بايل على أن الوحي الدخلي سواء كان عقلًا أم ضميرًا هو معيار الحكم على الوحي الخارجي.

ويذهب بايل إلى أن أي إنسان عندما يفكر مستعينًا بالعقل الفطري الطبيعي، سيصل إلى مبادئ أولية بديهية مثل أن الكل أكبر من الجزء، والموازيان لثالث متوازيان، وأن المرء يجب أن يحسن إلى محسنيه وألا يفعل في الناس ما يكره أن يفعلوه معه، وضرورة الوفاء بالوعود وفعل ما يمليه عليه ضميرنا؛ أي أن التأمل العقلي البسيط يضع أيدينا على مبادئ نظرية وعملية عامة وكلية، مطلقة الصدق وبديهية. وهذا الذي يسميه بايل النور الذي يأتينا من الله، “وهذا هو الوحي الطبيعي”[20]. فكيف لنا بعد ذلك أن نعتقد أن الله يمكنه أن يتكلم بوحي خارجي عن طريق الأنبياء بطريقة مضادة لما أوحى به لنا عن طريق النور الطبيعي، الذي هو “الوحي الطبيعي” الداخلي؟ وكيف لنا أن نعتقد أن الله يمكنه أن يوحي بمضامين مناقضة لما سبق وأن وضعه فينا من مبادئ عقلية وأخلاقية كلية؟ ومن ثم فإذا قال لنا أحد إن الله قد أوحى مبادئ أخلاقية مناقضة للمبادئ الأخلاقية الأولى والكلية في العقل الطبيعي، فيجب أن ننكر قوله حسب قول بايل، وأن نقول له إنه أخطأ في الفهم والتفسير إذا استخرج من نصوص الوحي ما يناقض المبادئ الأخلاقية للنور الطبيعي[21]. وأقول إن فكرة الوحي الداخلي ليست بغريبة عن الإسلام إذا تأملنا آيات القرآن الكريم. فلما كان القرآن الكريم قد ذكر أن الشيطان “يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ” (الناس 5)، فليس من المحال أن يتكلم الله في صدور الناس.

ولما كان تصديق الوحي يعتمد على عرضه على النور الطبيعي للعقل، وإذا ما اعتقد المرء في صدق أي وحي، فإن هذا الاعتقاد يجب أن يكون بناء على اتفاق الوحي مع النور الفطري، أي اتفاق الوحي الخارجي للأنبياء مع الوحي الداخلي الذي وضعه الله فينا[22]. ويقول بايل إن المرء إذا أنكر قدرة عقله على التمييز بين الحق والباطل، واعتقد أن الكنيسة لديها قدرة أعلى منه على هذا التمييز، فقد أبطل عقله. وعندما يُبْطِل عقله، فكيف بعد ذلك سيعتقد في علو عقل الكنيسة على عقله هو؟ لقد أفقد نفسه القدرة على التمييز بين الحق والباطل من الأصل، مما لم يعد معه قادرًا حتى على التعرف على صدق علو عقل الكنيسة على عقله، وبذلك سيكون مخطئًا في تصديق سلطة يضعها فوق عقله هو. وعند إبطال المرء لعقله، فكيف سيصدق ما يستخرجه المفسرون من الكتاب باستدلالاتهم وتأويلاتهم وهي كلها عقلية دون أن يعرض أقوالهم على عقله من البداية؟[23]

ويأخذ بايل نظريته في النور الطبيعي للعقل معيارًا لتقييمه للعبادة الشعائرية، ويقول عنها إنها حركات جسدية تعطي مظهر الإيمان والتقوى، لكن مع افتقاد الإدراك العقلي الحق بالإله داخل النفس عن طريق النور الطبيعي، تصير الشعائر شكلية، يؤديها الشخص بآلية فارغة من المضمون الإيماني[24]. وهذه العبادة الشعائرية المفتقدة للنور الطبيعي للعقل في نظر بايل ليست في حقيقتها طاعة لله ولا تبجيلًا له، لافتقادها الارتباط الداخلي بالإدراك الصحيح للإله. ومن ثم فالعبادة الشعائرية من حيث هي حركات جسدية يجب في نظر بايل أن تكون علامات ظاهرة لإيمان داخلي وتبجيل عقلاني للإله؛ ولكن مع فقدان هذا الارتباط بين التدين الخارجي والدين الداخلي، تصير العبادات الظاهرة نفاقًا ورياءًا: “إنها تصير أفعال نفاق ورياء وباطل، وتمردًا على الضمير”[25].

ومن أجل هذا كله يعلن بايل أن التنصير الإجباري مضاد للطبيعة الحقة للمسيحية، كما أن أي إجبار لأي إنسان على عقيدة معينة أو مذهب ديني معين مضاد للطبيعة الحقة للدين. ومن ثم فإن المعنى الحرفي للعبارة القائلة “وَأَلْزِمْهُمْ بِالدُّخُولِ” والذي يعني الإجبار والإرغام، مضاد للمسيحية، إذ يتضمن استخدام القوة والعنف، وكل هذا ضد المسيحية، ولا يصنع إلا مرائين ومنافقين، لا أناسًا متدينين بحق[26]. والملاحظ هنا استخدام بايل طريقة تأويل المعنى الحرفي الظاهري للنص في حالة كونه مخالفًا للعقل أو الضمير الإنساني، وهي الطريقة التي برع فيها المتكلمين والفلاسفة في الإسلام.

وبذلك يتوصل بايل إلى عدد من القواعد التأويلية التي استخلصها في دراسته، وهي كلها تواجه المعنى الحرفي الظاهري وترفضه في حال تعارضه مع النور الطبيعي للعقل. ومن هذه القواعد 1) أن كل معنى حرفي للنص الديني يتعارض مع مبادئ العدل والمساواة والقانون الأخلاقي الطبيعي والوحي الداخلي المفطور في العقل الإنساني، باطل[27]، ويجب تأويله بوصفه مجرد طريقة في التعبير وليس مقصودًا لذاته وبحرفيته. 2) كما أن كل معنى حرفي للنص الديني يعطي مبررًا للكفار infidels للنظر إلى المسيحية على أنها دين عنف وإجبار ومن ثم مبررًا لرفض المبشرين المسيحيين، يجب أن يكون باطلًا[28]. 3) وكل معنى حرفي للنص الديني يتضمن أمرًا لا يمكن تنفيذه إلا بالقسر والإجبار والعنف والجرائم، باطل[29]، وإلا لكانت كل جريمة معترف بأنها جريمة في كل حال وكل سياق، ستكون مبررة إذا ما ارتُكِبَت ضد ما ننظر إليه على أنه دين باطل[30]؛ إذ سوف يصير الفعل المُجرَّم في كل حال وسياق فعلًا مقبولًا إذا ارتبط بنشر دين معين ينظر إليه أتباعه على أنه الدين الحق. وإذا ما اتخذ أتباع كل دين الحق لأنفسهم في فرضه بالقوة والعنف، لصارت الأديان كلها في حالة صراع أبدي مع بعضها البعض، ولصار من المستحيل تمييز الدين الحق بينها، إذ الكل قد لجأ إلى العنف الذي هو مضاد لروح ووصايا الدين الحق، الذي هو دين الطبيعة الفطري النابع من الوحي الداخلي المفطور في الإنسان، والذي يأتي الوحي الخارجي ليوافقه ويشهد له.

الضمير الأخلاقي هو صوت الله وشريعته الداخلية

والنور الطبيعي الداخلي عند بايل ليس عقليًا وحسب بل هو أخلاقي أيضًا، ويقول في ذلك: “إن الضمير الأخلاقي الذي في داخل كل إنسان، هو صوت الله وشريعته الداخلية… وكل من يعصف بهذا المضير يعصف بشريعة الله… وكل أمر بتجاوز ما يمليه الضمير الأخلاقي هو عصيان لله… ولا يمكن لله أن يأمر بفعل يناقض الضمير الأخلاقي”[31] الذي وضعه الله بنفسه في الإنسان بوصفه شريعته الداخلية.

ومن جهة أخرى نجد ابن حزم يقول: “الشريعة لا تحسن إلا ما حسنت العقول ولا تقبح [إلا] ما قبحت”[32]. ويقول أيضاً: “وبهذه القوة التي هي العقل تتأيد النفس الموفقة لطاعته على كراهية الحود عن الحق وعلى رفض ما قاد إليه الجهل والشهوة والغضب المولد للعصبية وحمية الجاهلية. فمن اتبع ما أناره له العقل الصحيح نجا وفاز، ومن عاج عنه هلك وربما أهلك. قال تعالى {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} (ق 37) قال أبو محمد علي، أراد بذلك العقل، وأما المضغة المسماة قلبا فهي لكل أحد متذكر وغير متذكر ولكن لما لم ينتفع غير العاقل بقلبه صار كمن لا قلب له”[33]. هذا التوافق العجيب بين بايل وابن حزم يدفعنا إلى إعادة النظر في تراث الفكر الإسلامي للبحث فيه عن جذور التنوير الأوروبي.

ونعود إلى ما كنا فيه بعد هذا الاستطراد ونقول إن الضمير الأخلاقي عند بايل ليس جزءًا من الحقوق والحريات التي يتم التخلي عنها لصاحب السيادة في تأسيس المجتمعات السياسية، لأنه حق أصيل للإنسان من حيث كونه إنسانًا وغير قابل للانتزاع منه. وبذلك أخرج بايل الضمير من العقد الاجتماعي الأصلي؛ فلا يمكن للناس أن يُسلِّموا ضمائرهم إلى صاحب السيادة بحيث تكون لديه سلطة عليهم بأمرهم بمخالفة القوانين الأخلاقية المطبوعة فيهم، لأن هذه القوانين مطبوعة في الضمير الإنساني، طبعهًا الله في الإنسان بوصفها وحيًا داخليًا؛ ولما كان الله هو صاحب السيادة الحقيقي والأصلي، فليس من حق صاحب السيادة الأرضي البشري مخالفة صاحب السيادة السماوي الأعلى ووحيه الداخلي المطبوع في ضمير الإنسان وعقله[34].

ويفصل بايل بين عقائد الأديان التاريخية والخلاص الأخروي. فعقائد الأديان التاريخية عنده هي مجرد آراء لاهوتية صنعها بشر في سياقات تاريخية واجتماعية معينة، أما الخلاص الأخروي، الذي يسميه الخلاص الأبدي، فهو ملك للفرد، يحققه لنفسه بنفسه، ويتحصل عليه بالوحي الداخلي الذي هو أعم وأشمل وأكثر كلية من الآراء اللاهوتية التي من طبيعتها أن تكون خاصة بكل دين تاريخي[35]. وفي هذا السياق يلوم بايل الكاثوليك لأنهم على استعداد للتخلي عن كل آراء أرسطو وديكارت وتصديق الكنيسة الكاثوليكية وحدها[36].

العلاقة بين الوحي الداخلي والوحي الخارجي للأديان التاريخية

ولأن نظرية بايل في الوحي الداخلي ربما توحي بالتعارض بينه وبين الوحي الخارجي للأديان التاريخية، فإن بايل يبادر بمعالجة هذا الاعتقاد الذي هو في نظره غير صحيح. إذ يقول إنه لا تناقض بين الوحي الداخلي الأصلي ووحي موسى، في محاولة من بايل للتوفيق بينهما، فهو لا يرغب في أن تظهر نظريته في الوحي الداخلي بوصفها لاغية للأديان التاريخية، أو أن يظهر وكأنه يحل الوحي الداخلي محل الوحي الخارجي، وإلا اتُّهِم بالزندقة. وفي محاولة التوفيق هذه، يقول إن موسى أراد تخليص اليهود من الوثنية التي تعودوا وتربوا عليها في مصر، فكان من اللازم عليه أن يُكَيِّف ما تلقاه من الوحي مع هذا الغرض، فامتلأت شريعته بالإلزامات والأوامر والشعائر الظاهرة التي كان الهدف منها مواجهة الأديان الوثنية الأخرى ومنع اليهود من العودة إليها، بتعويدهم على الديانة الجديدة عن طريق ربطهم بها بشعائر ظاهرية دائمة التكرار.

وبذلك عالج بايل وحي موسى بوصفه مخصوصًا لبني إسرائيل القدماء وفق حالتهم التاريخية ومستواهم العقلي والثقافي. فالطابع الشعائري الطقوسي للشريعة اليهودية في نظر بايل سببه أن اليهود كانوا في زمن موسى حديثي العهد بديانة التوحيد، فكان على موسى أن يضع في الشريعة الكثير من الإلزامات والتحريمات والعقوبات، التي كان الهدف منها ربط اليهود بالإله الواحد، الذين كانوا حديثي العهد به. وليس في نظر بايل أي إرغام أو قسر في الدين الطبيعي ولا في الضمير الإنساني، والوحي الداخلي المفطور في الإنسان ليس به إجبار على أي شيء، لكن السبب في امتلاء شريعة موسى بهذه الأشياء هو رغبة موسى في أن يضع في اليهود إيمانًا لم يتوصلوا إليه بأنفسهم وفق ضمائرهم ووعيهم الداخلي، فكان عليه أن يقدم لهم الدين في صورة شعائر وأوامر ونواه وعقوبات. وبذلك جاءت شريعة موسى مختلطة، حسب ما يقول بايل، فيها من الوحي الداخلي الأصلي والنور الطبيعي الذي يدرك الله الواحد، وفيها من الوحي الخارجي التشريعي الإلزامي المليء بالقوانين والمحظورات. وهكذا تكيفت الشريعة اليهودية مع حالة اليهود الذهنية ومستواهم الثقافي.

وفي هذه النقطة الخاصة بالشعائر تحديدًا يتفق بايل تمامًا مع سبينوزا الذي سبق وأن قدم هذا التحليل نفسه في “رسالة في اللاهوت والسياسة”. إذ يذهب سبينوزا إلى أن النور الطبيعي للعقل لا يفرض شعائر، بل كل ما فيه هو الضروري لخيرنا وسعادتنا. والشعائر في شريعة موسى وفق سبينوزا خاصة باليهود وحدهم وهي ليست كلية عامة، وليس شرطًا في كل دين أن يتجسد في شعائر[37]. لكن يشدد سبينوزا على أن شريعة موسى وإن كانت ليست كلية عامة، ومقتصرة على اليهود وحدهم ومتكيفة مع أحوالهم من أجل حفظهم في حالتهم التاريخية، إلا أننا يمكن اعتبارها شريعة إلهية، لأنها صادرة عن النور النبوي، الذي ينظر إليه سبينوزا على أنه جزء من النور الفطري في الإنسان[38].

وفي هذا السياق يلوم سبينوزا أحد المفكرين اليهود من عصر النهضة وهو يوسف بن شيم توب (1400 – 1480)، لأنه اعترف بسمو الفكر الأخلاقي لأرسطو وبأن أعماله في الأخلاق مثل “الأخلاق إلى نيقوماخوس” احتوت على كل التعاليم الضرورية للفضيلة والسعادة، لكنها لا تنفعه لنيل الخلاص لأنها لم تأت بوحي نبوي، بل بضرورة العقل وحده[39]. ولا يفند سبينوزا أطروحة شيم توب ولا يرى أنها تستحق الرد، لكن كان لسان حاله من سياق كلامه في ذلك الجزء من كتابه يقول إن أرسطو قد توصل بالفعل وبالعقل وحده إلى أخلاق الفضيلة والسعادة والخير الإنساني دون وحي، وهذا يكفي؛ فلا يصح بعد ذلك الاعتراض عليه بأنه لم يتوصل إلى هذه الأخلاق بوحي أو شريعة.

ولا تتناقض لدى بايل فكرة الوحي الداخلي المفطور مع إمكان وجود وحي خارجي مخصوص لأمة بعينها، مثل الأمة اليهودية. فقد ذهب بايل إلى أن اليهود قد اقتنعوا بعقلهم بفكرة الإله الواحد بعد أن رأوا المعجزات والعجائب على يد موسى، إذ كانت هذه المعجزات وسائل لإقناعهم بالمصدر الإلهي لوحي موسى؛ كما اقتنعوا عقلًا بهذا الوحي الخارجي عندما وعدهم موسى بأن يُخرِجهم من أرض عبوديتهم في مصر ويُسكِنهم أرض كنعان التي سيكونون فيها أحرارًا. فلما كان الله، الضمير الأخلاقي الداخلي، لا يرضى بالعبودية ويدعو إلى الحرية، فقد توصل اليهود إلى أن هذا الإله الذي أرسل موسى هو الإله الحق لأنه يعدهم بالتخلص من العبودية والحصول على الحرية. وعلى أساس العهد مع موسى، وضع بنو إسرائيل الله ملكًا عليهم، بوصفه صاحب السيادة الأعلى عليهم، أي أنهم قد نظروا إليه على أنه ملك صاحب سيادة سياسية عليهم لا مجرد إله. وبذلك صار الإله هو رأس نظامهم الاجتماعي والسياسي، بسبب حالتهم السياسية الخاصة جدًا والتي كانت تتطلب صاحب سيادة سياسي كي يخلصهم من العبودية ويحقق لهم الحرية، وهي أهداف سياسية. وهنا نكتشف مع بايل أصل ونشأة اللاهوت السياسي من طبيعة الاجتماع العبراني القديم.

وقد كان بايل يواجه مشكلة مع تشريعات بالقتل كعقوبة، واضحة للغاية في سفر التثنية[40]. ولما كان بايل يدعو إلى التسامح ويعتقد في أن العنف من كل نوع مضاد للطبيعة الحقة للدين وللنور الطبيعي الفطري والضمير الأخلاقي، فكيف يبرر حضور تشريعات القتل في وحي يقول عنه إنه من الله وفي شريعة موسى؟ وحلًا لهذه المشكلة يذهب بايل إلى أن شريعة موسى كانت قانونًا سياسيًا لليهود، وصارت واجبات الدين وإلزاماته سياسية وليست مجرد دينية، وصار الدين والدولة شيئًا واحدًا عندهم. ولهذا السبب كانت شريعة موسى تأمر بمعاقبة كل من يخرج عنها، لأنها قانون سياسي وليست مجرد دين. إن الدين الطبيعي المفطور لا يأمر بعقاب أحد ولا بقتل أحد إذا خرج عليه، فليس فيه إجبار أو عقاب على من يخالفه. وأوامر شريعة موسى بمعاقبة المخالف لا تعني أن هذا العقاب يأمر به الدين الطبيعي المفطور، بل السبب في العقوبات في شريعة موسى أنها كانت قانونًا سياسيًا لاجتماعهم السياسي، والخروج عليها هو خروج على الدولة والاجتماع السياسي، ومن ثم صارت الدعوة إلى أديان أخرى داخل اليهود خيانة سياسية وطنية عظمى تستحق عقوبة القتل، تمامًا كما يدعو أحد الإنجليز في إنجلترا إلى الولاء لفرنسا أو أسبانيا، فهو بذلك خائن يستحق الموت.

وبذلك يبرر بايل تشريعات عقوبة القتل في شريعة موسى بوصفها تشريعات سياسية مدنية بالكامل، قائمة على العهد أو العقد الاجتماعي السياسي الذي قطعه اليهود على أنفسهم عندما وضعوا الإله على رأس دولتهم بوصفه صاحب السيادة السياسية عليهم[41]. صحيح أن إجبار الضمير الإنساني على اعتناق دين معين يتناقض مع هذا الضمير الإنساني، لكن وفقًا للحالة السياسية لليهود كانت تلك التشريعات الإلزامية والعقابية ضرورة، نابعة من طبيعة عقدهم الاجتماعي والسياسي مع الإله. وبذلك يفسر بايل الإلزام والعقوبات قي شريعة موسى بوصفها سياسية صرف، مبررها العقد الاجتماعي السياسي مع الإله بتوسط موسى، وليس مبررها أبدًا الضمير الأخلاقي المفطور والوحي الطبيعي المطبوع في قلب كل إنسان.

ومن ثم يعالج بايل شريعة موسى بوصفها سياسية مدنية مناسبة للحالة التاريخية والذهنية لليهود القدماء، وهي نتيجة عقد اجتماعي سياسي مع الإله بتوسط موسى. وبذلك فشريعة موسى ليست مُلزِمة ولا مناسبة إلا لقوم موسى في فترة معينة من تاريخهم. وهذا التحليل لشريعة موسى نجده حاضرًا بقوة لدى سبينوزا، ويزيد بايل عليه، ويذهب إلى أن هذه الشريعة تاريخية ولا تلزم اليهود أنفسهم في كل زمان ومكان، لأن صلاحيتها مخصوصة بزمان معين ومكان معين وحالة اجتماعية وذهنية معينة للاجتماع العبراني القديم. ولذلك فتاريخ اليهود التالي نسخ الشريعة اليهودية وأسقطها، لأنها كانت في الأصل تاريخية خاصة بالعبرانيين في فترة تاريخية معينة، تجاوزها التاريخ فيما بعد. إن التطور التاريخي هو الناسخ للشرائع التاريخية.

والملاحظ أن بايل يقيم التوازي بين الوحي الطبيعي والقانون الطبيعي من جهة، والوحي الخارجي والشريعة الموسوية من جهة أخرى. الزوج الأول طبيعي وفطري وهو وضع أصلي للإنسان في الحالة الأولى، والزوج الثاني تاريخي وخاص بشعب معين في فترة معينة من تاريخه. الوحي الطبيعي عام وكلي وشامل للإنسانية كلها، والوحي الخارجي تاريخي ومخصوص بشعب معين. والحقيقة أن فكرة الوحي الخاص بشعب بعينه تعتمد على فكرة العناية الخاصة للإله بشعب معين، وفكرة الوحي الطبيعي المفطور والكلي للإنسانية تعتمد على فكرة العناية العامة الصادرة من الإله للنوع البشري كله. تتضمن فكرة العناية العامة أن الإله وضع في البشرية، كجزء من عنايته بها، وحيًا داخليًا ملازمًا لها على الدوام، وقادرًا على هدايتها في كل وقت، وهذا هو الوحي الداخلي الطبيعي المُتَضمَّن في مبدأ العناية العامة بالنوع، وهو المبدأ الظاهر بوضوح في أعمال فلاسفة الإسلام وخاصة الفارابي وابن سينا وابن رشد.

أصول أفكار بايل عند سبينوزا

وضع سبينوزا على غلاف كتابه “رسالة في اللاهوت والسياسة” عبارة من رسالة يوحنا الأولى، تقول: “وما يؤكد لنا أننا نثبت في الله، وأنه يثبت فينا هو أنه وهب لنا من روحه” (رسالة يوحنا الأولى 4: 13). والحقيقة أن هذه العبارة تتفق تمامًا مع نظرية سبينوزا في نور العقل الطبيعي، وكذلك مع نظرية بايل؛ ولعل هذا هو السبب الذي جعل سبينوزا يضعها على غلاف كتابه كشعار؛ فلما كان الله قد أعطى لنا من روحه – والله خلق آدم بنفخة من روحه – فإن في الإنسان جزءًا من روح الله، وهذا هو الوحي الأصلي الداخلي، الذي ينظر إليه سبينوزا على أنه النور الطبيعي للعقل. والملاحظ أن عبارة “نور العقل” مذكورة في كتاب سبينوزا “رسالة في اللاهوت والسياسة” 52 مرة، وفي كتاب بايل “تفسير فلسفي…” 16 مرة. ومن ثم فلا شك أن سبينوزا كان من مصادر بايل الأساسية في نظريته في الوحي الطبيعي الداخلي. وتكرار كلمة “النور” في الكتابين، سواء في صيغة “نور العقل” أو “النور الطبيعي” أو “نور الطبيعة”، يؤكد لنا أنهما مفتتحا عصر “التنوير”. فهذا العصر قد استند بصفة أساسية على نظرية النور الطبيعي للعقل لديهما، بوصفه وحيًا طبيعيًا داخليًا.

وهذا ما يتأكد لنا بقوة عندما نتعرف على تفاصيل نظرية سبينوزا في النور الطبيعي للعقل. إذ يلوم سبينوزا أولئك الذين يحتقرون العقل الإنساني ثم يضعون مكانه خرافات، ويقولون بأن العقل فاسد بطبيعته، ويدعون أنهم يمتلكون النور الإلهي؛ لكن لو كانوا يفهمون هذا النور الإلهي على حقيقته، لكان محالًا عليهم إنكار نور العقل الطبيعي، لأن الاثنين ليسا في تناقض، ولا يلغي أحدهما الآخر[42]، فنور العقل الطبيعي وفق سبينوزا هو النور الإلهي نفسه. وفي حين يحتقر هؤلاء نور العقل ويعتبرونه مصدر المعصية والخطيئة، فهم في المقابل يتخذون خرافاتهم بوصفها إيمانًا، ويدخلون في نزاعات مذهبية تقسم المجتمع وتؤدي إلى انشقاقات طائفية عديدة حتى داخل الدين الواحد[43].

ولا ينظر سبينوزا إلى النبوة على أنها شيء مختلف بالكلية عن نور العقل الطبيعي؛ فالنبوة في تحليله هي وحي بمعرفة معينة عن الإله؛ ولما كان العقل الطبيعي يتوصل من ذاته ودون مساعدة من أحد إلى وجود الله ووحدانيته وبساطته (ويبدو أن سبينوزا قد أخذ هذه الفكرة من ابن طفيل في قصة “حي بن يقظان”، التي تم نشر الترجمة الهولندية لها سنة 1672، بعد صدور كتاب سبينوزا “رسالة في اللاهوت والسياسة” بسنتين، وربما كانت هذه الترجمة بتوصية منه وتحت إشرافه، إذ نشرها نفس ناشر كتاب سبينوزا في أمستردام)، فليس هناك اختلاف بين الوحي والنور الطبيعي للعقل، بل هما متفقان من كل وجه (أو كما قال ابن رشد، و”الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له[44]؛ و”الحكمة صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة؛ فالإذاية ممن ينسب إليها أشد الإذاية مع ما يقع بينهما من العداوة والبغضاء والمشاجرة، وهما المصطحبتان بالطبع المتحابان بالجوهر والغريزة”[45]). لكن حسب سبينوزا، ينظر العامة إلى المعرفة الطبيعية على أنها أدنى من الوحي ولا يُقَدِّرونها، لأنها متاحة للجميع وواضحة، وهم ينظرون إلى المعرفة الآتية من الوحي على أنها عجائبية مفارقة للطبيعة، في حين أنها متفقة تمامًا مع ما يدركه العقل الطبيعي من الألوهية[46].

كما يذهب سبينوزا إلى أن لا شيء يمنع الإله كي يوصل إلى البشر شيئًا بطرق أخرى غير وحي النبوة، لأنه وضع فيهم بالفعل القدرة على معرفة حقائق الكون. ولما كانت حقائق الكون هي قوانين الطبيعة التي خلقها الله، ولما كانت قوانين الطبيعة هي إرادة الله في خلقه والنافذة في الكون كله، فإن القدرة التي وضعها الله في العقل البشري الطبيعي على معرفة هذه الحقائق هي في النهاية قدرة على معرفة إرادة الله في خلقه، لأن قوانين الطبيعة هي إرادة الله. ولما كان العقل الطبيعي قادرًا على معرفة إرادة الله التي هي قوانين الطبيعة، فهو ليس مختلفًا عن وحي النبوة الخارجي الذي ينقل إلينا إرادة الله أيضًا[47]. وكأن العقل الطبيعي هو وحي داخلي طبعه الله في الإنسان منذ خلقه.

ولما كان الله عقلًا، العقل الأول الذي صدر منه كل نظام وترتيب في الكون، ولما كان القانون الذي يحكم الطبيعة في حركتها وتغيراتها وتفاعلاتها هو إرادة الله وعقله الفاعل في الكون، فإن العقل الطبيعي البشري لا يمكن أن يكون مختلفًا عن هذا العقل الكوني الأول، بل هو جزء منه، فالعقل لا يضاد العقل، ومن ثم يكون النور الطبيعي جزءًا من النور الإلهي وليس مختلفًا عنه بالطبيعة.

خاتمة

حاولنا في هذه الدراسة الإحاطة بنظرية بايل في العلاقة بين العقل والوحي، وأوضحنا فكرته عن العقل بوصفه وحيًا داخليًا، ونورًا طبيعيًا من الله إلى البشرية. كما رصدنا أصول أفكار بايل لدى سبينوزا، ومدى اتفاقهما في مسألة العلاقة بين العقل والوحي، وتحليلهما التاريخي النقدي للنبوة العبرانية والشريعة الموسوية، وكيف أن اللاهوت العبراني القديم كان لاهوتًا سياسيًا بامتياز، مع بيان رصدهما لخصوصية وتاريخية الشريعة اليهودية ومشروطيتها الاجتماعية. كما حاولنا العثور على تشابهات وتوازيات لمثل هذه المعالجة الخاصة بالعلاقة بين العقل والوحي وبأن العقل هو نوع من الوحي الداخلي الأصلي لدى بعض مفكري الإسلام مثل المعتزلة وابن رشد وابن حزم، ولاحظنا من نصوص ابن حزم مدى قربها الشديد من فكرة بايل، مما يفتح أمامنا المجال للاعتراف بتنوير فلسفي إسلامي سبق التنوير الأوروبي وأسس له وكان من أهم روافده التاريخية.

 

الحواشي والمراجع:

[1]) سبق لعدد من الباحثين اكتشاف ما أسموه “سبينوزية” بيير بايل، التي نظروا إليها على أنها هي المحدد الأساسي لفكره، وقد أعطوها الأولوية على الانطباع الشائع عنه بوصفه ديكارتيًا. ومن هؤلاء ريتشارد بوبكن وجوناثان إسرائيل:

Richard H. Popkin, “Pierre Bayle, Superscepticism and the Beginnings of Enlightenment Dogmatism”, in, The History of Scepticism: From Savonarola to Bayle, pp. 283 – 302. (Oxford: Oxford University Press, 2003); Jonathan Israel. Radical Enlightenment. Philosophy and the Making of Modernity 1650-1750. (Oxford: Oxford University Press, 2001); Israel. Enlightenment Contested. Philosophy, Modernity, and the Emancipation of Man 1670 – 1752 (New York: Oxford University Press, 2006)

وللكتاب الأخير ترجمة عربية: جوناثان آي إزرايل، التنوير متنازعًا فيه – الفلسفة والحداثة وانعتاق الإنسان، ترجمة محمد زاهي المغيربي ونجيب الحصادي، مراجعة صالح مصباح، هيئة البحرين للثقافة والآثار، المنامة، 2000.

[2]) أبو الحسين البصري ( ت 436 هـ)، المعتمد في أصول الفقه، دمشق 1965، ص 888 – 889؛ وانظر أيضاً القاضي عبد الجبار بن أحمد (ت 415 هـ): “… المعرفة بالله وبتوحيده وعدله لو لم تتقدم، لم يمكن أن نعلم أن القرآن حجة أصلاً…” (القاضي عبد الجبار، متشابه القرآن، القاهرة، دار التراث، 1969، ص 37)

[3]) Pierre Bayle. Various Thoughts on the Occasion of a Comet, ed. Robert C. Bartlett. (New York: State University of New York Press, 2000)

[4]) Pierre Bayle. A Philosophical Commentary on These Words of the Gospel, Luke 14.23: “Compel Them to Come in, That My House May Be Full”. Edited, with an Introduction, by John Kilcullen and Chandran Kukathas. (Indianapolis: Liberty Fund, 2005).

[5]) وعلى الرغم من أنني سأخرج في هذا الهامش عن الموضوع الأساسي للمقال، إلا أنه من الضروري أن أوضح رأيي في موضوع كتاب بايل آنف الذكر؛ فلا يمكن أن أكتب مقالًا عن بايل وعن كتابه المذكور دون أن أوضح ما أسميه إساءة فهم المترجمين لقول المسيح. أعتقد أن المترجمين لقول المسيح آنف الذكر أساءوا فهمه، سواء اليونان الذين كتبوا الأناجيل باليونانية عن رواية شفاهية أرامية لأقوال المسيح، الذي كانت الأرامية هي لغته، أو المترجمين الأوروبيين المحدثين الذين ترجموا الأناجيل إلى اللغات الأوروبية الحديثة. إن المعنى الذي أعتقد أنه مُتضَّمن في قول المسيح لا يدل على الإرغام أو الإجبار أو الإلزام، بل على الإلحاح والإصرار على أن يأتي كل الناس إلى بيت السيد لحضور العشاء. فحسب عادات وأعراف وأخلاق المجتمعات الشرقية، التي لا يعرفها الغربيون، يتم الإصرار من صاحب البيت على أن يأتي ضيوفه ليتناولوا العشاء، وإذا اعتذروا يلح عليهم، ويكرر الإلحاح كثيرًا. هذه عادة اجتماعية وسلوك معروف لدى الشرقيين، أساء المترجمون فهمه عندما اختاروا كلمات تدل على الإجبار والإلزام والإرغام. الغربيون أنفسهم عندما يأتون إلى الشرق يتعجبون من إصرار أهل الشرق على إقامة المآدب الكبيرة الفخمة لهم، ويندهشون من القيمة الاجتماعية العالية لمائدة طعام الضيوف، ومن إلحاح أهل البيت عليهم وإصرارهم كي يبقوا ويتناولوا الطعام المعد لهم. هذا من كرم الضيافة الشرقي ومن دفء مشاعر الشرقيين تجاه الضيوف، لكن الغربيين يفهمونه على أنه إرغام وإجبار وإلزام، لعدم تمكنهم من فهم العادات الشرقية. ومن ثم فقول المسيح لا يدل على أي إرغام أو إجبار، بل الهدف من قوله أن رسالته سوف تستمر بإلحاح وإصرار كما لو كانت مأدبة عشاء يصر صاحبها على أن يجمع إليها كل الناس، حتى الذين يرفضون. والغريب في الأمر أن بايل نفسه لم يتوصل إلى هذا المعنى في دفاعه عن تلك العبارة.

[6]) Harold Stone, “Why Europeans Stopped Reading Averroës: The Case of Pierre Bayle”, Alif: Journal of Comparative Poetics, No. 16, Averroës and the Rational Legacy in theEast and the West, (1996), pp. 77-95.

[7]) انظر الدراسات المنشورة في: أشرف منصور، ابن رشد في مرايا الفلسفة الغربية الحديثة، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، الرباط/ بيروت، 2018.

[8]) ابن رشد، “هل يتصل بالعقل الهيولاني العقل الفعال وهو متلبس بالجسم؟”، منشور في كتاب: تلخيص كتاب النفس لابن رشد. نشرة د. أحمد فؤاد الأهواني، دار النهضة المصرية، القاهرة 1950

[9]) Bayle. A Philosophical Commentary, p. 65.

[10]) Bayle. A Philosophical Commentary, p. 68.

[11]) Bayle. A Philosophical Commentary, p. 69.

[12]) ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار الآفاق الجديدة، بيروت، الجزء الأول، ص 122.

[13]) Bayle. A Philosophical Commentary, p. 69.

[14]) Bayle. A Philosophical Commentary, p. 70.

[15]) Bayle. A Philosophical Commentary, p. 70.

[16]) المرجع السابق، الجزء الثالث، ص 9.

[17]) Bayle. A Philosophical Commentary, p. 71.

[18]) Bayle. A Philosophical Commentary, pp. 71 – 72.

[19]) Bayle. A Philosophical Commentary, p. 72.

[20]) Bayle. A Philosophical Commentary, p. 73.

[21]) Bayle. A Philosophical Commentary, p. 74.

[22]) Bayle. A Philosophical Commentary, p. 74.

[23]) Bayle. A Philosophical Commentary, p. 75.

[24]) Bayle. A Philosophical Commentary, p. 76.

[25]) Bayle. A Philosophical Commentary, p. 77.

[26]) Bayle. A Philosophical Commentary, p. 80.

[27]) Bayle. A Philosophical Commentary, p. 92.

[28]) Bayle. A Philosophical Commentary, p.92.

[29]) Bayle. A Philosophical Commentary, p. 103.

[30]) Bayle. A Philosophical Commentary, p. 105.

[31]) Bayle. A Philosophical Commentary, p. 113.

[32]) المرجع السابق، الجزء الأول، ص 57.

[33]) المرجع السابق، الجزء الأول، ص 5.

[34]) Bayle. A Philosophical Commentary, pp. 113 – 114.

[35]) Bayle. A Philosophical Commentary, p. 118.

[36]) Bayle. A Philosophical Commentary, p. 118.

[37]) Spinoza, Theological-Political Treatise. Edited by Jonathan Israel, translated by Michael Silverthorne and Jonathan Israel (Cambridge: Cambridge University Press, 2007), p. 61.

[38]) Ibid, p. 60.

[39]) Spinoza, Theological-Political Treatise, p. 79.

[40]) “1. إِذَا قَامَ فِي وَسَطِكَ نَبِيٌّ أَوْ حَالِمٌ حُلماً وَأَعْطَاكَ آيَةً أَوْ أُعْجُوبَةً 2. وَلوْ حَدَثَتِ الآيَةُ أَوِ الأُعْجُوبَةُ التِي كَلمَكَ عَنْهَا قَائِلاً: لِنَذْهَبْ وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى لمْ تَعْرِفْهَا وَنَعْبُدْهَا 3. فَلا تَسْمَعْ لِكَلامِ ذَلِكَ النَّبِيِّ أَوِ الحَالِمِ ذَلِكَ الحُلمَ لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَكُمْ يَمْتَحِنُكُمْ لِيَعْلمَ هَل تُحِبُّونَ الرَّبَّ إِلهَكُمْ مِنْ كُلِّ قُلُوبِكُمْ وَمِنْ كُلِّ أَنْفُسِكُمْ. 4. وَرَاءَ الرَّبِّ إِلهِكُمْ تَسِيرُونَ وَإِيَّاهُ تَتَّقُونَ وَوَصَايَاهُ تَحْفَظُونَ وَصَوْتَهُ تَسْمَعُونَ وَإِيَّاهُ تَعْبُدُونَ وَبِهِ تَلتَصِقُونَ. 5. وَذَلِكَ النَّبِيُّ أَوِ الحَالِمُ ذَلِكَ الحُلمَ يُقْتَلُ لأَنَّهُ تَكَلمَ بِالزَّيْغِ مِنْ وَرَاءِ الرَّبِّ إِلهِكُمُ الذِي أَخْرَجَكُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ وَفَدَاكُمْ مِنْ بَيْتِ العُبُودِيَّةِ لِيُطَوِّحَكُمْ عَنِ الطَّرِيقِ التِي أَمَرَكُمُ الرَّبُّ إِلهُكُمْ أَنْ تَسْلُكُوا فِيهَا. فَتَنْزِعُونَ الشَّرَّ مِنْ بَيْنِكُمْ.  6. «وَإِذَا أَغْوَاكَ سِرّاً أَخُوكَ ابْنُ أُمِّكَ أَوِ ابْنُكَ أَوِ ابْنَتُكَ أَوِ امْرَأَةُ حِضْنِكَ أَوْ صَاحِبُكَ الذِي مِثْلُ نَفْسِكَ قَائِلاً: نَذْهَبُ وَنَعْبُدُ آلِهَةً أُخْرَى لمْ تَعْرِفْهَا أَنْتَ وَلا آبَاؤُكَ  7. مِنْ آلِهَةِ الشُّعُوبِ الذِينَ حَوْلكَ القَرِيبِينَ مِنْكَ أَوِ البَعِيدِينَ عَنْكَ مِنْ أَقْصَاءِ الأَرْضِ إِلى أَقْصَائِهَا  8. فَلا تَرْضَ مِنْهُ وَلا تَسْمَعْ لهُ وَلا تُشْفِقْ عَيْنُكَ عَليْهِ وَلا تَرِقَّ لهُ وَلا تَسْتُرْهُ  9. بَل قَتْلاً تَقْتُلُهُ. يَدُكَ تَكُونُ عَليْهِ أَوَّلاً لِقَتْلِهِ ثُمَّ أَيْدِي جَمِيعِ الشَّعْبِ أَخِيراً. 10. تَرْجُمُهُ بِالحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَ لأَنَّهُ التَمَسَ أَنْ يُطَوِّحَكَ عَنِ الرَّبِّ إِلهِكَ الذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ العُبُودِيَّةِ” (التثنية 13: 1 – 10).

[41]) Bayle. A Philosophical Commentary, pp. 178 – 179.

[42]) Spinoza, Theological-Political Treatise, p. 8.

[43]) Ibid, loc. cit.

[44]) ابن رشد،  فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال. مع مدخل ومقدمة تحليلية للمشرف على المشروع د. محمد عابد الجابري. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى 1997، ص 96.

[45]) المرجع السابق، ص 125.

[46]) Ibid, p. 13.

[47]) Ibid, p. 14.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete