تقديم:
كثر الحديث عند مطلع الألفية الثالثة عن “ظاهرة العولمة”، فعقدت بشأنها الندوات والمؤتمرات وخصتها الصحف والمجلات بملفات عديدة، مثلما توقف عندها كُتاب من مختلف التخصصات شارحين ومفسرين ومنظرين، وانقسمت الآراء بشأنها بين مهلل ومنفر غير أنه ما لبثت أن اخفت الأصوات بشأنها، فلم نعد نسمع أو نقرأ عنها في الآونة الأخيرة إلا القليل، وهو ما يجعلنا نطرح الإشكالية الآتية: ماذا يعني هذا السكوت عن العولمة؟ هل هو دلالة عن انحصارها أو أفولها أم أنه يعبر عن تجذرها وتحولها إلى أمر واقع، تماشيًا مع المثل السائر “السكوت علامة الرضا”؟
-
في مفهوم العولمة:
يعدُّ مصطلح العولمة من المفاهيم المُنبثقة في نهاية القرن العشرين للدلالة على التحولات العميقة التي شهدها العالم في هذه الفترة، فهي تشير كما يقول أحد الباحثين: «إلى العملية التاريخية التي تحفر مجراها بشدة في التاريخ الإنساني الراهن، وتؤثر تأثيرات بالغة العمق في كل المجتمعات المعاصرة المتقدمة والنامية على السواء»[1]، والعولمة غير العالَميَّة، فالصيغة اللغوية “عولمة” تُوحي بفعل القسر والإكراه والانتقال من الأعلى إلى الأسفل، بينما توحي الصيغة الثانية، أي “العالمية” بالانتشار والانتقال الهادئ من الأسفل إلى الأعلى، من المحلي إلى العالمي، لذلك فما يُفهم هو كونها -العولمة- فرض نماذج محددة وتعميمها على الجميع، وهذه النماذج تشمل القيم والنظم وطرائق العيش الخاصة بمجتمعات معينة –مجتمعات المركز- تُسوقُ على أنها الأفضل والأكمل والأكثر ملاءمة وتُفرض على باقي المجتمعات -الهوامش- بمختلف الطرق، بما في ذلك اللجوء إلى العنف المادي والرمزي.
تاريخيَّاً ارتبط ظهور العولمة بجملة من الأحداث الكبرى: انهيار الاتحاد السوفيتي وتحول الجمهوريات الاشتراكية المنبثقة عنه إلى تحرير أسواقها واقتصاداتها وسقوط حائط برلين ونهاية الحرب الباردة وزوال الثنائية القطبية وتحول الولايات المتحدة الأمريكية إلى القوة العظمي المسيطرة على عالم يزداد تقلصًا، حتى صار يُنعت بالقرية الصغيرة بفعل انتشار وتطور وسائل الإعلام والاتصال.
وهذا يعني إعادة ترتيب البيت العالمي وفق رؤية القطب الواحد (الولايات المتحدة الأمريكية)، ووفقا لقيمه وأفكاره السياسية والاقتصادية، حتى أن هناك من يستعيض عن مصطلح العولمة بـ “الأمركة”، كما ارتبطت العولمة بعديد من الأفكار والنظريات التي تحدثت عن النهايات: نهاية التاريخ ونهاية الأيديولوجيا ونهاية القوميات… والخ. فتكون العولمة بمنزلة نهاية النهايات وغايتها الاتجاه بالعالم من التنوع إلى الأحادية رغبة في بلوغ الحضارة الواحدة التي يتحكم فيها القطب الواحد القوي والمهيمن في الجميع دون استثناء.
-
في آليات العولمة:
وعملية العولمة تطرح أكثر من إشكالية سواء تعلق الأمر بمفهومها أو نشأتها أو أهدافها أو كيفية النظر إليها والتعامل معها، فهناك من ينظر إلى العولمة نظرة تشاؤمية سلبية وهذا بسبب أنها تُعبر عن الاستعمار في طبعته الجديدة وإرادة الهيمنة في شكلها الأكثر تطورا من طريق القوى القابعة خلفها والموجهة لها (قوى المركز)، فالجانب الاقتصادي هو أكبر تجليات العولمة، والذي يُظهرها كونها اختراقًا مشرعنًا لاقتصاديات الدول الضعيفة (دول الجنوب/ الأطراف/ الهوامش) من طريق هيمنة الشركات المتعددة الجنسيات العابرة للقارات على كل شيء وقضائها على الأمل في النهوض أو النمو عند هذه الدول الضعيفة، نظرًا إلى صعوبة المنافسة بين المؤسسات المحلية والمؤسسات العالمية المتعددة الجنسيات سواء في جودة المنتوج أو في سعره أو في وسائل تسويقه.
أما من الناحية السياسية فإن العولمة تعمل لتفكيك الدول الوطنية وجعلها تفقد سيادتها بعد أن يُحول العالم إلى ما يشبه دولة واحدة خاضعة لسلطة مركزية، يقول أحد الباحثين «عملية العولمة تُسرع من زوال سحر الدولة بدرجة كبيرة، فقد خسرت كثيرًا من مكانتها ودورها القيادي المطلوب منها»[2]، ففي ظل العولمة لم يعد هناك من معنى مهم للحدود السياسية للدول ولا لسيادتها ولا لأنظمتها وتشريعاتها، لأن شرطي العالم بإمكانه التدخل متى يشاء وحيثما يشاء وبالطريقة التي يراها مناسبة.
وقد دخلت عديد من المناطق في العالم خصوصًا المنطقة التي ننتمي إليها، في دوامة من العنف الرهيب والفوضى العارمة المُسببة لخسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات، والتي تمثل تجسدًا للوجه المخفي للعولمة ألا وهو إرادة الهيمنة وانعكاسًا لنظرية المركز والأطراف؛ هناك مركز يفعل وأطراف تنفعل، عولمة جارية بتسارع رهيب تكتسح الأوطان وتفكك الخصوصيات والهُويات، وردود فعل مقاومة لهذه العولمة متخبطة وغير واضحة المنهج والأهداف، حتى أنه كثيرا ما تُصنفُ ضمن أعمال العنف غير المبرر وغير المقبول من طرف ما يُسمى بالرأي العام الدولي مع أنه في الحقيقة رأي قوى المركز دون غيرها.
إقرأ أيضاً: العولمة الثقافية والمواطنة العالمية
في الحقل الثقافي هناك من يصف العولمة بأنها فعل اغتصاب ثقافي وعدوان رمزي من طريق ثقافة معينة على سائر الثقافات، بعبارة أخرى العولمة هي السيطرة الثقافية الغربية على سائر الثقافات، بواسطة استثمار مكتسبات العلوم والتقانة في ميدان الاتصال،[3] وتبعًا لنظرية المركز والأطراف يُفرضُ نموذجًا ثقافيًا بوصفه الثقافة العليا أو التي ينبغي لها أن تسود، وهي ثقافة دول المركز و أمريكا بخاصة، وهذه الثقافة تعمل للتوسع والاستثمار العالمي، وفي المقابل هناك ثقافات الأطراف التي تنكمش وتتلاشى آيلة إلى الزوال، وقد نجحت وسائل الإعلام الثقيلة والواسعة الانتشار في جعل الشعوب الضعيفة تتخلى طوعيا –وهنا تكمن الخطورة- عن كثير من تقاليدها وطرق عيشها والتنافس على محاكاة التقاليد والثقافات السائدة، مصداقا لمقولة ابن خلدون “المغلوب مُولَعٌ بتقليد الغالب”.
ووفق المنظور المعارض للعولمة فهي عملية سَوْقَنَةِ العالم -جعله سوقًا- وسَلْعَنَةِ كل شيء، وهي عملية تتداخل فيها الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، حتى قيل إن العولمة تمتطي القطار الاقتصادي وتعبئ عرباته بالسياسة والثقافة والتربية والاجتماع.
وبحكم هيمنة البعد الاقتصادي المادي على مختلف الأبعاد في ظل العولمة، وتحول الإنسان لاسيما في دول الهامش إلى مجرد مستهلك مُحطم القدرات غير قادر على الانتاج والإبداع، كل ما يفعله هو انتظار ما يَجُود به عليه إنسان المركز، فإن الحديث عن الجانب الروحي للإنسان، ومن ثم البعد الديني -كما تحاول قوى العولمة أن تفرضه- يبدو حديثا في غير عصره بمعنى تجاوزه الزمن، فالاتجاه الغالب يرى أنه لا أهمية للدين بصورتهِ التقليدية مُستقبلًا فهو “أفيون الشعوب”، وإن كان مفيدًا في مرحلة ما من تاريخ البشرية إلا أن هذه المرحلة أضحت متجاوزة بإغلاق نوافذ الغيب وتعطيل الميتافيزيقا و”موت الإله”، ومن ثم فهو خارج التاريخ أو ينبغي له أن يكون كذلك لأنه مصدر للعنف والتطرف والإرهاب وفي أحسن الأحوال لن يتعدى كونه مسألة شخصية بحتة.
-
في “مزايا” العولمة:
في الجهة المقابلة هناك من ينظر إلى العولمة نظرة تفاؤلية إيجابية، مؤكدا أنها عملية تفتح آفاقا رحبة أمام الإنسان، من منطلق الإمكانات والفرص الكثيرة المتوفرة في ظلها للتطور والتواصل والتنمية، من طريق سهولة الاتصال والاحتكاك والاستفادة من تجارب الآخرين بالتقليد أو المحاكاة أو التبادل، فقد أسهمت العولمة ولعل هذه هي فضيلتها المهمة في دمج الثقافات، ومنح إمكانية نقل التجارب والعادات المحلية والتعريف بها إلى أوسع نطاق ومن ثم “تكوين واقع حضاري لا ينحصر في المكان والزمان ولا يحده المحلي، إنه عصر النهايات التي أسقطت كل الشروط والأوضاع التي تحد المدى الإنساني”[4].
وفق هذه الرؤية لا تكون المظالم التي تعانيها البشرية وأزماتها نتاج العولمة وأسواقها ولا هو نتاج عصر التقنية، فهذه الأخيرة سلاح ذو حدين كما يقال؛ فهي توظف لصنع الدواء، كما يمكن توظيفها لصنع الداء أيضا (ما قيل عن كوفيد 19 من أنه صنيعة مخابر)، ومن ثم فإن العنف أو الدمار أو الفساد الذي تعانيه البشرية، إنما هو صنيعة تحالف قوى المال مع الساسة وإحكام قبضتها على الإعلام والاقتصاد من أجل تبادل المنافع والاستئثار بها للحفاظ على النفوذ والهيمنة بشتى الطرق بما في ذلك تأليب الشعوب ضد بعضها وخلق بؤر توتر وصراعات وحروب… وفي العمق يبقى سبب تعاسة الإنسان والخطر المحدق بالإنسان هو الإنسان ذاته، وهذا الأخير في بعض التراث الفلسفي ذئب لأخيه الإنسان.
خاتمة:
تأسيسا على ما سبق يمكن القول إجابة عن سؤال التقديم، إن عدم الحديث عن ظاهرة معينة لا يستفاد منه انتفاء الظاهرة أو انكماشها، بل قد يستفاد منه تحولها من مرحلة الصدمة أو الاكتشاف الأول إلى مرحلة الأمر الواقع، بفعل التعود والاندماج فيها وهو ما ينطبق على ظاهرة العولمة، فنتيجة تعدد مظاهرها وآليات اشتغالها، فإن بعض مظاهرها أصبح أمرًا واقعًا نعيشه في يومياتنا سواء كنا واعين به أو غير واعين، وبعضها يمكن النظر إليه بوصفه صيرورة غير منتهية، أو مشاريع قيد التكوين ولم تكتمل بعد، ومن هذه الزاوية –وإن كانت ضيقة بعض الشيء- هناك بعض الفرص لتحويل اتجاهها وتعديل مسارها بغرض التخفيف من تأثيراتها السلبية، خصوصا في مسألة إعادة الاعتبار للجوانب الروحية والأخلاقية بوصفها صمامَ الأمان الذي يمكنه حماية الإنسان من الإنسان.
وسواء نظرنا إلى العولمة بوصفها عملية مكتملة أو مشروعًا قيد الإنجاز، فمن المؤكد أنه لا لُغة التهليل والتسبيح ولا لُغة اللعن والرجم مجديتان في التعامل مع مظاهرها وتجلياتها، لأن الاستفادة منها أو الوقوع في شركها متوقف على كيفية التعامل معها، وقبل ذلك، درسها وفهمها بصورة مطابقة لواقعها، والسيطرة على الشيء تستلزم فَهمه أولا، وهناك مجتمعات ودول كثيرة عرفت كيف تتعامل مع العولمة مستفيدة من مزاياها محافظة على كثير من خصوصياتها، وأتحدث هنا عن دول جنوب شرق آسيا تحديدًا، فهي تعيش في ظل التجليات الكبرى للعولمة (اقتصاديًا وتقنيًا) ولكنها لم تفقد خصوصياتها (اجتماعيًا وثقافيًا)، فالمحلي متناغم مع المُعَوْلَم ويسيران جنبا إلى جنب دون حرج.
المراجع:
[1] السيد ياسين (وآخ): العرب والعولمة، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، 1998، ص 25.
هارولد موللر: تعايش الثقافات، مشروع مضاد لهنتنغتون، ت: ابراهيم أبو هشهش، طرابلس، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، 2005، ص 71[2]
بركات محمد مراد: ظاهرة العولمة، رؤية نقدية، كتاب الأمة، العدد 76، قطر، وزارة الأوقاف، ط1، 2001، ص 23 [3]
وجيه قانصو: عولمة الحضارت وحضارة العولمة ( المنطلق الجديد، العدد 03، بيروت، 2001) ص 101.[4]