تكوين
[I] الهُويَّة قبلَ ثُنائيَّة [الذَّات- والمجتمع]:
يتميَّزُ فهم الهُويَّة، عن ممارستها، عن طريق أوَّلِيَّة الذَّات على الهُويَّة، وأسبقية الإمكانات الذاتيَّة على المُكَوِّنات والعناصر المجتمعيَّة في الإنسان. إنَّ الهُويَّةَ متى أُخِذَت على أنها مفهومٌ، قَبلَ أن يكون فعلاً أو ممارسةً، هي الفهمُ الذاتَّيُ الناتجُ عن أشكلة الهُويَّة؛ ومصادر تشكلها وتعينها وبالتالي قوتها في إعادة إنتاج المجتمع في أنَّه، وفي كيف أنَّه مجتمعٌ. وكي لا تقع التصوُّرات الموضوعيَّة، في المعنى الأوَّلي لها، أي في العلاقة المباشرة مع الخارج، ضمن إطار ثُنائيَّة [الذَّات- والموضوع]، علينا أن نفكِّكَ، في أفق التَّساؤل عن عالَم الذَّات، وعالَم الموضوع، عَبرَ تفكيك آركيولوجي (حَفري مقصده الطبقات الأكثر عمقًا مما يظهر فيختفي بظهوره)، تلك الطبقات المختلفة من مفهوم الهُويَّة، وفي الوقت عينه، تلك المستويات المتعدِّدَة التي توفِّرها ضروب الوجود المجتمعيَّة للهوية في أن تأتي إلى الخارج.
إقرأ أيضاً: من الهوية المبنية إلى بناء الهوية
بَيْدَ أنَّهُ قبلَ ذلك، ثَمَّةَ مفاهيم، تنتمي لـ “عالَم حالات الوعي”، بتعبير كارل بوبر، أو “عالَم الحالات الروحية (الواعية أو غير الواعية منها)، التي تُؤخَذُ بمثابة الاِستعدادات السلوكية نحو الفعل” في محاضرة “نظرية المعرفة من دون ذات عارفة”- 1967، يمكن أن نفهم الهُويَّة والتواشج البنيوي الذي من شأنها مع الذَّات، على هَديها، هَدي المفاهيم هذه التي تؤسس لجملة الاِستعدادات، أو ضروب التهيُّؤ الأوَّلِيَّة لأنْ تتخارج الذَّات نحو الهُويَّة؛ ولكن بها أيضًا.
إنَّ نظرية العوالم الثلاثة لدى كارل بوبر، عالم الموضوعات الفيزيائية، وعالم حالات الوعي، وعالم مضامين الفكر الموضوعيَّة Objectivity، تفتح إمكان أن نفهم، على نحو إبستيمولوجي، مفهوم الهُويَّة اِنطلاقًا من ثُنائيَّة [الداخل- والخارج] التي كان قد وضعها جورج ف. و. هيغل على نحو أنطولوجي. لكن، ما قد نُسي، في العلاقة بين بوبر وهيغل، هو ما يمكن أن نتساءَل عنه، وفقًا لإمكانية أصليَّة في وجود الإنسان، وفي تجربته الأنطولوجية، ضمن مفهوم [الهُويَّة- قَبلَ- ثُنائيَّة [الداخلانية Internalism- والخارجانية Externalism]. وعلى هذا الأساس، ينفتح أفق الفهم، فهم الهُويَّة، من جديد، ضمن حقل الـ [ميتا- هُويَّة]؛ أي ما هو يأتي قَبلَ أي شيء، في مواجهة مباشرةً بين الفاعل والعالَم، من جهة فهم هذا الأخير، على نحو العالَميَّة التي من شأنه، ومن صناعته وخلقه وبنائه، في كلِّ مرة.
مبدأ الهُويَّة
ثَمَّ ما هو قَبليٌّ؛ وثَمَّ ما هو في المنتصف؛ ومن بعدُ، ثَمَّةَ مصادر وعي بَعْدِيَّةٍ دائماً. وأخيرًا نحنُ لا نأتي إلى الهُويَّةِ بل هي التي تسبقنا، وتأتي إلينا على نحو مُحدِّدٍ لكينونتنا في الخارج. إنَّ الإنسان فيما هو هو، أي من حيثُ إنَّه متطابق مع ذاته، على نحو المطابقة التي من شأن الحقيقة التي تخصُّه، إنَّما يتوفَّر على إمكان أن يكون، لا من جهة أن يوجد فحسبُ؛ بل من جهة أن يأتي مرَّةً أخرى إلى الكينونة المجتمعيَّة بوصفه كائنًا بتوسُّطِ الفعل. إنَّه لا يمكن أن نعي الفعل من دون فكرٍ كان قد سبقه. يقول الفكر، ويتساءل، ومن بعدُ يفهم الفعل، ويفكِّرُ بقدر ما يفكر الفكرُ؛ ويقع- من الواقعة المجتمعيَّة Societal Fact-، أو يظهر- نسبةً للظاهرة المجتمعيَّةٍ Societal Phenomenon؛ أو يكون، في مستطاع كينونته، في المنتصف، أي ضمن وحدة الواقعة والظاهرة.
وعلى ذلك، إذا كان مبدأ الهُويَّة إنَّما هو المبدأ الأعلى، والقاعدة السابقة على كل القواعد، في الفكر والممارسة؛ فإنَّ مبدأ الهُويَّة يحول دون أن نبلغ مستوى ما هو أسبق منه. إنَّ الهُويَّة من حيثُ إنَّها مفهومٌ إنَّما هي فهمٌ سابق إلى الهُويَّة أيضًا. كيف يمكن لفهمٍ أن يسبِقَ مبدأً هو الأسبق والأعلى والأكثر قَبْلِيَّةً على كل مبادئ وقواعد الفكر والممارسة؟ إنَّ ذلك يرتبط بأننا في حلقةٍ تشتمل على محطات أربع على أقل تقدير: البدء، وفهم البدء، وممارسة فهم البدء، ونقد البدء؛ والعودة مرة أخرى إلى المحطة الأولى، والاِنتقال منها للثانية، والثالثة، والرابعة؛ في دورةِ بناءٍ في كل مرَّة. إنَّ مفهومَ الهُويَّة إنَّما هو فهمٌ في كل مرَّةٍ. لكنَّهُ لا يتوقف عن أن يكون فهمًا يُبنى ويُصنع ويُخلق من جديد على الدوام. نحن، الإنسان بعامَّةٍ، لا نتصل بعالَم الهُويَّة على أنَّه عالَمٌ يسبقنا في الوجود فحسبُ؛ بل إنَّنا ننفصل عنه بوصفه عالَمًا يتطلَّب بناءً في كل مرَّةٍ ومن جديد، اِنطلاقًا من عالَم الذَّات، والأفعال- الأفكار الناقدة لضروب تهيُّؤِ الذَّات، وبالتالي تَخارجها- أي الاِنتقال من المستوى الأعمق الأخص الذي من شأنها، إلى المستوى الأعم؛ في تمفصلٍ أصليّ بين المستويات هذه.
لكن مبدأ الهُويَّة، متى أُخِذَ من ممارسة الفكر، واِنطلاقًا من الفعل، لا يبقى ساكنًا متخشِّبًا كما هو في اللوجيكا (المنطق). أي إنَّه يبلغ مستوى الاِنفتاح على الخارج. إنَّ الهُويَّة، على الرَّغْمِ مِنْ أنَّها مبدأ لوجيكي (منطقي)، هي تتخارج إنسانيَّاً ومجتمعيَّاً؛ وفي هذا السَّبيل يَنتج الفعل عن الهُويَّة بقدر ما تَنتج الهُويَّة عن الفعل. رُبَّ تخارجٍ هو فكرٌ؛ أكثر من كونه فعلاً. بَيْدَ أنَّهُ علينا أن نفهم أن الهُويَّة، كالكائن الحي، لا تتوقف عند مُكَوِّنات وعناصر ثابتة تستعصي على التغير؛ بل إنَّها بقدر التخارج هي تنفتح. إذن، منذ البدء سنكون أمام التخارج بوصفه شرطَ إمكانِ [الاِنفتاح- على- …]. لكن لا ثَمَّةَ اِنفتاحًا إلاَّ وهو بَعْدِيٌّ إزاء الاِعتدال؛ اِعتدال الرُّوح والعقل، وبمباشرةٍ اِعتدال الوعي. ما الذي يوقِع علينا الاِعتدال من جهة كونه وعيًا عالميَّاً؛ أي وعيًا مُؤَسِّسَاً- ومُؤَسَّسًا في التواشج البنيوي الذي من شأنه مع العالَميَّة؟
الهُويَّة والعالَميَّة:
إنَّه ليس المشترك فحسبُ، كما قد عَبرَ عنه في مواضع عديدة ومتعدِّدَة الكثيرُ من الفلاسفة والعلماء (إيمانوئيل كانت، مارتن هايدغر، ماكس فيبر، يورغن هابرماس، جان فرانسوا ليوتار، وصولاً إلى إدغار موران، وأكسل هونيث)؛ بل هو أيضًا [الطريق- نحو- التكامل]. إنَّ التكاملَ، ضمن ضروب الأنسنة الثلاث- أي [وعي الذاتيَّة- والحركة الفكريَّة النقدية- وفهم التعددية على أنها حقل عالميّ جديد لأنَّ نوجد في العالَم]- إنَّما هو التعالق؛ ولكنَّهُ تعالقٌ هو يقع ضمن ضروب الفكر الثلاثة، وبتوسط ضروب الفعل الثلاثة، على أقل تقدير: تأتي ضروبُ الفكرِ إلى مستوى التَّساؤل الباثولوجي (المُتفحِّص الكاشف) عنها، ضمن ثُلاثيَّة: [التَّساؤل← التفكير← الفهم]. وهي بدورها تؤسس لدورة إنتاج المعرفة، متى جرَّدنا المصادر المعرفيَّة عن المعايير المعرفيَّة الذاتيَّة. وهكذا، هي تأخذ معنىً، في الحركة الثَّانية من الفهم إلى التَّساؤل، على النحو الآتي: الفهم القبلي، التَّساؤل من جديد، والتفكير القائم على منطق الفهم القبلي.
إنَّنا نوجد في العالَم، ومن بَعدُ نكون في العالَم. إنَّ العالَم من جهة كونه جملة الما وَقَع ويقع على الذَّات، والما ظَهَرَ ويظهر للذات، لا يُفهم من جهة التواشج والاِتصال، أو حتَّى الفصل والاِنفصال اللَّذَيْن من شأنه؛ بل هو يأتي إلى مستوى المفهوم متى كان متوفِّرًا على إمكان فتح أفق الاِستشكال (الأشكلة Problematization)، باِعتبار أن لا اِتفاق ولا اِجماع حول مضمونه النظريّ، ومنظوره النظريّ، بين العلماء والفلاسفة. إنَّنا نفهم العالَم على هذا النحو أو ذاك؛ على نحو الأشكلة، نحن نفهم العالَم بوصفه إشكالاً (مضمونًا نظريَّاً في كلِّ مرة)، وإشكاليَّة (منظورًا نظريَّاً في كلِّ مرة)، قَبلَ أن نوجد فيه، ومن بَعدُ نكون بالاِنطلاق منه. لكن، ما نحن نكون بالاِنطلاق منه، إنَّما نحن نكونه. أن نكون العالَم هو أن نكونَ جملةَ ما [الـ- ما- وَقع- و- يقع] علينا، وأيضًا، في وحدة مع الـ [ما- ظَهَرَ- و- يَظهر] لنا. وهكذا، ينبثق التَّساؤل القائم برأسه: كيف ومتى وعلى أي نحو يمكن أن تتخارج الـ [ميتا- هُويَّة] إلى العالَم، فتكون فيه، وتكونه؟ إنَّه التَّساؤل الأصليّ الذي من شأن علاقتنا بالعالَم؛ أي بوصنا كائنات تتوفَّر على: -I إمكان العالَميَّة في أن نبني علاقةً بين الذَّوات المجتمعيَّة على نحو التواصل، و -II إمكان الاِنفتاح على التغيُّر والتحوُّل والتبدُّل المجتمعيّ، و -III إمكان أن نكون أكثر مما كان يريد لنا تأرُّخُ التاريخ (أو هو يريد بالفعل) الذي أُخِذَ على أنَّه تراثٌ، على هذا النحو أو ذاك.