تكوين
“فالعلماء إذ يبحثون عن الحقيقة يَسْمُونَ بعقولهم إلى المنتهى، وهم إذ يكشفون عن أسرار الكون تمتزج نفوسهم بالحق والجمال”… مُشَرفة
مقدمة
إننا نعيش لحظةً فارقةً من التاريخ: تغيرات جيوسياسية حادة، تواصل اجتماعي افتراضي مُدوٍّ أفقد الإنسان اتصاله الحميم بذاته وبمحيطه الواقعي والاجتماعي والبيئي والكوني، ذكاء اصطناعي يُهدد وجود الإنسان، سيولة المعلومات إلى درجة الفوضى وسهولة الحصول عليها لتختلط الحقائق بتلال الزيف والأوهام، وما ترتب على ذلك كله من تفكك اجتماعي وتشظٍّ معرفي واغتراب وجودي وعدمية قيمية.
في هذا السياق التاريخي ما معنى الحديث عن العلم؟ وعند “علي مصطفى مُشَرفة” تحديدًا؟ إننا كثيرًا ما نتجاذب أطراف الحديث مع بعض الشباب في قضايا علمية، ثم لا نجد منهم إلَّا فتورًا وإعراضًا ورغوبًا عن الحديث، الأمر ذاته يتكرر عند الحديث في قضايا فنية وجمالية، بل إننا كثيرًا ما نجد السؤال دائرًا على الألسنة: ما قيمة الحديث في نظريات علمية عن الكون والطبيعة والإنسان؟! وما أهمية الموسيقى أو الأدب أو التاريخ أو الفلسفة؟! فهم لا يجدون أي صلة بين العلم وبين الموسيقى والأدب والفلسفة، كما لا يجدون سببًا بينَ أيٍ منها وبين منافع الحياة ومعايش الناس!
من أجل هذا كله يفرض الحديث عن العلم نفسه لا سيما عند واحد من كبار علمائنا ومفكرينا المعاصرين، لكيلا يُفتن الناس بفروع التقدم عن أصوله، فلا يخطف أبصارهم بريق التقدم التقني الهائل فيحسبونه عماد التقدم وجوهر الرقي، وهو من ثم ليس حديثًا عن قضايا أو موضوعات علمية كما قد يتبادر إلى الذهن، أي إنه ليس حديثًا “في العلم” من الداخل، وإنما هو حديث “عن العلم” من الخارج:
- أي العلم بوصفه توجُّهًا حضاريًّا وثقافيًّا وبوصفه نزعةً فردية وجماعية وبوصفه صدورًا عن شعور جمالي وبوصفه لُحمةً في نسيج الحضارة المُتماسك التي لا تنحلُّ إلِّا بانحلال النسيج بأسره.
لعَمري كيف يستطيع الباحث أو الدارس أن يكتب عن آراء “مُشَرفة” عن العلم، دون أن يتورط في أسلوب أدبي تستنكفه الدراسات الأكاديمية! أسلوب أقرب إلى الشعر يحاول به استيعاب الجمال الذي يفيض على جوانب رؤاه وكتاباته؟! كيف عساه الباحث أن ينجو من هذا الأسر وهذا السحر، وكيف عساه أن يختصر المحيط في قطرة، وأن يُعبِّرَ عن الرؤى الواسعة الممدودة في كلمات قليلة معدودة! ولئن غَيَّبَ الموت مُشَرفة منذ ثلاثة أرباع القرن من الزمان، فإن رؤاه وكتاباته لمِمَّا يَتسامى فوق عوادي الزمان ويصلح لكل إنسان ينشُد السمو وكل أمة تريد الرقي، فهي كما النجوم البعيدة تُهدي الحيارى في فلوات الحياة.
لماذا العلم عند “مُشَرفة” تحديدًا؟
عند ذكر اسم “علي مصطفى مُشَرفة” فإن أول ما يتبادر إلى الأذهان هو صورة ذلك الرياضي النّابِه والفيزيائي الفذُّ ولا شيء آخر، ولقد يُخَيَّلُ إلى كثيرين أن العلماءَ أُناسٌ غريبو الأطوار جُفاة الطباع باردو المشاعر… ما لهم قلوب تنبض بالمعاني الرُوْحية والإنسانية الكبرى، فهم مُنقطعون فقط لمختبراتهم ومعادلاتهم الرياضية التي لا صلة بينها وبين الحياة إلا لأنها تهدف بنتائجها إلى جعل الحياة أيسر ولجعل الناس أكثر تمكُّنا واطمئنانًا، بيد أن هذا التصور هو أبعد ما يكون عن الحقيقة، ولئن كان جُلَّ وقت العلماء الكبار انقطاعًا للعلم، فإن في هذا العلم حياة لأفئدتهم أي حياة! حياة حافلة بلآلئ الحقيقة وآيات الجمال، ولئن بدا على طبائعهم سيماء الرتابة والفتور، فإن في دواخلهم ثورات عارمة لا يدركها إلِّا ذَوُوها.
ومما يؤكد هذه الحقيقة عن العلم والعلماء أنَّا نراهم كلما ارتقى الواحد منهم في مجاله البحثي، ألفيناه وقد توسع في مجالات أخرى تبدو للوهلة الأولى بعيدة كل البعد عن مجال تخصصه، فالعقل العلمي إنما يَمْتَحُ من ينابيع سحيقة، كلما مَدَّ جذوره لأعمق وجد هذه الينابيع أوثق اتصالًا ببعضها الآخر، ولعل هذا هو ما يجعل هؤلاء العلماء الكبار يميلون إلى الفلسفة التي من شأنها إضفاء وَحدة وانسجام على معارفهم، وهو ما ينفي الفكرة الشائعة عن ميادين المعرفة المختلفة التي تصورها كأنها جزر منعزلة، أو هي مناطق مختلفة تفصل بينها جدران منيعة.
من هذا الطراز من العلماء الكبار يبرز لنا “علي مصطفى مُشَرفة” (1898- 1950) كأجْلى وأجمل صورة عن العلماء الحقيقيين لا سيما في سياقنا العربي، فهو عالِمٌ مُبرَّز في الطبيعة والرياضيات وهو إلى ذلك مُطلع اطلاعًا عميقًا على شتى فروع العلم الطبيعي الأخرى، وأكثر من ذلك فهو – مثل معظم كبار العلماء الحقيقيين– صاحب ثقافة موسوعية، اتسعت للموسيقى والآداب وسائر الفنون الجميلة، كما اتسعت للتاريخ والفلسفة.
من أجل ذلك فقد اتخذ العلم عنده معنىً هو أقرب إلى المعاني لما يتخذه له علماء الغرب الخُلَّص، مُضافًا إليه مسحة جامعة بين الفلسفة والتصوف أضفت على رؤيته رفعة وروعة وجلالًا وجمالًا، فبدلًا من أن يكون العلم وسيلة إلى المدنية والتحضر وترسًا في آلتها، صار العلم غاية في ذاته وإن كان وسيلة لشيء فهو وسيلة للمعرفة وحُبًا للحقيقة وشغفًا بها، وما يعنيه ذلك من حياطته بجامعاته ومجامعه العلمية بوصفها بيئةً حاضنة ومنتجة له، ثم تأتي المدنية بوصفها إفرازًا طبيعيًّا ونتيجة تلقائية لهذا النشاط العلمي.
وإذا كان مفكرو النهضة العربية منذ أوائل القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، أي ابتداءً من
- رفاعة الطهطاوي
- خير الدين التونسي
- ومرورًا بجمال الدين الأفغاني
- محمد عبده
- عبد الرحمن الكواكبي
- شكيب أرسلان
- شبلي شميل،
- ووصولًا إلى أحمد لطفي السيد
- أحمد أمين
- سلامة موسى
- محمد حسين هيكل
- طه حسين
نقول إذا كان كل هؤلاء المفكرين قد تناولوا قضيتي العلم والدين في أطروحاتهم الفكرية، فقد تناول “مُشَرفة” أيضًا القضيتين نفسيهما، كما قد تناول كثيرًا من القضايا الأخرى التي قد تناولها هؤلاء المفكرون، ولئن لم يكن معتادًا أن يُذكر اسم “مُشَرفة” ضمن مفكري النهضة العربية، إذًا لقد ظلمه التاريخ أو بالأحرى ظلمه المؤرخون! فليست العبرة بمقدار ما كُتب في أمر عوامل نهضتنا العربية، وإنما هي بعمق ونفاذية ما كُتب وبمتانة وتناسق البناء الفكري الذي خَلَّفهُ، فضلًا عن جمال أسلوبه الأدبي… هذا ولم نتطرق إلى كتاباته في تخصصه الدقيق من أبحاث ودراسات رصينة قَيِّمة لاقت قبولًا واعترافًا من جهابذة العلم حول العالم في عصره.
زِد على ذلك أن “مُشَرفة” -وهو ابن الثقافة العربية والمصرية تحديدًا- كان من عمق الاطلاع على الفكر الغربي في فلسفة العلم ما جعله مُتجاوبًا مع بعضه ومتجاوزًا بعضه الآخر إلى ما هو أرقى وأعمق، بل لقد بدأ يُروج للأفكار التي تُعد استباقًا لواحدة من أمهات النظريات في فلسفة العلم، ونعني بها نظرية “توماس كون” في “البرادايم” أو الإطار المعرفي والمفاهيمي، وفي السياق الحضاري والثقافي والعلمي الذي تنشأ وتنشط داخله النظريات والقوانين العلمية!([1]) يقول مُشَرفة:
“فبالتفكير والبحث نما العلم وتقدم… وإن هذا التفكير وهذا البحث وإن كان يُنسب كل منهما في العادة إلى الأفراد، كأن يُنسب القول بالتطور إلى داروين أو أن يُنسب الكشف عن عنصر الراديوم إلى كوري، أقول وإن كان يُنسب كلٌّ إلى الأفراد إلا أنه في الواقع نتيجة لتفكير الجماعة، فلولا الكشوف التي سبقت عصر داروين في علم الحيوان وفي علم النبات لمَا قال داروين بالتطور، بل لولا ما كان يحيط بداروين من تفكير مُنظم في عصره لمَا استطاع أن يعمل ما عمله وأن يضيف ما أضاف إلى التفكير البشري. كذلك لولا بحوث بكرل ومن سبقه من علماء، بل وعلماء الكيمياء، ولولا التعاون الفكري الذي كان يحيط بمدام كوري وزوجها، لمَا استطاعا أن يفسرا اسوداد ألواحهما الحساسة بنسبته إلى شعاع خفي من عنصر جديد، فتنظيم البحث والتفكير إذًا شرطٌ من شروط تقدم العلم، ولعل هذا الشرط هو العامل الأول في ازدياد الإنتاج العلمي في العصر الحديث”([2])
وتتأكد أفكار مُشَرفة هذه عن العلم وعن طبيعته الجمعية وسياقه الثقافي بقوله بأهمية
“حركة الفكر بوصفها شرطًا من شروط انتشار العلم، دونه لا يُرجى للعلم تقدم أو نمو، وبه يُمكن من تأدية رسالته ومواصلة جهوده في ميدانه الفسيح لا تحده إلا قوانين المنطق السليم، ولا يَعترف بسلطان غير سلطان الحقائق الواقعة والتفكير الصحيح”([3]).
كما نرى فقد قال مُشَرفة بالطبيعة الجمعية للعلم وبالسياق التاريخي والحضاري والثقافي الذي يتجاوز الأفراد والذي ينشأ وينشط فيه العلم، وذلك قبل أن يقوله “توماس كون” بنحو عقدين من الزمان، فهل اطّلع مُشَرفة على الآراء والأفكار التي كانت ما تزال في طور الاختمار والظهور، والتي مَهَّدت الطريق أمام “كون” لصوغ نظريته؟ أم تراه قد قال ما قاله من دون اطلاع أو تأثر بأفكار غيره، وإنما بثاقب فكره وصادق حدسه وعمق اطلاعه على تاريخ العلم؟ في جميع الحالات فنحن بإزاء عالِمٍ شاملٍ صاحب رؤى عميقة وأفكار تستحق الوقوف عندها والأخذ بها والإفادة منها.
العلم والجامعة
لمَّا كان التقدم العلمي في رأي مُشَرفة لا يحدث اعتباطًا، ولا هو مُنعزلٌ عن سياقه الاجتماعي وبيئته الحاضنة، فإنه لا ينبغي تركه يسير في سبيله كيفما اتفق، وإنما الواجب كل الواجب أن تكون العناية على أشدها بأمر تنظيمه،([4]) وإحاطته بجامعاته ومجامعه التي تصونه وتحفظه فلا يصير هباء تذروه الرياح، ذلك إنه “في البلاد المتحضرة توجد مجامع علمية تُشرف على حركة تقدم العلم بين أبنائها وتقدر كل مجهود لإنماء العلم قدرًا حقيقيًا منزهًا عن كل شهوة، وهي التي يُرجع إليها في تقدير أعمال العلماء، كما أنها بعيدة عن كل مؤثر من شأنه أن يُفسد عليها حكمها“، ويرى مُشَرفة أن
“أول ما يجب أن يحتوي عليه برنامجنا العلمي هو إنشاء مجمع علمي على هذا النمط (…) يجب ألّا يدخله إلا من وصل إلى المرتبة العلمية الرفيعة التي تُخَوِّلُ له الانضمام إلى مجامع البلاد المتحضرة”([5]).
هذه المجامع هي أحد سوريْن لإحاطة الحياة العلمية، أما السور الآخر فيتمثل في الجامعة، والجامعة كما يراها مُشَرفة وكما يُنبهنا ويُحذرنا:
“الجامعة ليست دُورًا تُشيَّد ولا أموالًا تُصرف ولا وظائف تُقلد ولا درجات تُمنح، ولكن الجامعة فكرة سامية تُعتنق ومثل أعلى وإيمان بالحق ورياضة المعلم على منهاج خاص في طلب الحقيقة ونشر العلم وخدمة المجتمع”([6])
بهذا يُحرر مُشَرفة رؤانا من ضيق المباني إلى أفق المعاني، فليست العبرة بالأحجار والأسوار وبهاء البناء، وإنما بالفكرة والغاية اللتين على أساسهما وفي ضوئهما تُبنى الأحجار والأسوار، وكأن مُشَرفة وهو يدعونا إلى بناء الجامعات والمجامع، يُحذرنا في الوقت نفسه من زيادة الجامعات وقلة العلم والعلماء ونُضُوب الفكر والمفكرين!
وفي السياق نفسه أي سياق الحديث عن “معنى الجامعة“، فقد كانت إحدى المشكلات الجامعية المصرية التي واجهت عصر مُشَرفة، هي مشكلة استقلال الجامعة وحرية الأساتذة والطلبة فيها، ورغم أن منشأ هذه المشكلة كان تَدُخل السلطة السياسية والدينية في الشأن الجامعي، فقد تَغَالى بعضهم في فهم هذه الحرية حتى ظن
“أن الحياة الجامعية تتميز بالتحرر من النُّظُم والابتعاد عن القيود، ولعل منشأ هذا الخطأ هو الخلط بين معنى حرية الفكر ومعنى التحرر من النظُم، فخُيّل إلى البعض أن تحرر الجامعيين في طلبهم للحقيقة نوع من الفوضى، وهذا جهل مركب فطالب الحقيقة يتحرر من قيود مُصطنعة لا تمت إلى الحقيقة بصلة، ولكنه مُقَيَّد أشد القيد وأحكمه بقيود الحقيقة ذاتها، والتفكير العلمي إذا وُصف بأنه تفكير حر فليس معنى هذا أنه تفكير مضطرب، بل بالعكس هو تفكير مبنيٌّ على أنماط ثابتة من المنطق الاستقرائي والمنطق الاستنتاجي يرتبط في كل مرحلة من مراحله بالواقع، ويُبنى على نتائج المشاهدة، وكما أن للتفكير الجامعي أنماطًا ثابتة وأنهاجًا مرسومة، فكذلك الحالة في الحياة الجامعية لها نظمٌ واضحة وأسس مرعية”([7]).
الجامعة لدى مُشَرفة إذًا ليست مجرد مبانٍ ولا وظائف ولا أموال ولا درجات، وأكثر من ذلك فهي ليست مجرد مدرسة لطلب العلم، وإنما يتجاوز معناها ذلك كله إلى عَدِّها مركزَ بحثٍ وبؤرة يؤمُّها طلاب الحقيقة، وليس طُلاب الشهادات وطلاب المراكز الاجتماعية والوظيفية في المستقبل! ومعنى أن الجامعة بؤرة يؤمُّها طلاب الحقيقة وليست مدرسةً لطلب العلم، هو أن هدف الجامعة الأول هو العمل لتنمية المعرفة البشرية، وليس مجرد نقل معارف جاهزة إلى الطلاب من غير محاولات الإضافة إليها والعمل لتنقيتها وتنميتها.
كذلك ترتبط فكرة الجامعة عند مُشَرفة كما عند مفكري عصره بالحرية، بيد أن مُشَرفة يَلفِتُنا إلى حقيقة دقيقة مفادها أن الحرية لا تعني العشوائية أو الفوضى، ولا هي ضرب من التفكير التعسفي الذي يظن صاحبه أنه ما دام حُرًا فله أن يقول أي شيء، وإنما تقوم الحرية الجامعية -أي الحرية البحثية- على نزع أي سلطة مُصطنعة لا تتصل بالحقيقة، فللحقيقة وحدها السلطة على الفكر، فهي توجههُ وتحددُ منهاجه وأسسه.
وإذا كانت الجامعة ضرورة تفرضها المدنية بوصفها بيئةً حاضنةً وحاميةً للنشاط العلمي والبحثي، فما الذي يمكن أن يقدمه العلم والبحث العلمي لهذه المدنية في المقابل؟
العلم والتقنية والمدنية
إذا كانت النظرة العلمية للأمور -كما يقول مُشَرفة– هي “نظرة بعيدة عن الغموض، لا تشوبها الشهوة، ولا تتسلط عليها الأنانية؛ فإن هذه النظرة هي وحدها التي تصلُح لمعالجة المشكلات العامة، وحل المسائل القومية، سواء أكان ذلك في ميدان الاجتماع أو ميدان السياسة، أو ميدان الشئون الاقتصادية والمالية”([8]) فالمشكلات العامة في حاجة إلى رؤى عامة تتسامى فوق الأغراض والنوازع الفردية… هذه الرؤى العامة أو القوانين الكلية هي إحدى أهم غايات العلم، التي بتحقيقها نستطيع التحكم في الظروف وحل المشكلات، والتي على أساسها تُخترع الوسائل الميسرة لسبل العيش.
على أننا إذا أردنا بيان الصلة بين العلم وبين جوانب المدنية المختلفة، من صناعة وإدارة… فإنه من الضروري أولًا:
- “التمييز بين العلم وبين نتائجه التطبيقية، بين العالِم الأكاديمي وبين المهندس المخترع، فالعالم أو الباحث إنما يَطلب المعرفة لذاتها، فهو يريد أن يَسْتطلع حقيقة ما هو كائن ويقف على سر تركيبه (…) أما المهندس أو المخترع فيستخدم العلم بوصفه وسيلة لتحقيق غرض يرمي إليه ويسعى وراءه”([9])
- ومن ثم فإن “العلاقة بين العلم البحت والعلم التطبيقي تشبه العلاقة بين العلم والعمل (…) فالعلوم التطبيقية إذًا ليست علومًا بالمعنى الصحيح، وإنما هي صناعات أو فنون أو هي كما يسميها الأفرنج تكنولوجيا”([10])، وإمعانًا في توكيد هذا الفرق بين العلم البحت والعلم التطبيقي، يقول مُشَرفة في موضع آخر:
“تنقسم البحوث إلى نوعين رئيسين: بحوث في العلم وبحوث في العلوم التطبيقية، فالبحث العلمي البحت غرضه الوصول إلى المعرفة أو الإضافة إلى علم البشر، هو بحث يراد به الكشف عن أسرار الطبيعة وفق التعبير العادي، فنحن نعلم أشياء ونجهل أشياء، فمن بحث عن المجهول وأدخله في دائرة المعلوم كان بحثه بحثًا علميًّا بحتًا، أما البحوث التطبيقية فلها غرض آخر ليس هو الوصول إلى المعرفة، وإنما هو الوصول إلى القدرة، فنحن نقدر على أشياء ولا نقدر على غيرها، فمن مَكَّننا من عمل ما لم نكن نقدر عليه من قبل فقد بحث بحثًا تطبيقيًا ناجحًا”([11]).
نحن إذًا أمام غرضين مختلفيْن لكل نوع من البحث: الغرض الأول هو زيادة المعرفة، والغرض الآخر هو زيادة القدرة، ولا يخفى أن كلا الغرضين وإن كانا مختلفين فهما ليسا متعارضين، وإنما هما متآزرين.
ولئن اختلف كلا النوعين من البحث في الغاية والغرض، يظل “بينهما اتصال وثيق، والعلاقة بينهما بعامة هي العلاقة بين الأصل والفرع، فالبحوث العلمية البحتة هي الأساس والبحوث التطبيقية مبنية عليها، ولا يمكن تصور البحث التطبيقي إلا على أساس من العلم الأكاديمي، على أن العلاقة بين النوعين من البحث ليست بسيطة إلى هذا الحد، فتقدُّم البحث التطبيقي يُؤدي إلى تقدم الصناعات المختلفة، وتقدم الصناعات المختلفة يضع في يد العالم الباحث أجهزة أدق وأحكم تساعده في الكشف عن أسرار الطبيعة، وبذلك يرد العلم التطبيقي للعلم البحت شيئًا من حسن صنيعه“([12]).
وهكذا فإن هذا الانفصال والاتصال الذي يلفتنا إليه “مُشَرفة” بين العلم البحت وتطبيقه، إنما يُفضي بنا تلقائيًا إلى العلاقة بين العلم والحضارة وبين العلم والمدنية وبين العلم البحت بوصفه مطلبًا فرديًّا ذاتيًّا ونتائجه العملية التطبيقية بوصفها مطلبًا جماهيريًا، “فالعلم منشأ لذة فكرية في ذاته، وهو أيضًا قوة لحل المشكلات البشرية؛ فلذته وقيمته مضاعفتان. والحياة العلمية بيننا يجب أن تشمل هذه الناحية التطبيقية للعلوم. كما أنه من الخطأ أن يقتصر تفكيرنا العلمي على الناحية المادية فكذلك من الخطأ أن يقتصر على الناحية الأكاديمية“، وأن مستقبلنا “سوف يبنى على مقدار نجاحنا في إنشاء الروابط المتينة الحية بين العلوم البحتة والعلوم التطبيقية، أو بين العلم والعمل“، وهي مسألة “ليست معضلة من المعضلات، فهي لا تعدو الجمع بين العلم والصناعة، وفي كل أمة متحضرة نجد إلى جانب البحث العلمي البحت بحثًا من نوع آخر يُسمى البحث العلمي الصناعي أو التطبيق، فكل مصنع من المصانع الكبرى به قسم خاص لبحث مشكلات الصناعة التي يزاولها، وبه معامل وعلماء متخصصون يتفرغون لحل المسائل التي تنشأ في هذه الصناعة، فكما أن تقدم العلم أساسه البحث، كذلك تقدم الصناعة أساسه البحث أيضًا“([13]).
وإذا كان هذا الجمع أو التكامل بين العلم والصناعة أمرًا ضروريًا كما يدعونا مُشَرفة، فإنه من ناحية أخرى ينبهنا بعبارات حادة كالسيف، لاهبة كالنار، يُنبهنا إلى خطورة الترويج لأقوال مثل أننا نريد أن نكون عمليين، وأن ضيق الوقت وحُمَّى المنافسة يقتضيانا بأن نهتم بالناحية الصناعية وحدها من دون الناحية العلمية البحتة، التي قد تكون ترفًا لا نملكه ولا نريده! يُحذرنا مُشَرفة من هذه الآراء أشد التحذير وأحدِّه، ذلك أن أولئك الذين “يفخرون عادة بأنهم قوم “عمليُّون” فهم لا يُعنون بالمباحث النظرية والآراء الفلسفية التي تَصِمُها عقولهم القاصرة بوصمة العبث“… هؤلاء القوم
“إذا ظنوا أنهم يستطيعون مجاراة غيرهم من الأمم في ميدان الحياة العلمية إنما يخدعون أنفسهم! فالعلم والخبرة الفنية ليسَا شيئًا يُباع ويُشترى، بل هما نتيجة التحصيل والدرس والمران، وليس هناك طريق مُعبَّد يوصل إلى القوة دون اجتياز صعاب الكد والعمل، والأمة التي يُقعِدها الكسل أو التواكل عن الإسهام في مجهود البشر العلمي والصناعي وتظن أنها تستطيع أن تعيش عالة على ما تُنتجه قرائح غيرها من الأمم، هذه الأمة إنما تعيش في حلم سرعان ما تتنبه منه لتجد نفسها حقيرة الشأن مهدورة الكرامة”([14]).
وتفسير ذلك يسير وهو تفسير عملي يلائم هؤلاء العمليين: فالاعتماد على الصناعة وحدها، والتوثّب لبناء المصانع على غرار غيرها من المصانع الأوروبية والأمريكية لإنتاج المنتجات نفسها التي تنتجها تلك المصانع، والاكتفاء فقط بالمهندسين والفنيين والعمَّال الميكانيكيين دون العلماء والباحثين النظريين، ودون الجامعات ودور البحث العلمي الأكاديمي البحت، سوف يؤدي ذلك إلى تراكم هذه المنتجات على مدار سنوات، بينما نظيرتها الغربية التي تقوم على أسس علمية، ومن ثم فهي على معرفة بالمبادئ والقوانين التي تقوم عليها هذه الصناعة أو تلك، مثل صناعة الطائرات، فإنها لا تنفك تطور هذه الصناعة، لننظر ذات يوم فإذا بيننا وبينهم أمدًا بعيدًا.
من أجل ذلك ترانا “إذا فكرنا مَليًّا واستعرضنا الأمم المتحضرة على تفاوت حظوظها من الحضارة، وتبايُن أقساطها من التقدم الإنساني، ألفينا أعظمها نصيبًا من المدنية أكثرها اهتمامًا بالعلوم، وأدناها حظًا من التقدم والسُّؤدد البشري أقلها اكتراثًا بشأن العلم والعلماء، وذلك بأن الحياة الحديثة والحضارة الحديثة والتقدم الحديث هي جميعًا وليدة العلم لا تحيا إلا به ولا تقوم عليه، فلا غرابة إذًا في أن تكون العناية به معيارًا لها ودليلًا عليها“([15])
إن في هذه الفِقرات المتتابعة المُكثفة التي ننقلها عن الدكتور مُشَرفة لدروس بليغة لِمن يظنون أن المدنية والحضارة مما يمكن استعارته أو شراؤه، وأنه يكفي مؤونتهما مظاهرهما التقنية، غافلين تمامًا عن أن التقنية بلا علم كشجرة بلا جذور ما أيسر أن تسقط من أقل نسمة!
فلئن وقع في ظن كثيرين أن الاختراعات والمستحدثان من إنارة كهربائية وقاطرات وطائرات… هي ما يُمثل العلم، فهي – كما يرى “مُشَرفة“– ليست من العلم في شيء، ثم إننا “لو اعتبرناها أثرًا من آثار العلم فلا أظن (والكلام لـ مُشَرفة) أن لها شأنًا يُذكر في ثقافة الشعوب، فهذه المظاهر الخلابة وإن كانت نتيجة لا مفر منها للتقدم العلمي وعرَضًا من أعراض الثقافة البشرية، إلا أنها بعيدة عن جوهر العلم نائية عن كُنه الثقافة، فالثقافة حقيقة معنوية مادتها الروح البشرية، كما أن العلم قوامه التفكير البشري، ولا يجوز الخلط بين هذه الأمور الأساسية وبين المظاهر السطحية التابعة لها والمتوقفة عليها”([16]).
ولكن إذا كان الدكتور مُشَرفة يُصرُّ على التمييز بين العلم ونتائجه التطبيقية على هذا النحو، ويرى أن الاختراعات المختلفة مهما عَظُمت فهي مظاهر سطحية بعيدة عن جوهر العلم نائية عن كُنه الثقافة… فما هو جوهر العلم عنده؟ إن الوقوف على هذا الجوهر إنما يضعنا على أساس متين ويحقق لنا فهمًا أعمق لطبيعة العلم، ودرجة ارتباطه بالرُّقي والمدنية.
جوهر العلم، جوهر الثقافة
يرتقي بنا “مُشَرفة” درجة أخرى في معارج العلم ومعانيه ليدخلنا في صلب جوهر العلم، الذي هو صلب جوهر الحضارة وجوهر الثقافة، فلئن كانت علاقة العلم بالمدنية – كما رأينا– علاقة ظاهرة تبدو من البوابة الأمامية للعلم، أي من ناحية نتائجه التي تُعزز المدنية وتمدها بأسباب التقدم المادي، أو لأن المدنية تُهيئ البيئة الحاضنة للعلم مُتمثلة في بناء الجامعات والمجامع العلمية، فإن هناك علاقة أخرى بين العلم والمدنية – كما سنرى– هي أخفى ولكنها أعمق وأرسخ، وهي تبدو من البوابة الخلفية للعلم، أي العلم بوصفه منهجًا.
إذ يذهب بنا مُشَرفة إلى أن العلم قبل كل شيء إنما هو منهج/طريقة، وتتمثل هذه الطريقة أو المنهج في “الاعتماد على المشاهدة المباشرة والتفكير الصحيح“([17]) والمنهج هنا إنما يتخذ معنىً أرحب وأشمل من المعاني التي قال بها فلاسفة العلم الغربيين، والتي أرادوا بها معاني دقيقة تصف خطوات البحث العلمي وطرق العلماء في التوصل إلى نظرياتهم، فقد قصد “مُشَرفة” بهذا المعنى للمنهج الذي هو جوهر العلم أن يسموَ به إلى أفق الثقافة والحضارة، فيكون المنهج مُعبرًا عن العلم وعن الفن والأدب والفلسفة والتشريع جميعًا.
فهذا المنهج أو هذه الطريقة العلمية، إنما تُمثل السمة المميزة للفنون الأصيلة وللآداب ولشتى مناحي الإبداع، فهي تتميز ببعدها عن التقليد والمحاكاة لذاتيهما والنسج على منوال الأقدمين، وإنما يعتمد الفنان أو الأديب على خبرته المباشرة وتفكيره الخاص: إنه الاتصال المباشر بين الأديب وبين بيئته المادية والمعنوية ليَخْرُجَ أدبه غَضًّا يَانعًا تستطيبه النفس ويستسيغه الذوق السليم، لا ذابلًا يابسًا قد أكل عليه الدهر وشرب، فهذا الاتصال المباشر هو أساس كل إلهام صادق في الأدب، به تظهر شخصية الأديب في أدبه، ومن ثم شخصية الأمة في أدبها، وهو قول يصدق على الأدب كما يصدق على سائر الفنون من تصوير ونحت وموسيقى، وهو يصدق أيضًا على التشريع وعلى النظم الاجتماعية والسياسية…([18]).
فلئن تَمَثَّلت الطريقة العلمية في الاعتماد على المشاهدة المباشرة والتفكير الصحيح، فليست هذه الطريقة إلا الحالة التي تكون عليها الحضارة في مراحل الاستيقاظ من السُبات العميق الطويل، أي في مراحل الانبثاق والتوثب والتحول والانفتاح على الجديد وملاقاة المجهول([19])، وهذا المنهج إنما يُعَدُّ التعبير الأجلى عن أجمل وأنبل النوازع الإنسانية: إنه نزوع الإنسان إلى المعرفة وتشوفه لتجاوز ذاته المحدودة بحدود الزمان والمكان شوقًا إلى الحقيقة الخالدة العابرة للزمان والمكان.
معنى هذا أن العلم ليس نشاطًا مستقلًّا يقوم بذاته، ولا هو جوهر مُتميز عن جوهر الفن والأدب وسائر مناحي الإبداع، وإنما هو مع الفن والأدب والفلسفة والتشريع ومظاهر مختلفة لجوهر واحد: هذا الجوهر هو البُعد عن التقليد والمحاكاة لذاتَيْهِما، والاعتماد على الخبرة المباشرة والتفكير المستقل والتفاعل الحر بين العقل والواقع الذي يحيط به.
على أن مُشَرفة يُحذِّرنا من الغلو في الابتعاد عن القديم وعن تقليده إلى الحد الذي نقطع معه كل صلة، فهو يرى أن القطيعة التامة التي يصطنعها بعض الكتاب والشعراء مع الماضي إنما هي محاولات مآلها الفشل ولا محالة،
“إذ إن الأدب كالعلم هيكل يُبنى لا سبيل إلى فصل أعلاه عن أسفله إلا بهدمه، أو كائن ينمو لا سبيل إلى محو أثر الماضي فيه إلا بقتله”([20]).
بناءً على ذلك يُمكن أن نفهم من قول مُشَرفة أن العلاقة السليمة مع القديم، سواء في العلم أو في الأدب والفن أو في التشريع… إنما تكون بالأخذ من ذلك القديم ما يُلائم الواقع ويواكب تطوره ويسلط الضوء على مشكلاته ويحاول حلها، كما تكون هذه العلاقة السليمة في مراجعة هذا القديم ونقده واستبعاد منه ما لا يُلائم الواقع وما يُعيق تطوره ويصادر على نموه وارتقائه.
ومعنى كل ما سبق أن العلم ليس مُنتجًا من المنتجات يُمكن استدعاءه حسب الحاجة، ولا هو بناء أنيق يمكن محاكاته والتشييد على مثاله، وإلا لكان يكفي بناء الجامعات والمجامع العلمية على غرار نظراتها الغربية والشرقية، وإنما العلم هو عقلية تُبنى وثقافة تُنسج على مهل، وما الجامعات والمجامع إلا بيئات حاضنة لهذا النشاط العلمي وهذه الحالة الثقافية، فهذه الجامعات والمجامع هي لتنظيم النشاط العلمي لا لإنشائه من عدم.
كذلك فإن معنى كل ما سبق أن جوهر العلم هو جوهر للحضارة تشترك فيه الفنون والآداب والفلسفة والتشريع: هو جوهر واحد جامع لازم للثقافة في مرحلة تجدُّدها وخروجها من غفلتها إلى يقظتها، ومن خمولها وقعودها إلى انطلاقها وتوثُّبها وانفتاحها على العالم، أي في مرحلة تحضرها؛ فلا يؤخذ جانب من هذا الجوهر دون الآخر، وإنما هو وِحْدَةٌ واحدةٌ إما أن نأخذها كاملة أو ندعها كاملة.
العلم والقيم المطلقة
على أن ثمة جوهرًا أعمق من المنهج يُلفِتنا إليه مُشَرفة، وهو أعمق لأنه أجمع لوجوه الحضارة والرقي وأدلَّ عليها وأحفلُ بمعانيها، إذ لا يكفي أن نقول بأن جوهر العلوم والفنون والآداب والتشريعات والفكر والفلسفة – هو منهج أو طريقة، فإذا نحن عَرَّفنا المنهج والطريقة فما الدافع الذي يَحْفِزُنا على المضي في هذا الطريق أو يجعلنا ننتهج هذا المنهج؟ يُخبرنا مُشَرفة أن هذا الدافع إنما هو “الجمال”! نعم إنه الجمال، وليعجب من يشاء.
وكثيرًا ما نسمع ونقرأ عبارات مثل: أن العلم شأن منفصل عن القيم، وأن هذا الانفصال هو ما يجعل العلم محايدًا وموضوعيًا، وبقدر ما يبتعد العلم عن القيمة يكون أقرب للحقيقة، حتى لقد قال مُشَرفة نفسه:
“هناك صفة يتميز بها كل قول يقول به العلم وكل رأي يصدر عن عالِمٍ ألا وهي صفة تقرير الواقع، فالعلم إذ يتحدث إنما يتحدث عن الحقائق التي تقع تحت سمعنا وبصرنا وسائر حواسنا، وهو لا يتحدث عما يقع تحت بصر زيد أو عمرو من الناس بل عما يستطيع كل إنسان أن يتحقق منه بنفسه وعن طريق صدق حواسه، وفي كل هذا يَصوغ العلم عباراته في صورة خبرية بعيدة عن ميول النفوس وأهوائها، فهو لا يُحب شيئًا ولا يكره شيئًا ولا يعجب بشيء ولا يسخر من شيء ولا ينادي بشيء ولا يَحُطُّ من قدر شيء، وإنما هو يُقَدِّرُ الحقيقة الواقعة كما هي وبصرف النظر عن أثرها في النفس البشرية… هذه المعاني مُجتمعةً هي ما يُعبر عنه العلماء بقولهم: إن العلم إنما يتعرض للحقائق ولا يُعنى بالقيم”([21]).
واضحٌ جدًا من الفقرة السابقة تجاوب مُشَرفة مع التيارات الفلسفية التي سادت عصره، وبالتحديد تيار الوضعية المنطقية، بيد أنه تَجاوبٌ لم يتجاوز القشرة من ظاهرة العلم إلى لُبِّها أو جوهرها، كما أنه لم يتجاوز رأي الدكتور مُشَرفة إزاء جانب محدد من ظاهرة العلم إلى عمق كيان الدكتور مُشَرفة نفسه.
إذ يظهر جليًا إدراك مُشَرفة لما قد يتبادر إلى الأذهان من جراء قوله السابق هذا، وهو الاعتقاد بأن العلماء قوم لهم فقط عقول باردة تستجيب لمعاني الحق، وما لهم من قلوب حارة تخفق بمعاني الخير والجمال! فيتدارك قوله السابق ببيان ما يعتمل في نفوس العلماء، وبيان نوع الصلة التي تقوم بين المعرفة وبين القيم، فهو يقول:
“…وليس معنى هذا أن العلماء قوم قد ماتت مشاعرهم وانعدم إحساسهم وغفلت ضمائرهم، بل بالعكس قد دلت التجربة على أن الاشتغال بالدراسات العلمية يُرهف الإحساس ويبعث في النفوس حب الخير والصدق والجمال”([22]).
هل ثمة تناقض بين كِلا الرأيين اللذين يقول بهما مُشَرفة عن طبيعة العلم وحدوده؟ الإجابة بالنفي، لأن القول بأن “العلم يصوغ عباراته في صورة خبرية بعيدة عن ميول النفوس وأهوائها”، وإن “العلم يُقدر الحقيقة الواقعة كما هي وبصرف النظر عن أثرها في النفس البشرية“… هذا القول إنما يتكامل معه ويفسره قول آخر لـ مُشَرفة سُقناه من قبل، وهو أن “النظرة العلمية بعيدة عن الغموض، لا تشوبها الشهوة، ولا تتسلط عليها الأنانية”، إذ ثمة بُعد أخلاقي للنظرة العلمية، طالما هي ترتفع بنا من دنايا الأهواء والرغبات إلى أفق الحقيقة، وهو ارتفاع يشمل أمة بأسرها إن تمكنت النظرة العلمية من نفوس أفرادها.
يؤكد ذلك قول مُشَرفة بأن
“العلم أكبر عامل على رفع الأخلاق في الأمة، لأنه يرتفع فوق الصغائر والدنايا إلى سماء الحقيقة الخالدة، والعلم عَلمٌ من أعلام الفضيلة، لأنه يسمو فوق الشهوات، ولا يحفل بالمآرب الفردية، وهو مُطهر للنفوس من أدناس الأنانية، لأنه يحمل شُعلة مقدسة تُذيب الأثرة وتمحو حب الذات وتحل محلهما الإيثار والرغبة في خير المجتمع”([23]).
معنى هذا أن النظرة العلمية إنما تدفعنا إلى الخروج من كهوف أنَوَاتِنا وشهواتنا المظلمة للتحليق في ذلك الفضاء المشترك الفسيح، حيث النسيم والنور والحرية الحقيقية، فالخضوع للرغبات والأهواء الفردية التي ينبذها العلم، يؤدي إلى التضارب والاختلاف والتفكك والصراع، فلا يقوم مجتمع ولا تنهض حضارة ولا تتراكم معرفة، كما يتلاشى الحس الخُلقي والذوق الجمالين في المقابل فإن العلم إذ يدعونا إلى الخروج من كهوفنا الفردية إلى كلمة سواء نجتمع عليها ونشترك فيها، فإنه يدفعنا إلى تحقيق ضرب من “الاتساع والاتساق” في الرؤية والذي على أساس منه يقوم كلٌّ من العلم والأخلاق: العلم الذي هو في جوهره أن يقوم الاتساق بين أوسع مساحة ممكنة من عناصر الوجود في الذهن، والأخلاق التي هي في جوهرها أن يقوم الاتساق بين أوسع مساحة ممكنة من عناصر الوجود في الضمير والسلوك، وأن هذا “الاتساع والاتساق” لهو جوهر الجمال.
لا تتدخل القيم إذًا في مضمون أو محتوى العلم وإنما هي دافع إليه وباعث عليه، ثم هي تتكونُ وتنمو وتزدهر به، وتتأكد هذه الرابطة الوثيقة العميقة بين العلم والقيم بالنظر إلى أن “الاشتغال بالعلم أمر له خطره، وعمل له قدسيته، ورسالة العلم رسالة خالدة، لا يحملها إلا من تَطَهَّرت نفسه وعَلَت همته، ولا يتلقاها إلا من خشع قلبه للحق واستنار فيه ذهنه بنور اليقين، وطلب العلم إن لم يكن رأس الفضائل جميعًا كما قال أرسطو فهو منبعٌ من أصفى منابعها، فطالب العلم طالب حقيقة ومن طلب الحقيقة أحب الحق… ومن أحب الحق كان صادقًا… ومن كان صادقًا كان شجاعًا… ومن كان شجاعًا كان ذا مروءة… ومن كان ذا مروءة كان كريمًا… ومن كان كريمًا كان رحيمًا، وأحب الخير وناصر العدل وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر“([24]).
ولا يزال الدكتور “مُشَرفة” يُحلِّقُ بنا في معالي المعاني حتى يبلغ المنتهى، فلا يدعنا إلِّا ونحن مأسورين مسحورين! فهو يستطرد في بيان الصلة التي تقوم بين العلم والقيم، وكيف أن الجمال هو أساس العلم وأساس الأخلاق! أي أن الباعث على التنامي في الوعي وفي الضمير، إنما هو باعث جمالي؛ فيقول مُستكملًا:
“وعندي أن ما وصل إليه الإنسان من العلم، وما ترتب على ذلك من قدرة واختراع، إنما جاء على قدر طلبه للحقيقة وشغفه بالحق، كما أن حب الحق وحب الخير إنما يتفرعان من حب الجمال، فالحق والخير جميلان، ولذلك من أحبَّ الجمال أحبهما جميعًا”([25]).
وكأن الدكتور مُشَرفة يريد أن يقول بأن الجمالَ طائرٌ إحدى جناحيه هو الحق والآخر هو الخير… وطائر الجمال هذا إن حلَّق في أفق أمة من الأمم فإنه خليق أن يسموَ بها من وَهْدة التخلف والانحطاط إلى قمة التحضر والرقي، فلئن غلب الاعتقاد على كثيرين بأن الحديث عن الجمال ترفٌ لا ينبغي إلّا للأفراد والجماعات المُرفهة، وأنه لا وزن له إذا ما قورن بكل من المعرفة والأخلاق، ما دام هو –في ظنهم– من الكماليات لا من الضروريات التي تقوم بها الحياة وتنهض عليها الحضارة، فها هو “مُشَرفة” يَلفِتُنا إلى هذه الحقيقة العميقة: أن الجمال هو النهر الذي يترعرع على ضفتيه كلًّا من المعرفة والأخلاق، وأن الجمال هو جوهر المعرفة والأخلاق جميعًا، ويستكمل مُشَرفة الفقرة السابقة بقوله:
“وددت لو استطعتُ أن أصور للقارئ فيض ذلك الجمال الذي يدركه طالب الحقيقة العلمية، ذلك التناسق البديع بين أجزاء الكون، حتى إن السير “جيمس جينز” العالم الإنجليزي الشهير ليصف الكون بأنه فكرة عظيمة، أو إن شئت فقل فكرة جميلة، ومن الخطأ الفاحش أن يُصوَّر العلم على أنه شيء مادي، يُعنى بالأجسام والمسافات والأبعاد وتحديد الأشعة وما إلى ذلك، وأن يقال إن العلماء يقفون عند المظاهر المادية للعالم، فالعلماء إذ يبحثون عن الحقيقة يسمون بعقولهم إلى المنتهى، وهم إذ يكشفون عن أسرار الكون تمتزج نفوسهم بالحق والجمال”([26]).
أتراه الدكتور “مُشَرفة” قد اطلع على نظرية “أفلوطين” في الفيض والصدور –من بين ما اطلع عليه وتعمقه في الفلسفة– وتأثر به أو استلهمه من طريق مباشر أو غير مباشر؟ أم هل عساها الحقيقة الخالدة تمنح لمحة من نورها السرمدي لأصحاب العقول السامية النبيلة عبر العصور وباختلاف البقاع ومن غير شرط تأثير أو تأثر، فيقولون القول نفسه وإن بطرق مختلفة؟!
العلم والدين
لا تبتعد العلاقة بين العلم والدين كثيرًا عنها بين العلم والقيم، لأن تناول عالِمٍ كبير مثل مُشَرفة لهذه العلاقة بين العلم والدين إنما يعني أنه يقصد بالعلم المعنى الكلي دون الدخول في تفاصيل النظريات والنتائج العلمية، كما يقصد بالدين أيضًا معناه الكلي المتجاوز لتفاصيل المعتقدات الدينية المختلفة وتبيان معانيها إلى المبادئ والمُثل العليُا التي يدعو الدين إليها، هو إذًا تناول لا يُراد منه بيان مدى ائتلاف أو اختلاف نتائج النظريات العلمية مع النصوص الدينية، وإنما هو تناول لجوهري العلم والدين، وبيان تهافت الزعم بصراعهما.
ويشرح “مُشَرفة” تهافت القول بالتعارض بين العلم والدين، مُدلِّلًا على ذلك بالدينَيْن المسيحي والإسلامي، أمّا الدين المسيحي فمن “المُسلم به أن رجال الكنيسة في القرون الوسطى كانوا سببًا من أسباب انحطاط العلوم وتأخرها في أوروبا، ولكن هل الدين مسئول عن هذا؟”([27])، ويجيب “مُشَرفة” مُستشهدًا بقول اثنين من المفكرين الغربيين، هما “ساليفان” و”جريرسون” في مؤلفهما عن تاريخ العقائد الحديثة:
“إن الذي لا يعرف تاريخ القرون الوسطى ليحق له أن يعجب من انحطاط رجال الكنيسة في تلك العصور، كيف وصل يوحنَّا الثاني عشر إلى مركز البابوية، وهو الذي انغمس في السفالات الخلقية، بل وفي الإجرام؟ وكيف تَسنَّى لـ “رودريجوبورجيا” أن يصير البابا إسكندر السادس عام 1492، وهو الذي انحطت حياته الخاصة إلى دركات الإثم والفجور؟ وغير أولئك كثيرون! فالمسألة إذًا ليست مسألة تعارض بين العلم والدين، بل هي مسألة انحطاط عام شمل أهل أوروبا في القرون الوسطى، فلمَّا تهيأت الأسباب قامت النهضة الفكرية، وقامت في الوقت نفسه حركة إصلاح، واتجهت النفوس نحو نور العلم وجمال الفن ونحو الفضائل والمثل العُليا على السواء”([28]).
هي إذًا وحدة واحدة شاملة لكلٍّ من العلم والفن والفضائل والمُثل العليا التي هي جوهر الدين، وهي الوحدة المشتركة والعروة الوثقى نفسها التي أشرنا إليها آنفًا في فكر مُشَرفة: فإما رُقي شامل أو انحطاط شامل.
أمَّا فيما يتعلق بالدين الإسلامي وعلاقته بالعلم، فيسخر “مُشَرفة” من تلك الحفاوة التي قوبل بها منطق “بيكون” في الاستقراء، مُوضحًا كم هو منطق قديم قدم التفكير العلمي في الشرق القديم، وكم يحفل القرآن الكريم بالآيات الداعية إلى النظر في الكون وفي الخلق، مُستشهدًا ببعضها ومستشهدًا ببعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الداعية إلى طلب العلم بل الآمرة به([29])
“فالدين إذًا يُشجع على طلب العلم، ويأمر باستخدام العقل وسائر الحواس، ويترك الفكر حرًا في تفسير الظواهر الطبيعية، ومنطق العلم منطق سليم في نظر الدين، أساسه المشاهدة، فالعين يجب أن ترى والأذن يجب أن تسمع والعقل يجب أن ينظر وأن يفكر”([30])
لا يذكر مُشَرفة من الآيات القرآنية إلّا ما يُفيد معنىً عامًا هو طلب العلم وإعمال العقل والحواس؛ ما يؤكد فكرة أن العلم والدين هما بالأساس صديقان متعاونان على طريق طلب الحق والحكمة والهداية، ولكن إذا كان الدين يَحُثُّ على طلب العلم ويأمر باستخدام أدواته من حسّ وعقل، فإنه أيضًا له نواحٍ لا تدخل في دائرة العلم، ولكنها أيضًا لا تناقضها أو تعارضها، ولا يُتصوّر أن العلم يُمكن أن يرفضها بحال من الأحوال، فها هو مُشَرفة يتساءل قائلًا:
“هل الحياة البشرية، هل النفس البشرية هي مجرد أن نرى وأن نسمع وأن نعلم؟ إن العلم بهذا المعنى لا يخرج عن دائرة معينة، وهذه الدائرة هي دائرة الحقائق الموضوعية، دائرة الموجودات التي ترتبط بالحواس، (…) إلا أن هناك أمورًا تخرج عن دائرة الحقائق والنظريات العلمية، هذه الأمور هي ما يُطلق عليها الفلاسفة اسم القيم البشرية، (…) هذه الأمور لا تُجدي فيها تجارب علماء الكيمياء ولا علماء الفلك ولا مشاهداتهم، ولا تنطبق عليها طريقة بيكون، ولا المنطق الاستقرائي؛ ذلك لأنها ترتبط بما هو أعمق من هذه جميعًا، ترتبط بالحياة الرُوحية للنفس البشرية، فنحن نؤمن بالخير ونحارب الشر، لأن هذا صادر عن عقيدة راسخة أساسها الدين، ونحن لا نتقبل جدلًا في إيماننا هذا، لا من علماء الفلك، ولا من غيرهم”([31]).
وعلى نحو بديع يضم “مُشَرفة” كُلًّا من العلم والدين في إطار قيمي أنيق، فيستطرد قائلًا:
“صحيح أن العلم يُعنى بالحقائق الموضوعية، وأن الدين يُعنى بالقيم الرُوحية، ولكن طلب العلم في ذاته مبني على قيمة رُوحية هي حب الحق، فطالب العلم طالب حقيقة، ولذلك كان الواجب على رجال العلم ورجال الدين أن يتعاونوا ويتناصروا في خدمة الحق وفي خدمة الفضيلة، فإن في تعاونهم وتناصرهم رفاهية البشر وسعادتهم”([32])
وكأن الدين بمعناه العميق، يُمثل يُنبوعًا صافيًا يَسقي نبتة العلم ونبتة الفضيلة ونبتة الفن والجمال، وهكذا نكون قد استدرنا دورة كاملة لنعود إلى القول بأن العلم – كما يراه مُشَرفة– لا ينطلق من فراغ، وإنما من أساس قيمي ورُوحي متين، وبدافع من عواطف ومشاعر هائلة، ولولا ذلك كله ما قامت للعلم قائمة.
بهذه الدفقة الروحية العميقة ينتشلنا مُشَرفة من وهاد العدمية ليُثَبِّتَ أقدامنا في قرار وجودي مكين، فيذهب إلى أن المجد البشري إنما يقوم على “ذلك القَبَسُ المقدس الذي نشعر جميعًا أنه يميز الإنسان على سائر الحيوان، تلك القوة الروحية التي تحرك فينا حب الحق وحب الخير وحب الجمال، وعلى قدر استجابة البشر لذلك الداعي تأتي عظمتهم أو رفعة شأنهم”([33]) فلئن استصغر بعضهم أمر الإنسان واستَهْوَنَهُ مقارنة بهذا الكون الهائل، ورأى في الإنسان ضآلةً وضعفًا ونزعهُ كُلَّ شأنٍ وتفردٍ ومجدٍ، فها هو مُشَرفة يرد إليه هذا التفرد الفريد والمجد المجيد ويعيده ملكًا على عرش الخليقة، شريطة أن ينهض بالدور الذي أنيط به والعبء الذي حُمِّل إياه والمسئولية التي تلقاها.
خاتمة
لا يخفى على المُدقق أن تناول فكرُ عالِمٍ أو مفكرٌ كبيرٌ لا يكون على سبيل استعراض آرائه وأفكاره للإعجاب بها وبصاحبها والسلام، وإنما هو إطلالة على الواقع بتشابكاته ومشكلاته وتعقيداته بواسطة عقل كبير اتسع لمعارف دقيقة وعميقة عن هذا الواقع، بل أكثر من ذلك أنه استطاع أن ينفذ من الواقع وتشابكاته –التي تتغير وتتبدل بمرور الزمان واختلاف المكان– إلى ما يُنظمه من قوانين وقواعد حاكمة ومبادئ عامة عابرة للزمان والمكان، هي ما تجعلنا حتى يوم الناس هذا ما نزالُ نقرأ ونفيد من كتابات حكماء الشرق القديم وحكماء الإغريق ومفكري العصور الوسطى، رُغم اختلاف الزمان والمكان.
ولعلنا نكون قد لمسنا في سطور الدراسة، كم ينطبق هذا الكلام أشدَّ الانطباق وأحكمه على العالِم العَلَم علي مصطفى مُشَرفة، بما طرحه من أفكار ورؤى تُمثل حلولًا ناجعة لكثيرٍ من مشكلاتنا القومية التي نعانيها: والتي كنا نعانيها أيام مُشَرفة، وما نزال نعانيها حتى يومنا هذا، ويمكن تلخيص أهم الأفكار التي جاءت في هذه الدراسة لفكر مُشَرفة على النحو التالي:
إن الجامعة شأنٌ مهمٌ في احتواء النشاط العلمي والعناية به، لكن ينبغي الانتباه إلى أن الجامعة معنىً قبل أن تكون مبنىً وهي دار بحث قبل أن تكون دار درس وهي مَثَلٌ أعلى في طلب الحقيقة ونشر العلم وخدمة المجتمع، وليست أموالًا تُصرف ولا وظائف تُقَلَّدُ ولا درجات تُمنح.
ينبغي التمييز بين العلم وتطبيقاته… بين الأصل والفروع، فلا ننخدع بتطبيقات العلم ونظنها صُلب التقدم وعماد الرقي، فلئن كانت المدنية في حاجة إلى التطبيقات العلمية لحل مشكلاتها التي لا تفتأ تنشأ، فإنها أحوج للأساس العلمي الذي تقوم عليه هذه التطبيقات لكيلا تقف وتتجمد، وإنما لتتطور وتنمو وتزدهر.
تتأكد الفكرة السابقة بالنظر إلى أن العلم يُمثل جوهرًا لكل جوانب الثقافة في مراحل تحضرها وتوثُّبِها: الأدب والفلسفة والتشريع… هذا الجوهر الجامع لكل وجوه الحضارة: هو المنهج الذي قوامه المشاهدة المباشرة والتفكير الصحيح، فإذا نحن عُنينا بأمر ازدهار مَدَنِيَّتُنا ازدهارًا عميقًا لا سطحيًا، كان علينا أن نتوجه إلى تجذير هذا النهج في ثقافتنا وفي مدارسنا وجامعاتنا، كي يزدهر العلم والأدب والفكر والصناعة وكل وجوه الحضارة الأخرى.
على أن ثمة جوهرًا أعمق من المنهج هو أحوج إلى تجذيره في ثقافتنا، وهو حب الجمال، فالجمال هو الفضاء الفسيح الباعث على خروج الإنسان من كهف أناه إلى رحاب المُطلق: حيث الحقيقة والحرية والمعرفة والأخلاق والحضارة بأجمل وأنبل معانيها.
وأخيرًا وليس آخرًا فإن ثقافتنا ينبغي لها أن تكون أوسعُ أفقًا وأسمحُ صدرًا حتى تقبل تجاور، بل تآزر العلم والدين لا تنافرهما وتناحرهما، وهي لن تتمكن من ذلك قبل أن تسمو إلى رحاب الجمال، فترى العلم والدين كليهما من منظور أشمل وأرحب، فتمتنع عن الانغماس في التفاصيل والجزئيات المحكومة بزمانها ومكانها، وإنما تلتمس المعاني الكبرى معاني الحق والحكمة والفضيلة التي يدعونا إليها كل علم وكل دين.
وبعد ليس الحديث عن عالِمنا الكبير “مُشَرفة” وبسْط رؤاه الجميلة النبيلة إلَّا محاولة متواضعة لاستخراج كنز من كنوز ثقافتنا المطمورة تحت ركام الأوهام الشائعة وضوضاء الأفكار والآراء السطحية المتناثرة هنا وهناك، وتحت صخب التواصل الاجتماعي الافتراضي والتلوث التكنولوجي المُخيم على الآفاق… عسانا أن نُفيد من هذا الكَنز بعض الإفادة؛ آملين كُلَّ الأمل أن يُعاد لاسم مُشَرفة المغبون مجده الذي يليق به.
المصادر والمراجع:
[1]– هذا مع الوضع في الحسبان أن “بنية الثورات العلمية” قد خرج إلى النور عام 1962م، في حين تُوفي “مُشَرفة” عام 1950م. ونحن لا نقصد بالطبع أن “كون” قد تأثر بـ مُشَرفة أو قرأ كتاباته، فهذا في حكم المستحيل تقريبًا، فضلا أن بحث توماس كون هو أوسع وأعمق وأعقد بكثير من مجرد شذرات قال بها مُشَرفة. وإنما الذي نقصده هو إبراز أن عالمًا ومفكرًا كبيرًا ينتمي إلينا كان له هذا السبق وهذه الرؤية الواسعة والعميقة والدقيقة، التي تجعلنا لا نقف عند الانبهار به، وإنما نأخذ كل ما يقوله مأخذ الجد والحزم، ووضعه قيد التنفيذ، ما دام هو بهذا الشمول والعمق من المعرفة بطبيعة العلم وازدهاره وبطبيعة الحضارة وازدهارها.
[2]– مُشَرفة، علي مصطفى، نحن والعلم، مؤسسة هنداوي، 2014، ص35.
[3]– المصدر السابق، ص 11.
[4]– انظر المصدر السابق، ص 37 – 41.
[5]– مُشَرفة، علي مصطفى، مطالعات علمية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر، 2012، ص 131، 132.
[6]– مُشَرفة، علي مصطفى، العلم والحياة، مؤسسة هنداوي، 2013، ص29.
[7]– العلم والحياة، ص30.
[8]– نحن والعلم، ص 36.
[9]– مطالعات علمية، ص 117.
[10]– المصدر السابق، ص 126، 127.
[11]– نحن والعلم، ص 36.
[12]– المصدر السابق، ص37.
[13]– مطالعات علمية، ص 137 – 139.
[14]– نحن والعلم، ص13، 14.
[15]– نحن والعلم، ص12، 13.
[16]– من محاضرة ألقاها مُشَرفة، علي مصطفى، ضمن مجموعة محاضرات ألقاها كلٌّ من طه حسين ومحمد كرد علي وعلي مصطفى مُشَرفة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، والتي جُمعت في كتاب تحت عنوان: آراء حرة، مؤسسة هنداوي، 2018، ص112، 113.
[17]– آراء حرة، ص 112.
[18]– انظر المصدر السابق، ص112.
[19]– انظر المصدر السابق، ص 110، ص 111.
[20]– المصدر السابق، ص112.
[21]– نحن والعلم، ص11.
[22]– المصدر السابق، ص12.
[23]– العلم والحياة، ص37.
[24]– العلم والحياة، ص 36. وانظر أيضًا مطالعات علمية، ص125.
[25]– المصدر السابق، ص49، 50.
[26]– المصدر السابق، الصفحات السابقة.
[27]– المصدر السابق، ص 40.
[28]– المصدر السابق، الصفحة نفسها.
[29]– انظر المصدر السابق، ص41، 42.
[30]– المصدر السابق، ص42.
[31] – المصدر السابق، ص42، 43.
[32] المصدر السابق، ص43.
[33]– المصدر السابق، ص49.