تكوين
“ليس صحيحا ما قرره أوغست كونت من أن الميتافيزيقا فندت الثيولوجيا وعبدت الطريق أمام العلم التجريبي والفكر الوضعاني” عبد الله العروي
الانبعاث والتجديد الحضاري والثقافي في مختلف الثقافات، في جزء كبير منه يستند على مفهوم العقل، لأنه هو الملكة المحورية من وراء الفعل الإنساني، فنتائج ومخرجات الفعل الإنساني تأتي نتيجة طبيعة استعمال العقل لديه. وقد حظي هذا المفهوم بنقاش مهم في الثقافة الإسلامية كما أن واقع الحداثة الغربية قد بدأ مع تجديد مفهوم العقل مع ديكارت، وأي نقد موجه لأعطاب الحداثة اليوم؛ في جزء كبير منه هو نقد لمفهوم العقل في الخطاب والفعل الحداثي. في القرن العشرين حظي مفهومك العقل في الوطن العربي بدراسات ومشروعات علمية، بهدف بناء نسق عقلاني ينسجم ويستجيب لطبيعة التفكير في مقتضيات الواقع العربي الراهن. وهي مشاريع فكرية ينبغي البناء عليها والاستفادة منها، وفق مستجدات المحيط العالمي على رأس تلك المستجدات الذكاء الاصطناعي.
وقد حظي مفهوم العقل بنقاش واسع، في الثقافة العربية الاسلامية، بين من يعتبره جوهر وبين من يعتبره غريزة. والشاهد عندنا هنا بغض النظر هل العقل جوهر أم ملكة، هو حضور الوعي بأهمية إعمال العقل في النظر لمقتضيات الدين والحياة والوجود. فالعقل وفق ابن رشد (-595ه) ليس شيئاً أكثر من إدراكه الموجودات، فمنْ رفعَ الأسباب فقد رفع العقل، إذ لا طريق للاقتراب من معرفة الوجود إلا بالعقل، ويرى علي بن محمد الجرجاني (-816هـ) بأن “العقل: جوهر مجرد عن المادة في ذاته، مقارن لها في فعله، وهي النفس الناطقة التي يشير إليها كل أحد بقوله: أنا، وقيل: العقل: جوهر روحاني خلقه الله تعالى متعلقًا ببدن الإنسان، وقيل: العقل: نور في القلب يعرف الحق والباطل، وقيل: العقل: جوهر مجرد عن المادة يتعلق بالبدن تعلق التدبير”.[2] وهناك من يرى بأن القول بجوهرية العقل فهم دخيل على الفلسفة الإسلامية من الفلسفة اليونانية، وقد تداوله كل من الكندي وابن سينا والفارابي في كتبهم وغيرهم.
ويرى شمس الدين القرطبي (-671هـ) بأن” القول في العقل بأنه جوهر فاسد من حيث إن الجواهر متماثلة فلو كان جوهر عقلا لكان كل جوهر عقلا”.[3] وذهب الحارث بن أسد المحاسبي (-243هـ) إلى أن العقل “غريزة يُولد العَبْد بهَا ثمَّ يزِيد فِيهِ معنى بعد معنى بالمعرفة بالأسباب الدَّالَّة على الْمَعْقُول وَقد زعم قوم أَن الْعقل معرفَة نظمها الله ووضعها فِي عباده يزِيد ويتسع بِالْعلمِ المكتسب”[4] يفسر برغسون (-1941م) الميل إلى اعتبار العقل غريزة فيرى “أن العقل والغريزة متداخلان، فلا وجود لعقل إلا وبه آثار من غريزة، كما أنه لا توجد غريزة خالصة، بل إن بها شيئا من العقل، ويرى أن هذا التداخل هو الذي أدى ببعض المفكرين والفلاسفة إلى الخلط، واعتبار أن العقل والغريزة من نفس النوع”.[5]
القول بأن العقل جوهر، يترتب عنه بأنه مكتمل ومكتف بذاته، فكل ما يراه صوابا فهو عين الصواب، أما النظر إليه بكونه ملكة وغريزة، سيجعلنا أمام معطى مفاده أن الملكة والغريزة قد تصيب وقد تخطأ، ولهذا فالعقل ينبغي أن يكون متبوعا بمطلب الهداية والترشيد ومراجعة ما ذهب إليه، وهو قادر على أن يهتدي بغيره.
فبالنظر إلى القرآن الكريم، نجد مفردة العقل واردة بشكل متحرك، من قبيل: يعقلون، تعقلون، يعقلها. وهذا يدل على أن القرآن ينظر إلى العقل بأنه ملكة غريزية، قال تعالى:” أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)” (الحج) قال تعالى: “ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)“(الأعراف) في العالم المرئي نرى كل شيء ونبصره وقد نعقله في حدود المرئي، ولكن لنعقله من خارج المرئي ومن خلال ما هو متعال فينا، نحن في حاجة إلى المعرفة القلبية التي تأخذنا الى العالم غير المرئي، فالعالم غير المرئي يحتوي العالم المرئي، أي أن عالم الغيب يلف عالم الشهادة من كل جانب، فالعقل ملكة فهم المرئي، والغاية من فهم المرئي لا تقف عند المرئي لذاته، بل بقصد معرفة غير المرئي وهنا يأتي سلطان القلب قال تعالى: “ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) “(الشعراء) قال تعالى: “ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)“(ق) في القلب يجتمع المرئي وغير المرئي.
إقرأ أيضاً: العقل العربي بين الأخلاقي والديني عند الجابري
تشكلت الحداثة والفكر الغربي المعاصر على قاعدة تجديد مفهوم العقل، بدءا من ديكارت (-1650م) الذي لقب بأبو العقلانية الأربية، فهو يرى بأن” أحسن الأشياء توزعا بين الناس بالتساوي. إذ يعتقد كل فرد أنه أوتي منه الكفاية، حتى الذين لا يسهل عليهم أن يقنعوا بحظهم من شيء غيره، ليس من عادتهم الرغبة في الزيادة لما لديهم منه. وليس براجح أن يخطئ الجميع في ذلك، بل الراجح أن يشهد هذا بأن قوة الإصابة في الحكم، وتمييز الحق من الباطل، وهي في الحقيقة التي تسمى بالعقل السليم أو النطق، تتساوى بين كل الناس بالفطرة”.[6] العقل نعمة يتساوى فيها كل الناس، لكن ما هو الموجه الأخلاقي للعقل الطواق الى الحرية؟ الضامن في نظر ديكارت هو الله بقوله ” إن يقين كل علم وحقيقته يعتمدان على معرفتنا الله الحق، بحيث يصح لي أن أقول إني قبل أن أعرف الله ما كان بوسعي أن أعرف شيئا آخر معرفة كاملة. والآن وقد عرفته سبحانه قد تيسر لي السبيل إلى معرفة كاملة لأشياء كثيرة، ولا تقتصر هذه المعرفة على الأمور المتصلة بالله والأمور العقلية الأخرى، بل تتناول أيضا الأمور المختصة بالطبيعة الجسمانية من حيث أنها تصلح موضوعا لبراهين أصحاب الهندسة الذين لا يعنيهم البحث في وجودها”[7] فنظرية المعرفة عند ديكارت تنبني على أن العقل جوهر الانسان، فالعقل والتفكير محدد في وجود الإنسان، تبعا لمقولة ديكارت: “أنا أفكر إذن أنا موجود” فإرادة الإنسان الحرة تنبعث من العقل منطلق الوعي.
فالعقل كمفهوم عند فلاسفة الأنوار، ليس هو نفس المفهوم بالضرورة عند من جاء بعدهم، مع العلم أن المنهج العقلي “العملي يكتفي بظواهر الأشياء من دون الحقائق الباطنة التي تستند إليها هذه الظواهر، مُدخلا لكل شيء في حيز المكان والزمان، حُرمت وسائله من وصف النجوع، لأن تحصيل هذا الوصف يستلزم الجمع بين ظواهر الأشياء وبواطنها كما يستلزم الوفاء بتوجهات الإنسان وتطلعاته إلى عالم المعاني السامية التي لا يسعها المكان ولا يجري عليها الزمان.”[8] ففي القرن التاسع عشر صار مفهوم العقل مقيد الى الحس والتجربة، وبالأخص مع الفلسفة الوضعية التي وضع أسسها أوغست كونت (-1857م) وهي فلسفة مهدت الطريق أمام تشكل العقل الطبيعي الملتصق بالطبيعة، وقد خلص عبد الله العروي بأنه “ليس صحيحا ما قرره أوغست كونت من أن الميتافيزيقا فندت الثيولوجيا و عبدت الطريق أمام العلم التجريبي و الفكر الوضعاني”[9]
العقل الطبيعي هو العقل الملتصق بالطبيعة إلى درجة أنه لا يؤمن بمصدر للمعرفة والقيم والأخلاق خارج إطار المادة وكل ما هو محسوس. يجعل من الطبيعة مرجعيته النهائية ينطلق منها ويعود إليها. وينظر إليها بأنها مكتفية بذاتها، وليس هناك عالم قبلها ولا بعدها، وليس هناك غائية ولا حكمة في نظامها، ويمكن التحكم فيها واستغلالها أكبر استغلال، من خلال معرفة قوانينها، فالعلم بها يؤهل الإنسان ليتصرف فيها كما يشاء ويسيطر عليها ويفوز في صراعه معها.
وبفعل التقنية تحول العقل الطبيعي إلى عقل أداتي ” يوظف الوسائل في خدمة الغايات دون تساؤل عن مضمون هذه الغايات وما إذا كانت إنسانية أو معادية للإنسان. وهو، على المستوى الفعلي، العقل الذي يحدد غاياته وأولوياته وحركته انطلاقاً من نموذج عملي مادي بهدف السيطرة على الطبيعة والإنسان وحوسلتهما”[10] أي التعاطي مع الطبيعة والانسان كوسيلة، بمعزل عن أي غاية أو قيمة أخلاقية، فالحرية وفق العقل الأداتي وسليلة دون غاية ولا مقصد.
العقل الأداتي لا يهتم إلا بما هو تقني فقط، ولا اهتمام له بالثقافة والفكر والتأمل ومختلف الفنون الراقية، فهو فاقد للقدرة على التمييز بين الانسان ومختلف الأشياء بجانبه. وهو سهل المنال ليستجيب بوعي أو دون وعي لمتطلبات نظام السوق في كل ما يجلب الربح السريع، وتبعا لهذا السياق يصبح التفكير” تافها حين لا يهتم الباحثون بالملاءمة الروحية لمقترحاتهم البحثية”[11] فلا يبدو أن ” هناك طائلا وراء التأمل فيما فعله القدماء من قبلنا من أجل إضافة قطعة عمل جديدة الى ثقافة قائمة سلفا”.[12] والآن يفكر ويتساءل الكثير من الفاعلين والمتدخلين عبر العالم عن وضع الإنسان وطبيعته أمام اتساع وتطور الذكاء الصناعي، ونحن اليوم نتحدث عن المدن الذكية التي يحتل فيها الذكاء الاصطناعي حيزا كبيرا، من جهة التنظيم والأمن والتدخل السريع…وقد يحضر في المستقبل بشكل كبير الذكاء الاصطناعي في مجال الصحة والتعليم والطب…والسؤال هنا سؤال أخلاقي هل هناك إرادة لاستثمار الذكاء الاصطناعي في حل مختلف مشاكل العالم من قبيل الحروب، وأسلحة الدمار الشامل، المجاعات، الهجرة…أم أن الذكاء الاصطناعي سيفتح بابا لمزيد من الانزلاق نحو المجهول ونحن نتابع اليوم الطائرات بدون طيار تقصف المدنيين في غزة وفي كل مكان.
العقل الطبيعي والتقني جعل من الإنسان، إنسانا مسلوب الإرادة، نتيجة استسلامه شبه الكامل للتقنية وتطوراتها السريعة التي لا تخدم الإنسان في كثير من جوانب الحياة، فعندما تتحول إرادة الانسان ليكون عدوا لنفسه فتلك أزمة معنى كبيرة جدا، وقد عكست فلسفة سارتر (-1980م) قلق الإنسان الغربي في القرن العشرين في أوربا التي خاضت حربين عالميتين راح ضحيتها ملايين الضحايا، إنه قلق وأزمة البحث عن وجه المسؤولية في حرية الانسان، دون أن يجد طريقا بينا وواضحا لذلك، لأن اللبرالية كونت عبر العالم من خلال الاعلام ووسائل التنشئة الاجتماعية والتعليم ومختلف الوسائل إنسان أحادي البعد “ذلك الذي ينتظر من التطور دونما نهاية للعلوم والتقنيات إشباع تعطش إرادة القوة والربح لديه”[13] فالعقل والعلم والتكنولوجيا اليوم في مجملها تحولت الى خادمة لنظام السوق الحرة، التي تبحث عن الربح بأي وسيلة، فكل القطاعات اليوم بما فيها التي تخدم مصلحة الإنسان في مجال الطب والصيدلة…يحكمها نظام السوق، فالولايات المتحدة تلقي بفائض قمحها وحبوبها في البحار والمحيطات، دون خجل تدرعا بالحفاظ على نظام السوق، وأي حضارة هذه عبر التاريخ عرفت بإتلاف قوت وطعام الإنسان بهذا الشكل، وهذا فعل مستبعد جدا في الحضارة الشرقية.[14]
المشكلة اليوم لم تعد غربية، فهي مشكلة كونية وعالمية، والحل ينبغي أن يكون عالميا، باستثمار ثقافة الشرق وثقافة الغرب، من أجل تجاوز منزلقات العقل الطبيعي والعقل الأداتي، ومنظومة الترشيد والمراجعة ترتبط بالعودة إلى سؤال الأخلاق في الزمن الراهن. أي بالعمل على تجديد مفهوم العقل في سياق الاخلاق، وقد سبق لابن رشد أن عبر بقوله: “فالناس لا يتم وجودهم إلا بالاجتماع، والاجتماع لا يمكن إلا بالفضيلة، فأخذهم بالفضائل أمر ضروري لجميعهم”.[15] وهي مقولة ذات معنى وغاية في وقتنا الحاضر.
المراجع:
[2] علي بن محمد الجرجاني التعريفات، تحقيق، ضبطه وصححه جماعة من العلماء بإشراف الناشر، دار الكتب العلمية، لبنان، ط.1، 1993م، ص151
[3] تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله محمد بن أحمد شمس الدين القرطبي، تحقيق، أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية – القاهرة، ط.2، 1964م، ج.ص370
[4] الحارث بن أسد المحاسبي، أبو عبد الله، ماهية العقل ومعناه واختلاف الناس فيه، حققه، حسين القوتلي، دار الكندي، دار الفكر – بيروت، ط.2، 1398ه، ص205
[5] إبراهيم مصطفى إبراهيم، مفهوم العقل في الفكر الفلسفي، دار النهضة العربية، بيروت لبنان، 1993م، ص26
[6] رينيه ديكارت، ترجمة محمود الخضيرى، مقال عن المنهج، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000)، ص ص 69 ـ 70.
[7] رينيه ديكارت، التأملات في الفلسفة الأولى، ترجمة عثمان أمين، المكتبة الأنكلومصرية، 1980م، دون تاريخ الطبعة، ص 222
[8] طه عبد الرحمن، سؤال الاخلاق، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط.1، 2000م، ص 67
[9] عبد الله العروي، السنة والإصلاح، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء المغرب ط I، 2008 ص:18.
[10] عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ج.2، ص21، النسخة الالكترونية: https://shamela.ws/book/2074/521
[11] آلان دونو، نظام التفاهة، دار سؤال، بيروت، ترجمة، مشاعل عبد العزيز الهاجري الطبعة الأولى سنة 2020م، ص.94
[12] نفسه، ص.96
[13] روجيه غارودي، الإرهاب الغربي، ترجمة سليمان حرفوش، دار كنعان للدراسات والنشر، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى 2007م، ص 136
[14] قال تعالى: ” وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) “(الضحى)
[15] ابن رشد ، تفسير ما بعد الطبيعة ، تحقيق، بويج موريس ، الطبعة الثالثة ، 1990 ، ص 43