العلمانية ضرورة حضارية عند فؤاد زكريا

 تكوين

مقدمة

تتناول هذه الدراسة رؤية المفكر العربي فؤاد زكريا لمسألة في غاية الأهمية والحساسية، هي مسألة العلمانية، انطلاقا من سؤال: لماذا كانت العلمانية عند هذا الفيلسوف همًّا بالمعنى الحقيقي لمفهوم الهَّم، ليس فقط دفاعًا عنها ونقدًا لمعارضيها، بل والدخول في سجال مع مفكرين عرب آخرين لديهم هم أيضا، حسّ نقدي ورؤية عقلانية ومنهج علمي من ناحية، ولكنهم من ناحية أخرى يرفضون رفضا قاطعا، أطرُوحة استقلال الشأن الديني عن الشأن السياسي، بحجج تبدو للوهلة الأولى مُقنعة، كما يهاجم بشدة خطاب الأصولية الدينية الذي يقف على الطرف النقيض للأطرُوحة الفصل.

وفيه هذه الدراسة التحليلية -النقدية نعرض لمرافعة ودفاع واحد من أبرز العقلانيين والتنويريين العرب في القرن العشرين عن الأطرُوحة العلمانية، انطلاقا من إشكالية الدين والسياسة في السياق العربي/الإسلامي، كما نستعرض حججه وبراهينه التاريخية ومقدماته المنطقية ونقده المنهجي لأنظمة الحكم العربية من جهة ولجماعات الإسلام السياسي من جهة أخرى وحتى لبعض المفكرين العرب، كون العلمانية بمعنى فصل الدين عن السياسة أو  بعبارة أصح فصل الدين عن الدولة ، ليس فقط هي الحل لمعضلة اسمها الأصولية الدينية، وإنما ضرورة حضارية لمجتمعات أنهكها وأثقل كاهلها، تسييس الدين وتديين السياسة.

وفي الختام نحاول أن نقدم قراءة نقدية لهذا الموقف العلماني عند هذا المفكر/الفيلسوف الذي تميز والحق يقال، بثلاث خصال قل نظيرها في الفكر العربي المعاصر هي: الشجاعة والاستنارة والعقلانية. وهذه الخصال العلمية تجعلنا نصنفه ضمن الجيل الثالث من المفكرين النهضويين العرب، وإن عاش أكثر في زمن الثورة، لكنه كان يحلم بالنهضة، كما يمكن أن نضعه ضمن التيار الليبرالي- العلماني العربي.

النهضة، والثورة والدين

من يقرأ نصوص المفكر العربي المعاصر فؤاد زكريا (1925- 2010)، وهو مفكر من الجيل الثالث من النهضويين العرب، أي من جيل “التابعين” إن صح هذا التشبيه، الجيل الذي ولد وعاش وتعلم في كنف مناخ ليبرالي، مناخ الحرية السياسية والفكرية ، وإن كان السياج الدوغمائي موجودا وبقوة، لكن هذا المناخ الليبرالي هو الذي صدر فيه كتاب “في الشعر الجاهلي” وكتاب “الإسلام وأصول الحكم” وكتاب “لماذا أنا ملحد ؟” وكتاب “من هنا نبدأ“، وفي هذا السياق الليبرالي كذلك نشأت فيه جماعة الإخوان المسلمين والحزب الشيوعي المصري، هذا المناخ يمتد زمنيا في أرض الكنانة من عام 1919 حتى عام 1952، الجيل الذي لحق بالجيل الثاني وتتلمذ عليه، جيل أحمد لطفي السيد(1872-1963) وسلامة موسى (1888-1956) وطه حسين(1889-1973).

وتواصل معه واستلم منه مشعل الفكر الليبرالي وأخذ منه فلسفة التنوير وتشرب منه النزعة العقلانية/النقدية، وكل من الجيلين كان يقض مضجعه شيء واحد هو الانحطاط ويؤرقهما قضية واحدة هي التخلف، وكلاهما كان يحركه هاجس البحث في أسباب التمدن ومهموما بفك أسرار التقدم ومعرفة شروط النهضة، شانه شأن مفكري الإسلام في العصر النهضة العربية في القرن التاسع عشر الذين هم أيضا انشغلوا بالبحث في أسس التقدم من زاوية أخرى ومن منظار مختلف، وكان سؤالهم المركزي هو : كيف نتقدم؟ وبصيغة أخرى: ما هي أسس التقدم 1.

وخلاصة القول إن التيار الليبرالي في الفكر العربي، كان لا يرى طريقًا آخر للتقدم غير الطريق الأخذ والاقتباس ومحاكاة نموذج الدولة الحديثة كما تكون في أو روبا، ومن ثم لا يرى مانعًا من الغرف من معين الفلسفة الغربية المتدفقة ومن التيار الجارف للتقدم الأوروبي الذي يأخذ كل ما يجده في طريقه، كما كان يرى من الضروري الأخذ بمبادئ الحداثة الليبرالية، في مستوى الفكر والسياسة والاجتماع، كما كان يعتقد أنه لا مناص من التمسك بالقيم المدنية الحديثة، مثل: العلم والعقلانية والحرية والعدل وسيادة القانون والنظام الدستوري والحريات والحقوق. هذه القيم هي السبيل الوحيد للتقدم والنهضة والتمدن، كما كان اعتقاد هذا الجيل راسخا بأن هذه القيم لا تتعارض مع المبادئ والقيم الأخلاقية التي جاء بها الإسلام، مثل: التسامح والتعايش مع مختلف الطوائف والنحل والملل وقبول الاختلاف السياسي والتعدد الايديولوجي. وهي القيم التي سادت في الحضارة العربية الإسلامية، عندما بلغت هذه الحضارة القمة في بغداد ودمشق والقاهرة وفاس ومراكش وتلمسان وقرطبة وغرناطة. وهكذا سعى هذا الجيل من المفكرين العرب-وبكل الطرق-في دمج قيم الحداثة في نسيج الثقافة والمجتمع والدولة، انسجامًا مع العصر، وتناغما مع العالم ، وتوفيرا لشروط النهضة.

أقول من يقرأ نصوص هذا الفيلسوف العربي، سيكتشف بسهولة أنه ذو نزعة عقلانية واضحة، على غرار كبار الفلاسفة العقلانيين أمثال أرسطو وديكارت وكانط، فالعقل لديه هو أساس المعرفة والفهم والتحليل والإدراك والوعي ، كما أنه مفكر تغلب عليه النزعة النقدية والشك المنهجي والتفكير العلمي 2.

إقرأ أيضًا: مفهوم العلمانية في المقاربة الثقافوية العربية الاسلامية

وتجدر الإشارة كذلك إلى أن النقد عند صاحب كتاب “خطاب إلى العقل العربي” ليس ترفا فكريا، بلهو ضرورة الضرورات وأولى الأولويات، بالنظر إلى هذا الكم الهائل من الكوارث التي حلت بالعرب وبالمسلمين في الأزمنة الحديثة، وبالنظر كذلك الى التخلف البنيوي الذي تعانيه المجتمعات العربية، وكذلك بسبب “الاستبداد الشرقي” المقيم في المنطقة العربية منذ قرون !

ولهذا كان لزاما عليه أن يرتكز في كتاباته على أسس فلسفة التنوير ويأخذ بمنهج الفكر الحديث، القائم على دعامتين أساسيتين هما: العقلانية والنزعة النقدية 3.

والحقيقة أن هذا المنهج العقلاني/النقدي مارسه ليس فقط بشكل واضح في محاضراته ودروسه على الطلبة، وإنما طبقه على النظام المعرفي العربي المعاصر، وبالأخص على بعض المفاهيم المغلوطة والتصورات الخاطئة والشائعة في كتابات المثقفين العرب، كما وجه نقدًا لاذعًا للخطاب السياسي العربي الصادر مع سطوع نجم مفهوم الثورة بعد أن توارى عن الأنظار مفهوم النهضة، منذ منتصف القرن العشرين لممارسات الأنظمة الحاكمة، أي منذ بداية مسلسل الثورات  في العالم العربي وخاصة ثورة 23 يوليو  1952في مصر، وبالتحديد في الحقبة الناصرية أي في الفترة التي بلغت فيها مصر والمنطقة العربية ذروة المد اليساري/الاشتراكي/الثوري/القومي في الخمسينيات والستينيات، أيضا مارس فؤاد زكريا هو ايته المفضلة في نقد خطاب السياسي العربي الرسمي السائر نحو اليمين في سبعينيات القرن الماضي، كما انتقد بشدة ما قدمته الأنظمة العسكرية الحاكمة من تنازلات لصالح جماعات الدروشة الدينية والتيارات الأصولية الرجعية، ونخص بالذكر ما قامت به الحكومات العسكرية “الثورية” من إجراءات وما اتخذته من قرارات وما سنته من قوانين تهدف كلها إلى احتضان تيارات الإسلام السياسي ومرافقتها في عملية الصعود وتشجيع الثقافة الفقهية من ناحية بالتوازي مع ضرب القوى السياسية الليبرالية واليسارية ووأد الثقافة العقلانية/النقدية من ناحية أخرى، وفي هذه الحقبة التاريخية بالذات، شهدت المنطقة العربية ردة ثقافية غير مسبوقة وانخفاضا مرعبا في مستوى التفكير العقلاني/النقدي وتقهقرا تراجيديا في الحقوق والحريات وانخفاضا في منسوب التسامح الفكري وقبول الأخر في حرية التفكير والتعبير4. وفي هذه الأزمنة الرديئة والفترة التاريخية الدقيقة التي تمتد من عام 1973 حتى عام 1991، بلغ فيها المد السياسي اليميني الرأسمالي/القطري/الانعزالي في العالم العربي الذروة، نتاج سياسات المهادنة مع الغرب الرأسمالي ومغازلة جماعات الإسلام السياسي من ناحية ورفض الثقافة الغربية والحداثة الأوروبية من ناحية أخرى ، كما لم يسلم من هذا المنهج النقدي –العقلاني الخطاب الديني عموما، الرسمي ممثلا في وزارة الأوقاف وغير الرسمي ممثلا في جماعات الإسلام السياسي 5.

الاستبداد السياسي، والفاشية الدينية

والملاحظ أن الدافع الرئيس لهذا النقد المزدوج، هو أن الأنظمة التسلطية التي سادت في المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج، منذ النصف الثاني من القرن العشرين وإلى عام 1989 تتشابه تشابهًا كبيرًا مع الجماعات السياسية الدينية في طريقة التفكير وخاصة في نقطة محددة هي الاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة.6 ومن ثم السلطة السياسية التي ترى الخصوم السياسيين خونة وطابورًا خامسًا وعملاء للاستعمار والصهيونية، من منظور الأنظمة التسلطية الحاكمة ، أما من يختلف أيديولوجيًا مع الإسلاميين، فهو كافر أو زنديق أو  صليبي أو ماسوني أو صهيوني-وباختصار-هو العدو اللدود للإسلام وللمسلمين7.

وبطبيعة الحال الاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة، سرعان ما يتحول إلى إيديولوجية شمولية ( totalitarisme)، إيديولوجية تؤدي حتما ليس فقط الى احتكار السلطة، وإنما و”التكويش” على الثروة والاستحواذ على السلاح. هذه الإيديولوجية الشمولية عندما تمسك بزمام السلطة فإن أو ل السياسية أصبح سلطة استبدادية تقمع المُعارضة السياسية وتفتك بالمجتمع المدني وتتعامل مع المواطنين بوصفهم رعايا (subjects) وترى بأن الشعب قاصر- mineur- شعب لا يعي مصالحه ولم ينضج بعد، والسلطة السياسية الحاكمة هي الوصية عليه، ومن ثم هي أعرف بأموره وأدرى بمصالحه، وكأنها تقول للأفراد والجماعات: أنا أعلم بشؤون دنياكم !

وباختصار، الدولة هي التي يجب أن تدير حياته وتتدبر أموره، من المهد إلى اللحد !

وهكذا تكرست الدولة- الأم بدل الدولة- الأمة، منذ نشوء نظام الدولة الوطنية في العالم العربي في عشرينيات القرن العشرين في سوريا والعراق ومصر.

والحقيقة أن هذا النوع من الدول وبسبب البنية السياسية السلطانية والنظام التسلطي /الاستبدادي يضاف إليها التركيبة الاجتماعية/التقليدية مع هشاشة البنى الاقتصادية ( اقتصاد الكفاف). وبعبارة أخرى الدولة في الوطن العربي، كانت وما تزال دولة سلطانية، دولة الحاكم الفرد الذي يقرر ما يشاء ويفعل ما يشاء، دولة لا صوت فيها يعلو على صوت السلطان ولا كلام بعد كلام فقهاء السلطان ولا سياسة إلا سياسة الحزب الحاكم وبمعنى أصح حزب الحاكم، ولا رأي إلا رأي مثقفي السلطة ولا إعلام ولا صحافة إلا إعلام وصحافة الرئيس والملك والأمير، كل ذلك في مجتمع ما قبل رأسمالي، ما تزال تحكمه التنظيمات الاجتماعية القبلية والعشائرية، وفي هكذا نوع من الدول ومن المجتمعات كان سينتهي حتما عند محطة لا تسمع فيها غير صوت الانفجارات ولا ترى فيها غير صور الانشطارات. 7

ولكن التشابه الأبرز عند فؤاد زكريا بين حكم العسكر وجماعات الإسلام السياسي، هو أن كليهما يربط ربطًا محكمًا بين الدين والسياسة، وبعبارة أكثر دقة، كلاهما يُفرط في استخدام الدين لأغراض سياسية، ولا يُفرط في المعتقد الديني أبدا، بل ويعض عليه بالنواجذ، إلى درجة أن حدث التماهي بين هذه الجماعات الأصولية والدين الإسلامي، فصارت تعتقد أنها هي الإسلام والإسلام هو هذه الجماعات، أي حدث تطابق بين الدين والفكر الديني ، ولهذا من ينتقد هذه الجماعات فهو ينتقد الدين الإسلامي ومن ينتقد الدين الإسلامي فهو ينتقد هذه الجماعات .8

ومن هذا المنطلق وجه صاحب كتاب “العرب والنموذج الأمريكي” كل ما في جعبته من سهام النقد المنهجي ، إلى نظام ثورة يوليو وإلى المؤسسات الدينية ورجال الدين وكذلك جماعات الاسلام السياسي سواء بسواء، لأن كليهما تلاعب بالدين، إما من أجل البقاء في السلطة كما هو حال الأنظمة العربية وخاصة أنظمة الجمهوريات العسكرية أو إن جاز التعبير الجملوكيات ( الجهورية/المملكة ) وإما أن يُستخدم الدين من أجل الوصول إلى السلطة، كما هو حال الجماعات السياسية الإسلامية، بجميع أطيافها ومختلف فروعها، من الجماعة الأم أي جماعة الإخوان المسلمين، إلى الجماعات التي تفرعت عنها أو  خرجت منها، ونذكر من بين التنظيمات التي خرجت من عباءة الإخوان- وهذا على سبيل المثال وليس الحصر: – تنظيم التكفير والهجرة وجماعة صالح سرية وتنظيم الجهاد والجماعة الإسلامية في مصر والجماعة السلفية للدعوة والقتال والجماعة الإسلامية المسلحة والحركة الإسلامية المسلحة في الجزائر … ولا نستغرب على مفكر مثل فؤاد زكريا، يتبنى النزعة العقلانية/النقدية منهجًا وفي النقد ممارسة، أن يسير في اتجاه علماني وعقلاني/نقدي واضح الطريق ومحدد الأهداف، منذ أن أصدر نصوصه الأولى في منتصف الخمسينيات وحتى وفاته عام 2010.

ولهذا لا يحتاج المرء إلى ذكاء كبير، ليكتشف أن هذا المفكر الشجاع، بالإضافة إلى أنه كما أشرنا سابقا ذو نزعة عقلانية /نقدية واضحة وضوح الشمس في يوم جميل، فهو مثقف اختار منذ البداية طريق الدعوة إلى ممارسة الحرية وإعمال العقل والتفكير الحر وبذر بذور ثقافة التنوير، كما أنه مفكر عميق المعرفة بالتاريخ والدين والاجتماع والسياسية، وعلى اطلاع واسع بما يحدث في مصر والعالم العربي، وليس هذا فحسب، بل إنه قارئ جيد للكتابات السياسية والإنتاج الثقافي العربي، وما يميزه أكثر عن جيله وعن معظم أساتذة الفلسفة في الوطن العربي، هو اتصافه بخصال الجراءة والشجاعة والاستنارة، الجراءة في قول ما يعتقد من أراء وما يتبنى من أفكار، والشجاعة في نقد الأوضاع الخاطئة والمفاهيم المغلوطة والأوهام التي عششت في العقل العربي، وبالإضافة إلى ذلك فهو كاتب علماني- إن صح هذا التعبير- يدعو صراحة وبلا مواربة في كل كتاباته وفي كل محاضراته وفي كل مناظراته وحتى في حواراته وسجالاته إلى إبعاد الدين عن السياسة في المرحلة الأولى، ثم إبعاد الدين عن الدولة في المرحلة الثانية، لتقف الدولة على الحياد وتكون على مسافة واحدة من جميع الديانات والطوائف الدينية. وهذا الفصل سوف يؤدي – في اعتقاده – إلى حماية الدين من التلاعبات السياسية من ناحية والحفاظ على الدولة المدنية من السقوط في يد الفاشية الدينية من ناحية أخرى.9

والموقف العلماني هو الذي دفعه إلى قراءة وتحليل خطابات ومقولات وشعارات ما يسمى بالإحيائية الإسلامية ونقدها بشدة، وخاصة في عقد الثمانينيات، أي في الفترة التي بلغت فيها الحركة الإسلامية الذروة إلى درجة أنها سمت نفسها بالصحوة الإسلامية !

واللافت للنظر أن الموقف العلماني عند هذا المفكر العربي، قد بدأ يتكون في كتاباته الفكرية والفلسفية في عقد الستينيات، سواء تلك التي أخذت منحىً أكاديمي واضحًا، وبالتحديد في ميدانه وملعبه، أقصد تخصص الفكر الفلسفي، وذلك بالاهتمام والتركيز ليس فقط على فلاسفة محددين اشتهروا بالثورة والتمرد والخروج على المألوف، مثل: فريدريك نيتشه- Nietzsche- وبنيدكت سبينوزا- Spinoza- لأن سبينوزا كان من أبرز الفلاسفة الذين تناولوا علاقة الدين بالدولة ومن أبرز المفكرين الذين نادوا بضرورة وضع حدود فاصلة بين دائرة الدين ودائرة السياسية 10، وإنما اشتغل صاحبنا على فلسفات معينة مثل: فلسفة العلوم والتفكير العلمي، أو تلك الكتابات التي يغلب عليها الطابع الفكري السجالي مثل: كتاب “آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة” ولو بصورة غير واضحة تمام الوضوح، ثم تبلور موقفه الداعي إلى استقلال المجال الديني عن المجال السياسي في سبعينيات القرن الماضي وبصورة تامة في عقد الثمانينيات منه، مع اشتداد حدة توظيف الدين بواسطة السلطة السياسية الحاكمة “الثورية” والإصلاحية سواء بسواء من ناحية أولى، وتصاعد المد الديني أو كما يسمى في الأدبيات الإسلامية بـ”الصحوة” فقد انتشر الإسلاميون في كل مفاصل المجتمع انتشار النار في الهشيم من ناحية ثانية/وتغلغل الأصوليين في كل دواليب الدولة من ناحية ثالثة، وبحكم وجود فؤاد زكريا في دولة الكويت التي كانت تعيش حالة ليبرالية بامتياز وانفتاح على الغرب وزخم ثقافي لا يضاهيه إلا ما عاشه لبنان في الخمسينيات والستينيات من حالة ليبرالية وزخم ثقافي غير مسبوق، حتى لُقبت بسويسرا الشرق.

والشيء المؤكد أن عقد الثمانينيات شهد اكتمال النسق الفكري والعقلاني-النقدي للموقف العلماني عند أستاذ الفلسفة في جامعة الكويت. وهذا الموقف يتحدد في ضبط مصطلح العلمانية وتوضيح معناه، وتبديد الغموض الذي يكتنفه من كل النواحي، وتذليل العقبات التي تحول دون فهمه الفهم الصحيح، كما يتحدد الموقف العلماني عنده انطلاقا من نقد الخطاب الديني المعاصر، نقد مفاهيم ومقولات الإسلام السياسي وشعارات حركاته مثل: “الإسلام هو الحل” و”الحلول المستوردة” و”الغزو الثقافي” ، لأن هذه الحركات السياسية/الدينية وباستخدام خطابها المتطرف، تهاجم العلمانية هجومًا عنيفا وترفضها رفضا هستيريًا وتنقضها نقضًا مرضيًا، فهذا الخطاب السياسي/الديني هو المعارض الشرس للخطاب العلماني العربي، فالخطاب الأصولي يسعى بشتى الطرق بما في ذلك الاغتيال المادي والمعنوي، في إزاحة الخطاب العلماني العربي من المجال العام.

إقرأ أيضًا: الحداثة ما بعد العلمانية

ويكتمل الموقف عنده بالدعوة إلى العلمانية والتبشير بفضائلها كونها ليست ضرورة حضارية فقط، وإنما ضرورة وجودية، فإذا كان شعار الإسلاميين “الإسلام هو الحل” فإن شعار أستاذ الفلسفة في جامعة الكويت هو  “العلمانية هي الحل” ، والدافع إلى رفع هذا الشعار هي موجة الإرهاب التي امتدت لسنوات وتجلت في مشاهد القتل والموت والحرق والخراب الذي لم تسلم منه منطقة واحدة في العالم العربي ، وخاصة ما حدث في مصر والجزائر في التسعينيات، وفي سوريا والعراق في العقدين الماضيين على يد الجماعات الدينية المتطرفةـ والغريب أن كل تلك الفظاعات تمت وما تزال تتم باسم الإسلام، أي باسم الله 11.

ونحن في هذه الدراسة نسعى في عرض وتحليل الموقف العلماني عند المفكر العربي فؤاد زكريا، وهو الموقف الذي يتلخص في عبارة واحدة أو إن صح التعبير في شعار واحد هو “الدفاع عن العلمانية وتبرير الدعوة إليها”، باعتبار فصل الدين عن السياسة أو لًا وعن الدولة ثانيًا، هو الوجه الأخر للديمقراطية، فإذا كانت الديمقراطية هي الحل لمعضلة الحكم في التاريخ الإنساني، فإن العلمانية هي الحل لمعضلة تسييس الدين وتديين السياسة، الجارية في العالم العربي/الإسلامي على قدم وساق ومنذ عقود، بل منذ قرون، وبالضبط منذ أن طفت على السطح صراعات الصحابة الضارية على السلطة، والتي تمثلت في مشكلة الخلافة خاصة في النصف الثاني من حكم الخليفة عثمان بن عفان والتي أدت إلى تلك النهايات الدامية للخلفاء.12

والنتيجة… هي أنه من الصعب -حتى لا نقول من المستحيل- أن تكون هناك ديمقراطية من دون أن تكون هناك علمانية، كما أنه لا يمكن أن نتصور أن هناك دولة علمانية دون نظام سياسي ديمقراطي13.وكل تجارب التاريخ الحديث والمعاصر أكدت قاعدة أساسية في العلوم السياسية، هي أن كل الدول العلمانية هي دول ديمقراطية وكل الدول الديمقراطية هي دول علمانية .

العلمانية، مفهوم في قفص الاتهام

يرى صاحب عبارة -إسلام البترودولار- أن لفظ العلمانية هو الأكثر استخداما من طرف الكتاب العرب والأكثر تداولًا بين عامة الناس في العقود الأخيرة من القرن العشرين، ولكنه أيضا اللفظ الأكثر غموضًا والأقل فهمًا، عند المتعلمين وعند الأميين سواء بسواء، ولذلك من المهام التي أخذها على عاتقه -كما قلنا سابقا- هي مهمة تبديد الغموض المحيط بلفظ العلمانية وبيان العوامل التي جعلت الخلط في استخدام المفهوم في حياتنا الثقافية والسياسية المعاصرة وفي دنيا العرب، هو القاعدة وليس الاستثناء .14

وانطلاقا من الاشتقاق اللغوي يرى أن الربط بين العلمانية والعالم هو أدق من الربط بين العلمانية وبين العلم 15 ثم يقترح ترجمة يعتقد بأنها صحيحة وتؤدي الغرض المطلوب هي لفظ الزمانية، لأن الكلمة التي تدل عليها في اللغة الإنكليزية هي -secular- المأخوذة من كلمة لاتينية معناها القرن – saeculum- وعلى هذا الأساس، العلمانية في اللغات الأوربية ترتبط بالشؤون الزمنية، أي شؤون هذا العالم وأحداث هذه الأرض في مقابل الشؤون الرُوحانية التي تتعلق أساسا بالعالم الآخر أي بالآخرة.16

هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، لا يرى فؤاد زكريا مانعًا من وجود علاقة بين الاهتمام بأمور هذا العالم وبين الاهتمام بالعلم. وفي هذا الصدد يعتقد أنه لا فرق بين العالم والعلم مؤكدا في كثير من نصوصه أن العلم كما تحدد مفهومه في العصر الحديث لم يتبلور إلا عندما انتزع بالقوة مهمته الأساسية وهي فهم الطبيعة وتفسير ظواهر الكون وفك أسرار الحياة، انتزع مهمته من المؤسسات الدينية ومن يد رجال الدين، أي من السلطة الرُوحية، ووضعها في يد السلطة الزمنية أي في يد العلماء، وفي الاتجاه نفسه يؤكد فؤاد زكريا أن العلم بطبيعته يتميز بثلاث خصائص أساسية هي: الزمانية، الوضعية، النسبية. فالعلم يتعامل مع الظواهر الطبيعية القابلة للملاحظة، ثم أن العلماء لا يدعون امتلاك الحقيقة المطلقة ولا يزعمون معرفة كل شيء ، كما أنهم يعرفون حدودهم وقدراتهم، فالحقيقة الوحيدة في العلم كما يقول صاحبنا هي قابليته للتصحيح وللتعديل وللنقد.17

ما يريد فؤاد زكريا قوله، فيما كتبه في هذا الصدد أن العلم علماني بطبيعته، لأن مجاله هو هذا الكون واختصاصه هو معرفة وفهم قوانين الظواهر الطبيعية والإنسانية الوضعية، القابلة للملاحظة.

ولا يكتفي داعية العقلانية/النقدية بذلك، وإنما يتطرق إلى مفهوم العلمانية في العالم العربي والذي طاله تشويه ما بعده تشويه، عن عمد تارة وعن جهل تارة أخرى، خاصة من المعارض الأكبر للعلمانية والخصم الإيديولوجي اللدود، وهو خطاب الإحيائية الإسلامية الذي عمل بكل ما في وسعه وبكل ما يملك من وسائل وإمكانات رهيبة في الدعاية والإعلام والنشر ومن إمكانات كبيرة في الخطابة وفي الدعوة والتبليغ، من التشويش على الخطاب العلماني العربي وتشويه رموز التنوير وأفكاره وتسفيّه مفاهيم الحداثة السياسية ومقولاتها ، على مدى عقود من الزمان 18، والنتيجة…

بلبلة فكرية عند عامة المسلمين والعرب وحتى عند خاصتهم. وبالإضافة إلى ذلك حقق خطاب التشويه الكثيف المصوب تجاه مفهوم العلمانية هدفه في التشويش الإيديولوجي، وخلق سوء فهم لدى الإسلاميين ولدى غيرهم من التيارات الفكرية السياسية، إلى درجة أن بعض المثقفين وبعض السياسيين يتحرج -حتى لا نقول يخاف- من استخدام لفظ العلمانية في كلامه وكتاباته، مفضلا لفظ مدنية، وتعبير الدولة المدنية الذي شاع في السنوات الأخيرة.

ولهذا لا نستغرب من كثرة معارضي الفكر العلماني في العالم العربي أي الذين يرفضون العلمانية جهارًا نهارًا، ويناصبونها العداء في الصباح والمساء، ويكيلون لها ما تيسر لهم من الشتائم والسباب، ومن ثم كثرة المُعارضين للقلة من العلمانيين في المنطقة العربية من: جماعات سياسية /دينية وأنظمة حكم ومناخ ثقافي/إعلامي فقهي غالب ومهيمن ورجال دين صوتهم مسموع، عكس كل المناطق الأخرى في العالم، إذ يمثل العالم العربي حالة الاستثناء فيما يخص العلمنة كما يمثل حالة الاستثناء في حالة الدمقرطة، مع الإشارة فقط إلى أن هؤلاء الذين يعارضون مشروع الفصل على مستوى الثقافة العالمة يختلفون في نوعية الخطاب ومستواه العلمي ويتفقون على نقد ونقض العلمانية ولكن يصنفون إلى صنفين:

  • صنف يمارس نقد دعائي لا علمي وصنف آخر يمارس نقداً به قدر من العلم والفكر والمنطق .ويسمي فؤاد زكريا الصنف الأول من الانتقادات، بالانتقادات الخطابية
  • صنف ثاني بالانتقادات العلمية 19. وهكذا يرى أن النقد الخَطَابي، لا يتوفر على مستوى علمي يسمح بالمناقشة العلمية ولا حتى بالسجّال الفكري والايديولوجي.

والغريب في الأمر أن هذا النوع من النقد الخَطَابي (من الخطبة) هو الأكثر انتشارًا في كتابات الاتجاه الإسلامي المعاصر، والأكثر تداولًا في خطبهم وأحاديثهم، رغم أنه لا يستند إلى قاعدة فكرية صلبة، ولا يعتمد على تفكير منطقي سليم، أما سبب انتشاره هذا الانتشار الواسع هو  أنه نقدٌ يقوم أساسًا على سبِّ وشتمِ الكتاب والمفكرين العلمانيين العرب ويهاجمون العلمانية، وذلك في لغة انفعالية، هدفها الرئيس هو استثارة العواطف وتهييج المشاعر، وبصورة خاصة مشاعر العامة وعواطفهم الذين يفتقدون الحس النقدي وتنقصهم المعرفة العلمية، والأهم من كل ذلك لديهم القابلية لتصديق كل ما يُذاع على مسامعهم وكل ما يُعرض أمام أعينهم 20.

والنتيجة أن هذا النوع من الخطاب الانفعالي، هو الذي يُحدد في نهاية المطاف موقف خطاب الأصولية الدينية من مسألة العلمانية، وهو موقف كما قلنا معارض ورافض جملة وتفصيلا لفكرة الفصل بين السلطة الرُوحية والسلطة الزمنية، انطلاقًا من بعض الحجج وبعض البراهين التي تصب كلها عند مجرى إقصاء الفكرة، واستبعاد المفهوم من الحياة الثقافية، بل وإزاحة الأطرُوحات الحداثية من الساحة الفكرية السياسية العربية وإلغاء المقولة الشهيرة “اعط ما لله لله وما لقيصر لقيصر” من القاموس الفكري السياسي العربي.

ومن بين الحجج التي يقدمها الكتاب الإسلاميين ليس فقط النقد والنقض، وإنما إقصاء المفهوم من الساحة تمامًا، هي أن العلمانية مسألة لا دينية، أي أنها ضد التدين، ومن ثمَّ هي كارهة للعبادات ورافضة للطقوس الدينية. ولا تنتهي لائحة الاتهام عند هذا الحد، إذ يقدم الإسلاميون حُجة أخرى تُبرر رفضهم للفكرة ة من بينها أنها منتوج أوروبي صدر في مناخ رأسمالي/غربي/مسيحي محض21.

وخلاصة القول عند الكتاب الإسلاميين، أن محض الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة في “دار الإسلام” هي مؤامرة ضد الإسلام 22.

وتسعى هذه الدراسة في مقاربة الموقف العلماني عند صاحب كتاب “التفكير العلمي” وذلك من طريق قراءة تحليلية نقدية، وبناءً عليه لا مندوحة لنا من سرد مرافعته دفاعًا عن العلمانية مع عرض الحجج والبراهين التي دحض بها معارضي الفكرة الذين وجهوا للفكرة سيلًا من الاتهامات، كما نعرض ردوده على هذه التهم ونقده لها. وتجدر الإشارة إلى أن الموقف العلماني عند صائغ عبارة “العلمانية ضرورة حضارية” في الفكر العربي، يتأسس بالنقد الذي يمارسه على مواقف الكتاب الإحيائيين من المسألة العلمانية المطرُوحة على طاولة الفكر والسياسة في الوطن العربي، منذ أكثر من قرن ونصف من الزمن 23.

ولهذا فالكتابة عنده تأخذ في كثيرٍ من الأحيان الطابع السجّالي والنَفَس الجدالي، وهو نوع من الكتابة ساد في الفكر العربي في وقت مضى، وما يزال سائدًا حتى اليوم، يكون أحيانا في شكل حوار أو مناظرة كما يتخذ أحيانا كثيرة صيغة النقد والنقض وفي بعض الحالات يصل حد تبادل السباب والشتائم كما يحدث في مناظرات القنوات الفضائية. ومما لا شك فيه، أن أهم حُجج الكتاب الإسلاميين في رفض العلمانية، هي حُجة أن العلمانية واللا دينية وجهان لعملة واحدة 24، فهي -في نظرهم- نقيض الدين والدعوة إليها هي دعوة إلى إلغاء الدين من الحياة الاجتماعية تمامًا، وطبعًا هذا غير صحيح ولم يحدث لا في التاريخ الأوروبي الحديث ولا في التاريخ العربي المعاصر.

العلمانية ليست ضد الدين

يرى صاحب عبارة “إسلام البترودولار” أن الفكر الإسلامي المعاصر لم يُجمع على شيء كما أجمع على الربط بين مفهوم العلمانية ولفظ اللا دينية، هذا الربط يكون سلاحًا خطيرًا يضرب به مُنظرو الإسلام السياسي عصفورين بحجر واحد، نشر الأيديولوجيا الدينية المتطرفة بين عامة الناس وخاصة بين الشباب الغض، وفي الوقت نفسه شيطنة دعاة العلمانية، بوصفهم أعداءَ الدين وأعداءَ الإسلام، وبذلك تكون المسألة قد حُسمت منذ البداية. وهكذا يوجه مفكرو الاتجاه الإسلامي للعلمانية ثلاث تُهم، وهي:

  1. العلمانية هي في الدرجة الأولى موقف مناهض للدين ومعادٍ للعقيدة الإسلامية 25.
  2. كما أنها نمط حياة خالٍ تمامًا من تأثيرات الدين وتوجيهاته فيما يتعلق بتنظيم المجتمع وبناء العلاقات الإنسانية التي تحكمها قيم أخلاقية.
  3. ثم أنها تفتقر إلى القيم الرُوحية والأخلاقية، لأنها نتاج الفلسفات المادية اللادينية.

والحقيقة أن هذه النظرة إلى العلمانية، كما يعتقد فؤاد زكريا تعج بالمغالطات لأنه وفق رأيه، الخطاب الديني المعاصر برمته يتأسس على المغالطات ويتغذى من المغالطات ويتنفس بالمغالطات.

وهكذا نستنتج أن خطاب الأصولية الدينية ينبني عل أربع مغالطات في موضوع العلمانية هي كما يلي:

  • المغالطة الأولى، وهي الاعتقاد بأن العلمانية، بوصفها منهجًا سياسيًا-أيديولوجيًا يُقصي الدين من الحياة الاجتماعية ويُلغيه من العلاقات الإنسانية، كأن تمنع العبادات والمناسبات الدينية ومظاهر التدين. والحقيقة أن هذا غير صحيح 26، لأن العلمانية هي في الأساس تدعو إلى الفصل بين التنظيم الديني والتنظيم السياسي، ولا ضير في ذلك، بدليل أن المجتمعات المعاصرة لها تنظيماتها السياسية المفصولة تمامًا عن التنظيمات الدينية، فذلك مجال سياسي وهذا مجال ديني، أما القول بأن النظام العلماني يستبعد القيم الأخلاقية من العلاقات الإنسانية، فهذا أيضًا غير صحيح لأن المجتمعات العلمانية المعاصرة تحكمها قيم أخلاقية وتضبط علاقاتها الاجتماعية مبادئَ مدنية ومُثُلًا حضارية غاية في الرقي الإنساني، بالإضافة إلى أن المواطن العلماني المُتحمس دينيًا لا يجد غضاضة من الاستناد على أسس اجتماعية دينية والتعامل في الوقت نفسه بمعاملات علمانية صريحة.27
  • المغالطة الثانية، أما المغالطة الثانية كما يتصور أستاذ الفلسفة فهي “تكمن في التلاعب بلفظ اللا دينية، فالكلمة يُمكن أن تعني الخارج عن نطاق الدين، ويُمكن أن تعني المضاد للدين أو الرافض للدين. ومما لا شك فيه، أن العلمانية إذا جاز أن توصف بأنها لا دينية فإنها تكون كذلك إلا بالمعنى الأول، لأن كل ما ترمي إليه هو إبعاد الدين عن ميدان التنظيم السياسي للمجتمع، والإبقاء على هذا الميدان بشريًا بحتًا، تتصارع فيه برامج البشر ومصالحهم الاجتماعية والاقتصادية، دون أن يكون لفئة منهم حق في الزعم بأنها تُمثل وجهة نظر السماء….”28.
    ومن الواضح أن معنى العلمانية عند صاحبنا، هو عدم المساس أو بالأحرى عدم التلاعب بالدين سواء من طرف السلطة الحاكمة أو من المعارضة السياسية. فالسلطة والمعارضة والحكومة والانتخابات والأحزاب والبرامج السياسية، هي أمور إنسانية أرضية من صنع البشر لا دخل للسماء فيها، ومن ثمَّ لا أحد يملك من الفرقاء السياسيين التحدث باسم الله في أمور تتعلق بقضايا التعليم والصحة والمواصلات والبطالة والسكن. ولهذا لا بُد من برامج سياسية/اقتصادية لمعالجة هذه القضايا، ولا بُد من إدارة سياسية في التعامل مع هذه الملفات، ومن الطبيعي أن تختلف الرؤى في هذا المجال وتتعدد المشاريع، وكذلك من البدهي أن تنشب الصراعات بين القوى المكونة للمجتمع وذلك بحكم اختلاف الأيديولوجيات وتناقض المصالح داخل المجتمع الواحد.

إذن كل ما تسعى فيه العلمانية، هو إبعاد الدين عن الصراع السياسي، أما القول بأنها تعني “رفض الدين، فليس من صميم العلمانية في شيء، صحيح أن بعض العلمانيين رافضون للدين ولكن من المؤكد أيضًا أن كثيرين من العلمانيين متدينون وأن كثيرًا من المتدينين علمانيون لأن الدين يظل محتفظًا بقداسته في كلتا الحالتين، ولكنه ينزه عن التدخل في الممارسات السياسية المتقلبة مع تنظيمه لجوانب مهمة في حياة الإنسان مثل: الجانب الرُوحي الأخلاقي…ʺ29.

وهكذا نستنتج أن العلمانية لا ترفض الدين، بل العكس تحافظ عليه من التلاعبات السياسية وتحييدهُ عن ساحة فيها من (سوء الأخلاق) الشيء الكثير مثل: الكذب والنفاق، أما عن الدسائس والمكائد والمؤامرات في هذه الساحة، فحدث ولا حرج، كما أن المعترك السياسي به قدر لا يستهان به من الدهاء والمكر والخداع والخبث، أما الساحة الأخرى التي تتجلى فيها القيم والمبادئ الأخلاقية والرُوحية فهي التي تجد فيها مكانته. ولهذا من الضروري الفصل بين الساحتين، ساحة المدنس le profane- -وساحة المقدس – sacré-. وأي خلط بينهما يُفضي إلى كوارث كما حدث في أوروبا في العصور الوسطى وبداية العصر الحديث من مجازر وحروب دينية، وكما حدث في العقدين الأخيرين في العالم العربي من داعش وأخواتها من قتل وذبح وحرق واغتصاب، وما سببته من تهديد للسلم الاجتماعي ومن تفكيك للدول وتفسخ للمجتمعات.

  •  المغالطة الثالثة، يتوقف عندها الناقد الأول لخطاب الإحيائية الإسلامية، هي مغالطة ملفوفة في بطانة دينية، وتتردد كثيرًا عند أصحاب الاتجاه الإسلامي بكافة أطيافه هي الادعاء بأن فكرة العلمانية صادرة عن فلسفات مادية مثل: فلسفة العقد الاجتماعي والفلسفة الوضعية والفلسفة الماركسية، بالإضافة أن لها علاقة بالثورات العلمية كما أن لها خُطوط اتصال مع النظريات الكبرى… الداروينية والفرويدية والماركسية. وكلها فلسفات ونظريات وثورات مُعادية للدين، كما أنها فلسفات ومفاهيم ومقولات وُلِدَتْ ونشأت وسادت في الأزمنة الحديثة المادية في أوروبا، ولهذا هناك ارتباط وثيق بين العلمانية والمادية. والسؤال المطرُوح: ما الهدف من هجوم الخطاب الديني على الفكر العلماني؟ يُجيب فؤاد زكريا بأن الهدف الحقيقي من هذا الهجوم هو شحن الأنصار والإتباع والمتعاطفين مع التيار الأصولي، خاصة الشباب الغض بخطاب من الكراهية ضد مقترح إحداث قطيعة بين السياسة والدين وضد مسار العلمنة الذي دشنته الدولة الكولونيالية في المنطقة العربية، وسارت في أعقابه الدولة الوطنية الناشئة في عشرينيات القرن الماضي.

ولا يتوقف الأستاذ عند هذا الحد، بل ويصحح معلومة تتعلق بتاريخ الفلسفة، وهي أن العلمانية هي نتاج الفلسفات المثالية أكثر من كونها نتاج الفلسفات المادية، كما يتوهم الإسلاميون، والدليل على ذلك، كما يدعونا أستاذنا إلى تأمل التاريخ الحديث لأوروبا الذي شهد ميلاد الدولة العلمانية الحديثة والتي يزعم الإسلاميون أنها صَدَّرَت إلينا مسار العلمنة، فهي من قبيل الأفكار المستوردة، وتدخل في إطار الغزو الثقافي، ففي هذا التاريخ سوف نجد أن كل الأيديولوجيات وكل الفلسفات تنقسم إلى فلسفتين متناقضتين: إما فلسفة مادية وإما فلسفة مثالية، بل إن ما يُسمى بالخط المثالي كان تأثيره أقوى وانتشاره أوسع وتجذره في البيئات الأوروبية أكثر من الخط المادي، ومع ذلك فقد كان الجميع يتبنى الطرح العلماني “فديكارت أبو المثالية الأوربية الحديثة وكانط – Kant – صاحب المثالية النقدية وهيغل- Hegel – أكبر المثاليين في التاريخ، وغيرهم من الفلاسفة والأدباء والمفكرين المغرقين في المثالية، كل هؤلاء كانوا علمانيين رافضين رفضًا قاطعًا تدخل الكنيسة أو الدين بوجه عام في التنظيم السياسي أو الاجتماعي للدولة ….”30،

وهنا لا بُد أن نتوقف لنشير إلى أن مفهوم المادية في الفلسفة هو غير مفهوم المادية المبتذلة التي يقصدها الإسلاميون، فإشباع الشهوات والغرائز الحيوانية عند الإنسان شيء والفلسفة المادية شيئًا آخرَ تمامًا، بالإضافة إلى أن الحضارة الأوروبية الحديثة -شئنا أم أبينا- لها انتاجها المادي ولها انتاجها الرُوحي، حضارة قدمت الروائع في العلم والتقنية والفكر والآداب والفنون.31 وما يلفت الانتباه أن سيل الاتهامات التي انهالت على مفهوم العلمانية، لا تنتهِ عند حد معين، وهي كما يرى أستاذنا مغالطات أكثر منها اتهامات.

  •  المغالطة الرابعة، التي تنص على أن العلمانية في العالم العربي لم تكن مجرد فصل الدين عن الدولة، بل أن فصل الدين عن الدولة خُطوة أولى تليها خطوة حاسمة هي، علمنة الذات ومعناها إسقاطًا نهائيًا للثقافة العربية والدين الإسلامي والتراث، وكل ما يتعلق بهُوية الأمة32 وفي الرد على هذه المغالطة يقول فيلسوفنا العربي: “الادعاء بأن العلمانيين يستهدفون إسقاط الفكر والدين والتراث والقيم القديمة كلها، وهو ادعاء يكذبه مجرد استذكار أسماء بعض كبار العلمانيين مثل طه حسين والعقاد والمازني وهيكل (باشا) ممن كانوا باحثين أصلاء في التراث ومدافعين أشداء عن أصالة الذات العربية” 33.

ومن الواضح أن الفكرة التي يقصدها في هذا النص، أن كبار العلمانيين العرب، سواء أكانوا من التيار الليبرالي العربي أم من الاتجاه اليساري، ما كان يدور في خلدهم هدم الثقافة العربية ولا التراث الإسلامي، ولا كانوا يفكرون في طمس الهوية، هُوية الأمة التي ترتكز على مدماك العروبة والإسلام، بل العكس هؤلاء خدموا التراث تحقيقًا ونشرًا ودراسةً، وقدموا إلى الثقافة الشيء الكثير، إنتاجًا غزيرًا وإبداعًا متميزًا. ومما يدعو إلى الغرابة أن أصحاب هذه الاتهامات والمغالطات والاتجاه الذي ينتمون إليه تقريبًا، لم يسهموا في الإنتاج الثقافي العربي المعاصر في القرن العشرين، ومن ثمَّ لا نعرف للإسلاميين شاعرًا مميزًا ولا روائيًا ذي شأن ولا مفكرًا بمعنى الكلمة ولا فنانًا ذي صيت، في مقابل أن اليسار العربي -المُتهم بالمادية- قدم إلى الثقافة العربية، عددًا يكاد لا يُحصى من الأدباء ومن المفكرين ومن الفنانين، نذكر منهم على سبيل المثال وليس الحصر: محمد أمين العالم ومحمد مندور وحسين مروة وإلياس مرقص وعبد الله العروي، وياسين الحافظ والطيب تيزيني، وصادق جلال العظم وسمير أمين وحنا مينا، ومحمود درويش، غسان كنفاني… كما أغنى التيار الليبرالي العربي –المتهم بالتغريب- الساحة الفكرية بعدد من المفكرين منهم: طه حسين ومحمود عباس العقد وزكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوي ونجيب محفوظ.

والحقيقة أن حركات الإسلام السياسي ليست فقط لم تُلهم في الثقافة العربية المعاصرة بشاعر أو أديب أو فنان أو مفكر عقلاني، وإنما تُحرم الفعل الثقافي وتُجرم الإبداع الفني وتعمل لمنع التفكير ما استطاعت إلى ذلك سبيل، تحت عنوان عريض هو “تكفير التفكير”! 34. وكل هذا التحريم والتجريم والتكفير، من منطلق أن الثقافة والفنون والآداب والفكر، هي منتوج بشري وضعي، ومن ثمَّ علماني، ويزداد منسوب التحريم والتجريم إذا كان هذا الفكر دخيلًا وذاك الفن مستوردًا وتلك الثقافة غازية! 35

العلمانية ليست مؤامرة

يرى فؤاد زكريا أن الخطاب الأحيائي يحكمه مبدأ أساسي أخر هو: مبدأ التآمر، بمعنى أنه يؤمن بنظرية المؤامرة والدسائس إيمانًا مُطلقًا، فكل ما جرى وما يجري في العالم العربي/الإسلامي هو مؤامرة ودسيسة، وكل ما حدث من ظواهر وأحداث وكل ما يُنشر ويُذاع من أفكار ومقولات وأيديولوجيات هي مؤامرة، فالحروب الأهلية تحركها أيادٍ أجنبية والصراعات الاجتماعية من اضرابات ومظاهرات تقف من ورائها قلة مندسة، والتناحر السياسي في العالم العربي بين السلطة والمعارضة هو من الدسائس التي تُحاك من وراء البحار، ولسنا في حاجة إلى شرحٍ كبيرٍ، للقول بأن كل كتابات ومنشورات الخطاب الديني الرسمي وغير الرسمي، تتكلم عن المؤامرة وتُفسر كل ما حدث ويحدث للمسلمين بأنه مؤامرة، وفي هذا الصدد يُشير أستاذنا إلى أن الفكرة المسيطرة في كتابات الإسلاميين وخطاباتهم الأيديولوجية والسياسية، هي فكرة -أو بعبارة أدق نظرية المؤامرة- كما أن كل تفسيراتهم للظواهر التاريخية والثقافية والسياسية العالمية وحتى العلمية، تقوم على التفسير التآمري، ومن ثمَّ كل ما يقع من حولنا من مصائب وكوارث هي مؤامرة، حتى وإن كانت هذه الكوارث وهذه المصائب من صنع أيدينا ولها أسباب نزول داخلية”، فوراء كل ظاهرة تسعى تلك التيارات في محاربتها، مؤامرة صليبية أو استعمارية أو يهودية صهيونية أو ماسونية أو استشراقية، وهذه الجهات كلها في نظرهم متربصة بالإسلام، تتحين الفرص للإيقاع به، بل إن كتاباتهم لتوحي في أحيان غير قليلة بأن المنتمين إلى هذه الجهات جميعًا ليس لهم شغل يشغلهم سوى الإسلام والمسلمين…” 36.

وخلاصة القول إن من ثوابت الفكر الإسلامي المعاصر رؤية كل شيء وكل الحوادث وكل الأفكار وحتى بعض العلوم والمعارف مؤامرة، خاصة إذا كان مصدرها خارجي، وبالأخص إذا كانت آتية من الغرب/المسيحي/الكافر! ولذلك كل من يدعوا إلى هذه الأفكار التغريبية في الداخل فهو عميل وشريك في هذه المؤامرة، وتزداد حدة الاتهام وتعلوا نبرة صوت التخوين إذا كان الأمر يتعلق بالأفكار “المستوردة” “والمناهج والنظريات العلمية والفكرية والفلسفية” الدخيلة “وكله يندرج تحت شعار مخيف هو شعار “الغزو الثقافي” 37.

هذا الثابت تحول مع مرور الوقت إلى عقلية وطريقة في تفكير تعكس بوضوح مدى أزمة العقل العربي الذي يرتاب من كل شيء ويشك في كل شيء ويخاف من كل شيء. ولهذا من الطبيعي أن يوضع مفهوم العلمانية في القائمة السوداء، قائمة المفاهيم والنظريات التي تُمثل مؤامرة على الإسلام وعلى المسلمين.38 وعن هذه الطريقة في التفكير أو النظرة التآمرية يرى فؤاد زكريا أنها: “تتجلى بصورة مباشرة في موقف الإسلاميين المعاصرين من العلمانية، فهناك ما يُشبه الإجماع بينهم على أن العلمانية مؤامرة على الإسلام، وأن لهذه المؤامرة مصدرًا أجنبيًا وأن دعاة العلمانية في العالم الإسلامي، إما مشاركون بوعي في هذه المؤامرة وإما أدوات ساذجة في أيدي القوى الأجنبية التي تتآمر على الإسلام…”39.

وفي السياق نفسه يلفت صاحبنا، الانتباه إلى أن الجهات الضليعة في المؤامرة لا تنتهِ عند ما ذُكر سابقًا، بل أضيف إلى قائمة المتآمرين جهات أخرى، فيما يخص مؤامرة العلمانية وهي الثورة الفرنسية وعصر التنوير! 40. ولهذا فهو يُبدي اندهاشه من إقحام هذه الثورة التي تسمى بثورة حقوق الإنسان وهذا العصر الذي يُسمى بعصر العقل في قائمة المتهمين بالتآمر على المسلمين والإسلام، رغم أن عصر التنوير، أي القرن الثامن عشر الذي ظهرت فيه فلسفة التنوير التي كانت بمنزلة فلسفة الثورة الفرنسية، هذه الأخيرة التي أتت فيما بعد بنظام نابليون بونابرت الذي قاد حملة عام 1798 ضد مصر وكانت هذه الحملة صدمة حضارية أيقظت الشرق من سبات عميق. بالإضافة إلى أن عصر التنوير في القرن الثامن عشر الذي أنجب كبار فلاسفة السياسة الذين نظروا للنظام الديمقراطي والفكر الليبرالي والدولة الوطنية الحديثة والثورة الفرنسية، لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد، باليهود واليهودية والتلمود، كما يزعم كثيرٌ من منظري التيار الديني/السياسي. والجدير بالذكر أن عصر التنوير كان هدفه الرئيس تحرير العقل البشري من ثقافة الخرافة والتفكير الأسطوري والمعتقدات الغيبية والتصورات السحرية والشعوذة الدينية، كما كان لهذا العصر في اعتقاد فؤاد زكريا تأثيرًا بالغًا في المستقبل الثقافي والاجتماعي لشعوب أوروبا الغربية، كما كان هذا العصر حقبة تاريخية حاسمًة في وصول البشرية إلى النضج العقلي والتخلص من الوصاية، وأصبح الإنسان هو مركز الاهتمام وليس الإله. أما الثورة الفرنسية فقد أسهمت في تحريك عجلة التاريخ وأكدت مبادئ الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، وإن كانت لها نقاط سوداء… وهل هناك ثورة بيضاء في التاريخ؟ فالثورة الفرنسية على غرار كل الثورات في التاريخ الإنساني كانت ثورة حمراء، لكنها كانت ثورة فكرية واجتماعية، ساعدت على التحرر السياسي والاجتماعي للإنسان، ومن أهم انجازاتها أنها وضعت الطبقة البرجوازية صاحبة مشروع التنوير مكان طبقة النبلاء الإقطاعيين المتحالفين مع القساوسة والكهنوت ومع الحكام المستبدين 41.

إقرأ أيضًا: ثمانون عامًا على رحيله: عمر فاخوري.. رائد النهضة العربية والوطنية اللاطائفية

ومن كثرة الجهات المتآمرة وتعدد الجبهات المعادية، يقع الكتاب الإسلاميون في تناقض صارخ، إذ يرون العلمانية مؤامرة مسيحية وأنها رأس الحربة في التبشير الصليبي من ناحية، ومن ناحية أخرى يسمونها باللا دينية. وهنا يتساءل فؤاد زكريا كيف يُمكن أن تكون العلمانية مرادفة للا دينية وتكون رأس الحربة في التبشير الصليبي في الوقت نفسه؟! 42. ويجيب: “لقد ظهرت العلمانية في أوروبا كما يعرف الجميع… لتكون ردَّ فعل على طغيان الكنيسة ووقوفها في التطور الاجتماعي والعلمي في الغرب، فهل ترضى الكنيسة التي هي بغير شك راعية التبشير بأن تستعين في مهمتها بذراع تسعى في هدمها ؟43.

وهكذا ومن طريق هذه العينة من الكتابات التي تهاجم العلمانية والتي يعالجها فؤاد زكريا في مقالته المشهورة المعنونة بـ “العلمانية ضرورة حضارية” يكتشف حجم التناقضات التي يقع فيها المعارضون بوعي أو دون وعي، وهي تناقضات بإمكان القارئ العادي الذي يملك الحد الأدنى من المعرفة والحد الأدنى من التفكير العقلاني/المنطقي أن ينتبه إليها، ولكن يبدو أن هذا النوع من الكتابات موجه إلى نوع معين من القراء لا يتوفر على هذا الحد الأدنى من المعرفة وليس لديه الحد الأدنى من التفكير.

ولا شك في أن تهافت خطاب المعارضين في المستوى المعرفي ومن الناحية المنطقية، وبالأخص في الأسس العلمية، لهذا النوع من التفكير، يدل على أن مفكري وكتاب التيارات الإسلامية المعاصرة لا يكتبون -كما سبقت الإشارة- لجمهور لديه الحد الأدنى من الثقافة العامة والحس النقدي وهي الثقافة/النقدية التي تسمح له بكشف مغالطاتهم بسهولة ويسر والوعي بالتاريخ وإدراك الواقع.

فهذا المستوى المتواضع في الخطاب الإسلامي المعاصر، يفترض جمهورًا لا يقرأ ولا يناقش ولا يحلل، جمهورًا مُطيعًا مُصدقًا لكل ما يُقال له، لا يقرأ سوى كتب التيار الإسلامي نفسه ولا يفكر لحظة واحدة في أن ما يقرأه من هذه الكتب يحتاج إلى مراجعة أو نقد.44

وإذا كان هذا النمط من الخطاب الذي ينتقد العلمانية وينقضها وذلك بجر المعركة إلى ساحة الدين، أي أنه يعارض وينقض ويتهم باسم الدين. فإن هناك نمطٌ آخرَ من الخطاب الناقد للعلمانية يرتكز على أسس بها قدر من التماسك المنطقي والأرضية العلمية، هو ما يسميه فؤاد زكريا بالانتقادات العلمية ويجب أن نفهم هنا بأن الانتقاد يحمل معنى الرفض أي أن الذين ينتقدون العلمانية في الفكر العربي، هم أنفسهم من يرفضونها، وعلى رأس هؤلاء الروافض نجد مفكرين عرب كبار، نذكر منهم وهذا على سبيل المثال وليس الحصر: محمد عابد الجابري (1935- 2010) وحسن حنفي (1933- 2021) وبرهان غليون وشفيق منير وعبد الوهاب المسيري…45

العلمانية ليست مشكلة مسيحية

يرى فؤاد زكريا أن الانتقادات العلمية تستند إلى حجج وبراهين يُمكن أن نطلق عليها وصف الحجج العلمية والبراهين التاريخية، لأنها تُعبر عن وجهة نظر بها قدر لا يستهان به من التسلسل المنطقي والتأسيس العلمي. ولهذا من الضروري مناقشتها مناقشة علمية هادئة حجة بحجة وفكرة بفكرة، بعيدًا عن الانفعال العاطفي والصخب. ويرى كذلك أن مستقبل الموقف العلماني العربي يتوقف على مدى قدرته على مواجهة هذه الحجج والبراهين المطبوعة بالطابع العلمي والعقلي 46 والفكرة الأساسية التي تتمحور حولها جميع هذه الانتقادات هي أن العلمانية مسألة أوروبية خالصة هي بالدرجة الأولى نتاج سياق تاريخي أوروبي صرف، ففكرة الفصل بين الأرض والسماء قضية متعلقة بالتاريخ الأوروبي ولا شأن لنا بها. ففي هذا التاريخ كانت هناك دولة دينية تجمع بين المقدس والمدنس ومارست باسم الله، شتى صنوف العسف والقهر والاستبداد، أما التاريخ الإسلامي فلم يعرف الدولة الدينية والإسلام ليس فيه كنيسة ولا رجال دين، ومن ثمَّ لا شأن لنا بالعلمانية، كما يؤكد معارضو العلمانية، بأنها اتجاه في الفكر ظهر في المجتمع الأوربي تعبيرًا عن ضرورة تاريخية لها صلة وثيقة بالتطورات والظروف التاريخية التي عرفتها أوروبا في العصور الوسطى وبداية عصر النهضة والأزمنة الحديثة، وما حدث في أوروبا من صراع بين الكنيسة والعلماء وحروب دينية وانتهى بالحل العلماني، ليس بالضرورة أن يحدث في مناطق أخرى من العالم بما في ذلك العالم العربي، ومن ثمَّ هذا تاريخ أوروبي محض لسنا ملزمين به.

وفي هذا المجال بالذات يقول أستاذنا بأن معارضي العلمانية ومنتقديها حجة اختلاف الظروف التاريخية وتباين البيئات الاجتماعية والمناخات الثقافية بين أوروبا والعالم الإسلامي، فإذا كانت السياقات التاريخية هي التي أفرزت النظام العلماني، فإن العالم الإسلامي لم يمر بسياقات تاريخية مختلفة، إذن العرب والمسلمون ليسوا ملزمين بتبني الحل العلماني.47 فالعلمانية جزءٌ لا يتجزأ من التاريخ الأوربي يرتبط ارتباطًا عضويًا، بالظروف الخاصة التي مرت بمجتمع معين، ومن ثم فمن الخطأ الفادح اقتلاعها من تربتها الأصلية وزرعها في تربة أخرى لم تكن في أي وقت مهيأة لاستقبالها، أو مضطرة إلى الأخذ بها…”48.

وعندما تبنى العرب والمسلمون الحل العلماني وأخذوا بنموذج الدولة الحديثة الأوروبي كانوا مقلدين، وغابت عنهم الشخصية العربية/الإسلامية التي تميزهم وتميز تاريخهم، ولمزيدٍ من التفسير والشرح نقول إن هذه الحجة تقوم على أساس متين وهو اختلاف الظروف التاريخية في العالم العربي المعاصر، انطلاقا من أن عصر النهضة في القرن السادس عشر كانت المجتمعات الأوروبية الغربية تخوض حروبًا ضروسًا من أجل التخلص من ظلمات العصور الوسطى، هذه العصور التي إن تميزت بشيء، فإنها تميزت بسيطرة الكنيسة الكاثوليكية وطبقة رجال الدين، أي الإكليروس سيطرة شبه كاملة على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى الثقافية، وبطبيعة الحال كانت تُهيمن على جميع الجوانب الرُوحية، فلم تترك المجال للفلاسفة والأدباء والعلماء، كي يفكروا ويبدعوا ويخترعوا، فكانت الكنيسة ورجال الدين بمكانة السد المنيع أمام أي شكل من أشكال التقدم والنهوض، ولهذا كان لزامًا على العلماء والفلاسفة الدخول في مواجهة ضارية مع سلطة الكنيسة التي كانت تعتمد على الطبقة الإقطاعية في مقابل الطبقة البورجوازية التي كان يُمثلها العلماء والفلاسفة الجدد، بخاصة علم الفيزياء وعلم الفلك، أي العلوم الدقيقة إذ اصطدم العلماء بسلطة رجال الدين الذين ليس فقط حَرَّموا التفكير العلمي، وإنما طاردوا العلماء في كل مكان وحاكموهم وأحرقوا بعضهم، وكان من بين الذين تعرضوا للحرق الفيلسوف الإيطالي جوردانو برونو، لكن الثورة العلمية زعزعت عروش الباباوات وأعادت الاعتبار للحقيقة العلمية القائمة على المنهج التجريبي… رافعة شعار “لا تصدقوا حتى تجربوا” 49.

وهكذا كانت النهضة الأوربية والحداثة الغربية مرهونًة بإزاحة سلطة الكنيسة وتحديد مجال الدين ومجال السياسة.50 ومن ثمَّ كانت العلمانية شرطًا ضروريًا، لانطلاق الحضارة الأوربية الحديثة تلك الانطلاقة التي صنعت حضارة تفوقت على جميع الحضارات السابقة عليها. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى يقول الشق الثاني من الحجة كما يتصور الأستاذ فؤاد زكريا: “إن العالم الإسلامي لم يشهد شيئًا من تلك الأوضاع التي جعلت العلمانية ضرورة محتومة في أوروبا، فالإسلام لم يعرف هيئة توازي الهيئة في الكنيسة الرسمية ولا يعرف منصبًا رسميًا يحتل فيه قمة الهرم الديني مثل: منصب البابا، ولا أتباعًا من رجال الدين تتدرج مراتبهم في هرم محدد المعالم، ولم يعرف الإسلام اضطهادًا للعلماء، ولم يشهد محاولات لعرقلة البحث العلمي ومن ثم فالأسباب التي جعلت العلمانية مرحلة ضرورية في التاريخ الأوربي لا وجود لها في التاريخ الإسلامي…”51.

والحقيقة التي لا جدال فيها أن هذه الحجة تبدوا متماسكة البنيان وبإمكانها إفحام أي صوت يدعوا إلى فصل الدين عن السياسة وفصل الدين عن الدولة، ولكن يُمكن الرد عليها ويمكن دحضها وهذا ما فعله أستاذ الفلسفة بجامعة الكويت عندما يؤكد: “ومع ذلك فإن هذه الحجة التي تبدوا في نظر هؤلاء جميعًا غير قابلة للتفنيد هي في رأيي حجة باطلة في مجملها وفي جميع تفاصيلها…”52 وتجدر الإشارة إلى أنه في الرد على هذه الحجة التي تبدوا شديدة الإغراء للبعض وشديدة الإحراج للبعض الآخر، ينتهج أستاذنا أسلوب مواجهة الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان والفكرة بالفكرة، وذلك وفق طريقة بسيطة وهي عرض أفكار الطرف الأخر ثم مناقشتها وفي المناقشة يُظهر تهافتها وبطلانها. واللافت للنظر في هذا المنهج كذلك هو تفكيك هذه الحجة إلى عدة أجزاء، ومن ثم مناقشة ونقد كل جزء على حدة وفي أثناء النقد والمناقشة يتم الاستعانة بالبرهان التاريخي كما يُستدعى الواقع المعاصر في مستوى السياسات وفي مستوى الممارسات، كما لا ننسى أيضًا أن أسلوب المقارنة أساسي في هذا المنهج، إذ يتحول من حجة لدى الطرف المهاجم إلى حجة مضادة في يد الطرف المدافع. ونحن في هذه الدراسة، سنعرض هذه الحجة بأجزائها الأربعة، كما عرضها أستاذنا فؤاد زكريا، مع الإشارة إلى ردوده عليها، ثم شرح وتفسير هذه الردود مع التعقيب عليها، بالتحليل والمناقشة.

الإسلام ليس فيه كهنوت، ولكن فيه سلطة دينية

لا يَمَلُّ المعارضون للدعوة العلمانية من التصريح بأن الظروف التاريخية هي التي جعلت العلمانية حتمية تاريخية في أوروبا المسيحية، في حين كانت الظروف التاريخية في العالم العربي غير مواتية على إنجاب العلمانية، وذلك بسبب اختلاف الأوضاع. أوضاع أوروبا شيءٌ وأوضاع العالم العربي الإسلامي شيئًا مغايرًا، أوروبا عاشت في العصور الوسطى تحت ظل سلطة دينية عاتية تُعبر عن مؤسسة لاهوتية لها بنية هرمية وتراتبية أما الإسلام، فلم يشهد وجود ظاهرة اسمها المؤسسة الدينية التراتبية، تمارس سلطة على المجتمع وتُهيمن عليه أيديولوجيًا، كما أن التاريخ الإسلامي الممتد منذ قرون لم يسبق أن عرف هيئة أو جهازًا أو أي شيئًا من هذا القبيل كانت موكولة إليه مهمة التوسط بين الإنسان والله، وبالإضافة إلى ذلك ليس هناك في الإسلام شيءٌ اسمه رجال الدين كما كان شأن المجتمعات الأوروبية المسيحية وكل ما عرفه الإسلام هو علماء الدين لا حول لهم ولا قوة يمارسون دورهم الأساسي وهو الاجتهاد والإفتاء في أمور الدين والدنيا 53.

وهكذا تبدوا هذه الحجة مقنعة للغاية، ولكن صاحب كتاب “خطاب إلى العقل العربي” يرد عليها بالقول: بأن المقارنة في التفاصيل مسألة مستحيلة وخاصة إذا تمت المقارنة بين ظروف أوروبا في العصور الوسطى وبين ظروف العالم العربي الإسلامي في نهاية القرن العشرين، وذلك بسبب وجود فاصل زمني كبير بين الحقبتين، ثم لا ننسى الفروقات الشاسعة بين أسس المجتمع العربي الإسلامي وأسس المجتمع الأوربي، وهذا يؤدي بطبيعة الحال إلى اختلاف وضعية السلطة الدينية هنا في الشرق وهناك في الغرب. 54 هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، القول بأن الإسلام لا توجد به سلطة دينية، قول لا يطابق الواقع أو بالأحرى يُكذبه الواقع، وهذا ما يؤكده صاحبنا في هذا النص: “القول بأن الإسلام لا يعرف ولم يعرف مؤسسة دينية على الإطلاق هو قول ينطوي على قدر غير قليل من الإسراف، ربما لم يعرف الإسلام مؤسسة دينية مماثلة للمؤسسة البابوية الكاثوليكية، وهذا كما قلنا أمرًا غير طبيعي، ولكنه كان وما يزال يضم سلطة دينية قوية مسموعة الكلمة مرهوبة الجانب يرعى شؤونها ويسهر على حمايتها رجال متخصصون في أمور الدين ولها في كثير من الأحيان سلطة على الأجهزة التنفيذية في الدولة…”55.

من البدهي القول إن هناك اختلاف واضح بين التجربة الأوربية المسيحية في العصور الوسطى وبين التجربة الإسلامية عبر التاريخ، وأبرز هذه الاختلافات يتمثل في وجود مؤسسة دينية يقودها رجال الدين (الإكليروس) يتمتعون بسلطة رهيبة ولديهم نفوذًا هائلًا في التجربة الأوربية وغياب هذه المؤسسة اللاهوتية عن التجربة الإسلامية، ولكن العبرة ليس في وجود هذه المؤسسة هناك أو غيابها هنا، بل في وجود السلطة الدينية. ومما لا شك فيه أن هذه السلطة الدينية كانت دائمًا موجودة في التاريخ الإسلامي، في الماضي والحاضر وبالتأكيد سوف تكون موجودة في المستقبل، ولا يخفى على أحد الدور الذي يمارسه رجال الدين أو علماء الدين –التسمية لا تهم هنا– فهم يقومون برعاية شؤون الدين ويسهرون على حماية العقيدة الإسلامية ويدافعون عنها دفاعًا مستميتًا، ضد كل من يعتقدون بأنه يحاول المساس بمبادئها أو النيل من ثوابتها، حتى ولو كان ذلك من باب الاجتهاد والتجديد في الخطاب الديني.56

خلاصة القول إن هناك سلطة دينية في المجتمعات الإسلامية وهناك فئات وشرائح واسعة في المجتمع تخضع لهذه السلطة، أما أصحاب الفكر والثقافة والفن، فهم يحسبون لهذه السلطة ألف حساب قبل الشروع في نشر أعمالهم وإبداعاتهم. هنالك مسألة أخرى يشير إليها فؤاد زكريا، أن هذه السلطة الدينية في المجتمعات الإسلامية تتمثل في مؤسسات دينية رسمية تُمارس، بالإضافة إلى مهامها الدينية، مهام الصد والحظر والمصادرة، بل وحتى الزج في السجون بكل من يغرد خارج السرب في كل مجالات الإبداع بما في ذلك مجال الاجتهاد في الفكر الديني، وعن هذه الفكرة يقول فؤاد زكريا: “فالأزهر على سبيل المثال مؤسسة دينية يحتل قمتها شيخ الأزهر الذي كان قبل أن يخضع منصبه للمطالب السياسية في العقود الأخيرة أكبر الشخصيات الدينية التي تتمتع بتبجيل وتوقير في كافة أرجاء العالم الإسلامي وهيئة الإفتاء وعلى رأسها مفتي الديار، وكذلك هيئة كبار العلماء تمثل بدورها سلطة دينية لا جدال فيها، يطلب رأيها في الأمور المهمة ولا تنفذ أحكام الإعدام إلا بعد تصديقها عليها، ولا يمر أي تعديل في القوانين المهمة مثل: قانون الأحوال الشخصية إلا إذا أقرته…” 57.

ولا يتوقف الأمر على وجود السلطة الدينية في الحاضر، بل أن هذه السلطة كانت موجودة في الماضي وهكذا: “طوال التاريخ الإسلامي كانت هذه السلطة الدينية قائمة وكانت أحيانا تستخدم مكانتها وهيبتها من أجل الدفاع عن مبادئ الدين الأصلية فيؤدي ذلك إلى مصادمات قد تكون حامية مع الحكام من خلفاء وسلاطين وأمراء…”58 نعم كانت هذه السلطة الدينية تتصادم مع السلطة السياسية وأشهر مثال على ذلك: محنة الإمام أحمد ابن حنبل في عهد الخليفة العباسي المأمون في مسألة خلق القرآن59 واستمر الصدام إلى أن آلت السلطة إلى الخليفة المتوكل، فوقع ما يُسميه المؤخرون بالانقلاب السّني الذي أدى إلى التنكيل بالمعتزلة وبالإجهاز على الفكر المعتزلي والقضاء قضاءً مبرمًا على البقية الباقية من التفكير العقلاني في الفكر الاسلامي 60.

والجدير بالذكر أن رجال الدين في أي مجتمع لا بُد أن ينتظموا في هيئة أو جهاز أو رابطة، أي في مؤسسة دينية، كلمتها مسموعة ورأيها محترم، صحيح أن هذه السلطة الدينية كانت أحيانًا تعارض النظام القائم، ولكنها أيضًا كانت: “تضع نفسها في خدمة الحاكم وتصدر له من الأحكام والفتاوى ما يقدم سندًا شرعيًا لتصرفاته حتى ولو كانت جائرة أو طائشة وامتد ذلك حتى اللحظة الراهنة من تاريخنا، فقد أصبحت الكتب والمنشورات تُعرض على هيئة دينية منبثقة عن الأزهر تملك حق مصادرة أي نتاج فكري أو أدبي أو علمي يتعارض مع تفسيرها الخاص للدين…”61.

ولا يختلف اثنان على أن المؤسسة الدينية في العالم العربي ومنذ تأسيس الدولة الوطنية الحديثة، هي في خدمة النظام السياسي القائم ولم تدخر جُهدًا في تقديم ما تحتاجه السلطة السياسية من دعم معنوي ورُوحي وفي ستر عورة اللا شرعية التي كانت تفتقدها الأنظمة المتعاقبة، سواء في حقبة النهضة أو في حقبة الثورة، هذا من جانب ومن جانب آخرَ لم تبخل هذه المؤسسة على المبدعين في شتى المجالات، بما تملكه من قدرات ومهارات في المنع والحظر والمصادرة، بل وفي جرهم إلى ساحات المحاكم ورميهم في غياهب السجون وحتى التحريض على قتلهم.62 وهكذا بالنظر إلى الدعم اللا مشروط الذي قدمته هذه المؤسسات الدينية الرسمية للسلطة السياسية الحاكمة، كانت دائما في المقابل تحظى بسلطة ونفوذ داخل المجتمع، لا يضاهيه إلا سلطة ونفوذ رجال الحكم أنفسهم، وبما أن هذه المؤسسات الدينية هي بطبيعتها مؤسسة محافظة لها فكر تقليدي يُمثل عائقًا حقيقيًا أمام التجديد والابتكار والإبداع.

إقرأ أيضًا: في نقد الكهنوت: الجزء الأول مناقشة حول المؤسسة الدينية

مسألة أخرى يلفت فؤاد زكريا الانتباه إليها، هي علاقة السلطة الدينية بالعلم، أو بعبارة أخرى منظور هذه السلطة إلى العلم انطلاقًا أن من بين الحجج التي تُساق ضد العلمانية هي أن هذه الأخيرة كانت ضرورة أوروبية منذ القرن السادس عشر، لأن الكنيسة كانت العقبة الكؤود أمام التقدم العلمي، ومن ثمَّ لم يكن أمام القوى البرجوازية/الاجتماعية الجديدة من خيار سوى الحد من سلطة الكنيسة، ومن ثم السير في الاتجاه العلماني، هذا هو الوجه الأول للحجة أما الوجه الآخر فيقول: إن الحضارة العربية الإسلامية لم يعرف عنها أن العلماء قد تعرضوا للاضطهاد أو التنكيل، وبناء عليه علاقة العلم والدين كانت سمنًا على عسلٍ. وفي الرد على هذه الحجة يرى فؤاد زكريا أن الوجه الأول صحيح ولا يستطيع أحد إنكاره أما الوجه الآخر فغير صحيح، لأن العلماء وبعض المفكرين تعرضوا لمحنٍ ومآسٍ مثل: المعتزلة وابن رشد والسهروردي والحلاج ، وهذا على سبيل المثال وليس الحصر، وكانت محن هؤلاء بإيعاز أو بتحريض بطريقة أو بأخرى من رجال الدين. ومن الملاحظ أن اضطهاد المثقفين حدث في العصور الوسطى في عز ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، كما حدث في الحقبة المعاصرة، والدليل القاطع على ذلك ما تعرض له رجال الفكر والأدب أمثال طه حسين علي عبد الرزاق ومحمد أحمد خلف الله ونصر حامد أبو زيد بتحريض من رجال الدين المتمثلين في الشيوخ والدعاة والائمة، والذين كان خطابهم خطاب كراهية بامتياز ضد الثقافة والإبداع الفني والتجديد الفكري 63.

وبالإضافة إلى ذلك فإن السلطة الدينية المعاصرة تحرم التعامل مع أصحاب النظريات العلمية/الفكرية الكبرى أمثال: تشارلز داروين Darwin (1809-1882) ونظريته في التطور وسيغموند فرويدFreud  (1856-1939) ونظريته في التحليل النفسي وإميل دوركايم Durkheim (1858-1917) ونظريته الاجتماعية وكارل ماركس Marx (1818-1883) ونظريته المادية في قراءة التاريخ والسياسية والاقتصاد. وليس هذا فحسب، بل أن بعض الاكتشافات العلمية لا تدخل المجال الإسلامي إلا إذا نالت مباركة وموافقة الهيئات الدينية الرسمية مثل جامع الأزهر ودار الإفتاء65، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى يرى خصوم العلمانية أن هذه الأخيرة كانت ضرورة أوروبية بالنظر إلى التاريخ الأوربي الذي كان لزامًا على الطبقة البرجوازية بعد أن أزاحت من طريقها الطبقة الاقطاعية أن تتخلص من ثقافة العصور الوسطى ومن العقلية اللاهوتية، لأنه بالفعل كانت المجتمعات الأوروبية تعيش حالة من الجمود والظلام في هذه العصور، أما العالم العربي الإسلامي فكان ينعم بالازدهار والرخاء والتقدم. أما فؤاد زكريا فيرى أن العلمانية مثلها مثل الديمقراطية، صحيح أنها نشأت في سياق أوروبي محض، لكنها أصبحت فيما بعد حلًا للمعضلة الكبرى، معضلة تدخل الدين في السياسة وتدخل السياسة في الدين سواء في المجتمعات الأوروبية في العصر الحديث أو في المجتمعات العربية في هذا الزمن، فالعلمانية مثلها مثل الديمقراطية، فلا يمكن رفض الديمقراطية بحجة أنها منتوج أوروبي 66.

وصحيح أن العلمانية عبرت عن تمرد قوى اجتماعية صاعدة هي الطبقة البرجوازية ضد أفكار الكنيسة الكاثوليكية التي كانت التعبير الأيديولوجي عن الطبقة الإقطاعية، لذلك السبب كان الصدام الحتمي بين العلم والدين في عصر النهضة الأوربية هو في الأصل صراعًا طبقيًا بين طبقة جديدة صاعدة وطبقة استنفذت دورها التاريخي67. لكن العلمانية لم تُعبر إطلاقا عن رفض الدين وبالقطع لم تكن حركة من أجل القضاء على المقدسات الدينية، بل العكس هي حركة من أجل حماية الدين من التلاعبات السياسية والتوظيف الأيديولوجي والبرهان الساطع على ذلك، أن ما حدث بعد ذلك هو سيادة النظام العلماني في جميع المجالات وفي الوقت نفسه استمرار وجود الدين والممارسة الدينية في أوروبا خصوصًا والغرب عمومًا، إذ ما يزال الناس يرتادون الكنائس وما تزال زيارات بابا الفاتيكان تحظى باستقبال الملايين من الناس في كل مكان. وبناءً عليه العلمانية لا ترفض الدين في ذاته، وإنما ترفض طريقة في التفكير كانت سائدة في العصور الوسطى، وكان رجال الدين في تلك الحقبة باستخدام السلطة القاهرة وبالتحالف مع الأقطاع يفرضون هذا النمط من التفكير على المجتمعات بالقوة. وهذا بالضبط ما كانت ترفضه العلمانية، أي أنها كانت ترفض أسلوب التفكير بالسلطة، سلطة النص الديني أو سلطة رجال الدين، وكان على الجميع التسليم بهذه السلطة، وإلا تعرضوا للاتهام بالهرطقة والكفر والضلال، هذا النوع من التفكير يؤدي إلى الاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة68 وإلى تقسيم الناس إلى حزب الله وحزب الشيطان. وخلاصة القول إن العصور الوسطى هي طريقة في التفكير أكثر منها حقبة تاريخية، تتميز هذه الطريقة في التفكير بخصائص مثل: الدوغمائية، اللاعقلانية، الاعتقاد بالثبات وبأن الله هو مركز الاهتمام وليس الإنسان، وكلها كانت تُمثل عوائقَ في تقدم المجتمعات الأوروبية 69.

وتأكيدًا لهذا التحليل يقول فؤاد زكريا: “العصور الوسطى ليست مرحلة تاريخية أو زمنية فحسب، وإنما حالة ذهنية، فلو نظرنا إليها بالمفهوم التاريخي أو الزمني لقلنا إنها تنتمي إلى حضارة معينة غريبة عنا، في مرحلة معينة من تطورها، ولكن لو تأملناها من حيث هي أسلوب في التفكير لوجدناها حالة قابلة للتكرار في مجتمعات كثيرة وأن العصور الوسطى، ليست تلك المرحلة التي انقضت منذ أربعة قرون أو خمسة فحسب، وإنما وضعًا نجد له نظائرَ في صميم العصر الذي نعيش فيه، فكل من يفكر على أساس أنه يملك حقيقة مطلقة، ويضع حاجزًا بين هذه الحقيقة وقابلية المناقشة والنقد، وكل من يتخذ لحججه سندًا وحيدًا من الاستشهاد بالنصوص أو اقتباس أقوال القدماء أو الرجوع إلى السلف الصالح، يُفكر بعقلية العصور الوسطى حتى لو كان يعيش على مشارف القرن الحادي والعشرون…”70

وهكذا يُمكن القول إن هذه الطريقة في التفكير قد توجد في أي زمان ومكان، وُجدت في الماضي في أوروبا كما أنها موجودة في العالم العربي في عصرنا الراهن. ولهذا كما كانت العلمانية ضرورة في أوروبا في عصر النهضة، هي كذلك في العالم العربي اليوم، بشرط أن تسبقها ثورة فكرية تقطع مع بنية التفكير الوسطوية، فالثورة الفكرية تسبق الثورة السياسية، ولا ننسى أن كل الثورات السياسية في العالم العربي فشلت لأنه لم تسبقها ثورات فكرية/ثقافية.

العلمانية هي الحل

يتميز منهج فؤاد زكريا في الدفاع عن العلمانية كما أشرنا سابقًا بالرد على معارضي العلمانية ودحض حججهم ونقد أفكارهم وبيان مغالطاتهم، ولكن وفي مستوى آخرَ من النقاش هذه المرة لا يكتفي بالرد والدحض، وإنما ينتقل إلى إثبات أن العلمانية ضرورة اجتماعية وسياسية للمجتمعات العربية الإسلامية في حقبة تاريخية دقيقة هي نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرون. وبعبارة أخرى ينتقل في هذا المنهج من النفي إلى الإثبات، أي ينتقل من نفي التهم المنسوبة إلى العلمانية إلى إثبات أنها ضرورة حضارية، أي أنها مسألة حياة أو موت، لأن هذه المجتمعات قد تتعرض إلى عواقب لا تُحمد عقباها إذا أصرت على الربط بين الدين والسياسة من ناحية، وبين الدين والدولة من ناحية أخرى. من هذا المنطلق يرى فؤاد زكريا أن الدعوة إلى العلمانية في هذا الظرف التاريخي الدقيق ليست ترفًا فكريًا، بل أنها دعوة لها ما يبررها على الصعيدين الاجتماعي والسياسي 71.

ومن هذه المبررات نُشير إلى ظاهرة تسييس الدين في المجتمعات العربية الإسلامية وهي ظاهرة تسير بوتيرة متزايدة ومتسارعة منذ بداية السبعينيات في القرن العشرين وفي الوقت نفسه تراجع موقف الساسة والمثقفين الذين كانوا يرفعون شعار “لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة” فالدين والسياسة هما بمنزلة خطان متوازيان لا يلتقيان72، وبالتوازي مع ذلك تزايدت أعداد المقتنعين بأن إبعاد الدين عن الحياة السياسية يزعزع مكانته في المجتمع، بسبب انهيار النظام التعليمي وانخفاض المستوى الثقافي وسيادة الجهل المقدس في المجتمعات العربية. ومما لا شك فيه أن جماعات الإسلام السياسي أسهمت بقدر كبير في تكريس فكرة أن الإسلام دين ودولة، لذلك من الضروري أن يتدخل الدين في السياسة وأن تتدخل السياسة في الدين. ومن الواضح أن المد الأصولي ومناخ العنف والإرهاب والاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والأمية الثقافية كل ذلك ساعد على الدفع قدما في مشروع “تسييس الدين وتديين السياسة”73. ومن ثمَّ بات مقبولًا لدى قطاعات واسعة من الناس القول بأن الدين الإسلامي هو نظام اجتماعي وسياسي شامل وكامل، وبعبارة أخرى أصبحت الأيديولوجيا الأصولية وهي أيديولوجية شمولية مقبولة ومستساغة من قبل الجميع، وكما هو معروف الأيديولوجيا الأصولية الشمولية تقوم على مرجعية دينية، ومن ثمَّ فهي تستند إلى مبادئ الثبات والواحدية، كما أن الدين في ذاته وفي جوهره يتأسس على الثبات والواحدية والمطلق، لكن لا ننسى أن أي دين لا تقوم له قائمة إلا إذا تبنى قيمًا أخلاقية سامية، أما السياسة فهي فن الممكن، كما أنها تقبل التعدد والاختلاف، كما أنها متغيرة ولا ترتبط بضوابط أخلاقية. والنتيجة أن إقحام الدين في المجال السياسي يُلحق به ضررًا بليغًا لأننا نُخرج المقدس من مجال السمو الرُوحي والمثالية الأخلاقية وندخله في المدنس حيث الدسائس والمؤامرات والكواليس والصفقات، أما ربط السياسة بالدين، فسوف يصيبها بالشلل التام، لأننا ربطنا النسبي (السياسة) بالمطلق (الدين) وربطنا الغيبي/بالواقعي وربطنا المقدس بالمدنس.

هكذا نستنتج أن تسييس الدين أو تديين السياسة يقود المجتمعات إلى الإصابة بالشلل التام والعجز عن التفكير والإبداع والشعور بالنقص وعدم الثقة بالنفس وهذا هو حال المجتمعات العربية الإسلامية اليوم، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن تسييس الدين وتديين السياسة تُمهد الأرضية لنظام سياسي استبدادي وشمولي وأخطر أنواع الاستبداد هو الاستبداد الديني، ليس فقط لأنه يقمع الحريات الأساسية ويحتقر عقل الإنسان، وإنما لأنه نظام عنصري بامتياز يُصفي جسديًا كل من يخالفه أو يختلف معه. هذه هي قواعد وأصول الحكم في الدولة الدينية، أما الدولة العلمانية فهي دولة الحريات والحقوق، وقد أثبتت التجربة التاريخية أن المجتمعات العلمانية هي الأكثر ديمقراطية، ومن ثمَّ الأكثر حرية وبالدرجة الأولى حرية الاعتقاد، وهي الأكثر احترامًا للإنسان بغض النظر عن اعتقاداته الدينية وغير الدينية، والنظام العلماني هو الأكثر حفاظًا على حقوق الإنسان، حقه في الاعتقاد وفي عدم الاعتقاد، وهو الأكثر تسامحًا مع جميع الديانات والمعتقدات. هذه هي الخطوط العريضة للمقالة العلمانية عند الفيلسوف العربي فؤاد زكريا، مقالة من ناحية، دافعت عما تريده بنقد من يرفض ما تريده، ولكنها من ناحية أخرى عجزت عن تقديم البديل الفكري والفلسفي والنظري الملائم للسياسة والاجتماع وللوضع العربي الراهن، فالخطاب العربي العلماني المعاصر -ومنه الخطاب الزكراوي– هو خطاب دفاعي، يُدافع عن الحيز المتبقي له في المجال السياسي/الثقافي، بعد أن اكتسح خطاب الأصولية الدينية الساحة، خطاب يدافع على فكرة أن العلمانية لا تعادي الدين وأنها جاءت حلًا لمشكلة التلاعب بالدين، خطاب عليه أن يُثبت كل يوم أنه بريء من التهم المنسوبة إليه، تهم الإلحاد والكفر والزندقة. ومن هنا غلب علي الخطاب العلماني العربي طابع التبرير، تبرير وجوده وتبرير بقائه وتبرير أصالته، ولن يتم له ذلك إلا بالدخول في سجال مع الخطاب الرافض لفكرة فصل الدين عن السياسة أولًا وفصل الدين عن الدولة ثانيًا، وبذلك يكون قد سجن نفسه في قالب سجّالي.

ولسنا في حاجة إلى شرح كبير للقول بأن السجّال لا يُنتج نظرية سياسية تفصل الشأن الديني عن الشأن السياسي وتعبر عن حاجات اجتماعية وسياسية وتحل معضلات الأصولية الدينية، كما أن الخطاب السجالي غالبًا ما يقع في فخ الحديث عن البدهيات وتعريف المعرف، وهذا النوع من السجالات والنقاشات لا ينتج فكرًا نظريًا عميقًا ولا يُفرز خطاب علماني يستند إلى أسس منطقية صلبة وعلى قواعد علمية حقيقية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مصادر ومراجع

  1. فهمي جدعان : أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث. بيروت الشبكة العربية للأبحاث والنشر ط5 2014 ص 134
  2. فؤاد زكريا: التفكير العلمي، القاهرة. دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، 2004 ص 18
  3. ……: خطاب إلى العقل العربي، الكويت ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1987ص13
  4. أحمد ماضي وآخرون: الفلسفة في الوطن العربي. بيروت مركز دراسات الوحدة العربية.ط1 1985 ص 46
  5. …… : الحقيقة والوهم في الحركات الإسلامية المعاصرة. القاهرة .دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، 1986 ص 114.
  6. …….: كم عمر الغضب ؟ هيكل وأزمة العقل العربي، القاهرة .دار القاهرة للنشر والتوزيع ط2، 1984 ص 49
  7. مصطفى دحماني: فضح الزمن الأصولي. قراءة تحليلية/نقدية لبعض مفاهيم الحركات الإسلامية المعاصرة. مجلة دراسات عربية. السنة 1994 العدد7/8 ص47
  8. محمد حافظ دياب :سيد قطب، الخطاب والإيديولوجيا. موفم للنشر-سلسلة صاد، ط1 الجزائر 1991 ص 149
  9. فؤاد زكريا: الحقيقة والوهم في الحركات الإسلامية المعاصرة: المصدر نفسه ص 129
  10. ……….:الصحوة الإسلامية في ميزان العقل، الإسكندرية. دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر ط1، 2006 .ص 172 و173
  11. ……….: سبينوزا ، دار التنوير، ط2، بيروت، 2005 ص221
  12. مصطفى دحماني: الحركات الإسلامية في الجزائر .من الدعوة إلى الإرهاب. مجلة دراسات عربية العدد 9/10 السنة الثالثة والثلاثون ، تموز/آب، بيروت1997 ص 78
  13. هشام جعيط: الفتنة.. جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر. بيروت .دار الطليعة ط7 2012 ص 63
  14. محمود أمين العالم وآخرون : الإسلام والسياسية. الجزائر، موفم للنشر ط1 1995 ص 288
  15. المصدر نفسه. ص 269
  16. عزيز العظمة: العلمانية من منظور مختلف. بيروت. مركز دراسات الوحدة العربية.ط1 1992 ص 17 و18
  17. محمود أمين العالم وآخرون : المصدر نفسه ص 270
  18. المصدر نفسه ص 270
  19. نصر حامد أبوزيد: نقد الخطاب الديني. القاهرة سينا للنشر.ط2 1994.ص 39
  20. محمود امين العالم وآخرون : المصدر نفسه ص 275
  21. محمد قطب: العلمانيون والإسلام. القاهرة/بيروت دار الشروق بيروت/ا 1994 ص 11
  22. عبد الله العليان: مساجلات نقدية .ردود وتعقيبات، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر .ط1 2012 ص 9
  23. مصطفى دحماني: العلمانية في الخطاب النهضوي العربي.. البستاني نموذجًا. مجلة التدوين ، العدد 11 السنة 2018 ص 169
  24. محمود أمين العالم وآخرون : المصدر نفسه ص 275
  25. حليم بركات: المجتمع العربي المعاصر. مركز دراسات الوحدة العربية.ط1 بيروت 1984ص 251
  26. محمود أمين العالم وآخرون : المصدر نفسه ص 276
  27. المصدر نفسه ص 276
  28. المصدر نفسه ص 276
  29. المصدر نفسه ص 276
  30. المصدر نفسه ص 276
  31. ماكس فيبر: الأخلاق البروتستانتية ورُوح الرأسمالية. ت. محمد علي مقلد. مركز الإنماء العربي .بيروت بدون تاريخ ص 5 و6 و7
  32. أنور الجندي: سقوط العلمانية. بيروت، دار الكتاب اللبناني بدون تاريخ ص 93
  33. محمود أمين العالم وآخرون : المصدر نفسه ص 277
  34. نصر حامد أبوزيد: التفكير في زمن التكفير مكتبة مدبولي ط2 القاهرة 1995 ص 9
  35. فؤاد زكريا: خطاب إلى العقل العربي. المصدر نفسه ص 36 و84
  36. محمود أمين العالم وآخرون: المصدر نفسه ص 278
  37. فؤاد زكريا : خطاب إلى العقل العربي : المصدر نفسه ص89
  38. يوسف القرضاوي: الحلول المستوردة وكيف جنت على امتنا. سلسلة حتمية الحل الإسلامي، بيروت .مؤسسة الرسالة ط1 1971 ص 48
  39. محمود أمين العالم وآخرون: المصدر نفسه ص 279
  40. المصدر نفسه ص 279
  41. المصدر نفسه ص 279
  42. المصدر نفسه ص 280
  43. المصدر نفسه ص 280
  44. المصدر نفسه ص 280
  45. حسن حنفي وآخرون: حوار المشرق والمغرب. بيروت ، الدار العربية للعلوم ناشرون.ط2 2010 ص 71
  46. محمود أمين العالم وآخرون: المصدر نفسه ص 280
  47. محمد عابد الجابري: في نقد الحاجة للإصلاح. بيروت. مركز دراسات الوحدة العربية.ط1 2005 ص 71
  48. محمود أمين العالم وآخرون: المصدر نفسه ص 280
  49. عزيز العظمة: العلمانية من منظور مختلف. المرجع نفسه ص 19
  50. محمد قطب: المرجع نفسه ص 11
  51. محمود أمين العالم وآخرون: المصدر نفسه ص 281
  52. المصدر نفسه ص 281
  53. المصدر نفسه ص 281
  54. المصدر نفسه ص 281
  55. المصدر نفسه ص 281
  56. نصر حامد أبوزيد : نقد الخطاب الديني. المرجع نفسه ص 21
  57. محمود أمين العالم وآخرون: المصدر نفسه ص 282
  58. المصدر نفسه ص 282
  59. فهمي جدعان: المحنة. بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام. بيروت ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط2 2000 ص135
  60. المرجع نفسه ص 57
  61. محمود أمين العالم وآخرون: المصدر نفسه ص 283
  62. علي عبد الرزاق: الإسلام وأصول الحكم تقديم عمار علي حسن دار الكتاب المصري القاهرة 2012 ص 5
  63. نصر حامد أبوزيد : نقد الخطاب الديني المرجع نفسه ص 22
  64. فؤاد زكريا : الصحوة الإسلامية في ميزان العقل المصدر نفسه ص 190
  65. محمود أمين العالم وآخرون: المصدر نفسه ص 283
  66. المصدر نفسه ص 284
  67. سمير أمين وبرهان غليون : حوار الدولة والدين. المركز الثقافي العربي.ط1 بيروت 1996 ص 20
  68. فؤاد زكريا : الصحوة الإسلامية .المصدر نفسه ص 156 و157
  69. محمود أمين العالم وآخرون: المصدر نفسه ص 285
  70. المصدر نفسه ص 285
  71. المصدر نفسه ص 288
  72. المصدر نفسه ص 288
  73. المصدر نفسه ص 288

 

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete