تكوين
ما الثقافة؟ ما الهُوية؟ ما هي أوجه الغزو الممكن أن تهدد الهُوية وتؤثر في الثقافة؟ هل بالإمكان الحديث عن غزو ثقافي في زمن العولمة؟ هل العولمة والكونية شيء واحد؟ أوليس الحديث عن غزو ثقافي سقوطًا فيما يُسمى بنظرية المؤامرة، إذ نعزو عجزها على قوى خفية لا حول لنا بها ولا قوة؟ كيف يمكن الجمع بين ثقافتنا المحلية والثقافة العالمية التي نشاهدها في التلفاز ونقرأ عنها في الكتب ونحياها في أنماط عيشنا الحالي؟ كلها تساؤلات سوف نحاول مقاربتها في مقالتنا هذه المُعنونة “الغزو الثقافي وسؤال الهُوية“، مُسائلين في الوقت نفسه مدى صحة الأدلة التي تقف ضد التعدد الثقافي باسم الهُوية، هذا إذا كانت الهُوية أصلا تُناقض الكونية والتعدد الثقافي؟
بين العولمة والكونية
بداءة ثمة التباس أول وجب رفعه وهو الخلط القائم بين العولمة والكونية، إذ إن العولمة في تعريفها القاموسي هي رفع الحواجز والحدود أمام الشركات والمؤسسات والشبكات الدولية الاقتصادية منها والإعلامية لتمارس سلطتها بوسائلها الخاصة ولتحل محل الدولة في ميادين المال والاقتصاد والإعلام ما يؤدي إلى انهيار الحدود السياسية والثقافية، أما الكونية هي تفاعل بين الثقافات وتأسيس لفلسفة الاختلاف والتعدد بين جميع الأطراف التي يمكن أن يكون للعولمة فقط فضل فتح الباب لتتعارف فيما بينها.
عمومًا وكما مَيَّزَ المفكر المغربي عبد السلام بن عبد العالي، فالعولمة تنشدنا وتستهدفنا أما الكونية ننشدها ونتواصل بها مع باقي الثقافات، العولمة سلب للخصوصيات وقضاء عليها، أما الكونية فتفاعل بين الخصوصيات وتلاقح بينها، العولمة تعمل لتنميط الأفكار والتشجيع على ثقافة الاستهلاك، أما الكونية هي تأكيد الاختلاف والتعددية، العولمة قصدية أما الكونية أو العالمية فهي تلقائية، العولمة تعبير عن فكرة المنتصر أما الكونية هي تعبير عن الفكرة المنتصرة بذاتها وقيمتها.
على هذا الأساس لا يجب الخلط بين العولمة والكونية، فهناك من يدعو إلى أن كل ما هو كوني فهو معولم، وهذا صحيح من وجهة نظر إعلامية، لكن العولمة تحاول أن تفرض نوعًا معينًا من الثقافة والتفكير وبذلك تُلغي باقي الأنواع، وهذا ما ترفضه الكونية كونها التنوع والتعدد ذاته.
الغزو الثقافي: ممن؟ وعلى من؟
لعل أغلبية من يدعو إلى مناهضة الغزو الثقافي ومحاربته في مجتمعاتنا يُسارعون إلى تحديد الغازي والمغزو، أي بين أمريكا والغرب بوصفهم فاعلين والمسلمين بوصفهم ضحايا الغزو، ويعزون أسباب هذا الغزو الثقافي في: التقليد الأعمى، البعد عن الدين، الانهزام النفسي والتأثر بالغرب وغياب روح الانتماء للأمة وكذا انتشار الإعلام المفتوح .
قد نجد ما يُبرر هذه الآراء، لكننا نتساءل في هذا الصدد: أليس الغزو الثقافي الداخلي هو ما يُبرر وجود غزو ثقافي خارجي؟ يُمكن لهذا التساؤل أن يخرجنا من نظرية المؤامرة التي يعتقد أصحابها أن وراء كل حادثة عقلًا محتالًا ماكرًا هو من دبَّر العملية وحاك خيوطها، وكي نُراجع كذلك ذواتنا وأفعالنا بدل أن نبرر أفعالنا ونحمل المسؤولية لغيرنا.
يمكن القول في هذا الصدد، إن الهُزال الثقافي الذي تعيشه محنـة الثقافة في مجتمعاتنا أتت بوصفها إفرازًا من إفرازات الهياكل السياسية والاقتصادية والثقافية لمجتمعاتنا، هذا قبل أن نعرف ما يُسمى الآن بالعولمة. وعندما أصبح العالم قرية صغيرة بفضل وسائل التكنولوجيا والنقل والإعلام، وُجدت هياكلنا السياسية والاقتصادية والثقافية أداة لتزيدنا تخلفًا وهُزالًا باستخدام برامج التنميط وتزييف للحقائق ولوعي الأفراد، وخاصة عبر وسائل الإعلام. إن إمكان حدوث غزو ثقافي إذن آتية من ضعف الأساس الثقافي للمجتمع، مما يؤدي إلى التقليد والاستلاب في كل شيء.
مخاطر الغزو الثقافي: استشكال ومساءلة
لعل من يتبنى الرأي القائل بأن كل ما يُمكن أن يأتينا من الخارج من فكر وأدب وفن ما هو إلا غزو ثقافي مُغلف بغلاف التبادل والتعارف الثقافي، يستوجب مقاومته وصده والحد منه، هو رأي مبني على عدة أسباب تُبين أخطار هذا الغزو الثقافي؛ لذا سوف نحاول أن نعرض أهم هذه الأخطار مُسائلين إلى أي حد يمكنها أن تَصِحَّ منطقيًا وواقعيًا:
- في المستوى الإعلامي، تُلخَّص هذه المخاطر في ثلاث:
- تشويه الدين الإسلامي والطعن في مصادره الأصلية ورموزه. تعقيبًا على هذا نقول: الحوار لا الإقصاء هو البديل الوحيد لنقاش من يُخالفنا، وربما للآخر الحق في بعض ما يقول إذا كان الأمر مُتعلقًا بالآراء، فلنطبق قاعدة الإمام الشافعي: رأيي صحيح يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب.
- الدعوة إلى النَصرانية. ربما نُساءل القائل بهذا من باب القياس، ما بال المسلمين في أوروبا يدعون الدين الإسلامي وينشرونه أكثر مما يتم ذلك في البلدان ذات الأغلبية الإسلامية نفسها، فلماذا نمنع من يُريد أن يدعو إلى دينه في بلدانها إذا كان ذلك لا يدخل في باب استغلال الأفراد في فقرهم وضعفهم وقصورهم وصغرهم.
- نشر الأفكار الباطلة والخرافية. ربما نعقب لنقول إن الحكم هنا نسبي، لأن القول بأن فكرًا ما باطلٌ يُحتم أولًا قراءته وفهمه قبل الحكم عليه، وليس قراءة التأويلات التي أُعطيت له والتي رُبطت في أغلب الأحيان بصاحبها وبدينه ومِلته، هذا أولًا، ثانيًا قد لا نتفق مع جميع أفكار العالم لكننا نناقش ونحاور ليس لأُقنع الآخر، لكن قَصد تبادل الأفكار والتواصل مع الآخر الذي هو في الحقيقة ليس إلا إمكانًا من إمكانات ذاتي الإنسانية.
- في المستوى الثقافي، تُلخَّص أخطار الغزو الثقافي فيما يلي:
- إشاعة النموذج الثقافي الغربي. ربما يصح أننا أخذنا جوانب غير راقية من الثقافة الغربية، إلا أنه لا يجب التعميم والقول إن ثقافة الغرب بُرمتها ليست راقية، فلكل ثقافة الجوانب المظلمة والجوانب المضيئة إذا عمدنا في قياس ذلك إلى مبدأ الكرامة الإنسانية.
- التأثير السلبي في مستوى التعليم. إن إشكالية التعليم إشكالية عالمية وليست خاصة بنا نحن فقط، إلا أننا في المغرب مثلًا تأثرنا كثيرًا بالنموذج الفرانكفوني في التعليم بحذافيره، وبذلك تغاضينا الطَرْف مثلًا عن النموذج الأنجلوساكسوني المتسم بالانفتاح والتعدد والاختلاف، لذا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نحكم على النماذج الغربية بأنها غير نافعة، إلا أن مسألة دراسة المجتمع وتكييف تلك النماذج مع الواقع الاقتصادي والاجتماعي للأفراد ضروري رغم أن المبدأ الأوحد هو تربية التلميذ وتأهيله لخدمة مجتمعه والإسهام في الدفع بعجلة تقدم بلده نحو الأمام.
- إضعاف اللغة العربية. أظن أن السبب في ذلك لا يتعلق بما يسمى بالغزو الثقافي بقدر ما هو مرتبط بالسياسة الداخلية للدولة نفسها، وخاصة بقايا الاستعمار الذي ترك بصمة في ثقافة الدولة المستعمرَة واقتصادها وسياستها، إذ على سبيل المثال فاليابان عَرفت -بمعيار الغزو الثقافي- غزوًا كاسحًا في شتى المجالات ومع ذلك فقد حافظت على لغتها في التعليم والاقتصاد والسياسة؛ أضف إلى هذا كون الدول المتطورة في العالم خاصة في مجال الاقتصاد والتكنولوجيا تتحدث اليوم بالإنجليزية.
تحضرني في هذا الصدد قولة المؤرخ العربي ابن خلدون في قولة فيما معناها: إن المغلوب مجبول على تقليد الغالب في لغته وملبسه ومشربه وسائر شؤونه. غير أن السؤال يكمن في إمكان تملك لغة الآخر والتعبير بها عن نفسي، بل أن أجعلها بابًا يفتحني على لغتي العربية ويسمح لي بتوسيع أفق ثقافتي، ومن ثم هُويتي وخصوصيتي التي لا تفتأ تتجدد وتوسع من إمكاناتها؟
من غزو عسكري إلى غزو ثقافي
إلى أي حد تصح هذه الكرنولوجية؟ وكيف يجب فهمها؟ ربما يقول قائل بأن الفترة الاستعمارية التي شهدتها الدول العربية الإسلامية في بداءة القرن العشرين كانت قد عرفت رد فعل واعٍ من طريق النضال ضد المستعمِر من أجل الحصول على الاستقلال، إلا أنه بعد حصول هذه الدول على الاستقلال ظهر شكل جديد من أشكال الاستعمار أي ما يُسمى الاستعمار الفكري أو الغزو الثقافي الذي يعد أشد من الشكل الأول لأنه غير واعٍ من لدن من يُطبَّق عليه.
لا يجب والحالة هذه أن يُنكر الاستقلال الذاتي وإمكان امتلاك فكر خاص ورؤية ذاتية للأمور، هذا إذا حُدد ما يُمكن أن يُسمى غزوًا ثقافيًا، لأن ما يُمكن أن أظنه غزوًا ثقافيًا قد لا يظنه غيري كذلك، فالموضوع إذن نسبي، عكس الغزو العسكري فالجميع قد انخرط عن وعي في حركة نضالية من أجل تحرير الوطن.
إن الغزو العسكري يُمكن أن يُحدث ردة فعل مقاوِمة لإنهاء الغزو الطارئ المحدد، غير أن الغزو الثقافي والفكري يتمتع باستلاب حقيقي للجبهة المقاومة لأن العدو المادي غير موجود، فالغزو العسكري يستمد قوته من آليات الإخضاع الخارجي، أما الغزو الثقافي يستمد قوته من آليات الإخضاع الداخلي.
بعبارة أخرى، إذا كان الغزو العسكري يهدف إلى احتلال الأرض فإن الغزو الثقافي يهدف إلى احتلال العقل. ولكن السؤال المطروح هو: ما حدود احتلال العقل وتجلياته أو ما يُسمى الغزو الثقافي؟
مبادئ الهُوية وآلية الغزو:
بداءة لا بُد أن نحدد طبيعة الهُوية والخصوصية كي نتفق على أرضية فكرية واضحة، لذا نقول: إن الهُوية ليست شيئًا قابعًا وراءنا في الماضي وما علينا سوى البحث عنه وتملكه، بل إن الهُوية في عمقها هي ما سنكونه وهي لا تفتأ تتجدد وتتكون، فرغم أن الهُوية كما في اللغة هي ما يكون به الشيء هو هو أي ما يُحدد طبيعته، إلا أن هذا التحديد ليس معطىً، بل بناءٌ وتشييدٌ.
عندما نتحدث مثلًا في المغرب عن خصوصية وهُوية، فلا يجب أن نفهم أننا بِدْع من الأمم وأن ما يجري علينا لا يجري على غيرنا، فالقانون الكوني يَلحق جميع الثقافات، وهذا ما يسمح للثقافات أن تتعارف بلغة القرآن “لتعارفوا” أو تتحاور وتتلاقح، وليس لتتصادم كما هو الحال بخصوص نظرية هينتنغتون.
إن الهُوية إذن هي كونية محلية والكونية ما هي إلا مجموع الهُويات والخصوصيات الإنسانية، لأن المشترك بين الناس جميعًا هو إنسانية الإنسان أي كرامة الإنسان، على هذا الأساس، يُمكن الفصل بين ما سميناه في البداية عولمة أي فرض نمط مُعين للثقافة وهي ثقافة الاستهلاك عمومًا، وبين الكونية بوصفها المشترك العام للإنسانية.
الغزو الثقافي بهذا المعنى هو كل نمط عيش يحوُل بين الإنسان وبين تحقيق إنسانيته ولا يترك له حرية أن يُفكر ويختار ولا يخاطب فكره، بل يُخاطب غرائزه عبر ثقافة الاستهلاك وعدم الإنتاجية والفردانية المتوحشة، وهذا يُمكن أن يُؤثر في مسار تقدم جميع المجتمعات وليس فقط مجتمعنا، أما الفن والفلسفة والأدب الإنساني الراقي، فعلى الرغم من أنه إبداع غيرنا إلا أنه يقارب أبعاد الإنسان، ويُمكن الاستفادة منه بل تملكه وعده جزءًا من إنسانيتنا.
بكلمة واحدة، كل ما يمسُّ بإنسانيتنا فنحن ضده سواء أكان آت من الغرب أم الشرق أم حتى من صميم ذواتنا وتاريخنا، فلا بد من مراجعة للذات وما حَبَلَت به تاريخيًا، وكذا مراجعة الآخر وما يمكن أن يقدم لي من أنماط الفكر والسلوك.
على سبيل الختم لا بد من مقاربة موضوع الغزو الثقافي وسؤال الهُوية من منظورين:
منظور داخلي في محاولة لفهم أنفسنا وتاريخنا، نأخذ منه ما يمكن أن يحقق إنسانيتنا في عصرنا، أي أن نجعل تراثنا كما يقول المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري مُعاصرًا لنا بعد أن نفصله عن العصر الذي تطور فيه حسب ظروفه التاريخية.
المنظور الثاني هو المنظور الخارجي، أي أن نفرق فيما يأتينا من الخارج بين ما هو كوني نشترك فيه مع جميع الثقافات كالأدب والفن والفكر وغيره، وبين ما هو معولم أي ما ينصب في المنفعة المادية الصرفة التي لا نزعة إنسانية من ورائها، والتي تتأسس على الاستهلاك ومخاطبة ليس إنسانية الإنسان، بل الجانب الحيواني في الإنسان، دون أن يكون لذلك هدف ورؤية تحريرية للإنسان، بل بالعكس يقوم بتقييد الإنسان في حدود الاستهلاك بعيدًا عن الإنتاجية والفعالية التي تدفع بعجلة التاريخ نحو الأفضل.
أتمنى أن أكون قد لامست في هذه المقالة الجوانب المهمة في الموضوع، وقاربت قدر الإمكان حدود الحديث عن الغزو الثقافي والفرق الشاسع بين الكونية بوصفها تلقائية إنسانية والعولمة بوصفها قصدية مصلحية، بالإضافة إلى مسألة نسبية الحكم على شيء ما بأنه غزو ثقافي، وأن المساس بالمبادئ الإنسانية: كالكرامة والحرية والمساواة مُحدد أساسي في الحكم على الشيء كونه خطرًا وغزوًا، ليس على خصوصيتنا، بل على الخصوصية الإنسانية أساسًا، وما هذا وذاك إلا كي نخرج من ضيق الذاتية قصد الانخراط في الكونية وفي أفق الحداثة التي تجعل الإنسان وكرامته فوق كل اعتبار. أتمنى أن نكون جميعا متمسكين بهُويتنا وخصوصيتنا الكونية والإنسانية التي أساسها كرامة الإنسان وإنسانية الإنسان.