العَلمانية: لغوياً، فكرياً، وتاريخياً

تكوين

مقدمة

تُعتبر العلمانية، مفهوماً وفكراً ومنهجاً تطبيقياً، من التيارات الفكرية الأساسية التي شكّلت منذ انطلاقتها جدلاً واسعاً بين حالتيّ القبول والرفض، وإن تراوحت هاتان الحالتان، في بعض الأحيان، بين قبول ورفض كامليْن أو جزئيّين. في جميع الأحوال، يُجمع الباحثون في الفلسفة وعلم الاجتماع عموماً على أنّ العَلمانية هي قضية أثارت وما زالت تثير الجدل والاشكاليات العميقة التي تحتاج دوماً إلى تفسيرات وإيضاحات.

من هذا المنطلق، أردنا أن نحدّد مفهوم “العَلمانية” من النواحي اللغوية والفكرية والتاريخية في شكلٍ تفصيليّ بهدف التوصّل إلى تبيان أصولها وتوجّهاتها وانعكاساتها في الفكر الفلسفي المعاصر.

أولاً: العَلمانية لغوياً

تُطلق كلمة “عَلماني” في اللغة العربية على العاميّ “الذي ليس بإكليريكيّ”1 ، ويُعتبر كسر العين في كلمة “علمانية” خطأً، كما جزم  المفكّر واللغوي اللبناني الشيخ عبد الله العلايلي (1914-1996) عندما قال أن لا علاقة للأصل اللاتيني للكلمة “بالعلم من قربٍ أو من بعد، وإنّما صحّته بفتح العين، نسبةً إلى العَلِم (بفتح الأول وتسكين الثاني)، بمعنى العالم الدنيوي، وذلك بزيادة الألف والنون”2. وهو اقترح كذلك استخدام كلمة “حلانية” نسبةً إلى الحلّ في المفهوم القديم الذي يشير إلى غير المتعصّبين لتقاليدهم، فنقول مثلاً: حلن السلطة، أي جعلها في أيدي العامة المدنية.

أما في اللغة الفرنسية، فتنبثق كلمة “عَلمانية” (Laïcité ) من اللاتينية Laicus  أو Lai المتحدّرة من اليونانية Laikos للدلالة على المسيحي المعمّد غير المنتمي إلى الاكليروس والذي لا يتلقّى أوامره من الطبقة الاكليريكية. ويختلف المعنى بين مصطلحيّ “Laïc ” و “Laïque”، فالأول يعني “من ليس براهبٍ أو بكاهن”3 ، أما الثاني فيدلّ على “عناصر العَلمانية أو العلمنة”4 . وكما ورد في المجمع الفاتيكاني الثاني: “يُطلق إسم عَلماني Laïc على جميع المؤمنين الذين لا ينتمون إلى نظام الكنيسة المقدّس ووضعها الديني”5

إلى ذلك، إعتبر اللغوي والمعجمي الفرنسي بول روبيرPaul Robert (1910-1980) أنّ العَلمانية “مفهوم سياسي يتضمّن الفصل بين المجتمع المدني والمجتمع الديني. فلا سلطة دينية للدولة، ولا سلطة للكنائس”6 . وفي هذه الحال، تُكرّس العَلمانية نظاماً يُبعد الكنيسة عن ممارسة السلطات السياسية أو الادارية، كما يُبعدها خصوصاً عن مؤسّسة التعليم.

وتشتقّ من كلمة “عَلمانية” Laïcité كلمة “عَلمنة” Laïcisme وهي تعني كون الشيء عَلمانياً. وتشكّل هاتان الكلمتان الجانبين اللازميْن للمفهوم ذاته. في هذا السياق، أشار المؤرّخ والسياسيّ اللبناني جواد بولس (1899-1982) إلى أنّ العَلمانية مفهوم سياسيّ مقاوم للاكليروس، أما العلمنة فتذهب بعيداً كونها تنبثق من نظام مضاد للدين.

 

 

 

  العَلمانية إذاً عقيدة نظرية في حاجة إلى تطبيق فعليّ وإلى ترجمة على أرض الواقع، وذلك من خلال العلمنة. فإمّا أن يتمّ الأخذ بالمصطلحيْن معاً، وإما أن يتمّ رفضهما سويةً، لأنّ المبادئ تواجه خطر التحلّل إذا لم تتجسّد فعلياً.

وإضافةً إلى مفهوميّ “عَلمانية” و “علمنة”، يبرز مصطلح ثالث هو “تَعَلْمُن” Laïcisation ، ويعني: جعل الشيء عَلمانياً، وهو عملية نقل مجتمع معيّن من حالته الغارقة في الطائفية إلى حالة أكثر استقلالية. فالتعلمن السياسيّ مثلاً يؤمّن للسياسة إستقلاليتها عن الدين. ويمكن لعملية النقل هذه أن تكون بسيطةً أو أن تحمل تعقيدات، أن تستخدم وسيلة واحدة أو عدّة وسائل، أن تكون على تماس مع عمليات أخرى أو أن تكون بالفعل مستقلّة. ويمكن أن نعلمن النظام السياسيّ والاداريّ والثقافيّ والتربويّ، فتتحقّق العلمنة كهدف مركزيّ للدولة العَلمانية.

ومن المصطلحات التي تدخل السياق ذاته كلمة “دنيوة” Sécularisation ، وهي تعني اللاكنسية واللاطقوسية وتعبّر عن الشيء الدنيوي. قبل الحرب العالمية الثانية، كان هذا المصطلح يدلّ على استقلالية الحقل الدنيويّ تحديداً، وبعد الحرب، تبدّلت الأعراف اللاهوتية والاجتماعية، واتخذت الدنيوة معنيين رئيسيْن: التطوّر الدينيّ للمجتمع، والتطوّر الاجتماعيّ للديانات. واعتبر الفيلسوف الألماني كارل هارتمن Karl Hartmann (1842-1906) أنّ الدنيوة هي انتقال عدد من المفاهيم والأفكار والتجارب الفطرية والمكتسبة، والمتّصلة بالإيمان، للتمركز تحت سيادة العقل الانسانيّ الخلّاق. وهي لذلك تعدّ عاملاً حضارياً تطبع المجتمع المعاصر في تميّزها عن المجتمع الدينيّ، وتحرّر الفرد من الرقابة الميتافيزيقية التي تطال فكره ولغته. وذهب  الفيلسوف الألماني كارل ماركس Karl Marx (1818-1883) إلى حدّ اعتبار الدنيوة أكثر من مجرّد قطيعة مع الدين، بل هي “إلغاء كلّي وطبيعيّ له”7 ، ودعا الفيلسوف الفرنسي أوغست كونت Auguste Comte (1798-1857) إلى اتباع مدرسة “لا تبالي بالدين، ولا ترتكز إلا على معطيات العلم.”8 إلا أنّ من المفكّرين والباحثين من يعتبر أنّ الدنيوة لا تمسّ الايمان ولا تلغيه، بل تساعد في حفظه ولكن في شكلٍ مختلفٍ عن التقليد المعروف. وضروريّ هنا أن نشير إلى وجوب إدراك اللُوَيْنة nuance بين مصطلحيّ “العَلمانية” و “العَلمانوية”: فالعَلمانية تتّصف بالانفتاح وتتطلّب بالتالي دراسة الأنظمة الدينية وتحليل مفاهيمها من منظورٍ علميّ يرتكز، ليس فقط على التاريخ، بل على الواقع الحاضر والهدف المستقبليّ، فيما العَلمانوية تتّسم بالانغلاق الذي قد يحوّلها شيئاً فشيئاً إلى نظامٍ إستبداديّ يأسر حرية المواطن ويبعده عن الخطّ المعتدل.

وتبقى العَلمانية المصطلح الأشمل والأكمل الذي يساعد اعتماده عل محاولة تخطّي الانعكاسات السلبية للفكر المتزمّت، والمؤدّي للأسف، في حالاتٍ كثيرة، إلى منزلقات أسّست وما زالت تؤسّس لحروبٍ تحصد الأبرياء ولا تعرف لها نهاية.

 

ثانياً: العَلمانية فكرياً

  بعدما توقّفنا في شكلٍ تفصيليّ عند الأصول والمشتقّات اللغوية لمفهوم “العَلمانية”، سنحاول ولوج المعاني العديدة لهذا المفهوم من منطلقٍ فكريّ بحت، حيث سنعرض للعَلمانية السياسية، والمدنية، والوظيفية، والقانونية، والشخصية، والمؤسّسية، والقيمية.. ومن ثمّ سنقوم بدراسة العلاقة القائمة بين العَلمانية من جهة، والدين، والعلم، والالحاد من جهةٍ أخرى.

في الحقيقة، كانت العَلمانية في بداياتها موقفاً إنسانياً نما في ظلّ نظام حكمٍ وتربيةٍ معيّن. إلا أنها انعقدت على قضايا وإشكاليات عدّة، ما عرّضها للنقد والتقييم الموضوعيين حيناً، والبعيديْن عن الموضوعية في أحيانٍ أخرى.

فمن المنظّرين من قال إنّ العَلمانية هي تحرير السلطة المدنية من تدخّل السلطات الدينية، ومنهم من اعتبر أنها فصل للدين عن الدولة، أو فصل للوظيفة عن الانتماء الطائفي. إلى ذلك، رأى البعض أنها تنحصر في قوانين الزواج والطلاق المدنيين، كما أمل آخرون في أن تكون ممراً نحو إلغاء هيمنة طائفة على سائر الطوائف. قد تكون العَلمانية كلّ ذلك في آنٍ واحد، إلا أنها لا تنحصر في إطار هذه المفاهيم فحسب، بل تتجاوزها إلى أبعادٍ إنسانيةٍ سامية.

وتكمن العَلمانية في التعبير عن القدرة الراقية لدى المواطنين “على اعتبار أنفسهم في حدود الفرد، وفي العلاقات التبادلية بين الأفراد، أعضاء في مجتمعٍ موحّد المصلحة والمصير.”9 فهي لذلك نظرة شاملة للعالم شعارها الانسانية. وفي الديمقراطيات الليبيرالية والديمقراطيات الشعبية ، تُمارس فكرة العَلمانية في يومنا الحاضر وظيفة يمكن اعتبارها تنظيميةً للقانون والحقوق الشخصية والحريات الشعبية. فالعَلمانية فكرياً هي أكبر من نظام وأعمق من عقيدة، وهي مبنيّة في جميع مفاهيمها على احترام الكرامة الانسانية. هذا ما لم يدركه معظم الذين ولجوا هذا الموضوع بدون التعمّق في مكنوناته، بل اكتفوا فقط بالاكتراث ببعض جوانب العَلمانية المتعلّقة على سبيل المثال بالقوانين المدنية، كما في لبنان الغارق في آفات النظام الطائفيّ وتناقضات الآراء المترتّبة على  اتباع هذا النظام، وعلى رفض الكثيرين له، مع ميول متفاوتة القوة نحو النظام العَلماني. ففئة من المسيحيين يهمّهم التعلمن الشامل، ما لا يقبل به المسلمون الذين يتّخذ بعضهم مواقف رافضة علمنة الأحوال الشخصية، ويطالب الملحدون باعتماد النظام العَلماني لاعتقادهم أنه يلغي سيطرة رجال الدين، ما يؤدّي في رأيهم إلى تسهيل تعميم الاتجاه الالحادي. أما العقائديون اليساريون، فيميلون إلى العَلمانية المطلقة كردّة فعلٍ في وجه اليمينيين الموسومة عقائدهم في غالبيتها بالطائفية، كما يكترثون أيضاً للعَلمانية السياسية التي تقرّبهم وإن مرحلياً من المسلمين. فما هي أنواع العَلمانية التي يُرحّب بها حيناً وتُرفض حيناً آخر؟ سوف نعرض بإيجاز لهذه الأنواع، قبل طرح مسألة العلاقة بين العَلمانية من جهة، والدين، والعلم ، والالحاد من جهة ثانية.

العَلمانية السياسية تعني فصل السياسة عن الدين، وفصل الترشّح لرئاسة الدولة عن الانتماء الديني للمرشّح، وطبعاً عدم تدخّل الرؤساء الدينيين في الممارسة السياسية. كما تعني كذلك “إستقلالية الجيش، لا سيّما قياداته، عن الانتماء الطائفي، وتحرير المجتمع من استغلال حاكم مدني لانتمائه الديني الطائفي.. وتسهيل محاكمة الحكّام بدون الخوف من التفاعلات والمضاعفات الطائفية.”10  أما العَلمانية المدنية أو المجتمعية، فهي فصل للمجتمع المدني عن المجتمع الديني، وكذلك فصل الواجبات الاجتماعية الرسمية عن الواجبات الدينية. وتنادي العَلمانية الوظيفية بفصل العمل عن الانتماء الطائفي، فلا يكون أيّ تمييز بين موظّف وآخر، ولا تكون أهمية لعدد أبناء الطائفة في احتلال المراكز والوظائف، وتتحرّر النقابات من طابعها الطائفي. وتتضمّن العَلمانية القانونية فصل قوانين الدولة عن الشرائع الدينية، وإلغاء الطائفية في الدستور والقوانين “واستحداث قانون مدنيّ للأحوال الشخصية، أي للزواج والطلاق والنفقة والبنوّة والإرث… وإنشاء محاكم مدنية للأحوال الشخصية.”11 وتُعتبر العَلمانية الشخصية في غاية الأهمية لأنها تحرّر شخصية الانسان من التبعية الطائفية، ما يعني عدم تصنيفه منذ ولادته بحسب دين والديه، ومنحه الحرية الكاملة في الانتقال من دينٍ إلى دين، إضافةً إلى السماح لشخصيْن غير مؤمنيْن أو أحدهما غير مؤمن، أو حتى إن كان الإثنان على إيمانهما، بالزواج بدون الخضوع لضغطٍ أو لإكراه. وتنصّ العَلمانية المؤسّسية على فصل المؤسّسات عن الدين وعلى تعميم مختلف الثقافات الدينية والوطنية من خلال المؤسّسات التربوية جميعها. أما العَلمانية القيمية فتنادي باستقلالية القيم الانسانية عن التأثيرات المباشرة وغير المباشرة للدين، واعتبار هذه القيم منعقدة على الانسان وحده، أيّاً كان مصدرها.

  • العَلمانية والدين  

   تتطلّب العَلمانية حريةً في الفكر والمعتقد والايمان. وهي، في الحقيقة وبخلاف ما يعتقده البعض، تنسجم مع صدقية الايمان والسعي إلى إبعاد كلّ زيف ورياء عنه، فيصبح الإيمان لدى الفرد فعلاً إرادياً متّسماً بالإرادة الانعتاقية من قيود القوانين المفروضة عليه. كذلك تقرّ العَلمانية للأديان حقّها في امتلاك المؤسّسات، إضافةً إلى الأموال العقارية أو المنقولة اللازمة لنشاطها وحاجاتها. وعلى “الدولة العَلمانية أن ترضى بالواقع الديني كما تحدّده وتنظّمه الأديان نفسها… ومقابل موقف الدولة العَلمانية من الدين، على الدين أن يعترف بأنّ الدولة مستقلّة عنه، وعن تعاليمه، في حقول نشاطها وممارسة أعمالها، وأنّ على المؤمنين أن يخضعوا للموجبات التي ترتّبها عليهم الدولة.”12

إذاً لا خلاف جذرياً بين العَلمانية والدين إذا نحن أدركنا أنّ التطبيق السليم للمفهوم القويم للعَلمانية يساعد لا بل يعمل على إنقاذ الرسالة الدينية. ومن عوامل الانقاذ هذه، في البلدان التي اعتمدت النظام العّلماني وفي تلك التي تسعى اليوم إلى اعتماده، الوقوف بحزمٍ وثقة في وجه كلّ أنواع التعصّب الديني الذي أثبتت التجارب العملية أنه لا يؤدّي إلا إلى الهلاك. وفي حال انتفاء التمييز بين الأفراد في المجتمع تبعاً لانتماءاتهم الدينية والمذهبية، ترتقي العَلمانية إلى مرتبة نبل الرسالة التي تحملها والتي ينبغي ألا يشوبها أيّ زغل.

وفي الواقع، يجزم بعض الباحثين في المسألة بخطورة فصل الروحانيات عن الزمنيات في ظلّ اعتماد النظام العَلماني، لأنّ الضمير، على حدّ اعتقادهم، غير قادرٍ على إدراك الخير والشرّ في العمق، إذا ما سنّت القوانين بدون وحي إلهي. في ردّ على هذا النوع من التخوّف نقول إنّ الديانات السماوية حملت حكماً توضيحاتٍ وتحليلاتٍ قيّمة في شأن مفهوميّ الخير والشرّ، إلا أنّ فصل الروحانيات عن الزمنيات لا يعني مطلقاً عدم وعي هذين المفهومين. إضافةً إلى أنّ الوحي الإلهي لا يشكّل بالضرورة قاعدةً لاشتراع الأنظمة والقوانين في الدولة، بل يتمّ هذا الاشتراع وفق متطلّبات المجتمع والمشكلات التي يعاني منها. وهنا يبرز دور الحرية الانسانية غير الخاضعة للقيود الميتافيزيقية. فنحن نقول إنّ الله خلق الكون من العدم ووهب الانسان طاقةً ذهنيةً ترتقي مع التطوّر إلى الفهم الشمولي للمعادلات بين البشر والتي تُدعى “مبادئ”.. ثمّ استراح.. هكذا يكون قول الكاتب والروائي الروسي دوستويفسكي Fyodor Dostoevsky (1821-1881) إنه إذا “سقط الله يسقط كلّ شيء”، صحيحاً في مستوى المطلق. كما يكون عكسه صحيحاً أيضاً، فنقول: إذا ما سقط الانسان في حنايا الرعاية الالهية الدائمة التي قد تحكم لا بل تتحكّم بقواعد سلوكه اليومي، عندئذٍ تسقط كلّ معاني وجوده، وكذلك أمجاد الحضارة التي ينتمي إليها بكافة مفاهيمها الخلقية النظرية والتعاملية التطبيقية، وتسقط جوهرية الانسان كفردٍ يستحقّ امتلاك صفة الانسان المجدول على الحرية والمسؤولية.

للعالم إذاً حقيقته المتميّزة واستقلاليته البديهية، والدولة جزء من هذا العالم: يحقّ للدين أن يحيا في كنفها، بدون أن يعمد إلى حكمها. هذا ما تقوم عيه العَلمانية على مستوى الفكر، وما يجب أن تكون عليه على مستوى تجسّد الفكر العَلماني في كنف الدولة العَلمانية.

 

  • العَلمانية والعِلم   

   بعدما ذكرنا أنّ الوحي الالهي ليس بالضرورة قاعدةً لسنّ القوانين في المجتمعات، نأتي إلى إلقاء الضوء على دور العقل الانساني الذي يعتمد العقل والتجربة منطلقيْن للبحث عن القانون الأكثر ملاءمة للمجتمع. هنا لا بدّ لنا من أن نشير إلى أنّ الانسان لم يحصل عبر التاريخ على العدالة في قوانين حياته بسهولة، بل من خلال جهدٍ متواصل يرتكز على عقلٍ مبدع، ويقرن العقلانية بالفعل التجريبيّ، متّخذاً من الظلم والفشل محفّزاً لتجديدٍ كيانيّ لحياته الفردية والمجتمعية.

ولا تنجح العَلمانية كمفهوم وكنظام إلا في حال استنادها إلى الروح العلمية. فصفة العلم يجب أن تلازم المفهوم العَلماني لكي تحافظ على منهجيته وموضوعيته ودوام اعتماده العقلانية. تحتاج العَلمانية إلى المنهجية الصحيحة للتمكّن من بناء نظامها، وإلى الموضوعية لتعدّل في قراراتها، وإلى العقلانية لتحافظ على صدقيّة أقوالها وأفعالها.. كلّ ذلك يضمن لها صفة الاستمرارية. فالعَلمانية العلمية والعقلانية هي التي تؤدّي إلى حماية الأفراد من أيّ غبنٍ قد يتعرّضون له إذا لم تؤخذ كفايتهم وجدارتهم بجدّية في طريقهم نحو تحقيق ذواتهم في العمل. وإذا فقدت العَلمانية إحدى هذه الركائز، فهي مهدّدة لا محالة بالانهيار، لأنها تصبح عندذاك عرضةً لتأثيراتٍ بعيدةٍ كلّ البعد عن المجال العلمي، ولا نقصد بذلك تأثير الأديان في حدّ ذاتها، بل تأثير الأجواء المغلوطة والملتبسة التي خلقتها بعض الديانات عبر التاريخ، والتي تمخّض عنها رفض الكثيرين التفكير العلميّ المنطقيّ بحجّة أنه قد يؤدّي إلى الوقوع في الكفر والالحاد. إلا أنّ العَلمانية، في الواقع، ليست كما يحلو للبعض أن يصوّرها تحرّراً من قيود المفاهيم الدينية، بل هي عقلنة كاملة للحياة الاجتماعية. ولا بدّ من الاشارة هنا إلى أنّ اعتماد العلم والاستناد إلى ركائزه لا يعنيان حتماً الوقوع في المادية. المفكّرون الماديون مثلاً يتّبعون الأسلوب العلمي، لكن كذلك يفعل المفكّرون الروحانيون في أحيانٍ كثيرة. هم مفكّرون لأنهم يعقلون الأشياء، ولا يستطيع المفكّر أن يخرج من إطار العلم، لذلك سمّي مفكّراً. العلمية إذاً صفة ملازمة للعَلمانية، غير أنّ البعض حاول استغلال هذه الصفة للتصويب على النظام العَلماني واتهامه بالالحاد.

ونشير هنا، وإن بإيجاز، إلى أنّ النزعة العلمية العقلانية عمّت في وقتٍ من الأوقات في العالم العربي والاسلامي، وفي شكلٍ متقدّم لم يعرفه الغرب المسيحي آنذاك، فكانت المعتزلة التي غلبت عليها النزعة العقلية، وكان أبو نصر الفارابي (870-950) الذي انتقل من الميتافيزيقيا إلى المنهج العلمي، وناقش نظرية الأعداد وعلاقة المنطق بعلم النحو، وكذلك جابر بن حيّان (721-815) الذي برع في علوم الكيمياء والهندسة والفلك والطب والصيدلة، وإبن رشد (1126-1198) الذي عُرف بشروحاته كتابات أرسطو وبدراسته علوم الفيزياء والفلك والأخلاق وعلم النفس. (إشارةً إلى أنه سنتناول عدداً آخر من المفكّرين من الخطّ نفسه في نهاية الجزء الثالث من البحث، حيث سنعرض للعَلمانية في سياقها التاريخيّ الطويل).

  • العَلمانية والالحاد  

  إعتبر الفيلسوف وعالٍم الرياضيات البريطاني راسل Bertrand Russel (1872-1970) أنّ الدين والعلم هما “وجهان للحياة الاجتماعية”13 . فالعَلمانية الصحيحة هي التي تحافظ على المجتمع بوجهيه، فلا تعتمد الدين وحده، ولا تتبنّى العلم وحده.. هذه هي العَلمانية القائمة على الاعتدال. وينبغي أن ننفي، في هذا المجال، وجود عَلمانية مؤمنة أو عَلمانية ملحدة في الدولة. فقد يكون الحاكم في دولةٍ ذات نظام عَلماني ملحداً، وقد يكثر في الدولة ذاتها أفراد من الشعب يحافظون على إيمانهم وتديّنهم، وكما قد يحدث العكس كذلك.

ليست الدولة إذاً هي التي تؤمن أو تلحد، بل الفرد هو من يختار بين هذين النقيضيْن. فصفة الالحاد على سبيل المثال وسمت الاتحاد السوفياتي سابقاً ولفترة طويلة من الزمن مع سيطرة الشيوعيين على الحكم. ففي العام 1922 وحتى العام 1927، قامت جمهورية إتحادية إشتراكية لينينية ذات نظام الحزب الواحد، ثم قامت حتى العام 1953 دولة إشتراكية إتحادية ماركسية لينينية تحت حكم دكتاتورية ستالينية شمولية، واستمرّت حتى العام 1990-1991 حيث تأسّست جمهورية إتحادية شبه رئاسية متعدّدة الأحزاب. وبحسب دراسة قام بها المركز الأميركي للأبحاث بيو العام 2015، تبيّن أنّ حوالي خمسة وسبعين في المئة من الروس مؤمنون، وأنّ حوالي ثمانين في المئة منهم يولون الدين أهميةً في حياتهم، وذلك على رغم تراكم سنواتٍ طويلةٍ من الحكم الشيوعي المرتكز على فكرة إلحاد الدولة. إذاً، بعدما انهار النظام الشيوعي في البلاد، لم يتوانَ المؤمنون عن التعبير عن إيمانهم بعودتهم إلى ممارسة طقوس ديانتهم في حرية، ما يعني أنّ الايمان كان إيمان أفراد وليس إيمان دولة، والالحاد كان إلحاد دولة وليس إلحاد أفراد.

وما ذكرناه في المثل السوفياتي ينطبق أيضاً على الشعب التركي الذي حافظ على الروح الدينية على رغم النظام العَلماني الذي بدأ في الدولة التركية مع مصطفى كمال أتاتورك (1881-1938). فقد برزت العَلمانية رسمياً في تركيا عندما عُدّل دستور 1924، العام 1928، حيث أُلغي النصّ الذي يعلن أنّ دين الدولة هو الاسلام. وقد أراد أتاتورك، الذي تولّى رئاسة الجمهورية التركية العام 1923 وحتى العام 1938، إنشاء دولة عَلمانية حديثة. وكان عَلمانياً وقومياً، بدّل الكتابة التركية من الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني، وعمل على جعل تركيا بلداً منفتحاً على الغرب. وطوال هذه السنوات، حافظ غالبية المواطنين الأتراك على إيمانهم، واتّبعوا العَلمانية بدون أن يُلحدوا. ( مع الاشارة طبعاً إلى أنّ مئة سنة من العَلمانية لم تستطع ردع الأحزاب الدينية عن لعب دورها، كما “حزب العدالة والتنمية” الاسلاميّ المحافظ، وهو الحزب الحاكم حالياً بزعامة السياسيّ والاقتصاديّ التركيّ رجب طيّب أردوغان (1954-) الذي يشغل منصب الرئيس الثاني عشر منذ العام 2014.)

أضف إلى ذلك التجربة التونسية التي تُعتبر فريدةً في العالم العربي. ففي العام 1956، أقرّ رئيس الدولة التونسية آنذاك الحبيب بورقيبة (1903-2000 )، والذي استمرّ حكمه حتى العام 1987، عدداً من الاصلاحات في قانون الأحوال الشخصية الذي نصّ على منع تعدّد الزوجات، إضافةً إلى منع أيّ صيغة خارج الزواج المدني، ما أدّى إلى اعتبار تونس منذ ذلك الحين دولةً مدنيةً قائمة على المواطنة وعلى المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين والمواطنات. حتى أنه أمر بمنع ارتداء النساء الحجاب لأنه اعتبره مظهراً من مظاهر الطائفية. وفي ظلّ كلّ هذا التقدّم، أبقى التونسيون ويستمرّون في الابقاء، في غالبيتهم، على الايمان بالله، ولم يقعوا في الالحاد. ونشير هنا إلى أنّ الدستور التونسي للعام 2014 نصّ على أنّ تونس دولة مدنية، وأنّ الاسلام هو الدين الرسميّ للدولة. وقبل ذلك، وتحديداً العام 2011، حاول السياسيّ والمفكّر الاسلامي التونسي راشد الغنوشي (1941-) مواجهة علمنة الدولة باقتراحه مفهوم الدولة المدنية المنعقدة على التوافق بين الاسلام من جهة، والحداثة والديمقراطية من جهةٍ ثانية.

من هذا المنطلق، ينبغي إعادة تقييم فكرة ربط الالحاد بالغرب والايمان بالشرق. فلا يحقّ لأهل الشرق إتّهام أهل الغرب بالالحاد مستندين في حكمهم على النظرية الخاطئة التي تعتبر الشرق روحانياً والغرب مادياً. إذا كان الغرب أكثر علميةً مما نحن عليه، على رغم مواكبة العديد من دول الشرق اليوم التقدّم العلميّ والتكنولوجي، فهذا لا يبرّر مطلقاً طبعه بطابع الصورة الالحادية، خصوصاً أنه في تفوّق مستمرّ على جميع الأصعدة لا سيّما الاقتصادية والعلمية والثقافية.. والعَلمانية الصحيحة والهادفة هي التي توجّه نحو اعتماد العلم والمنطق وتُلزم الشعب بسلوك سُبُل التفكير السليم، وتترك له في الوقت ذاته حرية الاختيار بين الدين واللادين.

الدولة عَلمانية، لكنّ الفرد حرّ في معتقداته. الدولة عَلمانية، لكن من حقّ من يريد أن يمارس الطقوس والشعائر الدينية، بشرط عدم المساس بقوانين النظام العَلماني. الدولة عّلمانية لإنقاذ الدين لا للقضاء عليه.

 

ثالثاً: العَلمانية تاريخياً (بين البُعد عن العَلمانية، والاقتراب من تبنّيها)

  ليست العّلمانية، كمفهومٍ فكريّ، وليدة الأمس القريب، بل هي جزء من تاريخٍ فكريّ وفلسفيّ طويل، شهد صراعات بين المنطق والايمان، بين النزوع إلى العقل والارتماء في أحضان الميتافيزقيا. وقد امتدّ هذا التاريخ من عهد الفلسفة الاغريقية إلى عصر الفلسفة الأوروبية، مروراً بالفلسفة العربية، وصولاً إلى اعتماد النظام العّلماني دستورياً في العديد من دول العالم اليوم. فهل كانت الفلسفة في أصولها الأولى منتميةً إلى الدين وتالياً إلى الذاتية؟ أم أنها استخدمت العقل المجرّد والموضوعية الفكرية ركيزتيْن أساسيّتيْن لبناءٍ تفكّريّ بحثيّ سليم؟ للإجابة عن هذا التساؤل، سوف نعرض لأبرز الفلاسفة والمدارس والتيارات الفكرية التي اتّسمت مواقفها بثلاثة أبعاد رئيسة عبر التاريخ: فمن الانسياب الكامل في حنايا الدين، إلى الابتعاد الكلّي أو الجزئيّ عن الأجواء العابقة بالدين والايمان والأساطير والخرافات، إلى الميل الواضح، الجريء حيناً والمتردّد حيناً آخر نحو اعتماد العقلانية في الفلسفة كثابتةٍ مهّدت لاحقاً لفكرٍ عَلمانيّ متميّز. إذاً، سوف نلتقط خلال عرضنا التاريخيّ هذا الاشارات اللصيقة بالعقلانية، وتلك المنعتقة منها، تمهيداً لانبثاق الفكر العَلماني كما نعرفه اليوم. (إشارةً طبعاً إلى أننا سنبحث عن لمحاتٍ وومضاتٍ عَلمانية قبل استخدام المفهوم كما نعرفه وندرسه اليوم).

بدايةً، وقبل المرحلة السقراطية، برزت تيارات فكرية عدّة، فكانت المدرسة الأيونية، وهي المدرسة الفلسفية الاغريقية في القرن السادس ق.م. التي كان فلاسفتها أول من بحث عن تفسيرٍ عقلانيّ للعالم، والتي مثّلها كلّ من طاليس Thalès de Milet (نحو 624- 546 ق.م.)، عالِم الفلك والرياضيات والفيلسوف الذي اعتبر الماء أصل الأشياء جميعها، وكان أول من استخدم المنطق الاستنباطي وطبّقه على الهندسة، وتلميذه أناكسيمندر Anaximandre (نحو 611- 547 ق.م.) الذي رأى أنّ المادة الأساسية لكلّ الأشياء هي ما سمّاه “الأزل” أو “اللانهائي”، فقال إنّ البداية كانت كتلةً لانهائية وغير محدودة، غير خاضعةً للتقادم أو التلاشي، وقد حوَت عناصر أولية إشتقّ منها كلّ ما نراه الآن. وهو وضع هذه النظرية كردّ على نظرية أستاذه طاليس. ثمّ أناكسيمن Anaximène  (نحو 585-525 ق.م.)الذي اعتبر الهواء مبدأً لكلّ شيء. فكلّ ما في العالم ليس إلا هواءً بسيطاً أو مكثّفاً. فتميّز فكر العلماء الثلاثة بعدم الاكتراث للدين.

بعد ذلك، برز الفيثاغوريون، وعُرف فيثاغوراس Pythagore (نحو 585-نحو 495 ق.م.) كحكيم وفيلسوف وعالم رياضيات أطلق نظرية الأعداد، وآمن بالتقمّص، وأسّس مدرسةً فرضت قوعد صارمة على التلامذة في سبيل ارتقائهم نحو الحياة الفضلى عبر التقشّف والتزهّد. وهو يُعتبر بحقّ أحد باعثي الفكر الماورائي.

ثمّ كان علماء الفيزياء في القرن الخامس ق.م.، بدءاً بأمبيدوقليس Empédocle (نحو492-432 ق.م.) وكان شاعراً وفيلسوفاً وطبيباً ومهندساً، تأثّر فكره بالأورفية والفيثاغورية، ما جعله بعيداً عن الاتجاه العقلاني، وإن كان مؤسّس نظرية العناصر الأربعة الشهيرة: النار، والهواء، والماء، والتراب..  ثمّ أناكساغوراس Anaxagore (نحو 500-425 ق.م.) وكان فيلسوفاً وعالِم رياضيات، إرتبط فكره في شكلٍ مباشر بالموضوعية، لأنه كان عقلانياً رافضاً كلّ نزوع نحو الخرافات والأضاليل، ومشدّداً على أنّ العقل هو وحده القادر على تفسير الكون وتنظيمه وتسييره. وأمّا ليوكيبوس Leucippe (نحو 460-370 ق.م.) فاعتُبر مؤسّساً للنظرية الذرّية التي نقلها وطوّرها في ما بعد تلميذه ديمقريطس Démocrite (نحو460- نحو357 ق.م.) الفيلسوف الذي بنى نظرية الذرّية على المادية، متأثّراً بما درسه من علوم الرياضيات والهندسة والطبّ والنبات والكونيات..

ونذكر كذلك في عرضنا السياق التاريخيّ المتأرجح بين المنطق واللامنطق، هيراقليطس Héraclite (نحو 540-480 ق.م.) الذي اعتمد اللوغوس Logos كقانون عام يسيطر على كلّ شيء، وذلك من خلال فلسفته المجدولة على الصيرورة، وبارمنيدس Parménide  (نحو515-نحو450 ق.م.) الذي آمن بالعقلانية، وبأنّ العقل هو مصدر كلّ معرفة في العالم، وبأنّ الوجود ثابت وليس متغيّراً، بخلاف ما كان يقوله هيراقليطس،  وصولاً إلى السفسطائيين، وأبرزهم بروتاغوراس Protagoras (نحو490-نحو420 ق.م.) الذي بنى عقيدته على النسبوية والذاتانية معتبراً الانسان مقياساً لكلّ الأشياء، ولاقاه غورجياس Gorgias (480-375 ق.م.) إلى الخطّ نفسه.

وكان سقراط Socrate (470-399 ق.م.) يعتقد بحقائق مستقلّة عن المدركات الحسّية، ويعتبر أنّ “للعالم نظاماً ثابتاً شرّعه إله عاقلٌ حكيم يدبّر أمور العالم ويُعنى بشؤون الخلق”14، فهو لم يكن عَلمانياً، لكنّ “لاعَلمانيته لا تحطّ من قدْره أو تغضّ من شأنه في عيون الأجيال الفلسفية الطالعة”15 خصوصاً أنّ منهج الجدل والحوارالذي اعتمده، والمعطوف على تقنية توليد الأفكار، لاقى أهميةً كبرى في الفكر الغربي لاحقاً. وتأثّر أفلاطون Platon (428-347 ق.م.) بفيثاغوراس لا سيّما في ما يتعلّق بالزهد الصوفي وبالقواعد الصارمة التي فُرضت في مدرسته، ما جعله من الذين “لم يدافعوا عن علمنة الفكر” 16 حتى وإن كتب على باب أكاديميته: “من لم يكن مهندساً فلا يدخل علينا”. كما تأثّر كذلك بأستاذه سقراط الذي كان يشدّد على الرسالة المقدّسة للانسان خصوصاً على مستوى الأخلاق والفضائل، إلا أنّ أفلاطون تخطّاه إلى حدّ اعتبار الانعتاق من الجسد ومن عالم المحسوسات، والعودة إلى الحياة الالهية حيث الحقائق الخالدة التي لا تفسد، هدف حياة الانسان. أما أرسطو Aristote (384-322 ق.م.) فوصف الله “بالمحرّك الأول” و”بالعقل الذي يعقل ذاته” ، واعتبر مستحيلاً “فهم حركة الكون والانتقال المستمرّ من القوة إلى الفعل خارج نطاق المفهوم الالهي الذي يجذب من منطلق كماله المطلق كلّ العالم في شكلٍ لا يُقاوَم”17 . الفكر الأرسطوطاليسي ليس إذاً فكراً عَلمانياً، وإن هو اتّصف بالموضوعية الحازمة التي تروم معرفة الأشياء على حقيقتها.

أمّا الطلائع الحقيقية للعَلمانية فبدأت مع الأبيقورية L’Epicurisme والشكوكية Le Scepticisme . كانت الأبيقورية مذهباً فلسفياً أسّسه أبيقورس Epicure  (341-270 ق.م.)، وكان يقوم على فكرة إسعاد الذات بلذّة معنوية لا يعقبها ألم، فالسعادة لا تتحقّق إلا بتحرير الانسان من الخوف ومن الألم. الروح مادية تفنى بعد الموت. يجب إذاً التمتّع بالحياة، لكن بحكمة، بواسطة “تقنيةٍ توصل الحكيم إلى سكينة النفس وراحة الضمير”18 . الأبيقورية بهذا المعنى فكر عَلماني. وفي ما خصّ الشكوكية، فتُطلق عليها صفة الخمول الفكري. هي “لا تؤمن بالله ولا بغير الله. إنها بالتأكيد فكر عَلماني”19 . وأمّا الرواقية  Le Stoïcisme فهي مدرسة الشجاعة حيث يرى الرواقيّ السعادة في الفضيلة وعدم المبالاة بالألم. هي تؤمن بوجود الله وتؤكّد هذا الوجود،  وهي بخلاف الأبيقورية ترى الله في كلّ شيء : الله والطبيعة متوازيان وكذلك الله والعقل.. يمكن الاستنتاج إذاً أنً الرواقيين غير عَلمانيين، أو أنهم في موقعٍ وسطيّ بين العَلمانية والدين.

ونأتي إلى العصور الوسطى، حيث كانت الكنيسة هي المسيطرة، الأمر الذي جعل كلّ محاولةٍ لعلمنة الفلسفة غير واردة إطلاقاً.

وفي إطار الفلسفة الحديثة، نجد الفلاسفة بين من هو مناهض للعَلمانية وبين من هو مسلّم بها، أو في موقفٍ توفيقيّ بين الاثنين. فالفيلسوف الفرنسي ديكارت Descartes René ( 1596-1650) عارض فلسفة القرون الوسطى، رافضاً الاحتكام إلى أيّ سلطة خارج العقل. وقد حاول عبر الكوجيتو أن يضع أسساً لبدايةٍ جديدةٍ في الفلسفة، قائمة على العقلانية العلمية التجريدية بأسلوبٍ ماورائي: “أنا أشك، أنا أفكّر، إذاً أنا موجود” . أعطى ديكارت الأولوية للانسان وللذاتية، واتّخذ من وجود الله قاعدة وكان يحترم فروض الايمان. فكره إذاً “غير عَلماني” 20. مالبرانش Nicolas de Malbranche  (1638-1715) وسبينوزا Baruch de Spinoza (1632-1677) إتّخذا الموقف ذاته، فلم تؤثّر العَلمانية في نظرياتهما الفلسفية تأثيراً مباشراً: كان الأول يرى كلّ شيء في الله ويفسّر الوجود من خلاله، وآمن الثاني بمبدأ الحلولية Panthéisme وهو المذهب القائل إنّ الله والطبيعة شيء واحد، وكذلك لايبنتز Gottfried Wilhelm Leibniz (1646-1716) إعتقد بالانسجام المسبق L’harmonie préetablie بين الروح والجسد، فكان بعيداً عن التوجّه العَلماني.

لكن عندما نتحدّث عن الفلاسفة الانكليزهوبز Thomas Hobbes (1588-1679)، لوك John Locke (1632-1704)، وهيوم David Hume (1711-1776) (اسكتلندي)، المنتمين إلى المذهب التجريبيّ لباكون Francis Bacon (1561-1626)، فإننا نكون حتماً في جوّ عَلمانيّ صرف. لم يهتمّ هوبز بمسألة الله، وكان على الكنيسة في رأيه أن تخضع للدولة لأنّ الدين الحقيقيّ هو دين الحاكم، وهو أعطى في مؤلّفه الرئيسيّ “ليفياتان” Leviathan تبريرات عدّة لعَلمانية الدولة رافضاً فكرة الحقّ الالهي. وكان الفكر العّلماني في فلسفة لوك أكثر موضوعيةً واعتدالاً لأنه أقرّ بالعقل القادر على إثبات وجود الله ووجود العالم الخارجي، ووضعه في مرتبةٍ تفوق موضوعية الاحساس. أضف أنه كان ينتمي إلى البروتستانتية وكان من دعاة الفصل بين السلطتين الكنسية والمدنية ومنع رجال الدين من التدخّل في الشؤون السياسية. لكنه كان يطالب، من جهةٍ أخرى، بعدم الحدّ “من حرية الكنائس إلا من أجل أهدافٍ وطنيةٍ واجتماعية، أي في حال شكّلت هذه الحرية تهديداً للمصلحة العامة .”21 ورفض هيوم بدوره الميتافيزيقيا، داعياً إلى اعتبار التجربة الحسّية قاعدةً للمعرفة، وهو لم يعترف إلا بما هو محسوس وبتتابع الظواهر، ضمن إطار الفينومينولوجيا والتيّار التجريبيّ، إضافةّ إلى اعتباره المفاهيم الروحانية (الله، الروح، الأنا..) إستدلالاتٍ حدسيّة وتأكيدات إعتباطية للفلاسفة.

أمّا  الفيلسوف الألماني كنط Emmanuel Kant (1724-1804) فوالف بين الموضوعية والذاتية في إطارٍ عقلانيّ، وارتكز علم الأخلاق في فلسفته على العقل، لكنه احترم الله والدين، وبنى في كتابه “نقد العقل التجريبي” (Critique de la raison pratique) علم الماورائيات على علم الأخلاق، موضحاً المعاني الميتافيزيقية من خلال مسلّمات العقل التجريبيّ، ومعتبراً أنّ وحدها الارادة الصالحة يمكن أن تسمّى صالحة في ذاتها. من هذا المنظور، لم يندرج فكر كنط في إطار الاتجاه العّلماني. ونجد الدين في فكر الفيلسوف الألماني هيجل Georg Wilhelm Friedrich Hegel (1770-1831) مرحلة ضرورية لتحقيق ارتقاء العقل، الأمر الذي يجعل فلسفته على نقيض مع العّلمانية. أمّا في فلسفة  الفرنسي برغسون Henri Bergson (1859-1941)، فينبغي التمييز بين الذكاء والحدس. على المستوى الأول، يمكن اعتبار فلسفته “عَلمانية وموضوعية.. لأنها تخصّ الحاجات البيولوجية. أما على المستوى الثاني، فهي صوفيّة تأمّلية.. هي معرفة الأنا الخاصة التي تربطنا.. دينياً بجوهر الكائن وجوهر الله.”22 ,وإذا كان برغسون ميّز بين حالتيْن، فكونت أبدع في وصفه الحالات الثلاث المتتابعة في التفكير البشريّ: اللاهوتية، والميتافيزيقية، والوضعية. والقانون الذي يتّبعه هذا التطوّر هو ارتقاء من “الحالة اللاهوتية نحو العَلمانية التي تظهر كشرطٍ للموضوعية، إذا أقرّينا أنّ الوضعية عند كونت تعادل الموضوعية.”23 لكنه في الواقع لم يستطع التخلّي عن الشعور الدينيّ، ما يطرح التساؤلات حول عَلمانيته. بيد أنّ ما نراه في فلسفة ماركس يختلف اختلافاً واضحاً عمّن سبقه باعتباره المناصر الأول للعَلمانية وصاحب القول المعروف: “الدين أفيون الشعوب”. فقد شغلته الموضوعية وسعى إلى تحويلها من المستوى النظري إلى مستوى التطبيق العملي، فكانت مبادئه الأساسية “الموضوعية العملية الشاملة والعَلمانية المطلقة.”24 فويرباخ Ludwig Feuerbach (1804-1872)، الفيلسوف والأنتروبولوجي الألماني من جهته، إعتبر الانسان وليس الله محور الدين، وقال إنّ الايمان لا يكون بالله وعبادته بل بالطبيعة الانسانية في كمالها وعبادتها. فكره إذاً عَلمانيّ محض. أمّا فرويد Sigmund Freud (1856-1939) الطبيب النمساوي ومؤسّس علم التحليل النفسي، فردّ فكرة الله إلى حاجةٍ تتولّد في طفولة الفرد بحثاً عن شعورٍ بالحماية. وقاوم  الفيلسوف الألماني نيتشه Friedrich Nietzsche (1844-1900) نظرة المسيحية إلى الأخلاق، وقال إنّ الله مات، وإنّ على الانسان أن يسعى إلى الكمال ليصبح إلهاً، معبّراً عن فكرته هذه بالعبارة الآتية: “أريد أن أنضمّ إلى المبدعين، إلى أولئك الذين يحصدون ويرتاحون، فأُريهم قوس قزح والمراتب التي يرقاها الواصلون إلى الانسانية المتفوّقة.”25 واتّفق  الفيلسوف الفرنسي سارتر Jean-Paul Sartre (1905-1980) مع نيتشه في رأيه معتبراً، في إطار فلسفته الوجودية، أنّ الله غير موجود وأنّ الانسان حرّ وهو يقرّر جوهره عن طريق أفعاله واختياراته. كذلك رفض الفيلسوف والروائي الفرنسي كامو Albert Camus (1913-1960) الله رفضاً قاطعاً باسم الناس، لا بل باسم الوحدة الخلقية بين الناس الذين يعانون الألم والعذاب ويواجهون الموت، فكان بحقّ فيلسوف التمرّد والعبثية.

وقبل ذلك، وضمن الدراسات الانسانية، إكتشف دانتي Alighieri Dante (1265-1321) الشاعر الايطاليّ الكاثوليكيّ مصادر الحقيقة خارج إطار الدعوة المسيحية، وصوّر في قصيدته “الكوميديا الالهية” بعض البابوات في الجحيم وبعض الهراطقة، مبدياً إعجابه بالأبطال الوثنيين وبالثوّار في ثورتهم على الأنظمة السياسية والدينية والاجتماعية القائمة. وكذلك الشاعر الايطاليّ بترارك Francesco Petrarqua (1304-1374)، والذي كان في مقدّمة كبار الانسانيين في عصر النهضة، أظهر تعلّقاً بالأشياء الأرضية وعبّر عن الحبّ الجسديّ في قصائد الحبّ التي تشكّل مجموعة كانزونيير Canzonière . وتشارك معه في التوجّه ذاته حاكم فلورنسا آنذاك سالوتاتي Colochio Salotaty (1330-1404) الذي رأى أنّ الله وهب الانسان عقلاً كافياً لتصوّر مستلزمات الحياة الأرضية السعيدة، وإرادةً كافيةً للتمكّن من تحقيق تلك المستلزمات، “وفي ممارسة عقله وإرادته يكمّل الانسان عمل الله الخلّاق”26 واعتقد الكاتب والفيلسوف الايطاليّ بروني Léonardo Brony (1369-1444) بالحرية الانسانية، وأخذ النحّات والموسيقي الايطاليّ ألبرتي Léon Battista Alberti بنظرية الرواقية، ودعا مكيافللي Niccolo Machiavelli (1469-1527)، الكاتب والمنظّر السياسيّ الايطاليّ وصاحب كتاب “الأمير” إلى استقلال الحكّام الزمنيين عن السلطات الكنسية، مقدّماً صورةً مبكرة للنفعية وللواقعية السياسية، وشرح بودان Jean Bodin  (1530-1596)، الكاتب السياسيّ الفرنسيّ، الايجابيات التي يمكن التوصّل إليها من خلال تحقيق السلطة المطلقة للدولة. ويمكن الجزم بأنّ هذه الدراسات الانسانية مهّدت لأجواء الارتقاء نحو النظام العَلماني، وذلك بإعطائها الانسان الأولوية في التقدير والأهمية.

أضف إلى ذلك مصدراً آخر لنشوء العَلمانية في أوروبا، ألا وهو الاصلاح الدينيّ الذي بدأ مع  الفيلسوف الهولندي إرازموس  Desiderius Erasmus Roterodamus (1469-1536)، وأكمل حتى الفيلسوف والناقد الفرنسي بايل Pierre Bayle (1647-1706)، وعرف أوْجه مع المؤلّف والعالِم الانكليزي مور Thomas More (1478-1535)، صاحب كتاب “الأوطوبيا”، ومع الكاتب الفرنسي رابليه François Rabelais (نحو 1494-1553) الناقد اللاذع للخرافات والتعصّبات في عصره، وكذلك مع اللاهوتيّ والمصلح البروتستانتي الألماني لوثر Martin Luther (1483-1546)، ومع الكاتب الفرنسيّ مونتين Michel de Montaigne (1533-1592)، ومع الشاعر الانكليزي ملتن John Milton (1608-1674).

وإلى جانب الاصلاح الدينيّ، كان للثورة العلمية أثرها في إحداث انتفاضةٍ عَلمانيةٍ عقلانية في الفكر الأوروبي عموماً. ففي حين كان الاعتقاد السائد أنّ الأرض هي محور العالم، برهن عالِم الفلك البولوني كوبرنيكوس Nicolas Copernic (1473-1543) أنّ الأرض تدور في الوقت ذاته حول نفسها وحول الشمس، مطلقاً بذلك النظرية الهيليوسنترية. ودافع الفيزيائي وعالِم الفلك الايطالي غاليليه Galileo Galilei  Galilée (1564-1642) بقوّة عن نظرية كوبرنيكوس بالارتكاز إلى أسس فيزيائية، وعمد عالِم الفلك الألماني كبلر Johannes Kepler (1571-1630) إلى برهنة نظرية مركزية الشمس عن طريق عملياتٍ حسابيةٍ رياضية. كما استحدث نيوتن Sir Isaac Newton (1642-1727) نظرية الجاذبية. ولا شكّ في أنّ هذه الأفكار العلمية الثورية أحدثت نوعاً من الارتداد إلى موضوعية العقل الانساني، بعيداً عن تأثيرات الدين، الأمر الذي مهّد السبيل إلى إطلاق نزعةٍ عَلمانيةٍ منعتقة من ذيول الحقائق اللاهوتية المتعلّقة بالكون والتي نُقضت بعد سنواتٍ طويلة.

إلى ذلك، أراد الكاتب الفرنسيّ فولتير François Voltaire (1694-1778) تحرير العقل الانساني من الأثر الكنسيّ، وذهب الفيلسوف الفرنسي-الألماني دولباك Paul-Henri Thiry baron d’Holbach(1723-1789) إلى حدّ اعتبار الدين تخديراً للبشر بهدف كسر قدرتهم على مناهضة مساوئ الحكّام ومظالمهم، وأبدى الفيلسوف والناقد الألماني ليسينغ Gotthold Ephraim Lessing اعتقاده بزمنٍ سوف يصبح فيه الله بلا نفع، مشكّكاً بقدرة الكتابات التاريخية على إثبات الحقائق الميتافيزيقية.

وتجدر الاشارة إلى أنّ هذا التمرّد الفكريّ الثوريّ إقترن بحدثيْن: الأول هو بروز الاتجاهات القومية بالتزامن مع تقدّم الصناعة والتجارة في المجتمعات الأوروبية، والثاني هو ظهور اكتشافات عالِم الطبيعة البريطاني داروين Charles-Robert Darwin (1809-1882) حول التطوّر في حقل علوم الأحياء.

أمّا على مستوى الواقع الفعليّ، فقد نشأت فكرة العَلمانية من خلال صراع الكاثوليك والبروتستانت من جهة، وصراع ملوك أوروبا والكرسيّ البابوي من جهةٍ ثانية، وذلك منذ القرن السادس عشر. وبرزت الغاليكانية Le Gallicanisme حركةً دينيةً نادت بفصل الروحانيات عن الزمنيات، ووحّدت أسس هذا المبدأ الفاصل في عهد الملك الفرنسي لويس الرابع عشر Louis XIV (1638-1715). وبدأت الثورة الفرنسية العام 1789، فوضع الدستور المدني للاكليروس، وكرّس إعلان “حقوق الانسان” القطيعة بين الدولة الفرنسية والاكليروس. وفي “منشور الله الأزلي” Encyclique Immortale Dei ، أعلن البابا لاوون الثالث عشر(1810-1903)، وللمرّة الأولى، الفصل “بين السلطتيْن الدينية والمدنية واستقلالهما، كلّ في حقل نشاطها وصلاحيّاتها..”27 وبموجب دستور العام 1946، أصبحت فرنسا “جمهورية عَلمانية، ديمقراطية واجتماعية”، وكذلك كان الأمر في دستور العام 1958.

هذا البعد عن الدين، مقترناً بمفهوم العَلمانية، لم يقتصر على أوروبا فقط، بل نجد جذوراً للعقلانية المؤدّية إلى نوعٍ من العَلمانية في تاريخ الفلسفة العربية. فحكماء العرب عملوا بمقتضى العقل ودعا الاسلام إلى النظر العقلي، ولم ينهِ عن اتّباع الحكمة، كما حثّ القرآن الكريم المسلمين على طلب العلم. واختلفت الآراء المتعلّقة بالدين والعقل، وتفاوتت مواقف المفكّرين إزاء هذه الاشكالية، فاحتلّ العقل في فكرالشاعر والفيلسوف العربيّ أبي العلاء المعرّي (363-449) مرتبة الامامة والنبوءة، فقال:

“أيّها الغرّ إن خُصصت بعقلٍ      فاسألنه فكلّ عقلٍ نبيّ”28

وارتكزت المواقف الفكرية لدى المعتزلة على المفاهيم العقلانية الوسطية، لا سيّما في ما يتعلّق بأمور الدين، فقالوا “بالمنزلة بين المنزلتيْن”29  واعتمد أصحابها على المنطق والقياس في مناقشة القضايا الكلامية. واتُهم المفكّر الفارسيّ عبد الله إبن المقفّع (724-759) بالزندقة بسبب موقفه الحائر بين الايمان واللاايمان، لكنّ أعداءه عجزوا عن إثبات زندقته. واعتبر الفيلسوف العربيّ أبو بكر محمد الرازي (864-923) أنّ الله وهب الانسان عقلاً ليسهّل عليه حياته، كما رأى إبن النحوي (1041-1119) أنّ المنطق هو الذي يقود الانسان إلى التمييز بين الحقّ والباطل، والخير والشرّ، والشكّ واليقين.

وفي حين غرق المتصوّفون المسلمون في شطحاتهم الصوفية (رابعة العدوية (713-801)، أبو يزيد البسطامي (804-874)، وأبو منصور الحلّاج (858-922)، ومحيي الدين إبن عربي (1165-1240)، وعمر إبن الفارض (1181-1235) )، برز في المقابل فلاسفة عقلانيون إعتمدوا الحجّة والبرهان والمنطق أُسساً لفلسفتهم. فاعتبر أبو الفتح محمد الشهرستاني (1086-1153) أنّ الفلسفة تعتمد على “الفطر السليمة والعقل الكامل والذهن الصافي”30 وأولى أبو علي الحسين إبن سينا (980-1037) أهميةً كبرى حتى اعتبر إلهه بعيداً “عن الحياة والحركة والرحمة والمحبة وغيرها من الصفات الي نجدها في الأديان.”31 إضافةً إلى عبد الرحمن بن محمد بن خلدون (1332-1406) العالِم  افي الفلسفة والاجتماع والاقتصاد والعمران  والتاريخ، الذي اتّبع أسلوباً في تحليل العوامل الطبيعية والاقتصادية والعصبية التي تكوّن المجتمعات، جعله أقرب المفكّرين العرب إلى مفهوم العّلمانية الحديثة.

هذه النظرة السريعة في الواقع العقلاني للفلسفة العربية تؤكّد لنا أنّ للعّلمانية جذورها الأصيلة في كتابات فلاسفة العرب. لكنّ عصر الانحطاط حيث شهد العقل تراجعاً خطيراً، إضافةً إلى إثارة البعض النعرات الطائفية منذ ذلك العصر وحتى يومنا الحاضر.. كلّ ذلك أدّى إلى التباس حول بعض الأصول الأولى للعَلمانية. وإذا كنا عرضنا لتاريخ العّلمانية في الفكر الاغريقي والأوروبي والعربي، فلأنّ في قدرتنا أن نجعل من ذلك التاريخ قاعدةً لتفكيرنا المستقبلي في الشأن العَلماني، وأن نحاول الإفادة من غنى تلك العصور في مجالات بحوثنا الفكرية وتطبيقاتها العملية.

خاتمة

تستقطب قضية العَلمانية إهتماماً واسعاً في العالم العربيّ اليوم، أولاً بسبب التناقضات التي تطبع مواقف الشعوب حيالها، وتالياً  بسبب مواقف النخبة المثقّفة ذات الاتجاه العلميّ الواضح لجهة تبنّي المفهوم والدفاع عنه، لا سيّما أنّ عالمنا العربيّ منقسمٌ حالياً بين دولٍ مثقلة بنار الحروب العبثية التي لا بدّ أن يصل الحكّام فيها إلى اتفاقياتٍ إقليميةٍ ودولية على حساب أرواح الأبرياء للأسف، وبين دولٍ أخرى تحاول أن تبني لذاتها أنظمةً إجتماعيةً واقتصاديةً مجدولة على العلمية والتطوّر، ورافضة الانغماس في نزاعاتٍ وصداماتٍ قد تهدّد بضرب ما حقّقته ولا تزال من تقدّم.

وفيما نحن نحاول البحث لغوياً وفكرياً وتاريخياً عن منابع الفكر العَلماني وأصوله ومستقبله، كمحاولة حلّ، وإن نظرية،، للخروج من الأزمات المتلاحقة في محيطنا العربي، نشهد اليوم تدميراً مجانياً لهذا المحيط واستهتاراً متعمّداً للشعوب العربية المفتوحة مصائرها على المجهول.

في اعتماد العَلمانية غلبة للعلم على الجهل، للعدالة على اللاعدالة، وليس للقوة على الضعف. هذه هي الرسالة التي نأمل أن تكون دراستنا قد نجحت في إيصالها إلى الفكر العربيّ على وجه العموم، مع الاشارة أخيراً إلى أنّ كثراً من المفكّرين العَلمانيين أغنوا الفكر العربيّ المعاصر، وسيكون لنا مبحث آخر في دراسات أو مقالات أخرى في هذا المجال.

 

مراجع البحث:

  • المعلّم بطرس البستاني، محيط المحيط، قاموس مطوّل للغة العربية، مكتبة لبنان، بيروت، 1987، ص. 301.
  • مجلّة “آفاق” ، عن العلمنة، الشيخ عبد الله العلايلي، كلمة علمنة: “تحديد لغوي ورأي في أصل الكلمة ومدلولها”، عدد خاص، بيروت، 1978، ص. 1.
  • Fernand Keller, Jean Batany, Encyclopédie du bon français dans l’usage contemporain,Tome 6, p.1435.
  • Ibidem
  • Alexandre Faivre, Les laïcs aux origines de l’église, Du Centurion, Paris, 1977, p.7.
  • Paul Robert, Dictionnaire alphabétique et analogique de la langue française, Ed. Société du nouveau littré, Tome 4, 1959, p.177.
  • Bassam El Hachem, Introduction à l’étude de la religion et de la sécularisation, Pub. De l’U.L., Section des études philosophiques et sociales, XIV, Librairie orientale, Beyrouth, Liban, 1984, p.478.
  • Ibid, p.479
  • ناصيف نصّار، نحو مجتمع جديد، مقدّمات أساسية في نقد المجتمع الطائفي، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الرابعة، بيروت، 1981، ص.185.
  • مجلّة “آفاق”، المطران غريغوار حدّاد، “العلمنة إستراتيجية أم تكتيك؟”، ص.75
  • المرجع ذاته، ص.77.
  • جوزيف مغيزل، العروبة والعَلمانية، دار النهار للنشر، بيروت، 1980، ص.22.
  • Bertrand Russel, Science et Religion, traduit de l’anglais par Philippe-Roger Mantoux, Coll. Idées, Ed. Gallimard, France, 1971, p.7.
  • جميل صليبا، تاريخ الفلسفة العربية، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، 1981، ص.37.
  • Réflexions sur la laïcité, P.Etienne Sacre, Laïcité et objectivité, p.20.
  • Ibid, p.21.
  • Ibid, p.22.
  • Ibid, p.23.
  • Ibid, p.24.
  • Ibid, p.26.
  • أديب صعب، الدين والمجتمع، رؤية مستقبلية، دار النهار للنشر، بيروت، 1983، ص. 102.
  • Réflexions sur la laïcité, op.cit, p.30.
  • Ibid, p.31.
  • فريدريك نيتشه، هكذا تكلّم زرادشت، ترجمة فليكس فارس، المكتبة الثقافية، بيروت، لبنان، ص.45.
  • أديب صعب، الدين والمجتمع، مرجع مذكور، ص.94.
  • جوزيف مغيزل، العروبة والعَلمانية، مرجع مذكور، ص.14.
  • جميل صليبا، تاريخ الفلسفة العربية، مرجع مذكور، ص.303.
  • أحمد أمين، فجر الاسلام، دار الكتاب العربي، الطبعة العاشرة، بيروت، 1969، ص.393.
  • الشهرستاني، الملل والنحل، الجزء الثاني، القاهرة، 1961، ص.3.
  • جميل صليبا، من أفلاطون إلى إبن سينا، دار الأندلس، بيروت، 1951، ص.100-101.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete