تكوين
إن من يعود إلى مراجعة التاريخ المعاصر يلحظُ أن إشكالية “العيش معاً” تتحدّى العقل الفلسفي بقوة، فتطرح نفسها مستعرضة عصيانها على إيجاد أي حلّ لها، بخاصة في بلد مثل لبنان، نشأ من مجموعة أقليّات مضطهدة ومتصارعة في ما بينها، لم تُحسن حتى الساعة إنشاء دولة تنعمُ بالسلم الأهلي، تظلّلها القوانين، وترعاها الحرية.
المجتمع التعددي
“العيش معاً” في مجتمعٍ تعدّديٍّ بات نعمة ونقمة في آن. نعمة لمن يهوى المغامرة، والانفتاح، والتحليق في رحاب الاختلاف، والتمتّع في التنوّع. ونقمة بسبب كل من يعتقد بأنه، هو لا سواه، أحكمَ القبض على الحقيقة، يسعى من دون تردّد إلى السيطرة وفرض مبادئه على الجميع، والتنافس الكريه مع المختلف، وإدانته لمجرّد أنه يتموضع خارج السرب.
الكلام على “العيش معاً”، بعد حروب متتالية، تستّرت تحت أقنعة الطائفية، وأهدرت الدماء من كل الألوان، من دون الوصول إلا إلى الخراب، والمزيد من الضياع، وتحلّل الدولة، وتفكّك الجسور، أمرٌ يشكّل مادة مستفزّة لكل من يوخزه وعيه الفلسفي الباحث عن المعنى.
تطرح هذه المداخلة بعض الأسئلة حول إشكالية “العيش معاً” من زاوية البحث في أسس فشل ترسيخ نهج المعيّة وتقبّل الاختلاف، على الرغم ممّا يشهده تاريخ الجماعات المتصارعة عبر الزمان والمكان، على مدّ مساحة الكوكب، من كوارث اجتماعية، ومجازر بحق القيم البشرية، وخيبات متتالية من ممارسة العنف واستخدام الترهيب، والإقصاء، والإبادة. وكأن الوعي البشري لم يلمس بعد أنه محكومٌ عليه إبداعَ صيغ متجدّدة من “العيش معاً” تنسجم مع الواقع المتغيّر باستمرار اجتماعياً، ومعرفياً، وديموغرافياً، وتكنولوجياً، وعدم الاكتفاء بما سبق إنتاجُه من إيديولوجيات، واختبارُه من مسلكيّات، برهنت بقوة على فشلها وإهلاك التابعين لها.
ما هو نظام السياسي في لبنان؟
“العيش معاً” كان وما زال العنوان العريض الذي يخيّم على البحث في كيفية إدارة آلية الاجتماع السياسي في لبنان. كُتبت بوحيٍ منه نصوصٌ ومواثيق عدّة، نَظّرت في أسس هذه المعيّة وقواعدها، وفي سبل إدارة شؤونها بعيداً عن التأزّم والتوتر اللذين يؤدّيان إلى العنف. هناك من نادى بالوحدة في التنوّع، ومن اعتبر أن لبنان أكثر من وطن، إنه رسالةُ عيشٍ مشترك للعالم أجمع. وهناك من شدّد على أهمية التعدّدية وغناها. وهناك من ركّز على أصول الحوار البنّاء والمصالحة الفاعلة مشدّداً على التسامح والانفتاح والتراحم والتآنس والتذاوت. وهناك من نظّر في مفهوم حقوق الإنسان، ومن بينها الحق في الاختلاف، وواجب تقبّل الرأي الآخر، والابتعاد عن الفكر الإقصائي والإلغائي والانعزالي.
لا أظنّ أن ما ينقصنا في لبنان من أجل إدارة شؤون “العيش معاً” يكمن في الافتقاد إلى إنتاج نصوص حول الموضوع، ولا في قلّة إبداع المفاهيم، بقدر ما يكمن في قلّة التوقّف عند قراءة نقدية لكيفية فهم هذا العيش وتطبيقه، ترتكز على الشفافية والموضوعية، من أجل تعرية كمية التلاعب الحاصل في صيغة “العيش معاً”، وكيفية تأويل كل طرف مفهومَ تقبّل الآخر على نحوٍ ينسجم مع مصالحه وتطلّعاته وخلفيّاته الإيديولوجية. فالازدواجية هي المكيال الذي يُستخدم في إدارة المجال العام، ازدواجية الموقف، وازدواجية الخطاب. ما يُقال في العلن لا يتوافق مع ما يُهمس داخل الغرف السوداء، حيث يُطبخ القرار ويُطلق نحو التنفيذ. ما يُصرِّح به في العلن معظمُ القادة الروحيين والمدنيين في شأن “العيش معاً” لا ينسجم في غالب الأحيان مع مسلكيّاتهم، ولا مع أحاديثهم المنقولة عن مجالسهم الخاصة. نحن في مستنقعٍ من التكاذب والتخادع لم نسبر أغواره بعد كما يجب، لكي تتمّ تعرية جميع مرتكزاته.
بات واجباً علينا كباحثين في الفكر الفلسفي العربي المعاصر، أن نسأل:
ما الذي يدفع الفاعلين الاجتماعيين الى التطرّف ورفض الآخر المختلف، وإدانته، حتى هدر دمائه، في وطن من المفترض أن يكون قد اختبر عبثية الحروب، وتشرّبَ على مهل شرعة حقوق الانسان، وتشبّع حتى التخمة من أشكال الرغبة المثيرة لحب الحياة والدافعة نحو التّمتع بالمزيد من مغامراتها؟ من الذي أعطى الحق، لهذه المرجعية أو تلك في تجريم الآخر، وإدانته، والحكم عليه بسبب وقوفه في المقلب المقابل، وسلوكه الطريق الموازي؟ ما هي المرجعية المخوّلة بجعل المتطرّف بطلاً، نجماً، أنموذجاً، يحتلّ الشاشات ويتصدّر الأخبار؟ ما الذي أسهم في انتشار التطرّف في أكثر من اتجاه، فلم يعُد محصوراً بنهجٍ فكريٍ محدّد، ولا بمجالٍ معرفيٍ أو سياسي معيّن؟
من هنا يمكن أن نسأل أيضاً: أين تكمن العلّة المولّدة لفقدان التوازن إن في عالم الأفكار أو في إطار المسلكيات؟ ما الذي يجعل من الاعتدال والتموضع في الوسط موقفاً ضعيفاً؟ ما هو الرابط الأساس الذي يجمع كلا من التطرّف والعنف كزوجين شبه متلاصقين؟ ما الذي يجعل صوت العنف يعلو على همسات الحوار؟ لماذا الخطاب التحريضيّ له جمهورٌ أوسع، وانتشارٌ أسرع من الخطاب الهادئ والرصين الذي يبحث في أسباب الأزمات محاولاً رأب التصدّع، وتضميد الجراح؟
إقرأ أيضاً: العقل ومطلب الأخلاق
أسئلة تؤرقني، ولست ممن يدّعي حمل الأجوبة الكافية والشافية عليها، لكن سأحاول، من خلال إثارة بعض النقاط، أن أسلّط الضوء على طبيعة الإنسان المتصالحة مع التناقض في طلب الشيء وعكسه، والمنسجمة مع الازدواجية والانفصام، وكأنهما يشكّلان نهجاً طبيعياً مألوفاً، ليس فقط على الصعيد الوطني الضيّق، إنما أيضاً على الصعيد الأممي.
اليوم العالمي للسلام
إن من يتابع ما يصدر عن الجمعية العامة للأمم المتّحدة والهيئات الفرعية التابعة لها، يلحظ الكمّ الكبير من النصوص التي تنادي بحقوق الإنسان، وبخاصة، بحق الاختلاف، وبضرورة تأمين هذا الحق وحمايته بشتى الوسائل المتاحة. مع العلم أنه يمكن أن نلحظ في الوقت عينه، تعدّد الصراعات الإثنية، والدينية، والطائفية، وازدياد التعصّب، والتنابذ، وانتشار السياسة الإقصائية، وتجاهل قيم العدالة والمساواة بين البشر. إما الأسود أو الأبيض، لونان يطبعان صورة ما يحدث من حولنا، يطغى عليهما، للأسف، لون الدماء التي تلطّخ جدار الوعي، وترشقه بصرخات الاستغاثة، من دون مجيب.
يهمّني أن ألحظ في هذا السياق ما ورد في الميثاق التأسيسي لليونسكو بخصوص موضوعنا، والذي يمكن تلخيصه بما يأتي: ”لما كانت الحروب تتولّد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تُبنى حصون السلام”. كما تمّ التأكيد على “أن السلام لا يتوقّف على غياب الصراع وحسب، إنه عملية دينامية وإيجابية وتشاركية”، لذلك عمل الميثاق على أن يُشجّع على إقامة “الحوارات وحل النزاعات بروح التفاهم والتعاون المتبادل”. وكان من الضروري للوصول إلى الهدف وتحقيق هذا الطموح المناداة بالقضاء على جميع أشكال التمييز والتعصب، بما في ذلك التمييز القائم على العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو التوجّه السياسي أو الحالة المالية أو القدرة الجسدية أو غيرها. من هنا جاء إعلان الجمعية العامة بموجب قرارها 72/130 يوم 16 أيار/مايو يومًا عالميًا للعيش معًا في سلام، مع التأكيد على “أن يومًا كهذا هو السبيل لتعبئة جهود المجتمع الدولي لتعزيز السلام والتسامح والتضامن والتفاهم و التكافل، والإعراب عن رغبة أفراد المجتمع في العيش والعمل معاً، متّحدين على اختلافاتهم لبناء عالم ينعم بالسلام وبالتضامن وبالوئام”.
يُعتبر هذا اليوم بمثابة دعوة لبلدان العالم من أجل “زيادة تعزيز المصالحة وللمساعدة في ضمان السلام والتنمية المستدامة، بما في ذلك العمل مع المجتمعات المحلية والزعماء الدينيين والجهات الفاعلة الأخرى ذات الصلة، من خلال تدابير التوفيق وأعمال الخدمة وعن طريق التشجيع على التسامح والتعاطف بين الأفراد”.
إن هذا الإعلان يحثّنا على النظر في الهوّة الفاصلة بين النص والواقع، ويجعلنا نترصّد ما تمّ القيام به، لغاية الآن، من أجل تحقيق، ما تمّ ذكره بالحرف. يكفي أن نفتح شاشة التلفاز، على أي محطة عالمية أو محليّة، لكي تنفجر أمامنا مشهديات التقاتل، والتنابذ، والإبادة، والسحق، والقضاء على الأقليات كما على الكيانات الأكثر ضعفاً، من دون تحريك ساكن، وعلى مرأى ومسمع من الجميع. وكأن الإعلانات المتتالية التي تصدر عن الأمم المتحدة، أصبحت بمثابة، أداء فرضٍ واجب، وتسجيل موقفٍ علني، لا أكثر، بينما المطلوب يتخطّى ذلك بكثير.
كذلك، نجد أن تعيين أيام مخصّصة للاحتفال باليوم العالمي للسلام، واليوم الدولي للتسامح، ويوم حقوق الإنسان، وبالسنة الدولية للتقارب بين الأديان، وبأسبوع الوئام العالمي بين الأديان، وباليوم الدولي للقضاء على التمييز العنصري، وباليوم العالمي للتنوّع الثقافي من أجل الحوار والتنمية، إن كل هذه الدعوات الاحتفالية، تدلّ على عجز فادح في التوصّل إلى معالجة إشكالية “العيش معاً” معالجة فعّالة، ترسم خطة عمليّة للنهوض بالمجتمعات المنهكة من عبء التقاتل، والاكتفاء بالتذكير بضرورة الحوار وتقبّل الآخر، وبأهمية التنشئة على التنوّع الثقافي. الأمر بات واضحاً، وهو يشير إلى أن أعلى مرجعية أممية، لا حول لها ولا قوة، لا يمكنها سوى أن تنادي بقيم العيش المشترك من خلال الاحتفال بأيام عالمية تذكّر الناس بأهميّته، فتُصرف الأموال لنشر الإعلانات المناسبة، والقيام بالحملات الإعلامية التي تروّج للمناسبة، أو لعقد المؤتمرات التي غالباً ما تنتهي بكراريس مطلية بحبر تتبخّر كلماته سريعاً. وكأن العالم متروك لمواجهة أشرس وأقسى أنواع العنف والتهميش، من دون وجود مرجعية عادلة تبتّ بالصراعات المتجدّدة التي تنتهي دائماً لصالح الأقوى، فتُضرب بذلك كل القيم التي عملت الحداثة على ترسيخها، وعلى التباهي بها، ليحلّ مكانها منطق الاستبعاد، والإخضاع، والإكراه، والنفي، والسكوت عن الظلم، وجعله أمراً مألوفاً.
هذا الانشطار بين التنظير والتطبيق، بين ما تدّعي المرجعيات الأممية العمل عليه، وما تحقّقه بالفعل، بين الاحتفاليات الرمزية والمأساة الواقعية، أصبح نهجاً يُحتذى، وهو ما يجعلنا لا نتوخّى الكثير من مختلف المؤتمرات الدولية، والبيانات الأممية التي تصدر هنا وهناك. فالشرخ الواضح بين القول والعمل، والفكر والممارسة، يفاقم المخاطر، ويُطمئن كلّ من يرغب بالعنف والإرهاب بديلا عن “العيش معاً”. نتبيّن هنا صحّة ما قاله مونتسكيو: “يبدأ انهيار الحكومات مع انهيار المبادئ التي أُسّست عليها”.
من هنا، يمكننا أن نطرح ما يأتي: هل ما ينقصنا بخصوص “العيش معاً” يكمن في تعيين أيام إضافية للاحتفال به أو بما يمتّ إليه من صلة؟ لصالح من يحصل كل هذا التقاتل والتفنّن في أساليب القضاء على الآخر، من قتلٍ فردي أو جماعي، وقتلٍ ماديّ أو معنوي؟ لمَ خطاب الكراهية أكثر انتشاراَ من خطاب السلام، والدعوة إلى الفتنة أكثر فعالية من الدعوة إلى المصالحة والتعالي على الضغائن؟ لماذا ظاهرة العنف تُعَدّ من أبرز ما يميّز الاجتماع البشري في العقود الأخيرة حتى أصبحت سمة ملازمة له؟
-
“العيش معاً” وسط العنف والإرهاب: مقاربات فلسفية معاصرة (أرندت، هابرماس، ديريدا، تريكي)
تعتبر حنة أرندت أنه لا يمكن لأي شخص أعملَ فكره في شؤون التاريخ والسياسة، أن يبقى غافلاً عن الدور الضخم الذي لعبه العنف في شؤون البشر، وتلحظ أن “العنف نادراً ما كان موضع تحليل أو دراسة خاصة”. كما تلفت النظر إلى الترابط بين العنف والتعسّف وكأنه أمر عادي مألوف “بحيث أنهما لا يلقيان أي عناية خاصة… فالمرء، عادة، لا يطرح أسئلة حول أمور تبدو بديهية للجميع، ولا ينصرف الى تحليل مثل هذه الأمور”.[1]
كما تعتبر أرندت أن العنف يحتاج الى أدوات، وهي تشير إلى أن جوهر فعل العنف نفسه “إنما تسيّره مقولة الغاية والوسيلة التي كانت ميزتها الرئيسة، إن طُبقت على الشؤون الإنسانية ، أن الغاية محاطة بأن تتجاوزها الوسيلة التي تبرّرها والتي لا يمكن الوصول اليها من دونها. وبما أنه من المستحيل التنبؤ، بشكل يحمل مصداقيته، بالغاية المتوخّاة من أي عمل بشري، ككيانٍ مستقلٍ عن وسائل تحقيقه، من الواضح أن الوسائل المستخدمة للوصول الى غايات سياسية ترتدي في أغلب الأحيان، أهمية بالنسبة الى بناء عالم المستقبل، تفوق الأهمية التي ترتديها الغايات المنشودة”.[2]
من جهته، يحدّد يورغن هابرماس بداية العنف في فعل “التواصل المشوّه” بين طرفين. لذا فهو يعتبر أن الإرهاب “تواصل مرَضيّ، يغذّي منابعه التدميرية الخاصة”. يقول: “يبدأ العنف تواصلاً مشوّهاً، ثم يقوده انعدام الثقة المتبادل والخارج عن السيطرة إلى انقطاع التواصل”. ثم يشير إلى “أن العولمة غذّت حركة العنف التواصلي المتسارعة، فبتكثيفها للتواصل المرَضي، تقوم بتوزيع الأدوار توزيعاً غير عادل، مقسّمة العالم بلا رحمة بين رابحين ومستفيدين وخاسرين، بحيث يصبح التفاهم التبادلي أصعب فأصعب في مواجهة هذه التحديات التي تطرحها العولمة. تقع مسؤولية ذلك بوضوح على عاتق الأمم الأقوى، ولهذا السبب يدعو هابرماس الديمقراطيات الليبرالية الغربية الى إعادة إنشاء قنوات للتواصل؛ إذ إن الرأسمالية المنفلتة والتراتبية الاجتماعية الصارمة للمجتمع العالمي هما السبب الجذري في انهيار الحوار”.[3]
لا يوافق هابرماس هانتغتون في ما أورده حول صراع الحضارات، وبخاصة في ما يتعلّق بأسباب هذا الصراع. في حين يرى هانتغتون أن الصراع يرتكز على دوافع ثقافية ودينية، وأن الثقافة هي القائد والمحرك الأساس للصراعات القائمة، يعتبر هابرماس أن “المرض التواصلي الذي سببته العولمة ليس ثقافياً، بل هو اقتصادي”، ويقترح على الإئتلاف الغربي مسارين للعمل على الشفاء منه. المسار الأول: تحسين صورة الغرب، لأنه من الضروري أن تتوقّف الدول النامية عن رؤية توصيف السياسة الأجنبية للدول الغربية بوصفها جبهة امبريالية، لا يهمها سوى إيجاد السبل لتوسيع مصالحها المالية. والمسار الثاني: العمل على عدم حصر دور الديمقراطيات باستراتيجية التسويق من دون سواها، “فالحقيقة المحزنة هي أن نزهة الاستهلاك الغربية تنفجر كلغم موقوت وسط أكثر طبقات سكان العالم حرماناً.” هذا الانفجار الاستهلاكي برأي هابرماس قد ولّد “ردّة فعل روحية” كبديل وحيد لكثير من الناس عن الصمت والاستسلام.[4]
إقرأ أيضاً: العدالة في الفكر السياسي العربي الإسلامي؛ بين التراث وقُرّائه
يشدّد هابرماس على أن نموذج اللاتسامح الديني الذي تجسّده الأصولية يشكّل “ظاهرة حديثة بامتياز”. وهو هنا يرى أن الحداثة تغيّر “في وضعية الإيمان أكثر من كونها مجموعة من المعتقدات المنسجمة”. لذا فإنه يلفت الانتباه إلى أن وضعية الإيمان تشير ” إلى الطريقة التي نؤمن بها أكثر مما تشير إلى ما نؤمن به. ومن ثم، ليس لدى الأصولية سوى القليل لتفعله مع أي نص محدّد، أو مع أي عقيدة دينية، ولكن لديها الكثير لتقوله عن طريقة الإيمان: فحين نناقش المعتقدات الأصولية الإسلامية أو المسيحية أو الهندوسية، فإننا نتحدّث عن ردود فعل عنيفة على الطريقة الحديثة في فهم الدين والمشاركة فيه”. من هنا، وانطلاقاً مما تقدّم، تصبح الأصولية “جواباً مرعوباً” على حداثةٍ تُرى بوصفها تهديداً أكثر من كونها فرصة للعودة الى الطريقة الماقبل حديثة في العلاقة مع الدين.[5]
يلحظ هابرماس أن العنف باعتباره “تواصلاً مرضياً” يتوسّط العلاقة بين الأصولية والإرهاب. يقول: “يبدأ العنف كتواصل مشوّه، ثم يقوده انعدام الثقة المتبادل، والخارج عن السيطرة، إلى انقطاع التواصل”. ويميّز بين العنف الموجود في المجتمعات الغربية (التي تعاني من عدم المساواة الاجتماعية والتمييز والتهميش)، وبين العنف الناتج من تعارض الثقافات. يعتبر أن الثقافات ” لا يلتقي بعضها مع بعض كما يلتقي أعضاء المجتمع، الذين لا يُقصي أحدهم الآخر، الا إذا كان التواصل مشوّهاً منهجياً في ما بينهم”. ويضيف في هذا السياق أن الاطار القانوني للعلاقات الدولية لا يمكنه أن يقوم بالشيء الكثير في مجال فتح القنوات الجديدة التي تهدف إلى تغيير الذهنية الناتجة “من خلال تحسين شروط الحياة والتخفيف الملموس من الضغط والاضطهاد. عندما تصبح الثقة قادرة على أن تتطور عبر ممارسة التواصل اليومي، عندها فحسب، ينتشر تنوير فعال وواضح في وسائل الإعلام والمدارس والبيوت. ويجب أن يحدث ذلك عبر التأثير في المقدّمات الثقافية والسياسية الخاصة”.[6]
يرى هابرماس إذاً أن الإرهاب عيبٌ في التواصل المحلّي الحاصل ضمن حدود الثقافة الواحدة أو الامة الواحدة أو الدين الواحد، كما أنه عيبٌ في التواصل على الصعيد العالمي. من هنا يحدّد هدف الفلسفة “بطرح إعادة بناء الشروط التي لا تجعل التواصل ممكناً فحسب، بل فعلاً ومنتجاً أيضاً، وذلك على كل من المستويين: الفردي والجماعي”. كما يرى أن إعادة بناء هذه الشروط تضع بين يدي الفلسفة “أداة نقدية حادّة” تمكّنها من تقييم الحاضر بما فيه من تشوّهات تواصلية، وذلك لما كانت عليه حال “الفلسفة السياسية الكلاسيكية التي تقوم مهمّتها على تلخيص متطلّبات المجتمع المنظَّم والعادل”. من هنا تضاف إلى مهام الفلسفة من منظور هابرماس “إمكانية تشخيص أمراض المجتمع وعيوبه التواصلية على نحوٍ خاص”.[7]
وفي محاولة منه لفهم الواقع البشري، يعتبر هابرماس أن حياة الإنسان اليومية مكوّنة من الممارسة التواصلية التي تسمح للناس بأن يفهم بعضهم بعضاً. يرى أن فعل الكلام وحده يجعل البشر “متفقين ضمنياً على مجموعة من القواعد النحوية التي نستخدمها جميعاً بصدق، وذلك بقصد التواصل، لا بقصد التلاعب”. ثم يشير الى أنه بالطريقة عينها يتمّ التوافق بشكل ضمني على قواعد الثقافة والمجتمع والجماعة التي ينتمي إليها كل فرد. ينظر هابرماس إلى هذه القواعد بصفتها “قاعدة صلبة من القناعات القائمة على خلفية مشتركة من الحقائق الثقافية البديهية ومن التطلّعات المتبادلة”. إن الكلام على الخلفية المشتركة يضمن “إمكانية أن نضع أنفسنا مكان الآخرين، الأمر الذي يوضحه هابرماس على أنه جملة “شروط متماثلة يتمّ فيها تبادل وجهات النظر”. ولكن، اذا لم يظهر هناك تفاهم متبادل، لسبب أو لآخر، فإن كُلا من المستمع والمتكلّم سيصبح غريباً عن الآخر، وغير مبالٍ بإثبات إدعاءاته. هذه هي بداية التشوّه في التواصل؛ بداية سوء الفهم أو التحايل، التي يمثّل الإرهاب نسختها الأكثر تطرفاً”.[8]
أما جاك دريدا فيعتبر أن تفكيك مفهوم الإرهاب يمثّل المسلك الوحيد والمسؤول الذي يمكن اعتماده. يرى أن الاستخدام العام للفظ الإرهاب يظهره كما لو أنه يحمل مدلولاً واضحاً بذاته، الأمر الذي يحوّله إلى خادم لقضية الإرهاب بشكل غير مباشر. من الضروري عدم الاكتفاء باستخدام هذا المفهوم كأمر بديهي، لأن التفكيك من شأنه أن يبين أن ضروب التمييز التي نفهم من خلالها الارهاب بات مثقلا بالمشكلات.
يسأل دريدا قائلاً: “اعتباراً من أي لحظة يتوقّف الإرهاب عن أن يُقدَّم بوصفه كذلك، وتتمّ تحيّته بوصفه المصدر الوحيد لصراع شرعي؟ أو بالعكس؟ أين يمكن تجاوز الحدود بين القومي والدولي، بين الشرطة والجيش، بين التدخل من أجل “حفظ السلام” والحرب، بين الارهاب والحرب، بين المدني والعسكري، على أرض ما، وفي البنى التي تضمن الممكن الدفاعي أو الهجومي لـ”مجتمع” ما؟”.[9]
يرى دريدا أن “السلطة المهيمنة هي تلك التي تنجح، في وضع معطى، في أن تفرض، أي أن تشرعن، بل تصدق (فهي تقامر دائماً بالقانون) المشهد الدولي أو العالمي وفق التسمية أو التأويل الذي يناسبها”.[10]
من هنا نجده يوصّف الارهاب بكونه “أزمة مناعة ذاتية”،[11] إنه بمثابة “اعتلال ذاتي للمناعة” يهدّد كلا من: “حياة الديمقراطية التشاركية والنظام القانوني الذي يصادق عليها، وإمكانية ذلك الانفصال الحدّي بين الأبعاد الدينية والعلمانية. تؤدّي شروط المناعة الذاتية لهذا الاعتلال إلى الموت التلقائي للجهاز الدفاعي، الذي من شأنه حماية النظام العضوي من العدوان الخارجي”.[12]
لذا، يأتي تشديد دريدا على الفائدة الكبيرة التي يمكن أن تجنيها السياسة العالمية والدبلوماسية من خلال “العمل مع الفلسفة جنباً الى جنب”. يركّز على أن التحدّي القائم في عالم اليوم يكمن في “تطوير إطار نقدي، تُقوّم من خلاله لغة العلاقات الدولية، ويُعاد ابتكارها. تستطيع الفلسفة أن تقوم بدورٍ فريدٍ في هذا الظرف، لأنها تعرف كيف تمتحن حلقات الربط بين النظام القانوني – السياسي والإرث الفلسفي الذي أنتجه، فلن يتجلّى تحوّل النظام إلا عبر مواءمة هذه الشبكة المعقّدة لحلقات الربط الواضحة والضمنية. بامتيازها المتجلّي في قدرة وصولها الى هذه الحلقات قد تستطيع الفلسفة أن تساعد في تقويم اللغة المستخدمة في السياسة الدولية، وتطرح السؤال أخيراً حول مسؤولية أولئك الذين يديرونها”.[13]
إقرأ أيضاً: العقل العربي بين الأخلاقي والديني عند الجابري
اشتغل فتحي التريكي على مفهوم “جمالية العيش المشترك” الذي رأى فيه تعبيراً عن قدرة الإنسان على تغيير طبيعته الاجتماعية وتحويلها إلى طبيعة اجتماعية عقلانية وواعية. بالنسبة إليه، يُبنى العيش المشترك على أساس التآنس والمحبة والتآلف والانسجام بين البشر والوفاق في ما بينهم. إنه يسلّط الضوء على إنسانية تقوم على حق الاختلاف والاحترام والمحبة. كما أنه شير إلى أن التآنس هو تعبير عن المودّة والإلفة، وهو بذلك يحقّق أجمل شكل لكينونة الإنسان ووجوده مع الآخر.
يرى خالد صلاح حنفي أن فتحي التريكي قد أوضح أنه “لا توجد حياة عامة أو قابلية لحياة كونية من دون رابط إنسي ضمن وحدة اللغة أو الكلام الذي تتقاسمه الممارسات اليومية والعادات والتقاليد والأمنيات والحقوق والواجبات التي تهم كل فرد. وأكد أن الأمة لا تحقق وحدتها وهويتها إلا باتفاقها من خلال عملية تحاورية ضخمة، تؤسس فيها عوامل الارتباط وأسباب إنجاحها وتحولها إلى عيش مشترك في ظل الكرامة والحرية.”
ويخلص التريكي، بالنسبة إلى خالد صلاح حنفي، إلى ضرورة وجود توافقٍ واعٍ يجعل من القرابة في كل أشكالها مجالاً للشمل الإنساني يكون نتاجاً للتبادل المشترك بين الأنا والآخر، ليصبح الأرضية للعيش سوياً؛ فلا وجود لحياة مشتركة من دون توافق وتحاور ووعي ولو بنسبة ضئيلة، وذلك في إطار القرابة الفردية والتجمعات المترابطة والهياكل المهنية والمؤسسات الثقافية والفنية على الصعيد الوطني وعلى الصعيد الإنساني.
يعتبر التريكي “أننا كبشر بحاجة إلى كونية جديدة تأخذ الاختلاف والتنوع مأخذ الجد، وتسهم الفلسفة في البناء الأنطولوجي لهوية متعدّدة ولغيرية متسامحة تتبنى احترام الاختلافات الثقافية، وتؤسّس لحوار حضاري يتبنّى القيم المقاومة للهيمنة، وعقلانية تضع حداً للدوغماتية والتعصّب، وكليانية الأفكار، وتهدف لتحقيق السلام بين البشر”[14].
ويلحظ التريكي في هذا السياق أن “التعايُش بهذا المعنى يمثّل الاعتراف المتبادل والاحترام المتبادل والجهد المتبادل والمسؤولية المتبادلة بين مختلف المكوّنات والتعدُّديات في الانتقال بالمجتمعات من حال المواجهة إلى حال أرقى من حيث النوع والحضارة والسلام، ومن شأن ذلك أن يحافظ على استقرار المجتمعات من الهزات الاجتماعية والسياسية. فالمجتمعات التي تسوس تعدُّدياتها الثّقافيّة بسياسات رشيدة واعتراف متبادل، هي أكثر استقراراً ووحدة”.[15] إن هذه الخلاصة التي يصل إليها التريكي تستحقّ الدرس لمعرفة كيفية تحقيق الانتقال من المواجهة إلى السلام، ومن التوتر إلى الاستقرار. إذاً، يبقى الأهم في التوقّف عند كيفية إدارة شؤون التعدّديات الثقافية، وهو عملٌ لا يمكن أن يقوم به فردٌ لوحده.
أختم في هذا الاستشهاد للتريكي حيث يقول: “إن العيش المشترك هو في الأساس طبع وتطبُّع. ولا مناص اليوم من أن نعيش معاً ونتقاسم الأرض والهواء، ونتقاسم أيضاً اللغة والثقافة والانتماء. وفي عالم يتوحّد يوماً بعد يوم ويُحَدِّث أخباره كل صباح ومساء، سيزداد اختلافنا وتنوّعنا وستقلّ قواسمنا المشتركة التي تعوّدناها من قبل، وتصبح هوّيتنا الجماعية بحاجة إلى إعادة البناء. لذلك صار لزاماً علينا أن ندرك أهمية التربية على المواطنة في حياتنا، وأن نوليها أهمية قصوى، ونجعل منها قضية وطنية بامتياز”.[16]
نلتقي هنا مع التريكي بخصوص الدور الذي يجب أن تلعبه التربية على المواطنة من أجل الوصول إلى “العيش معاً”. إن هذا الدور المُلقى على عاتق التربية مهمّ في سبيل التأسيس لأجيال تقبل التعدّدية، وتتأقلم مع الاختلاف، وتولي الأهمية للقيم الإنسانية الجامعة، وهذه مسؤولية كبرى ملقاة على كل من يعمل في الشأن التربوي، وكل من يرى في نفسه منظّراً في المناهج وطرق التدريس. لكن، للأسف، يبقى الواقع التربوي يتخبّط بمرارة تحت السقوف الإيديولوجية الضاغطة على أنفاسه، ويسعى إلى تأمين الضروريات المادية، وإرضاء الجهات المانحة، من دون الانهمام بما سبق أن عرضه فتحي التريكي، أو غيره من الفلاسفة بخصوص التربية على “العيش معاً”، وترسيخ قيم المواطنة واحترام التعدّدية وتقبّل الاختلاف.
-
دور الفلسفة في المجتمع
إن العالم المتسارع الخطى في فرض تحدياته على الفكر الفلسفي قد أجبر المتفلسفين على فتح باب تعدّدية المناهج على مصرعيه وتوخّي المزيد من الجدّة في طرح الأفكار ومقاربة الإشكاليات. من هنا يأتي هذا الرصد السريع لمقاربة كل من أرندت وهابرماس ودريدا وتريكي لكي يطرح على طاولة الفكر العربي المعاصر تحدّياً إضافياً يقوده نحو خرق الحدود الضيّقة والدخول المستمر في دوائر البحث المنفتح على التبدّل والتغيّر في عالم اليوم، وعدم الاكتفاء فقط بما سبق إنتاجه، والاستشهاد به كنموذج يُحتذى. من هنا وانطلاقاً مما تقدّم، نسأل: ما الذي يمكن أن ننتظره من المشتغل بالفلسفة في المجتمع العربي بعامة واللبناني بخاصة؟ وهل له ما يكفي من سلطة للقيام بدوره؟
أختصر المهام بالنقاط الخمس الآتية:
- تعرية الخطابات الداعية إلى “العيش معاً” وتفكيكها للكشف عن جذورها، وتبيان إن كان هناك انفصامٌ بينها وبين مسلكيات المروّجين لها، ثم العمل على مراجعة أسباب الفشل في الوصول إلى الحد من العنف والإرهاب، وتدعيم فلسفة السلام المستدام وقبول الآخر المختلف. إن ما يتمّ ترويجه من خطابات سياسية تنادي بحقوق الإنسان، والحق بالاختلاف، وتقبّل الآخر، بات ينطبق عليه ما قاله فولتير يوماً: “السياسة فن الخداع: تجد لها ميداناً فسيحاً في العقول الضعيفة”.
- البحث في تمادي نزعة التفرّد والتوق إلى السيطرة في علاقات البشر بين بعضهم بعضاً، حتى ولو كانوا من العِرق نفسه، والدين نفسه، والمذهب نفسه. أكثر الضحايا التي تسقط اليوم من حولنا هي نتيجة ما بات يُعرف بحرب الأخوة، وليس بحرب الأعداء. نزعة التملّك والرغبة في السيطرة على الأضعف، والتفنّن في ابتكار أساليب جديدة للقمع، أمور تُفصح عن استباحة أغلى ما في الحياة إرضاءً لهذا أو ذاك من الأقوياء أكانوا أفراداً، أم أحزاباً، أم دولاً، حتى أن أحد العلماء يلحظ قائلاً: “لم تسعَ البشرية يوماً إلى السلام بل إلى هدنة بين حربين”.
- يقول نيتشه: “بالتفاهم لا بالقوة تكون المحافظة على السلام”، فالحروب العبثية تزخر بها صفحات التاريخ، وتملأ الشاشات، أما مسائل كالتحاور والتواصل والتآنس والتساكن والتفاهم من أجل التصدّي لمختلف ضروب الفتنة والتمييز العنصري والظلم بأشكاله، فتحتاج بمجملها إلى مزيد من التأسيس على قواعد ثابتة ومتجدّدة في آن، مع الأخذ بالاعتبار خصوصيّة كل مجموعة بشرية، وما يطرأ عليها من عوامل تُسهم في إحداث تغيّرات جذرية فيها. من هنا يمكن للفلسفة بتعاونها مع علوم الإنسان والمجتمع أن تعمل على تعزيز ثقافة الحوار والانفتاح على الآخر، وأن تسعى إلى توفير المناخ الملائم لانتشارها، مع الأخذ بالاعتبار ضرورة تجنّب الحوار الفلكلوري الذي يسلّط الضوء على التلاقي السطحي أمام عدسات آلات التصوير، من دون الغوص بالعمق في الوضع المأزوم الذي يُسهم في إبعاد أهل البلد الواحد، أو الدين الواحد، أو التراث الواحد عن بعضهم بعضاً.
- إن الشعور بالغربة الذي يكبّل معظم المشتغلين بالفلسفة قد يؤدّي بهم إلى الاستقالة من مهامهم داخل المجتمع، والاكنفاء عن التواصل بلغةٍ يفهمها السواد الأعظم من الناس، بخاصة الشباب منهم، من أجل الاكتفاء بالدائرة الضيّقة من الأصدقاء المثقّفين، حيث تحلو الجلسات ويطيب السهر على أريكة الخمول. لذا، من مهام الفلسفة، بالتعاون مع علوم الإنسان والمجتمع، النظر إلى كل إنسان باعتباره مشروعَ تغيير ما، وعدم حصر الثقافة بالخاصة، وترك المجال العام فريسة للخطاب المتطرّف الذي يكتسح بقوة المنابر كما الشاشات. من هنا تأتي ضرورة تحفيز الآخر، أي آخر، على النظر إلى نفسه كمشروعٍ إنساني فريد، لا يشبه أحداً، كقيمة لا تضاهى، عليه إبرازها والاشتغال عليها لتفتّح كل مكنوناتها.
- العمل على مصالحة الوعي العربي مع النقد والمنهج النقدي، والتمرّس فيهما. فالنظر الى الذات والتراث والآخر من منظور نقدي يجعل الإنسان أكثر نضجاً ووعياً بمحدوديّته، وبتاريخيّته، وبنسبيّة الحقيقة التي يتمسّك بها. هذا الأمر من شأنه أن يردم الكثير من الحواجز بين الأنا والآخر، بين الهنا والهناك، بين المستقيمين والضالين على اختلاف انتماءاتهم، ويخفّف من شدّة التوتر المتفشّي بقوة في برامج التوك شو مؤخراً، ومشهدية التعنيف الجسدي والكلامي. هناك حاجة ملحّة لنبذ التطرّف، وزحزحة الحدود، والثورة ضدّ العنف في مختلف تجليّاته الحاضرة. كذلك، من أكثر كفاءةً من المشتغلين بالفلسفة وبعلوم الإنسان والمجتمع من القيام بورشة إنتاج نهجٍ جديدٍ في التربية والتعليم، يرتكز على التفكير المستقل، وثقافة الانفتاح، وقراءة التاريخ بموضوعية، والاعتراف بخطأ الأجداد، مهما كان قاسياً، والاستفادة من خبراتهم، مهما كانت مدمية؟
في الختام، نهر هيراقليطس جاٍر وهو يضعنا اليوم في مواجهة مفهوم مغاير للتفكّر الفلسفي إنه باختصار: نهج المقاومة المفتوحة على أكثر من جبهة. تستوقفني دعوة من إدغار موران، وردت في كتابه “إلى أين يسير العالم؟”، إلى خوض المعارك المفتوحة، وإلى المقاومة من أجل البحث عن المعنى، والتأسيس لمفهوم متجدّد للإنسانية، يروي ظمأ الكائن التوّاق دائماً نحو آفاق جديدة. إنه يشدّد على ضرورة استعجال بزوغ الإنسانية على أثر ما يتعرّض له البشر اليوم في أي مكان على الكوكب من تهديدات نووية وكارثية عديدة. يرفع لواء المقاومة، فهي بنظره الحل الوحيد المتاح. يقول:”يجب علينا مقاومة العدم ومقاومة قوى التقهقر والموت الهائلة. وفي كل الفرضيات، يجب المقاومة. فالحدّ من الموت مقاومة. النضال ضدّ الوحشية مقاومة. والمستقبل لم يعد ذلك التقدّم اللامع إلى الأمام، أو بالأحرى ينبغي القول إن هذا التقدّم اللامع لتهديدات العبودية والخراب يجب أن تُقاوم أيضاً. وبشكل أكثر اتساعاً، يجب علينا من اليوم، ومن دون توقّف مقاومة الكذب، والخطأ، والخلاص، والاستسلام، والإيديولوجيا، ومقاومة التكنوقراطيّة، والبروقراطية، ومقاومة الهيمنة والاستغلال والقساوة. وأكثر من ذلك علينا أن نهيّئ أنفسنا الى أشياء جديدة من القمع، أي إلى أنماط جديدة من المقاومة”.[17]
نجده يشدّد على ضرورة تنبيه الإنسانية من أجل إيقاظها وبزوغ فجر جديد فيها، ولإحداث قفزة “قادرة على إيقاف المسيرة إلى الموت. فإن إيقاف الموت! لا يعني فقط المساهمة في النضال المستمرّ والمتعدّد الأشكال الذي يجب أن تقوم به كل حياة ضدّ الموت. إنما يعني النضال ضدّ الموت الجديدـ النضال ضد الموت الكثيف الذي يحصد الملايين أو الموت الكبير”.[18]
وفي سياق حديثه عن معنى المقاومة في العصر الحالي، وفي ظلّ ما تشهده المجتمعات العالمية من كوارث، يضيف موران قائلاً: “يجب علينا مقاومة العدم ومقاومة قوى التقهقر والموت الهائلة. وفي كل الفرضيات، يجب المقاومة. فالحدّ من الموت مقاومة. النضال ضدّ الوحشية مقاومة. والمستقبل لم يعد ذلك التقدّم اللامع إلى الأمام، أو بالأحرى ينبغي القول إن هذا التقدّم اللامع لتهديدات العبودية والخراب يجب أن تُقاوم أيضاً. وبشكلٍ أكثر اتساعاً، يجب علينا من اليوم، ومن دون توقّف مقاومة الكذب، والخطأ، والخلاص، والاستسلام، والإيديولوجيا، ومقاومة التكنوقراطيّة، والبروقراطية، ومقاومة الهيمنة والاستغلال والقساوة. وأكثر من ذلك علينا أن نهيّئ أنفسنا إلى أشياء جديدة من القمع، أي الى أنماط جديدة من المقاومة”.[19]
قد تكون هذه الدعوة المفتوحة إلى مقاومة التحدّيات المعاصرة، وتضافر الجهود من أجل الوقوف في وجه الكوارث المحدقة بالإنسان أينما كان، وإلى أي جماعة انتمى، حافزاً لإعادة التفكير في أسس بناء “العيش معاً” على قواعد أكثر صلابة، نظراً إلى أن ما يهدّد الإنسان، وعلى الرغم من تعدّد تمظهراته، فهو واحد.
[1] – حنة أرندت، في العنف، ترجمة ابراهيم العريس، بيروت، دار الساقي، ط2، 2015، ص10
[2] – حنة أرندت، م.ن. ص6
3- حنة أرندت، م.ن. ص 45
[3] – جيوفانا بورادوري، الفلسفة في زمن الإرهاب، ترجمة خلدون النبواني، بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، 2013، ص 121
[4] – انظر:جيوفانا بورادوري، الفلسفة في زمن الإرهاب، م.س. ص122
[5] – جيوفانا بورادوري، الفلسفة في زمن الإرهاب، الفلسفة في زمن الإرهاب، م.س. ص57
[6] – جيوفانا بورادوري، الفلسفة في زمن الإرهاب، م.س. ص 58
[7] – جيوفانا بورادوري، الفلسفة في زمن الإرهاب، م.س. ص 96
[8] – جيوفانا بورادوري، الفلسفة في زمن الإرهاب، م.س. ص121
[9] – جيوفانا بورادوري، الفلسفة في زمن الإرهاب، م.س. ص175
[10] جيوفانا بورادوري، الفلسفة في زمن الإرهاب، م.س. ص 176
[11] – أنظر، جيوفانا بورادوري، الفلسفة في زمن الإرهاب، م.س. ص246
[12] – جيوفانا بورادوري، الفلسفة في زمن الإرهاب، م.س. ص59
[13] – جيوفانا بورادوري، الفلسفة في زمن الإرهاب، م.س. ص 259
[14] – أنظر: https://caus.org.lb/%D8%AC%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%8A%D8%B4-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B4%D8%AA%D8%B1%D9%83/
[15] – أنظر المرجع الإلكتروني السابق.
[16] – أنظر المرجع الإلكتروني السابق.
[17] – إدغار موران، إلى أين يسير العالم؟، ترجمة أحمد العلمي، الدار العربية للعلوم، بيروت، ط2، 2010، ص83
[18] – إدغار موران، إلى أين يسير العالم؟، م.س. ص73
[19] – إدغار موران، الى أين يسير العالم؟، م.س. ص83