تكوين

منذ ما عرف بصدمة الحداثة مع حملة نابليون على مصر شرع العرب والمسلمون في “تفكير الغرب” لتبني الموقف الملائم منه، وقد تباينت المواقف وتأرجحت في البداية بين الرفض والذم، فظهرت صور نمطية سلبية عن الغرب كالقول بالغرب الإلحادي الذي يمثل “جاهلية القرن العشرين” في نظر محمد قطب(1919-2014) والعدو المطلق في نظر المودودي(1903-1979) أو غير الأخلاقي أو الإمبريالي..الخ، كما ظهرت، في المقابل، صور نمطية أخرى عبرت عن نظرة مناقضة تماما للنظرة السابقة مشكلة نوعا من الإعجاب المطلق بالغرب، كقول سلامة موسى(1887-1958) في أحد نصوصه: “أنا كافر بالشرق مؤمن بالغرب”، وبصورة تدريجية بدأت المواقف تتزحزح نحو تبني نظرة توفيقية أو “تلفيقية” ترتكز على محاولة المواءمة بين معطيات الشرق ومعطيات الغرب، فالغرب ليس كله شر، بل يمكن الاستفادة مما لديه في سبيل تحقيق التمدن والتقدم لاسيما ما تعلق بالأمور المادية وبعض النظم الإدارية والسياسية.

صورة الغرب لدى المسلمين

وقد انتشرت هذه النظرة غير العدائية للغرب منذ منتصف القرن العشرين، وبداية استقلال البلدان العربية، متجلية بصورة واضحة لدى المفكرين العرب ممن يدعون بــــ “أصحاب المشاريع الفكرية” الذين تبنوا مختلف المناهج الغربية(الوضعية، الشخصانية، البنيوية، التأويلية، الظواهرية..) وحاولوا تطبيقها في إعادة قراءة التراث العربي الإسلامي، من منطلق أن المنهج أساس الفهم الصحيح، ولأن الغرب تطوروا بناء على تطبيق هذه المناهج على تراثهم، فنحن أيضا يمكننا إدراك هذا التقدم بتطبيق تلك المناهج، وقد كان الكثير منهم على وعي بانعكاسات هذه الممارسة والممانعة التي ستجدها لدى الأطراف الأخرى التي لازالت تشيطن الغرب وتعتبره شرا مطلقا، لذلك نقرأ لدى أحد هؤلاء المفكرين عبارة “علينا محاربة الغرب الإمبريالي بالغرب الإنساني أو الحضاري”، وهذا يتضمن إقرارا بأن الغرب ليس واحدا، وليس كله شر، بل فيه الداء والدواء.

ثم تطور هذا الموقف باتجاه البحث عن صورة دقيقة للغرب حين أعلن حسن حنفي (1935-2021) منذ سنوات دعوته لتأسيس لــــ “علم الاستغراب” كمقابل للاستشراق، ونشر كتابا ضخما سماه “مقدمة في علم الاستغراب” عام 1990 ثم أعاد نشر ملخص عن مضمونه بعد سنوات تحت مسمى: “ماذا يعني علم الاستغراب”؟ ولكن هذه الدعوة لم تجد صدى كبيرا، وكأن موضوع صورة الغرب لدى المسلمين لم يعد موضوعا إشكاليا، حيث تمترس كل طرف خلف تصوره الذي لا يحيد عنه.

العدوان على غزة

غير أن الملاحظ هذه الأيام بعد العدوان الصهيوني على قطاع غزة وعملية طوفان الأقصى التي سبقته، أن هناك حراكا فكريا كبيرا  ونقاشات مهمة تفرض ضرورة أعادة طرح إشكالية صورة الغرب لدى المسلمين، وبالتالي موقفهم منه، خصوصا بعد صدور “بيان التضامن” الذي وقعه أحد أكبر الفلاسفة في زماننا ألا وهو الفيلسوف الألماني يورغين هابرماس( 1929-   ) الذي يعتبر في الأوساط العالمية بما فيها العربية إلى وقت قريب جدا أحد المدافعين عن تركة التنوير والعقل التواصلي والعدو اللدود لليمين المتطرف في أوروبا..الخ، وحمل البيان توقيع مجموعة من المفكرين الأخرين رفقة هابرماس، وهو بيان “خطير جدا”، وقد وصفه أحد النقد قائلا: ” لا أجد في مواقف هابرماس تجاه الكيان رائحة عقلانية ولا ديمقراطية ولا تواصلية”، وهذا بالنظر لانحيازه المطلق إلى الطرف الإسرائيلي، حيث اعتبر موقعوه أن العمليات العسكرية الإسرائيلية على غزة ليست أكثر من دفاع عن النفس وهو ما تكفله القوانين والأعراف الدولية، مع أن كل أحرار العالم اعتبروا هذه العمليات إبادة جماعية لشعب محاصر ومضطهد منذ عشرات السنين.

ضمن النقاش الدائر حاليا حول الغرب من المهم الإشارة إلى نصين مهمين جدا نشرهما أستاذين عربيين وتم تداولهما بصورة كبيرة عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، النص الأول لأستاذ فلسفة مغربي كتب يقول: “أصبحت أخجل من طلابي الذين درستهم عبر عقود فلسفة الأنوار وما لحقها من فلسفات غربية حديثة ومعاصرة تمجد مفاهيم الحق، العقلانية، الإنسانية، القيم، الأخلاق، التقدم، العدالة، الإنصاف، حقوق الإنسان، الحرية، النقد..أعتذر منكم طلابي الأعزاء، لأني كنت مشاركا في خداعكم، الغرب هو أكبر أكذوبة عرفها التاريخ”، بينما كتب أستاذ قانون في لبنان تغريدة يقول فيها:” اعتذر من طلابي في الجامعة اللبنانية لأني كنت متشددا في تدريس مقررات القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني ومنظمة الأمم المتحدة..فبعد الجرائم الصهيونية في غزة لم يعد هناك حاجة لتدريس هذه المقررات، حقا منطق القوة هو سيد العالم”.

إقرأ أيضاً: الصوفيّ والفيلسوف في الفكر والحياة

إن موقف هابرماس ومضمون هذين النصين يفرض علينا إعادة تفكير الغرب وإعادة مفهمته، بإعادة قراءة التاريخ الأوروبي للكشف عن الجانب المخفي وغير المروج له من هذا التاريخ، وهذا بطرح العديد من الإشكاليات المتعلقة بالفكر الغربي، على رأسها: هل الغرب واحد أم متعدد؟ وهل هناك فعلا خط فاصل بين الغرب الإمبريالي والغرب الحضاري أو الفكري يسمح لنا بالتمييز يبنهما كما ذهب إلى ذلك الكثير من المفكرين العرب المعاصرين؟ ثم ما العلاقة بين الفكر الغربي الذي رفع منذ أزيد من قرنين شعارات التنوير والعقلانية والحرية والديمقراطية والحقوق، والفكر الغربي الراهن الذي يبارك إبادة الشعوب ويعتبر ذلك “دفاعا عن النفس”؟ ألا يبعث موقف هابرماس ومن سار في فلكه الريبة والشك في موقفنا من الفكر الغربي عموما؟ ثم ألا يشكل الغرب بالممارسات الحالية خطرا على البشرية إذ يستبيح إبادة شعب أعزل محاصر من كل الجهات، وقبل ذلك كان هذا الفكر الغربي قد سكت عن ممارسات كثيرة شبيهة كـ”مأساة الروهينجا”؟ ثم ما الجدوى من المنظمات الدولية والقانون الدولي إذا كانت لا تستطيع فعل أي شيء إزاء الإبادة الجماعية التي يتعرض عليها الفلسطينيون وغيرهم من المستضعفين؟ باختصار ألا يجب أن نخاف من الغرب وفكره وممارساته؟

لا أحد ينكر أن الفكر الغربي منذ الأزمنة الحديثة نظر عبر الكثير من فلاسفته ومفكريه لحزمة من المفاهيم الراقية والتي غيرت مختلف أوجه الحياة السياسية والاجتماعية وداعية إلى إعادة الاعتبار للإنسان وللقيم السامية، فالتنوير والنقد والحرية والعقلانية والديمقراطية والمجتمع المدني والإرادة العامة وغيرها من المفاهيم هي وليدة الحداثة الغربية دون شك، واستفادت منها المجتمعات الغربية بصورة جلية، كما وصل شيء من صداها وبعض مزاياها للمجتمعات الأخرى بصور متفاوتة، ولكن، هل كان الفكر الغربي ينظر للإنسان الغربي فقط أم للإنسان في أي مكان؟ هنا تكمن الإشكالية، هل كان حديث كانط (1724-1804) عن الكائن البشري والواجب الأخلاقي المنزه من كل غاية موجه لجميع البشر أم أنه مقتصر في العمق على الإنسان الغربي دون سواه؟ هل كان حديث جون جاك روسو (1712-1778) عن الإرادة العامة لكل الشعوب أم للشعوب الغربية فقط؟ نفس الإشكالية تطرح حول حديث جون لوك(1632-1704) عن التسامح وفولتير (1694-1778) عن الحرية، وصولا إلى العقل التواصلي الذي نظر له هابرماس، مع أن المختصين في فكره يجمعون أنه لم يسع يوما إلى اكتشاف الثقافات الأخرى أو التواصل معها، وبقي عاجزا عن التفكير خارج مقاييس المركزية الغربية، بما يعني أن دعوته للتواصل  ليست أكثر من تواصل الغرب مع ذاته.

تاريخ الفكر العربي

والقراءة العميقة لتاريخ الفكر الغربي تؤيد فكرة تمركزه حول ذاته، بمعنى أنه كان ينظر للإنسان الغربي الذي يمثل مركز العالم، دون أي اهتمام للإنسان الآخر، إنسان الهوامش في باقي المناطق من العالم، فالغرب افترض – ثم كرس- لنفسه كما يقول روجيه غارودي(1913-2012): “بداية مطلقة(ليس قبله شيء) فهو نبتة معزولة ووحيدة كنوع من المعجزة التاريخية” (الإرهاب الغربي، ج1، ص 50)، ذلك أن الرؤية الغربية نصبت اليونان أسياد العالم القديم وأوروبا ورثت تلك السيادة والمركزية في العالم الحديث والمعاصر، حتى الوساطة التي مارستها الحضارة الإسلامية في نقل التراث اليوناني إلى أوروبا لم يعترف بها كما يجب، بل حاول جل المؤرخين تقزيمها أو نفيها، معتبرين أن مصادر الفكر الغربي الحديث هما مصدرين رئيسين: الثقافة الإغريقية-اللاتينية من جهة و الديانة اليهودية-المسيحية من جهة ثانية.

وهكذا جاءت النزعة الاستعمارية مرافقة للتنوير وترجمة لهذه المركزية الغربية في أرض الواقع وامتدادا لهذه السيادة على كل مناطق العالم، وهو ما شكل تناقضا صارخا بين مبادئ التنوير والحرية والحقوق من جهة والعنصرية والاعتداء على الآخر والسيطرة على خيراته وسيادته من جهة ثانية، وازدادت خطورة هذه النزعة بعد ميلاد الحركة الصهيونية من رحم هذه المركزية وزرعها في الشرق الأوسط كامتداد غير طبيعي لها هناك بما يفرض دعمها المستمر وفي كل الحالات حتى تحافظ على بقائها، حتى أن تلك الشعارات الراقية تم استغلالها للاعتداء على الآخر تحت ذريعة نشر التمدن(كما حدث مع الاستعمار الفرنسي لشمال إفريقيا) أو القضاء على الإرهاب ونشر الديمقراطية وحماية الأقليات كما يحدث في الراهن، ففلاسفة من أمثال هيجل(1770-1831) وألكسيس دو توكفيل(1805-1859) وحتى ماركس (1818-1883) وإنجلز(1820-1895) كلهم باركوا استعمار فرنسا للجزائر ولم يعترضوا عليه بل اعتبروه نقلا للحضارة والتمدن، نفس الشيء نراه في راهننا من خلال مباركة للاستيطان والاعتداء على الشعوب تحت شعار القضاء على الإرهاب ونشر الديمقراطية وحماية الأقليات ..الخ، مع أن الهدف الحقيقي هو تعزيز المركزية الغربية وتفكيك الدول الضعيفة وسلبها خيراتها.

قد يقول قائل بأنه في كل الأزمنة وجد مفكرون أحرار دافعوا عن حقوق الشعوب في الحرية والسيادة وما إلى ذلك، وهو أمر حاصل فعلا، ولكن، هل كان لهذه الأصوات صدى بارز في رسم السياسات الغربية وتعديل مخططاتها التوسعية؟ وهل تلتفت الإدارة الأمريكية مثلا لما يقوله الفيلسوف الكبير نعوم تشومسكي (1928-  )؟ وقبل ذلك هل استمعت الإدارة الفرنسية لصرخة جان بول سارتر (1905-1980) أبان الثورة الجزائرية حين كتب “عارنا في الجزائر”؟ الأكيد أن هذه الأصوات يحتفظ بها التاريخ دون أن يلتفت لها الساسة ولا أن يكون لها دور كبير في تغيير مجرى الأحداث، وهو ما يجعلنا نصل إلى حكم قاس نوعا ما وهو أن الغرب متعدد في ذاته واحد ضد غيره، خصوصا حينما يتعلق الأمر بأمن إسرائيل، الغرب يمارس الديمقراطية ويضمن الحريات ويسمح بالرأي الآخر ويوفر مختلف الحقوق لمواطنيه، غير أنه مستعد لنسف كل تلك القيم الراقية وكل القوانين والأعراف والمنظمات الدولية والتضييق على الأصوات المعارضة، حين يتعلق الأمر بمصالحه خارج بلدانه، حيث لا منطق إلا القوة وإرادة الهيمنة.

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete