تكوين
يتصرّف الحيوان دومًا بالأسلوب الذي يجعله يحفظ طاقته فلا يستنزفها بنحو مجاني كما يفعل معظم البشر، ذلك أنّ الحيوان بوسعه أن يُحسن التصرّف اعتمادًا على البرمجة الغريزية لأفعاله وانفعالاته، ومن دون حاجة إلى الفهم، خلاف الإنسان الذي ما أن يسيء الفهم حتى يسيء التصرف. لذلك تقوم القاعدة الأساسية للأخلاق على الفهم الجيد لمجريات الأمور. هنا بالذات تكمن أهمية مقولة سقراط، باعتبار المعرفة أساس الفضيلة والجهل أساس الرذيلة.
خلاف الإنسان الذي يحتاج إلى الفهم، يستطيع الحيوان أن يحافظ على طاقته الحيوية بنحو غريزي وفعّال، دون حاجة إلى فهم الذات والمحيط. مثلا، فإن الحيوان لا يصيبه الخوف إلّا في حال وجود خطر ماثل ومباشر، يزول بزواله، كما لا يصيبه الحزن إلّا في حال وقوع فقدان حقيقي، ثم لا يجعله يطول، وفي سائر تفاصيل النشاط اليومي يحسن الحيوان التصرف بالتعويل على البرمجة الغريزية، إذ يعرف كيف يطارد فرائسه بأقل ما يمكن من الجهد والطاقة، بل لا يتردّد في التخلي عن المطاردة وترك المواجهة في اللحظة التي يدرك فيها بأن تقديرات المسافة والسرعة والقوة في غير صالحه، إنه لا يعاند من أجل الشرف أو السمعة أو ما شابه ذلك، وذلك على خلاف ما يفعله معظم الناس، والذين قد يلقون بأنفسهم إلى التهلكة لمجرد المزايدة، التنطع أو الوسواس أحيانا. كما يستطيع الحيوان أن يتعامل مع مشاكل الألم، المرض، الجرح، انخفاض الحرارة، نقص الغذاء، الإرهاق الشديد، ونحو ذلك، وفق قاعدة خفض جهد الحياة إلى أدنى المستويات الممكنة، وهو الإجراء المطلوب خلال الفترات الحرجة التي قد يمرّ منها أي كائن حي، خلاف معظم البشر الذين لا يعرفون كيف يتألمون بهدوء، لا يعرفون كيف يمرضون باسترخاء، لا يعرفون كيف ينامون باستسلام، وبعضهم لا يعرف حتى كيف يجلس في قاعة انتظار لأقل من ساعة. فوق ذلك كله يعرف الحيوان متى وأين يهاجر؟ متى وماذا يأكل؟ متى وكيف يتناسل؟ متى وكيف ينام؟ إلخ، إنه يحسن التصرف في كل التفاصيل اليومية من دون حاجة إلى طرح سؤال العقل الأخلاقي العملي: كيف ينبغي لي أن أتصرف؟ ذلك أن غرائزه تستطيع أن توجهه نحو الفعل ونحو كيفيّة الفعل، في الوقت المناسب، وبحيث يحافظ على طاقته الحيوية، وذلك خلاف الإنسان الذي يرث الدّافع إلى الفعل دون أن يرث كيفيّة الفعل، يرث الدافع إلى الأكل والتناسل والنوم، دون أن يرث الأسلوب الصحي في الأكل والتناسل والنوم، يرث الدافع إلى البقاء والحياة دون أن يرث الأسلوب الذي يناسبه قصد الحفاظ على طاقته الحيوية.
لذلك، قد نرى الخائفين من الناس يغذّون مخاوفهم بأنفسهم، قد نرى الحزانى من الناس يصرّون على إطالة أحزانهم ملء إرادته، قد نرى الحيارى من الناس يبحثون عن كل ما قد يؤذيهم من مواد سامة أو علاقات سامة، قد نرى الهائمين من الناس يستنزفون طاقتهم أو ما بقي منها في تشنجات بدنية أو كلامية لا طائل من ورائها، ذلك أن الإنسان بقدر ما ابتعد عن حالة الطبيعة، فقد تقلصت قدرة غرائزه على ضبط أفعاله وانفعالاته، ومن ثم تراجعت قدرته الغريزية على حفظ صحته وطاقته.
لقد تحرّر الإنسان جزئيا من الحتمية البيولوجية، وهذا عبر مسار تاريخي طويل وبطيء، لكن أكثر من ذلك، ربما نكون بفعل التطور العلمي والتقني مقبلين على طفرة نوعية نحو التخلص من قيود الحتمية البيولوجية، والانفكاك من القوانين الطبيعية التي كانت ترسم حدودا صارمة أمام حرية الإنسان، وسيصبح الإنسان عما قريب قادر على استيطان الفضاء، وتعديل الجينات، واستنساخ الأموات، وربّما اختراق حدود الزمان والمكان، وسيشبه آلهة الأساطير.
الحرية التي يكتسبها الإنسان تمنحه في المقابل بعدًا دراماتيكيا، إذ يستطيع أن يستعملها لحفظ ذاته كما يستطيع أن يستعملها لتدمير ذاته، يستطيع أن يستعملها لمنفعته حين يدعم غرائزه الضعيفة بحسابات العقل فيحفظ صحته ونموه، ويستطيع أن يستعملها ضد منفعته حين يسيء فهم واقعه، أو يسيء التحكم في نفسه، فينتهي إلى تدمير ذاته من حيث يدري أو لا يدري. لذلك يحتاج الإنسان إلى أن يفهم ويستعمل عقله على الدوام حتى يستطيع أن يُحسن التصرّف.
لا يستطيع الإنسان أن يحسن التصرف إلا بتحقق شرطين اثنين: أن يحسن فهم محيطه قدر إمكانه، وأن يحسن التحكم في ذاته قدر استطاعته.
الفهم معناه امتلاك قدر كاف من المعرفة، والتحكم في النفس معناه امتلاك قدر كاف من الحكمة.
سؤال الفهم هنا هو السؤال لماذا؟ لماذا أفعل هذا أو ذاك؟ لماذا أفعله بهذا النحو أو ذاك؟ لماذا أفعله في هذا التوقيت أو ذاك؟ إنه السؤال الأخلاقي للإنسان، بل إنه بالأحرى سؤال العقل الأخلاقي.
لماذا..؟ هو السؤال الذي يصر عليه الأطفال الصغار بلا مَلل، وإن كان يزعج الكبار فلأنّ الفهم متعب في الأول ومحدود في الأخير، ولذلك كثيرا ما يتصرف الناس في أمورهم اليومية كيفما اتفق، دون فهم، ودون حاجة إلى الفهم.
إن منبع الأخلاق هو العقل الأخلاقي الذي ينبغي أن يعمل على الدوام، طالما تنطبق عليه بدوره مقولة، العضو الذي لا يعمل يموت. كما لا ننس أن الإنسان باعتباره كائنا عاقلا لا يستوعب الأمر الأخلاقي بنحو صادق وعميق ما لم يكن قادرا على فهمه، لذلك يقود تعطيل العقل إلى تعطيل الأخلاق أيضا.
غير أن دور العقل ليس السعي إلى الفهم النهائي والمطلق للأمور، فذلك محال في كل الأحوال، فحتى وإن كان ذلك المسعى طموحًا مشروعًا داخل فيزياء الكونيات اليوم، فيما يسمى بـ”نظرية كل شيء”، Theory of Everything، يبقى مؤكدًا أن المجهولات تتسع دوما باتساع المعلومات (الطاقة السوداء، نظرية الأوتار، فرضية الأكوان الموازية، إلخ)، فلا يبقى للمعرفة من هدف آخر غير تحسين قدرة الإنسان على الفهم، لغاية تحسين قدرته على التصرّف، داخل كون يتمدد بسرعة وينفلت بنحو متسارع.
يُمثل الفهم الجيد للأمور الأساس النظري، أي العقلي، للسلوك الجيد في المستوى العملي. وطالما الأمر كذلك فالمعضلة أن تهميش فلسفة الأخلاق عندنا نابع من الاعتقاد الخاطئ بأن التدين يكفي، غير أن ارتفاع منسوب التدين لدى كثير من المجتمعات لم يوازيه ارتفاع في منسوب الأخلاق، بل العكس أحيانا. هذا الإقرار لا يحمل أيّ مساس بالدين بل العكس تماما، فقد ورد عن رسول الإسلام أنه قال، إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. ما يعني أن الدين لا يؤسس الأخلاق، بل يتممها حين يجدها، وما يعني أيضا أن التأسيس الفعلي للأخلاق له حقله الخاص، طالما تنبع الأخلاق من العقل الأخلاقي كما يقر فلاسفة الأنوار، وهو ما يسميه بعض فقهائنا بالفطرة السليمة.
مصدر الأخلاق لا يوجد خارج الإنسان، هنا يكمن جوهر التقاطب التاريخي بين الدين والفلسفة (خط أورشلم وخط أثينا بلغة ليو شتراوس). إن أساس الأخلاق ليس وصايا تُحفظ أو قواعد تُستظهر أو أوامر تنفذ، فذلك يسمى بالقانون، أكان وضعيا أم دينيا، أما الأخلاق فإنها تُبنى على السؤال النقدي بمعناه الكانطي، والذي ينبغي أن يُطرح قبل وأثناء وبعد الفعل: ماذا أفعل، لماذا أفعل؟ وكيف أفعل؟ تقوم الأخلاق على سؤال الفهم بالمعنى البرهاني، والذي يقتضي أن تكون الإجابة قابلة للاختبار، ومن ثمة يستوعبها الإنسان بعمق وصدق. والواقع أن الإنسان لا يهضم فكرة لم يستوعبها عقله إلا على سبيل الادعاء والتمظهر والنفاق، أي على سبيل القناع بدل الاقتناع. لذلك جميع الأوامر الأخلاقية التي يتلقاها الإنسان نقلا وتلقينا تكون مجرد قشور وأقنعة كما هو حال معظم المجتمعات التي تعول على بناء الأخلاق بواسطة الترهيب والترغيب.
يحتاج العقل إلى أن يفهم، هذا صحيح، إلا أنه يدرك بأن قدرته على الفهم محدودة بفعل عوائق الجسد واللغة والثقافة، وهو يتذكر كيف أساء الفهم مرارا، ومن ثم أساء التصرف أيضا، وكانت لبعض تصرفاته السيئة نتائج كارثية، لذلك، ولأجل تحسين قدرته على الفهم، فقد امتلك شجاعة أن يُخضع نفسه للنقد، أن يراجع آلياته، معطياته، ومسلماته، فكان طبيعيا أن تولد الفلسفة أولا لأجل توفير الأرضية النقدية التي ستبنى عليها سائر فروع المعرفة.
إذا كان العلم يتطور بفعل المساءلة النقدية لذاته، والحداثة نفسها تطورت بفعل المساءلة النقدية لذاتها، والحضارة البشرية برمتها لا يمكنها أو تواصل تطورها إذا لم تواصل المساءلة النقدية لذاتها، فإن الأخلاق أيضا لا تتطور إلا بفعل المساءلة النقدية لنفسها. والحال أن الأخلاق تتطور بحكم التطور العام للحياة نفسها، ومثلًا قبل قرون قليلة ماضية كان مستوى تطور العقل الأخلاقي للبشرية كافة يتقبّل سبي النساء في الحروب، وتزويج الطفلات الصغيرات، وضرب الآباء والأمهات لأبنائهم على سبيل التأديب، لكن العقل الأخلاقي للبشرية اليوم لا يتقبل تلك الممارسات في مستوى المشاهدة والمعاينة والمعايشة، حتى وإن قبلها نظريا أولئك الذين قد يشعرون بنوع من الإحراج الفقهي.
العقل الأخلاقي البشري يتطور، وبالتالي ينبغي أن يتطور الحكم الأخلاقي أيضا، ومن ثم تتطور سائر القوانين والتشريعات، أو هكذا يُفترض.
إذا كان العقل يتطور من خلال قدرته على مساءلة مسلماته، فكذلك العقل الأخلاقي بدوره يتطور من خلال قدرته على مساءلة مسلماته.
العقل الأخلاقي هو الوازع.
لا ننس ذلك.