ليست مشكلة في الاختلاف الفكريّ بحد ذاته؛ بل على العكس يطور الأفكار، مهما كان التعارض، حتَّى وإن كان إلى حدّ الصّدام، على أنّ يبقى بالأفكار فقط، مِن دون الانفعال إلى درجة سفك الدّماء، وهذا ذروة التّعصب، ما ليس مِن الثّقافة ولا فكِر ولا العِلم، وهو ما ألتفت إليه وعبر عنه بإختصار الفقيه المعتدل سفيان بن مسروق الثّوريّ(تـ: 161هـ)، في عبارة مشهورة، تختصر قرون مِن التشدد، السّافر عن الدِّماء. قال: “إنما العِلم عندنا الرّخصة مِن ثقةٍ، فأما التّشدد فيُحسنه كلُّ أحد”([1]).
غير أنّ المشكلة بتحول هذا الاختلاف إلى الدّين؛ ويبررر بالدفاع عن الله، وهنا لا يتوقف الأمر عند اختلاف الأفكار، وتبادل الرّدود بالقلم والقرطاس، إنما يُصار إلى التّكفير والتّفسيق، وبالتالي تُكر الأقلام وتُشهر السّيوف، وهنا تصبح الفلسفة مقابل الدّين، ويؤخذ الأدب والعِلم أعداء الدّين، فيُكفر الفيلسوف، وتُحرم هذه الرواية أو تلك، ويُسقط الشّاعر، وتُقام حملات مسعودة، أسفرت عن مقاتل لا تُعد ولا تُحصى.
كان أبو حامد محمد بن محمَّد الغزالي (ت 505هـ)، مٍن أبرز الذين تصدوا ضد الفلسفة والفكر الفلسفي والعِلم بشكل عام، حتى يمكن اعتباره عدو الفلسفة والمتفلسفين، ويكفيه في ذلك كتابه «تهافت الفلاسفة»، الذّي رد عليه أبو الوليد محمد بن أحمد المعروف بابن رشد (ت 595هـ)، بعد حين، بكتاب «تهافت التَّهافت»([2]). غير أن الغزالي، الذي قيل مات بمرض الغنط(الاكتئاب)، عن عمر ناهز الرَّابعة والخمسين قد مال إلى الغلو ضد الفلاسفة، ونعتقد أن الأمر له علاقة بوجود النِّزاع بين الدولتين العباسية والفاطمية، وعلى هذا الاساس صنف كتابه “فضائح الباطنية” أو المستظهري”، بطلب مِن الخليفة المستظهر بالله العباسي(ت 512هـ)، مثلما أن تشدد ابن تيمية لابد أن له صلة بالنزاع الإسلامي المغولي.
تجد الغزالي قد حط من قدر الفلاسفة المسلمين كافة، مثل قوله بعد أن يذكر فلاسفة اليونان بالأسماء: “إلا أنه استبقى أيضاً مِن رذائل كفرهم وبدعتهم بقايا، لم يوفق للنزع منها، فوجب تكفيرهم، وتكفير متبعيهم مِن المتفلسفة الإسلاميين، كابن سينا والفارابي وغيرهما. على أنه لم يقم بنقل عِلم أرسطاطاليس أحد مِن متفلسفة الإسلاميين كقيام هذين الرّجلين، وما نقله غيرهما ليس يخلو من تخبيط وتخليط يتشوش فيه قلب المُطالع حتى لا يفهم”([3]).
أكد الغزالي أنه قرأ كتب المتكلّمين، وبعدها أخذ يقرأ كتب الفلاسفة، في أوقات متفاوتة ليقول: “فاطلعني الله سبحانه وتعالى بمجرد المطالعة في هذه الأوقات المختلسة؛ على منتهى علومهم في أقل مِن سنتين، ثم لم أزل أواظب على التَّفكر فيه، بعد فهمه قريباً مِن سنة، أعاوده وأردده وأتفقد غوائله وأغواره، حتى اطلعت على ما فيه مِن خداع وتلبيس، وتحقيق وتخيل، اطلاعاً لم أشك فيه”([4]).
وبعد اطلاعه على كتب الفلاسفة، حسب كلامه المدرج أعلاه، صنف الغزالي كتابيه: “تهافت الفلاسفة”، و”مقاصد الفلاسفة”. جاء في كتابه “تهافت الفلاسفة” الآتي: “فلما رأيت هذا العِرق مِن الحماقة نابضاً على هؤلاء الأغبياء، انتدبتُ لتحرير هذا الكتاب رداً على الفلاسفة القدماء، مبيناً تهافت عقيدتهم، وتناقض كلمتهم في ما يتعلّق بالإلهيات، وكاشفاً مِن غوائل مذهبهم وعوراته، التَّي هي على التَّحقيق مضاحك العُقلاء وعِبرة عند الأذكياء، أعني ما اختصوا به عن الجماهير والدّهماء مِن فنون العقائد والآراء …”([5]).
هذا، ويبدو أن فترة السَّنة وعدة شهور، التَّي قرأ فيها الغزالي كتب الفلاسفة، وما كتب عنهم في تهافته ومقاصده جعل الآخرين يقولون أصابته عدوى الفسلفة، فقال عنه هذا القاضي والفقيه ابن العربي (ت 543هـ)، رواه الذَّهبي شمس الدِّين محمد بن أحمد الذَّهبي(ت 548هـ)، ورواه شيخ الإسلام أحمد بن تيمية(ت 728هـ): “شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر”([6]). فهو مِن خلال محاورته لمقالات الفلاسفة يمكن عده بالفيلسوف، فاعراضاته تسجل على أنها أفكار فلسفية، وهذا ليس موضوعنا!
لم تفت الغزالي جماعة إخوان الصّفا وخِلان الوفا، لكنه لا يعبر عنها بالجماعة إنما بكتاب ويجعل له مؤلف من دون تحديد اسم له، مثل قوله وهو يتحدث عن اقتباسات رسائل إخوان الصّفا من القرآن والسُّنة، مُذَكراً ألا تهجر هذه الاستشهادات المقدسة والمأثورة لأنها وردت في مثل هذا الكتاب: «فلو فتحنا هذا الباب، وتطرقنا إلى أن نهجر كل حق سبق إليه خاطر مبطل، للزمنا أن نهجر كثيراً من الحق، ولزمنا أن نهجر جملة آيات من آيات القرآن، وأخبار الرّسول وحكايات السّلف، وكلمات الحكماء والصّوفية لأن صاحب كتاب إخوان الصّفا، أوردها في كتابه مستشهداً بها، ومستدرجاً قلوب الحمقى بواسطتها إلى باطله، ويتداعى ذلك إلى أن يستخرج المبطلون الحق من أيدينا بإيداعه إياه في كتبهم»([7]). قال أبو حامد الغزالي هذا مع أن إخوان الصَّفا أرادوا لِما صنفوا أن يبقى بعيداً عن الغوغاء والحمقى، لكن الحمقى الذين قصدهم هم الفلاسفة والمفكرين، فأي أحمق له الجلد في قراءة الرَّسائل؟
كذلك يقول محذراً من قراءة كتاب “إخوان الصّفا” والكتب المماثلة فهي آفة القبول: «إن مَن نظر في كتبهم كإخوان الصّفا وغيره، فرأى ما مزجوه بكلامهم من الحكم النّبوية والكلمات الصّوفية، ربما استحسنها وقبلها، وحسن اعتقاده فيها، فيسارع إلى قبول باطلهم الممزوج به لحسن ظن حصل فيما رآه واستحسنه، وذلك نوع استدراج الباطل»([8]).
أخيراً يذكر الغزالي، عند هجومه على فلسفة، الفياسوف فيثاغورس قائلاً: «بل استدرك كلامهم واسترذله، وهو المحكى في كتاب إخوان الصّفا، وهو على التَّحقيق حشو الفلسفة، فالعجب ممن يتعب طول العمر في طلب العلم ثم يقنع بمثل ذلك العلم الرّكيك المستغث، ويظن بأنه ظفر بأقصى العلوم، فهؤلاء أيضاً جربناهم، وسيرنا ظاهرهم وباطنهم، فرجع حاصلهم إلى استدراج العوام، وضعفاء العقول ببيان الحاجة إلى المعلم، ومجادلتهم في إنكارهم الحاجة إلى التَّعليم»([9]).
أتبنا بالغزالي كنموذج، وإلا مَن جرى جريه، في الأمس واليوم، كثيرون.
المراجع:
([1]) ابن عبد البرِّ، يوسف بن عبد الله(ت 463هـ)، مختصر جامع بيان العِلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله، ص 205(اختصره: أحمد بن عمر المحمصاني، تحقيق: حسن مروة ومحمود الأرناؤوط، بيروت: الخير 1992).
[2]– استهلَ ابن رُشد رده على الغزالي قائلاً: “رأيت أن اقطع ههنا القول في هذه الأشياء، والاستغفار مِن التَّكلم فيها، ولولا ضرورة طلب الحق مع أهله، وهو كما يقول جالينوس: رجل واحد مِن ألف، والتَّصدي إلى أن يتكلم فيه مَن ليس مِن أهله ما تكلمت في ذلك عِلم الله بحرف واحد…” ثم يقول: “وهذا الرَّجل كفر الفلاسفة بثلاث مسائل…”( تهافت التَّهافت. بيروت: دار الشّروق 2003، ص 588—587) الكتاب حسب طبعة دار المشرق مطبوع وفق النّظام الغربي.
([3]) االغزالي، المنقذ من الضّلال. بيروت: المكتبة الثّقافية. تعليق وتصحيح: محمد محمد الجابر أحد شيوخ الأزهر، ص 20-22.
([5]) الغزالي، تهافت الفلاسفة. بيروت: دار الشّروق، الطّبعة الخامسة 2010. ص 38-39.
([6]) ابن تيمية، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: عبدالرحمن بن محمد بن قاسم النَّجدي. الرياض: مطابع الرياض، ثلاثون جزءاً 1383 هـ، 4 ص 164. الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد(ت 748هـ)، سير أعلام النبلاء. بيروت: مؤسسة الرسالة 1982 وطبعة 2001 ج 19 ص 327.
([7]) االغزالي، المنقذ مِن الضِّلال، ص 31.