العمل الصوفي والحاجة إلى النقد الذاتي

تكوين

ربّما لم يخطر على باب أهل التصوف في المنطقة العربية على الأقل، أن موجة السيولة، كما اشتغل عليها عالم الاجتماع البولندي زيغمونت بومان، سوف لن تطال العديد من أنماط التديّن وحسب، وإنما حتى التديّن الصوفي نفسه، كما نعاين من عدة أمثلة ووقائع تعج بها الساحة، ممّا يقتضي بداية التدقيق في بعض المفاهيم.

نقصد السيولة في الممارسة الدينية، اختلاط الأوراق عند المتتبع بخصوص طبيعة أنماط التدين السائدة في الساحة، نذكر منها على سبيل الأمثلة، المتديّن الإسلامي الذي ينتقل من تديّن إسلامي على آخر في التدوين الرقمي، كأنه يتنقل من مقهى إلى آخر، ولا نقصد هنا حالات إسلامية انتقلت بشكل نهائي من هذا التديّن نحو تديّن بديل، كما نعاين مثلاً مع حالات إخواني وسلفيين أصبحوا من أتباع العمل الصوفي، مطلقين خطاب “الحاكمية” و”البيعة” و”الولاء والبراء”.

الخطاب الديني

من بين الأمثلة أيضاً، فورة الخطاب الديني بشكل عام في مواقع التواصل الاجتماعي، مقارنة مع الخطاب الديني نفسه السائد في المؤسسات الدينية، لأن هذا الأخير يكون محكوماً بضوابط فقهية في إنتاج الخطاب، بصرف النظر عن مضمونه، والأمر نفسه مع كان سائداً في مرحلة مع أولى سنوات إطلاق الفضائيات أو أولى سنوات إطلاق شبكة الإنترنت، أي مع ظهور أولى المنابر الإعلامية الدينية، رسمية كانت أو تابعة إلى تيارات دينية، صوفية، إخوانية، سلفية، سنية وشيعية وغيرها.

ما جرى مع مواقع التواصل الاجتماعي أن مؤشر السيولة سالف الذكر، ارتفع على هامش ترويج الخطاب الديني، ما دامت هذه المواقع تخوّل للكل الحديث في أي شيء، أياً كانت مرجعيته.

فورة التدوين الرقمي، طالت وأصبحت تنافس ما يصدر عن خطاب المؤسسات الدينية من جهة، وما يصدر عن التيارات الدينية من جهة أخرى، خاصة في حقبة كانت تتميز بغياب صوت تلك المؤسسات، وبمقتضى قاعدة “الطبيعة الرقمية لا تقبل الفراغ”، لم يتردد الخطاب الديني الذي يشتغل موازاة مع اشتغال المؤسسات الدينية، أو على هامشها، في ملأ ذلك الفراغ، فالأحرى ما يصدر عن المدونين.

ليس صدفة أن أولى سنوات إطلاق مواقع التواصل الاجتماعي (2004 مع “فيسبوك” أو 2005 مع “إكس”، “تويتر” سابقاً)، كانت تتميّز بغياب أو تواضع خطاب المؤسسات الدينية في أغلب مواقع التواصل الاجتماعي، وكان علينا انتظار بعض أحداث الساحة حتى نعاين شروع هذه المؤسسات في ملأ الساحة، وقد تكون أحداث 2011 التي مرّت منها المنطقة العربية، إحدى أهم هذه المناسبات، ضمن أحداث أخرى، وإن كانت من الصعب اليوم، تعويض أو ترميم آثار الفراغ الذي تسبب فيه هذا التأخر في ولوج تلك المنصات.

نأتي لتفاعل التصوف مع معضلة السيولة، ونخص بالذكر أهل العمل الصوفي وليس أهل الخطاب الصوفي، ما دام الكل يتحدث في التصوف اليوم، سواء من داخله الانتماء للتدين الصوفي أو من خارجه، لذلك نقتصر على أهل العمل الصوفي بالتحديد، من طرق أو زوايا.

كان مفترضاً أن يكون هؤلاء أبعد عن معضلة السيولة سالفة الذكر، وذلك بمقتضى ما يُميز التديّن الصوفي مقارنة مع باقي أنماط التديّن، وفي مقدمة هذه الفوارق، ما يمكن أن نصطلح عليه بارتفاع مؤشر الإخلاص، ونقصد  به أن المتديّن الصوفي، لا يهمه البحث عن شعبية مّا في مواقع التواصل الاجتماعي ولا كسب أتباع أو مريدين، أو منافسة بين أنماط التديّن، بما فيها التديّن الصوفي نفسه، أو التعامل مع الطريقة الصوفية التي ينتمي إليها باعتبارها “نهاية التاريخ الصوفي”، مقابل ما يُشبه التقزيم من باقي الزوايا والطرق الصوفية، على غرار ما نعاين مع المنافسة بين التيارات الإخوانية والسلفية والجهاديين أيضاً، كما عاينا في الحالة السورية بعد اندلاع أحداث 2011، حيث وصل الأمر حينها إلى اندلاع معارك بين الجهاديين أنفسهم.

هذا ما كان مفترضاً إذن، أي نظرياً وحسب، لكن ما تعج به مواقع التواصل الاجتماعي يُفيد أو يؤكد بأن الأمر ليس بالضرورة كذلك، ولا نقصد نسبة معينة من أتباع التديّن الصوفي التي تحاول الحفاظ على تلك المقتضيات المميّزة للعمل الصوفي، وخاصة في الزوايا ومع بعض الأتباع والمريدين، وإنما نتحدث عن عدة ممارسات غريبة تمارَسُ في مواقع التواصل الاجتماعي باسم التصوف مع أنها غير سوية أساساً بمقتضى التصوف نفسه، مما يطرح أسئلة حول تمثل هؤلاء لهذا التصوف الذي يزعمون النهل منه أو الدفاع عنه، إلا إن تعلق الأمر بتأثرهم غير الواعي بمعضلة السيولة التي عمّت مختلف أنماط التديّن الإسلامي.

هذه بعض النماذج التي تصب في هذه الاتجاه، من باب الاستئناس، لأنه يصعب أو ربما يستحيل إحصاء عددها:

ــ نموذج باحث في التصوف، سوف يروج لشخصه بكي يُصبح شيخاً في التربية الصوفية، ويطلق صفحة باسمه وصفحة أخرى باسم أتباعه، من باب الدعاية الرقمية.

ــ نموذج حسابات لأعضاء أو أتباع طريقة صوفية مّا، لا ينشرون إلا ما له علاقة بالطريقة الصوفية المعنية، مقابل غياب أو تغييب الإحالة أو ذكر باقي الطرق الصوفية، محلياً وإقليمياً، مع أنه من مميزات الأفق النظري للخطاب الصوفي، أنه كوني الوجهة، ولا يقتصر على رقعة محلية أو إقليمية، دون أن تكون له هواجس توسعية مّا، من قبيل ما سطرته أدبيات بعض التيارات الإسلامية، التي تتحدث عن “الأستاذية على العالم”.

ــ نموذج حسابات رقمية لوعاظ أو دعاة ينهلون من التصوف، تنتصر لخطاب تزكية الذات واستعراض جلسات الذكر ولقاء المشايخ، على غرار ما يصدر عن نسبة من باقي أنماط التدين، من قبيل التدين السلفي والإخواني، بينما مجرّد زعم متديّن صوفي مّا بأنه صوفي، يقوض بشكل تلقائي مرجعيته الصوفية التي تسمو على التورط في هذا الزعم. محقٌ للمتدين الإخواني أو المتدين السلفي زعم ذلك، بل إن الأمر منسجم مع مقتضى الخطاب الإيديولوجي لهذه التيارات، بينما الأمر مختلف كلياً مع الحالة الصوفية.

إقرأ أيضاً: الصوفيّ والفيلسوف في الفكر والحياة

أمام حالة السيولة هذه، يحتاج أهل العمل الصوفي إلى وقفات نقدية من أجل تقويم ما يمكن تقويمه، لأن بعض هذه الممارسات، تبدو شاذة عما يُميز خطابهم قبل عملهم، مع الأخذ بعين الاعتبار أن التراث الإسلامي الصوفي، يتضمن العديد من الأدبيات المرجعية التي تنتصر لخيار النقد الذاتي، من أجل تقويمها وعدم تورطها في ما يشوش على سُمو وأفق هذا العمل الديني.

والحال أن النقد الذاتي نفسه يبدو متواضعاً اليوم في أدبيات الأقلام الصوفية أو تلك التي تدافع عنه، ومن بين الأمثلة التي نوردها من باب الاستئناس في الانتصار لخيار النقد الذاتي، نذكر حالة الباحث المغربي محمد التهامي الحراق، والذي حرّر عدة رؤى نقدية حول التحولات والتحديات المرتبطة بالعمل الصوفي اليوم، سواء في المغرب أو في المنطقة أو في العالم الإسلامي، ومن بين أعماله نذكر على الخصوص كتابه الذي دشّن به مشروع “الفكر الذّاكر”، أي كتاب “إني ذاهبٌ إلَى ربّي: مقاربات في راهن التديّن ورهاناته”، والذي تضمّن عدة وقفات مع التحديات التي تواجه الخطاب الديني المعاصر، ومنها العمل الصوفي، ومنها دعوته إلى أهميّة تجديد عمل الزوايا، أو مطالبته بالاشتغال على الأفق التحريري للخطاب الصوفي، أو اشتغاله على موضوع قلّما عاينا الاشتغال عليه، وهو أدوار التديّن الصوفي في سياق التفاعل مع الخطاب ما بعد الحداثي.

هذا غيضٌ من فيض بعض مجموعة من القلاقل التي تواجه العمل الصوفي اليوم، في حقبة زمنية تعم بالإكراهات والتحديات، التي تواجه كل من له غيرة على الأوطان والدولة والدين.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete