الـ[رِتْرُوتُوبِّيا]- أو عودةُ اليوتوبيا عَبرَ الهُويَّة في التَّساؤل عن واقعٍ مؤسِّسٍ خارج الواقع

تكوين

[I]

أعني بالريتروتوبيا، من حيثُ اِستعمالها وتوظيفها في أوَّل الأمر، وأغلب الأحايين، ضمن إطار التفكير بالفعل المجتمعيّ، من خلال ثُنائيَّة [الآيديولوجيا- واليوتوبيا]: أي المنظومة الفكريَّة والمعرفيَّة التي تؤسس للتميُّزِ إزاء العالَم، كان اِنغلاقًا أم اِنفتاحًا، أم سلمًا أم صراعًا، لا فرق، من جهة، وفي المقابل، تلك المنظومة الفكريَّة التي تؤسس لذاتها ولكل أفعالها في المستقبل، من جهةٍ أخرى؛ في ضرب إعادة فهم اليوتوبيا على أنها تتسم بضروب فهم وفعل ثلاثة: -I إنَّها خارج الزمان، و -II إنَّها مؤجَّلةٌ إلى التَّتمة، و -III إنَّها تقع في مواجهة الديستوبيا الناتجة (أو جملة الحقول المجتمعيَّة الواقعيَّة التي تتسم باِنهيار جزئي أو شامل) عن الآيديولوجيا. وعلى ذلك، تقع اليوتوبيا خارج الوحدة الزمانيَّة التي من شأن الماضي والحاضر والمستقبل. ولست أقصد بها ما ذهب إليه زيغموند باومان بأنَّها درجةٌ ثانية من النفيِ، أي [نفيُ- نفيِ- اليوتوبيا]Negation of utopia’s negation، فحسبُ؛ في كتابه الأخير الصادر عام 2017، ضمن تصوُّرات العودة إلى ما كان يستحيل العودة إليه. ما أعنيه ببساطة هو عودة اليوتوبيا بتوسُّطِ الآيديولوجيا، أو بكيفية توظيف الآيديولوجيا لليوتوبيا في الفعل، والفكر، والحياة المجتمعيَّة بعامَّةٍ. إذن الريتروتوبيا هي مؤقتة، ومؤجَّلة، وخارج زمانيَّة. في معنى أنها تتغير في كلِّ مرة حسب الظرف المجتمعيّ- التاريخي، وهي تَعِدُ بالجديد، وتدفع الأفكار والأفعال إلى المستقبل، وهي لا تُعيَّنُ من خلال وحدة الزمان والمكان المجتمعيين، بل من خارجها. ولكن أيضًا بتوسُّط ذاتها، على هدي الفهم الواقعيّ الجديد للهوية من حيثُ إنَّها تتوفَّر على إمكان أن تأتي إلينا من المستقبل. ماذا يعني ذلك؟ وبأية معانٍ علينا أن نقف عند التَّساؤل عنه؟

[II]

الديستوبيا

لقد فتحت الديستوبيا Dystopia هذا الإمكان وحافظت عليه في منبت ماهيَّةِ اليوتوبيا. إنَّه إمكان أن تُحدِّد بِنيَة المستقبل المجتمعيّ وتُبَنْيِنُ (نسبةً إلى البِنيَة) الواقع المجتمعيّ في الـ [ههنا- و- الآن]؛ أي في الراهن الذي يتبدَّى على أنَّه حاضرٌ مجتمعي، على هذا النحو أو ذاك. هل يمكن ذلك؟ ولماذا هو يتوفَّر على كل إمكانات وجوده، ضمن الواقع المجتمعيّ؟ إنَّه يمكن من جهاتٍ ثلاث: أولاً من جهة أن المستقبل مفهومٌ تأسيسيٌّ في تاريخ المجتمعات من حيثُ إنَّه يتضمَّنُ ضروب التطلعات المجتمعيَّة والآمال المعلَّقة على الفكر والفعل، وثانيًا هو يحدث من جهة كون المستقبل مفهومًا قادرًا على تحديد واقع المستقبل، وثالثًا هو يقعُ بوصفه قابلاً للفهم بالاِنطلاق من واقعة التثاقف بين المجتمعات والدولة والحضارات؛ أعني بدءًا من واقعة الحداثة والتحديث التي تنتقل إلى المجتمعات العربيَّة، وَقْعًا وحُدثانًا وظاهرةً.

لأنَّ واقعًا مجتمعيَّاً مأساويَّاً مُزريًا حدَّ أنَّه تنكره الأغلبية في المجتمع، على نحو ثقافي واِقتصادي وسياسي، أي الأغلب الأعم الذي يشكل المجتمعيّ ويظفر بتمثيله في كل ظرف كاشفٍ لبنية الثقافة- والاِقتصاد- والسياسة فيه، أو للعلاقات بينها، ووَحدة العلاقات بينها، أي الآيديولوجيا المجتمعيَّة، إنَّما هو واقعٌ قائمٌ على يوتوبيا تُحدَّدُ اِنطلاقًا من كونها واقعٌ أصليٌّ يأتي إلينا من المستقبل. وهكذا، لا نفهم الرِتروتوبيا Retrotopia على أنها اِرتسامٌ لصورة المجتمع في المستقبل فحسبُ، ولا هي يمكن أن تُفهم على أنها اليوتوبيا وقد قامت على نفي النفي الذي لذاتها، بتصور ماركسي مُحدَث، ولا أيضًا عودة اليوتوبيا على نحو زماني، إنني أشير إلى عودة اليوتوبيا بوصفها إحدى النتائج غير المتوقعة للديستوبيا المجتمعيَّة، وهي بذلك، لا يمكنها أن تنفصل عن الآيديولوجيا المجتمعيَّة. لأنَّ فيها روحَ المستقبل على نحو مكثَّف.

[III]

إنَّ الزمان المكثَّف في اليوتوبيا، يأتي ويعود إلينا من جهة أنَّه يريد أن يؤسِّسَ نمطَ علاقة جديدة بالمستقبل، مستقبليَّاً؛ أي على نحو مستقبلي، بمعنى أنَّه يُحدِّدُ ما يجب أن يُفهم بالاِنطلاق من الحاضر، من التطلعات والآمال التي لدى المجتمع والتي لا تجد لها مكانًا في الحاضر. إذن الرِتروتوبيا هي الذِّهاب إلى المستقبل على نحو واقعي، بالمستقبل، له، وفيه، ومنه. وهكذا، نكون في الرِتروتوبيا أمام حيثيات وجودية- مجتمعيَّة لها هي أربع: في المستقبل، وبـه، ولـه، ومِنه. إنَّ ما يجعل من اليوتوبيا عائدةً إلينا على نحو جديد، بهيئات وبأشكال وبتمثُّلات جديدة، لا يتعلَّق بالمجتمع، وما هو مجتمعيّ، بقدر ما هو يرتبط بذاك التَّطلع المجتمعيّ الذي يريد بناء المستقبل؛ أو يبصره خارج الحاضر. أي بذاك [الـ- ينبغي- أن- يصير]- يحدث- يقع- يظهر- يكون. إنَّ تصيُّرَ المستقبل في الحاضر، خلافًا لما يُتصوَّر، ليس من جنس المستقبل، بل هو يتوفَّر على إمكان أن يأتي إلينا من سيستم معرفي ما، أو منظومة معرفية قائمة بذاتها، في الماضي.

[IV]

إنَّ اليوتوبيا إنَّما هي شبكةُ مفاهيم، وشعوريَّاتٌ ومعقولاتٌ، قَبلَ أن تكون أمنية، وأملاً، وتطلُّعاتٍ. وحتَّى قبلَ أن تكون الـ [ما- ينبغي- أن- يكون]. إنَّها نمطُ وجود، وحقل كينونة، يأخذان معهما الإنسان إلى ضروب الفعل القائمة على [الـ- ما- يجب- أن- يأتي]، أي يقع، فيصير.  لكن اليوتوبيا لا تأخذ معناها، ولا يمكنها أن تسوِّغَ وجودها إلاَّ متى تم الظفر، قبليَّاً، بفهم الآيديولوجيا المجتمعيَّة، في أنها وفي كيف أنها كذلك. يعني ذلك أن العثور على إمكانيَّة للإجابة عن تساؤل المستقبل في الحاضر، إنَّما هو عملٌ فكريٌّ من أجل فتح المستقبل على إمكانات الفهم التي في الحاضر؛ لكن أيضًا، وبعودة قوية، من الماضي. إنَّ الوحدة الزمانيَّة التي بين الماضي والحاضر والمستقبل، على الرَّغْمِ مِنْ أنَّها تبدو في الوهلة الأولى كرونولوجيَّةً، إلاَّ أنها في المعنى الأنطولوجي لها، هي مجتمعيَّة قَبلَ ذلك.

[V]

آيديولوجيا الهوية

إنَّ الآيديولوجيا المجتمعيَّة تقع على رأس المصادر التي تُنتج الهُويَّة، وتعيِّنُ حدودها، على نحو فكري وفعلي. وهكذا هي تُقدِّمُ نفسها على أنها ترسم معالِم المستوى العامّ للهُويَّة المجتمعيَّة، دائماً قَبْلِيَّاً. فإذا كان المستوى الأعم الذي من شأن الهُويَّة يتمثَّل في الإحالة إلى [الوجود- معاً]، في إمكانِ تأسيسه، وكيف تأسيسه، ضمن حقل الاِتفاق بين الفاعلين المجتمعيِّين على الاِختلاف والتعدُّد والتنوع، وحدودها فعلِ التعدُّد والاِختلاف والتنوع هذه، وإذا هو كان ضمن أنماط وكيفيات الصلة بالعالَم، وإمكانات بناء العلاقة مع العالَم، وايضًا، وفي الوقت عينه، إمكانات وكيفيات وأنماط قطع العلاقة مع العالَم، فإنَّ المستوى العامّ في الهُويَّة، بتوسُّطِ تعيين الآيديولوجيا المجتمعيَّة لها، يتميَّزُ بأنَّه لا يكشف عن ذاته إلاَّ عَبرَ المنعرجات المجتمعيَّة التي تتطلَّب موقفًا بعينه. أعني تلك الظروف المجتمعيَّة الكُلِّيَّة، ضمن فهم بِنيَة الثقافة وبينة الاِقتصاد وبنية السياسة التي تتوفَّر على إمكاناتِ كشفِ البِنيَة المجتمعيَّة الكُلِّيَّة. إنَّه الظرف الذي يعلن عن البِنيَة، والأزمة في البِنيَة، وضرورة إعادة بناء البِنيَة. وهكذا، نجد المستوى العامّ في الهُويَّة، مرتسمًا على نحو أولي، ضمن ثلاث طبقات، تشكل في وحدتها، حقلاً من التعالق داخل الهُويَّة، وتُؤسِّسُ الأرضية لقيامها، والسبل لتخارجها. إنَّها طبقة [النموذج- المثال Ideal-Type] لليوتوبيا داخل الهُويَّة، وطبقة اليوتوبيا في مضامينها الأنطولوجية التي تتجسَّدُ على هيئةِ أنَّها فاعليَّات مجتمعيَّة، وطبقة الوَحدة بين اليوتوبيا والآيديولوجيا والديستوبيا. تشكِّل هذه الطبقات الثلاث رسمًا أوَّليَّاً للدرب إلى الرِتروتوبيا. لكن، هذه المَرَّة، تُفهم هذه الأخيرة في أفق الهُويَّة وقد صارت مفهومًا مُقبلاً إلينا على هيئة رفض الواقع المجتمعيّ القائم، من قِبَلِ ذوات فاعلة مجتمعيَّاً، هي تصنِّفُ نفسها على أنها خارج الواقع المجتمعيّ؛ أو لا تكون. فُهمت مرَّةً على أنها الأنتلجنسيا، ومرَّةً أخرى على أنها اللا- منتمية، وتارةً على أنها الحُرِّيَّة، وتارةً أخرى على أنها النَّقدية (نسبة للفكر الذي ينقد الأفكار).

[VI]

إنَّ [خارج- الواقع- المجتمعيّ]، خلافًا للتصُّور الهيغلي البسيط، القائم على ثُنائيَّة [الفكرة- والممارسة]، وأوَّليَّة الفكرة على الممارسة؛ وأيضًا خلافًا لثنائية [الداخل- والخارج] الهيغلية، وأوَّليَّةُ الداخل على الخارج، إنَّما هو، أي [الـ- خارج- مجتمعيّ]، لا يُؤخَذُ، كما فهمه كارل مانهايم على أنَّه أنتلجنسيا بعينها، طبقة مثقفين ناقمين على السلطة؛ بل هو يُؤخَذُ من جهة الظفر بمفهوم الرِتروتوبيا. وبالتالي، لا يقع [الـ- خارج- مجتمعيّ] في الخارج المكاني، والزماني الذي نفهمه، على نحو كرونولوجي، أو حتَّى ضمن جغرافيا الفكر؛ لا؛ بل هو له وجود مجتمعيٌّ يوميٌّ، وبذا، هو فاتحٌ لإمكانات المستقبل، على نحو مستقبلي جديد، في كل مرَّةٍ، وفي كل الأحايين. إنَّ العثور على إمكانيَّة للإجابة عمَّا يعيِّنُ الخارجَ المجتمعيَّ إنَّما هو هدفُ أي تساؤل أصليّ يخصُّ اليوتوبيا عائدةً على نحو الريتروتوبيا، في كلِّ مرة.

الألتراس والصراع الاجتماعي .. جدل الدين والهوية في الهامش

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete