تكوين
المقدّمة
صار العمل الجمعياتيّ يتصدّر المشهد المدنيّ التونسي بُعيد الثّورة، بل من الملاحظ تحوّل هذا العمل إلى محور يتشارك فيه المجتمع المدني مع القوى السياسيّة نظرا إلى ثقل هذه التشكّلات المدنيّة في الفضاء العام وقدرتها على تحديد المسارات السياسيّة والاجتماعيّة وحتّى الاقتصاديّة بشكل متكافئ مع الدّولة. غير أنّ هذا المكوّن الرئيسي الذي يقوم عليه المجتمع المدنيّ شهد تعثّرات شديدة وما يزال نتيجة اجتهاد الدولة بمؤسّساتها في استيعابه وإلغاء استقلاليّته والضّرب بمبدأ العمل الإرادي عرض الحائط وإذكاء شهوة الوصول إلى السّلطة. وهو ما يجعلنا أمام مشهد سياسيّ يذكّرنا بالتصوّر الهيغلي للدولة والمتمثّل في إعلاء سلطة الدولة الحديثة إلى حدّ ابتلاع المجتمع المدني، ويكون ذلك بنهوض هذه الدّولة بمهمّة خلق ائتلافات تسهر على تأمين خدمات اجتماعية في مجال التعليم والصحة والعمل.. فتكون بذلك وسيطا معينا لها في توجّهاتها لا طرفا مربكا ومفتوحا على احتمالات المواجهة والتصدّي لسياسة الدولة[1]. ذاك هو المأزق السياسي الذي تتخبّط فيه الحياة الجمعياتيّة بتونس منذ الشّروع في بناء الدولة الحديثة.
تاريخ الجمعيات في تونس
وما يستوقف الباحث في تاريخ الحراك الجمعياتيّ التونسي أنّه لم ينشأ إثر طفرة تاريخيّة بل كان وليد نزوع قوى اجتماعيّة وثقافيّة للإصلاح نزوعا شرع ينمو ويتضخّم في فترة ما بين الحربين بتونس. فكان شكلا من أشكال الفعل الحداثي البكر في المجتمع التونسي ومؤشّرا من مؤشّرات تطلّع ثقافي غير مسبوق لقيم جديدة في لحظة تاريخيّة عالية التوتّر. وهو ما يخوّل لنا الحديث عن تجذّر ثقافة مدنية جمعياتيّة صرنا نلمح آثارها يوميا، إلاّ أن تخوّفات تعترينا من تحدّيات الديمقراطية التشاركيّة التي تهدّد مقوّمات المجتمع المدني من إرادة واستقلالية وحريّة. وهو الخوف الذي تجلّى في خاتمة بحث إلهام المرزوقي حول “الحركة النسائيّة في تونس” فتقول: “إن المشكلة الجوهريّة تكمن بالفعل في التصوّر الذي تحمله ديمقراطيّة تشاركيّة كما هي معروفة اليوم عن الحياة الجمعياتيّة وعن المعارضة بشكل عام . وفعلا وفق روح هذا التصوّر فإنّه لا يفترض أن التشكّلات المنبثقة من المجتمع المدني تمثّل جبهة معارضة بل عليها أن تتحول إلى شريك اجتماعي ..أن لا تستمدّ ـ هذه التشكيلات ـ شرعيّتها من مجتمع مدنيّ هو في نهاية الأمر غائب بل من الدولة ذاتها.”[2]
تلك هي إحدى العقبات الكأداء التي تعصف برهانات الحداثة وتكشف عن خطورة دور المجتمع المدني كمظهر أساسي من مظاهر الدولة الحديثة.. وفي هذا النّطاق يتنزّل اهتمامنا بالعمل الجمعيّاتي النسائي التونسي والذي كانت بداياته إرهاصات وعي مواطنيّ مزعج لسلطتي المستعمر من جهة والمجتمع الأبوي المحافظ من جهة أخرى. ونأمل عبر رصد أهمّ سمات هذه البدايات سبر درجة رسوخ الوعي المدني الذي يسمح لنا وسمه بمظهر بكر للحداثة ويمكّننا من إدراك مدى قدرته على أن يكون أرضيّة صلبة في وجه محاولات استقواء الدولة.
العمل الجمعيّاتي النسائي: الرّوافد والحدود
من المفارقات التّاريخيّة التي وسمت نشأة هذا الحراك، أن الظّرف الاستعماري كان عاملا محفّزا لأولى الائتلافات النسائيّة، وذلك باعتباره دافعا أساسيّا إلى ولادة وتضخّم حلم التحوّل من رعيّة في دولة سلطانيّة إلى مجتمع مواطنين في مشروع الدّولة الوطنيّة. وتبعا لذلك كانت بدايات الحياة الجمعويّة مسكونة بهاجس إثبات القدرة على الفعل الاجتماعي والاضطلاع بتمثيليّة المجتمع التونسي من أجل الحفاظ على الهويّة الوطنيّة رغم إكراهات الوضع الاستعماري. وقد يسّر هذا الهدف انضمام النّساء إلى مسار الإصلاح انضماما غير مشروط بمطالب نسويّة، إذ لم يكن للمعيار الجنسي وزن يذكر في مبادئ تلك الجمعيّات مقابل المعيار الطبقي، بل كان الهدف من هذه التكتّلات المختلطة تدعيم المواقف الاجتماعية والخطّة السياسية التي تتبنّاها الأحزاب الوطنيّة الرجاليّة بامتياز وتَمثّل الأهداف التي تقوم على أساس الانتماء الطبقي. ولا غرابة في ذلك متى بحثنا في أسس تشكّل تلك النّوى الجمعياتيّة الأولى، فالاتّحاد الإسلامي النسائيّ التونسي الذي برز سنة 1936 كان سليل الأوساط الزيتونيّة عامّة وبإيعاز من الشيخ محمد الصّالح بن مراد والد مؤسّسته البشيرة بن مراد تقول إلهام المرزوقي: “أمّا بقيّة عضوات المجموعة فقد كنّ ينتدبن عن طريق العلاقات الداخلية ـ العائليّة (..) وهكذا تسنّى للاتّحاد الإسلاميّ النّسائيّ من خلال أصول العضوات، استقطاب أوساط متنوّعة جدّا بدءا بالنّخبة التونسيّة الحضريّة والمحافظة، وصولا إلى النّخب الوطنيّة الجديدة الميّالة إلى التحديث”[3]. وحتى عند اتّساع دائرة المنخرطات لضمّ بعض عناصر النّخب الوطنية الجديدة مثل توحيدة بالشيخ[4] وبدرة بن مصطفى[5].. فإنّ انتماءهنّ إلى بيئة محافظة جعل مسار نشاطهنّ موجّها نحو تثبيت مقولة تكريم الإسلام للمرأة وأنّ إسهامهنّ في العمل النضالي ضدّ المستعمر يندرج ضمن الدّفاع عن الهويّة الثقافيّة الإسلاميّة: “تمكّنت النّساء من الانطلاق في مجال الأنشطة الاجتماعيّة عمدتهنّ في ذلك الحماية الأخلاقيّة التي يوفّرها الإسلام وتشربهن بالقوّة الدّاخليّة التي يتمتّع بها وقد استطعن مواجهة المجازفة التي يفرضها مثل هذا المشروع والمخاطر التي يتضمنها وذلك لأنّهن كنّ متأكّدات من أنّهنّ عندما يساندن الجهد الوطني إنّما يعملن من اجل نصرة الله”[6]. وانعكس ذلك أيضا على الفرع النسائي لجمعيّة الشبان المسلمين التي نشأت سنة 1943 وكان يرأسها الشيخ محمد صالح النيفر. فقد كُلّفت عضوات الفرع بالسّهر على أداء دور إصلاحي أخلاقويّ نظرا إلى تفشّي مظاهر فساد اجتماعي يهدّد المنظومة القيميّة للمجتمع (مظاهر فسوق ومجون في حفلا الزواج وغيرها).
إقرأ أيضاً: المرأة المسلمة والعقل النقدي
وبذلك لم تنشغل رائدات العمل الجمعيّاتي من المنتميات إلى الأوساط الزيتونية في مرحلة ما بين الحربين بمطالب المساواة والسّفور التي كان الطّاهر الحداد قد عكف على الدفاع عنها في الثلاثينات[7]، بل كنّ مثقلات بواجب الحفاظ على الخصوصيّة وبشوق الارتقاء إلى مصاف شهيرات الإسلام علاوة على استمرارهنّ في آداء الأدوار الجندرية الملقاة على عاتقهنّ. ومن بين هذه الأدوار إشرافهنّ على تظاهرات خيريّة أبرزت الطّابع النخبوي لهذه التجمّعات وواقع التّمييز الطبقي الاجتماعي من جهة[8] وتكريس المحدّدات الجندرية بما هي الأنثى الفيّاضة عطفا ورحمة ورقّة من جهة أخرى. أمّا عن تأكيدهنّ على حقّهن في التّعليم فكان مسيّجا بمنظومة المعايير التي تحافظ على أبنية التّمييز الثقافي، ففي مجلة “الإلهام” يطالعنا ذاك التّنويه بنشاط نادي “الفتاة الزيتونيّة” الذي التزم بهذا التوجّه: “إلى اللّواتي يعتزمن الالتحاق بجماعة النساء المتطوّرات حسب قوانين التقدّم السليم والالتحام بشجرة الصّداقة والأخوّة الإنسانية التي نصّ عليها الدين السماوي والفقه المقدس وهو أمر لا يمكن ان يتحقّق بالطبع إلاّ بفضل تعليم وطني حقيقي والتمكّن من أبجديّات الثقافة الوطنية ورفض الحداثة المغلوطة التي تغري اليوم عبيد المادة الزائلة”[9]. ولذلك كانت المقدرة التواصليّة لهؤلاء الرائدات محدودة بل ضعيفة، فلم تتجاوب سيّدات المجتمع مع بشيرة بن مراد في أولى اللقاءات التي سعت إلى عقدها إلا بعد إصرار واستماتة.
هكذا يتبيّن لنا أنّ بواكير النّشاط المدني النّسائي كانت مرحلة موسومة بالحرج بل العجز عن الفطام وقطع الحبل السّري نهائيّا بين تطلّعاتهن إلى التغيير من جهة وإملاءات النسيج الاجتماعي الثّقافي القديم ورأسماله الرمزي من جهة أخرى، ويمكن القول إنّ وعي المرأة بذاتها وبدورها خارج المراتبيّة الأبويّة في هذه الجمعيّات كان جدّ محدود فقد ظلّ رهين مقتضيات الخصوصيّة الثقّافيّة المستمدّة من التقاليد الاجتماعيّة، وهو ما أفضى إلى تعطيل مسار هذه الأنشطة نحو جوهر العمل المدني.
لكنّ المشهد الجمعيّاتي لم يقتصر على هذا الحراك ذي الشّرعية الوطنيّة الدينيّة بل عرف تنوّعا أحدثه ميلاد الاتّحاد النسائي التونسي قبيل نهاية الحرب العالميّة الثانية (1944)، ولئن كان فاقدا للشرعيّة الدينيّة فإنّه كان ذا شرعيّة سياسيّة بالنظر إلى علاقته بالحزب الشيوعيّ التونسي في فترة سجّل فيها اليسار الفرنسي انتصارا وشهدت فيها الائتلافات النسائية الشيوعيّة العالميّة تكاثرا. وفي خضمّ هذه التطوّرات السريعة لمسار الأحداث داخل تونس وخارجها كان الزجّ بالاتحاد النسائي التونسي في معارك سياسيّة يدعمها الحزب الشيوعيّ التونسي: “لقد وقف الاتّحاد النسائي التونسي إلى جانب قوى الديمقراطيّة المنتصرة والتزم منذ تأسيسه بالنّضال ضدّ كلّ “المتسبّبين في الحرب” و”أعداء الشّعب” (..) ولمّا طابقت المنظّمة النّسائيّة بين تصوّرها وتصوّر الحزب فقد التزمت على الفور بالنّضال من أجل إبادة الفاشيّة واستئصال آثارها”[10]. وقد تميّز هذا الائتلاف بتنوّع هويّات صاحباته الإثنيّة من مسلمات ويهوديّات ومسيحيّات وهو ما جعله أشدّ ارتباطا بهموم النساء من نظيره الإسلامي: “وهكذا أعلنت هذه المقاربة أنّه بتعبئة النّساء بشأن قضايا تتعلّق بواقعهنّ اليومي والمحسوس يمكن أن نتوصّل إلى إحداث وعي لديهنّ باللامساواة والمظالم السائدة. ثمّ إنّ إدراج النساء في النّضال (..) يسهم إذن في تقوية النضال العام من أجل تشييد عالم آخر.”[11] غير أنّه نضال يؤطّره دور الأم من جهة وتوجّهات رجال الحزب فتطالعنا احدى رائدات الاتحاد شارلوت جولان بقولها: “إنّنا لا نعتزم البقاء غير مباليات إزاء النّضال الذي يضع رجال النّظام المتوحّش ضدّ رجال التّقدّم وذلك لأنّنا نساء وأمّهات.” [12]
وبذلك لم يكن بالإمكان لمختلف الأطراف الجمعيّاتية النسائيّة التحرّر من التبعيّة لأحزاب يقودها ويحدّد أهدافها الرجال وإن شكّلت امتدادات لبوادر العمل الجمعيّاتي في فاتحة القرن 20 بتركيزها على العمل الخيري المتّصل بالصّحة والتعليم والإغاثة[13]. ولم يكن هذا الوضع نتيجة قوامة سياسيّة فحسب بل لاعتقاد غير معلن بأنّ النجاح في مثل هذه الأنشطة مشروط باندراجه في مسار النّضال الحزبي بما هو أساس العمل النّضالي. وإنّ تلك التّبعيّة المفضية إلى اختلاف إيديولوجي بين مختلف الجمعيّات النّسائيّة هي ذاتها المؤدّية إلى ضعف النّتائج المتّصلة بحقوق النساء نظرا إلى تشتّت جهودهنّ. والأغرب هو أنّ هذا التشتّت لم يكن بين الجمعيّات فحسب بل شمل أفراد الجمعيّة الواحدة إذ تشير إلهام المرزوقي إلى ما وسم العلاقات بين عضوات الاتحاد النسائي التونسي من اختلاف أرهق وحدة الجمعيّة: “وممّا تسهل ملاحظته أنّ المنخرطات في المنظّمة كنّ يمثّلن مجموعة مفكّكة وغير متجانسة بل إنهنّ بالإحرى فريق لا متجانس أكثر ممّا يمثّلن قاعدة متماسكة.وبالفعل فعلاوة على الاختلاف في الوضعيّات الاجتماعيّة واختلاف المشاغل لم يكن من الوارد حصول تلاق في الدوافع والمصالح.”[14]
أثر العمل الجمعيّاتي النسائي على تمثيليّة المرأة في المجال العام
تبيّن لنا من خلال هذه القراءة السّريعة لسيرورة العمل الجمعيّاتي النسائي دورُه كرافد للحركة الوطنيّة بانخراطه في ممارسة فعل تحصين الهويّة الوطنيّة من خطر الاستعمار والاضطلاع بالفعل المعياري الذي كان حكرا على “الشّيخ” من أجل ضبط مسارات ريح التّغيير الاجتماعي. ولئن كان الإطار الذي تحرّكت فيه النّساء أبويّا تحكمه زعامات رجاليّة لا يجعلنا نغفل عن أهميّة ما تحقّق عبر هذه الائتلافات البكر من فسح المجال للنّساء حتّى:
ـ يكنّ جزءا من حركة المقاومة لقوى الاستعمار وإن كانت نشأتها تحت جناح رجالي وبأدوار محدّدة بمعايير جندريّة: “بيد أنّ الحركة لمّا نشأت فعليّا، انتهت إلى جلب عدد كبير من النّساء المنحدرات من أوساط اجتماعيّة وسياسيّة مختلفة، ومثّل الاتّحاد النّسائي في نظر هؤلاء فضاء أين يمكن لهنّ توظيف إرادتهنّ وإصرارهنّ على النّضال مع بقائهنّ في إطار نسائيّ خالص.”[15]
ـ يخترقن المجال العمومي ويدرّبن المجتمع على قبول هذا التّغيير في مكوّنات المشهد بإثبات عدم تنافره والمعطى الثقافي الاجتماعي. وليس التدريب في هذا السياق اعتيادا أو حلولا في مدار اليومي فحسب بل هو خوض لتجربة الاعتراف التي تحقّق لصاحبها “الثقة في الذات أو احترام الذات أو اعتبارها(..) فضلا عن أنّ الاعتراف من جهة ثانية يمثّل أداة إن لم يكن الأداة الحاسمة في الاندماج الاجتماعي”[16]
ـ يوسّعن من مساحة فعلهنّ اجتماعيّا ويثبتن قدرتهنّ على العطاء بواسطة الأنشطة الخيريّة الاجتماعيّة، فالعمل الجمعيّاتي البكر والسّابق عن تأسيس الدّولة الحديثة كان فرصة خطيرة لتشارك النّساء ـ وإن كان بشكل محدود ـ في كتابة التاريخ الحديث ولتكون إسهاماتهنّ إرهاصات حركة اجتماعيّة بما هي “لحظة الإبداع التي يصوغ فيها الأفراد ظروف حياتهم الخاصّة عن طريق الفعل”[17]
ـ يفنّدن الأطروحة القائلة بعجز النّساء عن المشاركة السياسيّة ويزعزعن تلك الثوابت التي تقوم عليها صورة الأنثى النمطيّة من وصمها بالأنانيّة وضيق أفق تفكيرها بسبب تعنّتها وعنادها ومحدوديّة فاعليّتها خارج نطاق المجال الخاصّ. ولنا في جملة ما تركته بعض الرّائدات من خطب ومقالات منشورة عبر المجلّات[18] شواهد على بداية تشكّل ما عبّر عنه العادل خضر بالتّجمّعات الممكنة للكائنات المتكلّمة، وهي التي لا تكون سياسيّا إلّا: “إذا أنشئ مكان يمكن لفكرهم أن يكون له تأثيرات مادّيّة. وفي المقابل ليس للفكر من مكان لتحقيق إجرائيّته effectuation الكبرى سوى التّجمّعات السياسيّة”[19] . فالإطار الحزبي الرّجالي الذي شهد انطلاقة العمل الجمعيّاتي أدّى وظيفتين نقيضتين: فبقدر ما حدّ من آفاق النشاط النسائي بضبط الأهداف ومستويات النّشاط فإنّه ساعد على إجرائيّة هذا الفكر الناشئ بتزكيته ومباركة تأثيراته المادّيّة.
ويمكن اعتبار هذه المكتسبات التي كان العمل الجمعيّاتي يعد بها، علاماتٍ على التّحوّل الذي شرعت تشهده بنية العلاقات الاجتماعيّة وانطلاقة ثابتة في زعزعة التصوّر التنويري لثنائيّة (مدني/ بيتي) التي أجراها روسو مثل جلّ أعلام التنويرعلى أساس جنسي[20]. وتلك العلامات تندرج ضمن مقتضى الفعل التحرّري بما أنّها تعكس مشاركة منظوريه في كافّة المجالات العموميّة بما فيها الثّانويّة كما أشارت نانسي فرايزر، وإن لم تبلغ تلك المجالات شكل “فضاءات خطابيّة موازية يعمل فيها أعضاء مجموعات اجتماعيّة تابعة أو خاضعة على إنتاج ونشر خطابات مضادّة تسمح لهم ببلورة تأويلاتهم الخاصّة لهويّتهم ولمصالحهم ولحاجاتهم.”[21]
لكنّ انطلاق هذا الفعل من تلك التجمّعات عكس المسافة الفاصلة بين الفئات الاجتماعيّة، فالتحوّلات التي تُعدّ تمهيدا لحداثة اجتماعيّة مرتقبة لم تكن طموحات مشتركة لكافّة الفئات بل كانت خاصّة بالوسط الرّاقي وتحاصرها البنى الثقافيّة التقليديّة التي تحكم الفئات المسحوقة اجتماعيّا. وبالإضافة إلى ذلك فإنّ واقع التبعيّة الإيديولوجيّة والطبقيّة والأسريّة كان العائق الأوّل أمام تحقّق الجوهر الجمعيّاتي المبنيّ على الإرادة الحرّة والحرّية من سطوة الإيديولوجيّات والهويّات القاتلة. ولعلّ ذلك ما وصم العمل الجمعيّاتي النسائي بالنّخبويّة بل باعتباره مجرّد لبوس حداثيّ تنكّري تتحلّى به الدولة الحديثة.
الخاتمة
لقد كان المشهد الجمعيّاتي النسائي في فترة ما بين الحربين لحظة حبلى بممكنات الحداثة رغم العقبات التي أحدثها النّظام الأبوي بكل ترسانته التمييزيّة. ومهما كانت درجة الانضباط والتّسييج التي تمارسها تلك الترسانة فإنّ نشأة هذه التنظيمات، ولو في إطار مركزيّة النّشاط الحزبي الرّجالي وسلطة المركزيّات التقليديّة من الدّين إلى الأعراف.. يعدّ شروعا في خطّ مسار تحرّر يسير بخطى بطيئة ولكنّها ثابتة. وإنّ مقارنة سريعة بين المجتمع التونسي ما بعد الثورة وغيره من المجتمعات العربية التي تستمرّ بُناها في التداعي يؤكّد لنا قوّة المجتمع المدني بمكوّناته المختلفة وممثّليه رجالا ونساء، فالمجتمعات التي ترسّخت فيها ثقّافة العمل المدني إجمالا والجمعيّاتي خاصّة تنجح أكثر من غيرها في استيعاب المتغيّرات التّاريخيّة وإن اشتدّ وقعها ووتيرتها، وذلك باعتبار قيام العلاقات الاجتماعيّة “في إطار تنظيمات تدافع عن نشاطه أي عن مصالحه وتؤكّد هذه المصالح في اتّجاه الآخرين وفي اتّجاه المجتمع الشامل”[22]. وإنّنا حاليّا وبحكم مناخ الحرّية وبداية ترسّخ ثقافة المواطنة نشهد تنامي الوعي بأهمّية هذا الدور، بل بات المكوّن الجمعيّاتي من ضرورات العمل السياسي وقوّة من قوى الاقتراح والرقابة. وفي خضمّ هذا التّحوّل تمكّن العمل الجمعيّاتي النسائيّ من التخلّص من وضع الفرع ومن أن يكون مجرّد استراتيجيّة في العمل النّضالي الرّجالي[23] ليصير مؤثّرا في الحياة السياسيّة وفاعلا اجتماعيّا يستكنه أدقّ تفاصيل اليومي النسائي. لذلك نعتبر هذا المكوّن المدني لا دليل مدنيّة الدولة فحسب بل مظهرا من مظاهر الحداثة الاجتماعيّة بما تعكسه من ديناميّة العلاقة بين الجنسين في المجتمع من جهة وسياسة الاعتراف من جهة أخرى.
قائمة المصادر والمراجع
المصدر
ـ المرزوقي الهام: الحركة النسائيّة في تونس في القرن العشرين، ت. آمال قرامي، تونس، المركز الوطني للتّرجمة، 2010
المراجع
ـ أفاية محمد نور الدين: الوعي بالاعتراف، الهويّة، المرأة، المعرفة، المغرب، لبنان، المركز الثقافي للكتاب، 2017
ـ بلقزيز عبد الإله: الديمقراطيّة والمجتمع المدنيّ، مراثي الواقع ومدائح الأسطورة، المغرب، إفريقيا الشرق،2001
: السلطة والمعارضة المجال السياسي العربي المعاصر حالة المغرب، المغرب، المركز الثقافي العربي، 2007
: الدولة والسلطة والشرعيّة، بيروت، منتدى المعارف، 2013.
ـ خضر العادل : مرايا الأيام مرايا الصّور مقالات في اليومي والصّورة، تونس، الدار التونسيّة للكتاب،2016.
ـ نصار ناصيف: التفكير والهجرة: من التراث إلى النهضة العربيّة الثانية، ص199، ط2،بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر، 2004.
ـ هيغل فريديريك: أصول فلسفة الحق، ج2، ت. إمام عبد الفتاح إمام، بيروت، مكتبة مدبولي للنشر والتوزيع، 1996.
ـ الحدّاد محمد: “الخطاب حول المرأة بين المناضل والشيخ والزعيم، تونس نموذجا، ضمن كتاب جماعي باحثات الكتاب التاسع بيروت، المركز الثقافي العربي، 2004.
Berque Jacques : Le Maghreb entre deux guerres, Paris, seuil, 1962
Borrmans Maurice : Statut personnel et famille au Maghreb de 1940 à nos jours Mouton 1977
Bourdieu pierre : Raisons pratiques, sur la théorie de l’action, Paris, Points-Essais
Clastres Pierre : La société contre l’état recherches d’Anthropologie politique, Tunis, Cérès éditions
Kraiem Mustapha :Le mouvement social en Tunisie dans les années 30C.E.R.E.S, Série Histoires,n2, 1984
Solal Alain : Vers la féminisation, pour comprendre l’arrivée des femmes au pouvoir, éd. Blanche, Paris,2007
[1] ـ يقول هيجل: “إن الصفة الأساسيّة للدولة بوصفها كيانا سياسيّا هو وحدتها الجوهريّة(..) إن السلطات الجزئيّة ووظائفها المختلفة تنحلّ في هذه الوحدة لكنّها تبقى موجودة في آن واحد لكنّها لا تبقى إلا بمعنى أنّ السلطات الشرعيّة لم تعد مستقلّة بل أصبحت إحدى حلقات النّظام”. أصول فلسفة الحق، ص540، ج2، ت. إمام عبد الفتاح إمام، بيروت، مكتبة مدبولي للنشر والتوزيع، 1996.
[2] ـ الهام المرزوقي: الحركة النسائيّة في تونس في القرن العشرين، ص389 ت. آمال قرامي، تونس، المركز الوطني للتّرجمة، 2010
[3] ـ م.ن: ص 49 ـ50.
[4] ـ توحيدة بالشيخ أوّل طبيبة تونسيّة في المغرب العربي.
[5] ـ بدرة بن مصطفى هي اول قابلة تونسيّة متحصّلة على ديبلوم من مدارس فرنسيّة
[6] ـم.ن: ص 57.
[7] ـ تجدر الإشارة إلى لحظة الطاهر الحدّاد المفصليّة في تاريخ النضال من أجل حقوق المرأة في تونس خاصة والعالم العربي عامّة، فقد عرّضته دعوته إلى العدالة الاجتماعيّة من خلال الدّفاع عن العمّال والنّساء إلى الاتّهام “بمساعدة الاستعمار لدعوته إلى إدماج النساءوالعمّال في الحركة الإصلاحيّة التي ظلّت رجاليّة نخبويّة إلى ذلك التاريخ. وذهب ضحيّة ظاهرة تكرّرت في العديد من المجتمعات العربيّة أصاب العزيز العظمة عندما أسماها الإدغام بين تصوّر السيادة الوطنيّة وبين السيادة على المرأة”. محمد الحدّاد: “الخطاب حول المرأة بين المناضل والشيخ والزعيم، تونس نموذجا، ص64 ضمن كتاب جماعي باحثات الكتاب التاسع بيروت، المركز الثقافي العربي2004.
[8] ـ في معرض حديثها عن العمل الخيري كأوّل أشكال النشاط الجمعوي النسائيّ تقول إلهام المرزوقي: “وأخيرا أقيمت في التاسع والعشرينمن شهر فيفري سنة 1932حفلة خيريّة بدار الخلصي جذبت جمعا من نساء علية القوم كانت كثرتهم على قدر تعدّد تركيبتهم وبالإضافة إلى حضور ضيوف الشرف الأميرات وحرم المقيم العامّ..”ص65.
[9] ـ م.ن: ص59.
[10] ـ م.ن: ص130 ـ 131.
[11] ـ م.ن: ص129.
[12] ـ م.ن: ص128.
[13] ـ نذكر من بين هذه الجمعيّات الجمعيّة الخيريّة الإسلاميّة بسوسة لإسعاف الفقراء وتعليم أولادهم سنة 1908، وبالقيروان لإعانة الفقراء وتوزيع الأدوية والإسعاف سنة 1912،
[14] ـ م.ن: ص 176.
[15]ـ م.ن: ص123.
[16] ـ محمد نور الدين أفاية: الوعي بالاعتراف ، ص 196، لبنان، المغرب، المركز الثقافي للكتاب،2017.
[17] ـ م.ن: ص24.
[18]ـ تُعدّ مجلّة “الإلهام” إحدى أهمّ مراجع الفترة الرياديّة للصّحافة النّسائيّة التونسيّة والتي تمثّلت أهداف الشقّ النّسائي الزيتوني وكان حقّ المرأة في التعليم من أهمّ مطالبها: “هذه الخطّة بوضع منبر للكتابة في متناول المواهب النسائيّة (الثانية في تاريخ الصّحافة النسائيّة المحليّة بعد مجلّة “ليلى” حدّدتها المصلحة الممنوحة لهذه الظاهرة التي وإن كانت حديثة العهد ومتفاوتة إلا أنّها بدأت تجذب عددا لا بأس به من الشّابات ونعني بهذه الظاهرة التعليم”. م.ن: ص 77. وحضور الصّوت النّسائي في فضاء الصحافة الرجاليّة أيضا يعدّ اختراقا لذكوريّة الفضاء ولكن بطريقة سلسة إذ تنخرط في إعادة إنتاج الخطاب المحافظ فهذه بشيرة بن مراد تفتتح سلسلة مقالات لها في “شمس الإسلام” بالتعبير عن عقيدتها الدينيّة فتقول: “أقسم أنّني سأضع نفسي في خدمة بنات جنسي في كلّ ما من شأنه أن يكون لصالحنا ولصالح وطننا”. م.ن ص 58.
[19] ـ العادل خضر: مرايا الأيام مرايا الصّور مقالات في اليومي والصّورة، تونس، الدار التونسيّة للكتاب، 2016.
[20] ـ يقول أفاية ملخّصا هذا التّصوّر:” المجال السياسي مخصوص للرّجال وأمّا المرأة فمكانها الطبيعيّ الخاص هو البيت ويسمّيها بتهكّم واضح “النصف الثمين للجمهوريّة”. م.ن، ص82.
[21] ـ م.ن: نقلا عن فرايزر من كتابها: qu’est ce que la justice sociale ? Reconnaissance et redistribution ، ص107.
[22] ـ ناصيف نصار: التفكير والهجرة: من التراث إلى النهضة العربيّة الثانية، ص199، ط2،بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر، 2004.
[23] ـ بعيد الاستقلال تمّ تأسيس ” نادي دراسة قضايا النساء” 1978 و”دراسة أوضاع النّساء” 1982 وتتالت إثرها الائتلافات التي زكّتها الدولة باعتبارها رهانا أساسيّا لكسب الشّرعيّة لكنّ النتيجة ستكون عكسيّة : “متمثّلة في حمل النّساء على أن يعدن تعريف أنفسهنّ بوصفهنّ قوّة للمطالبة والمعارضة.” م.ن ص389.