تكوين
- مقدمة لا بد منها
لكي نزيل الالتباس الذي قد يحدث عند قراءة عنوان هذا المقال، يمكننا القول بأن آلية الفتوى كما هو متعارف عليه في الأدبيات الدينية عموما، والإسلامية منها على وجه الخصوص، هي واحدة من الآليات الكثيرة التي تهدف إلى تكريس الواقع الديني السائد في فترة زمنية معينة، وتعبير واضح على أن الفكر الديني الذي يهيمن على ساحة من الساحات الفكرية هو تفكير يعتمد الفتوى لإبراز الجانب الشمولي في هذا النوع من التفكير أو ذاك، وكذلك لبسط الهيمنة على العوام والجموع كي لا تفكر خارج النسق الفكري السائد من خلال اجتراح أجوبة جاهزة ونمطية تعتمد آليات نصية وقياسية قد لا تستجيب في الكثير من الأحيان إلى المتغيرات التي تعرفها مجتمعاتنا، وحجم التحولات الفكرية والثقافية والاجتماعية التي تواجه العالم بما في ذلك عالمنا العربي والإسلامي.
وإذا عرفنا بأن الفتوى هي آلية يختفي وراءها مجموعة من القواعد والأدبيات والأصول، فسينمحي الالتباس الذي ذكرناه سابقا واستأنفنا به مقالنا، حيث تصبح الفتوى آلية من آليات الصراع الفكري والديني، ونوعا من الاشتباك مع المتغيرات التي تعرفها المجتمعات، مما يخلق نوعا من الصراع على الهيمنة بدل أن تكون الفتوى نوعا من اجتراح الحلول، وتقديم المقترحات العلمية في الموضوع الواحد. وإذا آمنا بأن الفتوى لا تعكس الواقع المعقد الذي نعيشه، عرفنا بأن الثقافة النصية والقواعد القياسية، والمغالطات المنطقية ليس الهدف منها الخروج من بعض ما قد تضعنا فيه بعض الأزمات أو المستجدات والمتغيرات، بقدر ما هي أشياء ترمي إلى إدامة نوع معين من التفكير الديني، والقفز به من حدود البشرية، والفهم الإنساني، إلى إشكاليات القداسة التي يصبغها الكائن الإنساني على الأشياء والأفكار والقواعد. هذه هي الفتوى في بعد من أبعادها، أي أن الفكر الإسلامي استمد هذا الطابع الشمولي الذي جعل من تتبع الوقائع اللامتناهية غايته الكبرى، أصبح عائقا من عوائق تجديد العقل العربي، وتكوينه وفقا للواقع المعاصر بكل تجلياته وتعقيداته، وبالتالي أصبح مستبعدا قراءة الفتوى بعيدا عن منطق الصراع، والرغبة في الهيمنة والسيادة على الفكر والاجتماع البشري لمجتمعاتنا المعاصرة.
فما هي عوامل تأثر الفتوى بمنطق الهيمنة والسيطرة؟
يمكننا القول ونحن نقارب موضوعا بهذه الحساسية أن العامل الحاسم في قراءة الفتوى بهذا الشكل، وهذا المنوال، هو موضوع التثاقف بين الأديان ، وحينما نتحدّث عن الامتداد الثّقافي أو التثاقف فنحن لا نتحدث عنه باعتباره ظاهرة سلبية، وإنما بوصفه بوصفه حركة تواصلية، ترسم معالم التّأثير والتأثُّر بين الأديان، وهذا المعنى هو ما أكد عليه دنيس كوش[1]، إذ يعتبر بأن حركة المثاقفة هي حركة تماس بين الثقافات، حيث لا يجوز أن نصدر أحكاما قيمية على ما تفرزه الثقافة من أشكال التماس بينها، فالكثيرون يرون حركة التمازج الثقافي على غرار الهجانة البيولوجية بصفتها ظاهرة سلبية. هذا التصور محكوم بأحكام مسبقة تتنافى مع مقررات البحث العلمي الذي تتبناه المباحث الأنثروبولوجية التي تنأى بنفسها عن إدراكات التثاقف السلبية، أو الإيجابية هذه. فهي تحمل المصطلح محتوى وصفيا خالصا لا يفترض موقفا مبدئيا من الظاهرة.
وإذا عدنا لموضوع المثاقفة أو التثاقف في علاقته بموضوع الفتوى، نجد أن هناك نوعا من التطابق الحاصل في مختلف البنيات الفكرية الدّينية مهْمَا اختلفت في التفاصيل، خاصة البنيات المنحدرة من الأصول الإبراهيمية، وهي ما يعرف بالديانات التوحيدية، ففعل المثاقفة أو التثاقف قد جعل من هذا العقل المنتج لهذه البنيات ينهل من أسس وأشكال تتشابه مهما اختلفت هذه الجزئيات، أو تغيرت أنماط التفكير والوقائع. ولعل المثال الذي يجسد هذا التماس الثقافي بتعبير دنيس كوش، هو مثال ” الفتوى ” داخل كل نسق ديني. فالناظر في هذا الجزء من أجزاء العقل الفقهي الديني يجد أن هناك تأثيرا واضحا لشكل الإفتاء في المدارس الدينية السابقة خاصة المدرسة اليهودية التلمودية. مما يجعل من هذا الموضوع أحد الأبعاد الأساسية التي تجسد الامتداد الثّقافي، أو التماس الفكري بين مختلف هذه المكونات الدينية. وما يعزز هذا الطرح بشكل أوضح، هو الجذر الفكري الذي تنحدر منه هذه الأشكال الدينية، فكلها ترجع إلى النبي إبراهيم، وكلها تمتد إلى حيث المنبع الأول للدين الإبراهيمي كما يؤكد القرآن الكريم:” ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل “. فحسب هذه الرؤية فالدِّين واحد في بنيته، وأسسه وقيمه ودلالاته، مهما بدت الاختلافات اللاهوتية بأنها متناقضة إلى حد بعيد.
وإذا عرفنا بأن التماس الثقافي قد خلق لنا نوعا من التشابه في النظرة إلى الإفتاء، باعتباره وسيلة لاستخراج الحكم، وتتبع القضايا والمستجدات، فإن هذا التماس والتلاقح بين الأديان، خاصة الفقه اليهودي التلمودي، قد خلق لنا بنية فكرية دينية موازية لهذه الثّقافة اليهودية في شكلها، وانغلاقها، وفي بعض الأحيان نظرتها الاستعلائية. ولعل ما يؤكد ذلك هذا التشابه الكامل في البنيات الفقهية التي تشتغل بها كل من الديانتين اليهودية والإسلامية. إذ صار النّص القرآني نفسه مهمّشاً، بل وثانويا في مقابل الهيمنة التي عرفتها الروايات الحديثية والمدونات الفقهية، بالرغم من أن كل هذه العناصر الثقافية هي جزء من إنتاج بشري خاضع لمنطق التغير والتبدل.
- الكهنوت الديني ووظيفة الدّمج والضّبط:
استعرنا وظيفة الدّمج والضّبط من عالم الاجتماع الفرنسي إيميل دوركهايم، ولو أنّ سياقات الكتابة تختلف. فالذي نريد التّأكيد عليه هو أنّ وظيفة الكهنوت الديني هي وظيفة إيديولوجية بامتياز، على اعتبار أنّ الإيديولوجية في جزءٍ كبير من وظائفها مهمّتها التّجميع أو الدّمج[2]. فكذلك الكهنوت مهمّته تتجاوز الجوانب الطّقوسية، إلى العمل على المحافظة على الوعي الديني، والرؤية المعرفية الأحادية للدين، والتسلُّط من خلال دمج مختلف الأساليب المتاحة والممكنة على مقدرات الإنسان، وضبط حركة الجماهير والجموع لتكون منقادة للنسق الفكري طوعا أو كرها.
هذه الوظيفة التي يتحملها الكهنوت من خلال مساراته المختلفة تطرح أمام الباحث إشكاليات وتساؤلات معرفية، حيث أن كل القواعد والأصول والمعارف التي أنشأها هذا العقل، وصبغها بدلالات المقدس، تجاوزها الزمن والمعرفة الإنسانية، مع الطفرة العلمية، والتطوّر البشري الهائل في المعرفة والصناعة والفكر، وظهور مدارس وأنساق فكرية ونقدية عالمية في المجال الديني. ومع كل هذه الفجوة التي أحدثتها الثورة التكنولوجية والعلمية في العالم المعاصر، والتقدم الحاصل في كل المجالات المعرفية، لا زال هذا العقل الفقهي اللغوي المرتبط بزمان ومكان معينين، وظروف نشأة، وأحداث محدّدة يسيطر على الساحة الدينية برمّتها، نتيجة تواطؤ مكشوف في الكثير من الأحيان بين ما هو سياسي وديني من جهة، ومن خلال منظومة متكاملة من الرّوايات الثقافية رسّخت قدمها في العقل المتدين، ولم تسمح له بأنْ يتجاوزها ولو جاوزها الزمان والمكان.
هذه هي العقلية الفقهية في أبعادها الرامية إلى خلق حالة من الفراغ الوجودي، والتناقض التام بين العلم والدين، وبين الإيمان والمستجدات المعاصرة. أي أنها لعبة تقوم على الإقصاء والتهميش والقمع الفكري، من خلال روايات ومقولات جاهزة، وأصول متعارف عليها، تسمح بضبط الاختلاف الفكري، والتحكم في مخرجاته عبر القمع والترهيب والإسكات الغوغائي. كأننا أمام عقل ينهل من منطق فرعوني، لا يرى إلا بمنظوره ووفق شروطه ومقولاته المسبقة. وحينما نتحدث عن الشروط في العقل الفقهي اللّغوي فالمقصود تحديدا الانضباط داخل خانة معينة، والتسليم بما قاله الأوائل، والكبراء، والسادة. فعمق هذه الإشكالية لا يمكن تصوّره إلا في ظلِّ واقع من التطرف الديني، يقتل فيه الإنسان من أجل قناعاته، أو يضطهد فيه باسم الدين، والقواعد، والآباء. أما العلم بمفهومه الشامل، وثورة المعرفة، فلا مقام لها داخل هذا النّسق المغلق، إلا إذا وافقت الشيخ، والفقيه، والعلاّمة.
وإذا اعتبرنا بأن الفقه الإسلامي فقها شموليا، وأن العقل الذي كان يديره يريد التحكم في مفاصل الحياة، فإننا نجزم بأن هذا هو المقصود بالفكر الشمولي، أي الفكر الذي ينتمي إلى الإنسان في نشأته وتطوّره، ويستوعب كلّ معطيات الحياة تحت مسمّى الدين والرؤية الوحيدة. إنّ المقصود بالفكر الشّمولي هو ذلك الفكر الذي ينتمي إلى الإنسان في نشأته وتطوّره، ويستوعب كلّ معطيات الحياة تحت مسمّى الدين والرؤية الوحيدة. هذا التوقع وهذا المعنى تنبه إليه عبد الكريم سروش[3]، واعتبر بأن ما يسميه البعض بشمولية الإسلام، أو شمولية الدين، أو شمولية القرآن، هي رؤية منحازة ومتحيزة، ترى بأن كل التدابير والمعارف والقواعد والعلوم موجودة بشكل كامل في الشرع والدين بنحو يغني عن أي معرفة أخرى من اتجاهات مختلفة، وهو ما سماه بالرؤية الأكثرية، أو التوقع الأكثري من الدين. وفي مقابل هذه الرؤية هناك رؤية أقلية أو توقع أقلي من الدين، بمعنى أن الدين قد أشار إلى بعض الأشياء والقضايا والمعارف ولكن بشكل أقلي، متيحا للإنسانية أن تدلي بدلوها، وتخوض مسارات تطورها بعيدا عن الرؤية الأكثرية المبالغ فيها.
إذا لم ننتبه إلى خطورة الفكر الشمولي المنتسب للدين، بالرغم من بريقه وإحساس المرء معه بمصداقية تفكيره الديني، أو توجهه المذهبي، أو انحيازه الطائفي. فسنسقط طوعا أو كرها في الخطأ المنهجي الخطير الذي سقطت فيه مختلف أنماط التدين السابقة حين استوعبت مناحي الحياة، وصار الكهنوت وسيطا بين الإنسان وخالقه، يبيع الصكوك، ويدخل إلى الجنة، ويعيث في الأرض فسادا. فالمقولة الرامية إلى إخضاع كل شيء للدين بمفهومه الشمولي الذي يحصي على الإنسانية كل شيء، ويتدخل في كل مجال، تحكم على الدين بالانهيار التام من حياة الناس، حين تختلط المفاهيم البشرية مع بعضها، وتتناقض وجهات النظر، ويموت الدين باعتباره ضحية من ضحايا التسلط البشري الذي تشارك فيه بنيات المؤسسة الكهنوتية بمختلف مستوياتها.
- الفتوى: من المفهوم الثقافي إلى المفهوم القرآني:
تشكل المفاهيم عصب البنيات الفكرية الدينية، وأحد الموجهات الأساسية في تكوين العقل الديني، لذلك تحتاج دوما إلى قراءة وإعادة قراءة كلما اقتضى الأمر ذلك، ولعل أهم المفاهيم التي تحتاج منا الوقوف والتوقف مفهوم الفتوى باعتباره أحد الموجهات الأساسية للعقل المتدين في شقه الإسلامي، وأيضا في شقه اليهودي أو المسيحي إذا ما استحضرنا قضية التثاقف الحاصل بين الأديان كما سبقت الإشارة إلى ذلك. فما هي الفتوى؟ وهل هي بحث عن حلّ أم استنباط لحُكْم؟…
- وللجواب على هذه الأسئلة يلزمنا بداية التعرف على معنى الفتوى كما تم تداوله في المدونات الفقهية والأصولية، فهي تعني:” الإخبار عن الحكم بغير وجه الإلزام”[4]. وحينما نتحدث هنا عن غير وجه الإلزام يحضر أمامنا مفهوم أخر مقابل للفتوى وهو القضاء. فإذا كانت الفتوى هي بيان أو توضيح لحكم شرعي في مسألة معينة بناءً على سؤال يطرحه شخص أو مجموعة من النا عن قضية من القضايا، أو نازلة من النوازل المستجدة، فإن الوظيفة الأساسية للمفتي في هذا الباب هي توضيح الأحكام الشرعية واستنباطها من أدلتها التفصيلية. بحيث تكون الفنون هنا غيرملزمة، بل هي توصية أو توجيه. أي أن المستفتي يمكنه أن يختار اتباع الفتوى أو البحث عن فتوى أخرى. أما المفهوم الثاني الذي هو القضاء فإنه هو الحكم الفعلي في النزاعات أو القضايا الشرعية بين الأفراد، ويكون صادراً عن قاضٍ مختص، وهنا يصدر القاضي أحكامًا ملزمة يجب على الأطراف المعنية تنفيذها. يعتمد القاضي في حكمه على النصوص الشرعية والشهادات والأدلة المقدمة أمامه. فتكون أحكام القضاء هنا ملزمة ويجب على الأطراف المعنية الالتزام بها وتنفيذها. أي أن القاضي له سلطة تنفيذية في فرض الحكم عكس المفتي. وباختصار الفتوى هي توجيه شرعي غير ملزم، بينما القضاء هو حكم شرعي ملزم.فهي عبارة عن مرسوم ديني، يتحدّث فيه المفتي المتوفر على شروط مسبقة يضعها النسق الديني المتأثر به، بأحكام من أجل مجابهة كلّ الأمور الطارئة على الساحة الفكرية والسياسية والاجتماعية[5].
إن الإشكالية التي ما زالت تواجه الفتوى هي عدم قدرتها على الخروج من ثنائية الحرام والحلال. وكأن قضايا الناس لا يمكن فهمها إلا في هذا الإطار، في حين أن المستجدات والمتغيرات التي يعرفها الحقل الإنساني والاجتماعي تتجاوز بكثير قضية الأحكام الشرعية. وبهذا العجز المركب الذي يواجه العقل الفقهي نكون قد حكمنا على أنفسنا بالتخلف والتراجع إلى الوراء في مواجهة أزماتنا المستدامة التي تحتاج إلى حلول حقيقية بدل التقهقر والانطواء على النفس داخل نسق مغلق، متأثر بثقافة زمانه، وينهل من أصول فقهية كتابية مستمدة بشكل كبير من الفقه اليهودي التلمودي المشبع بثقافة الأحكام كما سبق وأن أشرنا. مع العلم أنّ حُكْم الله أكبر، وأوسع من أْنْ ينحصر في العقل الفقهي اللغوي، بجزئيات متأثّرة بحمولة ثقافية معينة:” أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ“[6]، فحُكم الله مرتبط بدراسة الواقع والتعرف على امتداداته والمؤثرات الطبيعية فيه، كما أن حكم الله يخالف حكم الجهل والجاهلية، بمعنى أنه خاضع لمعايير العلم ومقاييسه، وشروطه، ومحرِّكاته الأساسية، ويتجاوز منطق الجاهلية والجهل، في الابتعاد عن سبيل العلم الحقيقي، المرتكن إلى دراسات صلبة، نابعة من معرفة دقيقة، وغير منحصرة في ثقافة المنع والإباحة الفقهية، إذ الحكم تحكيم وحكمة، وليس ضرباً من العبث الفكري، المنبثق عن ثقافة مستوعبة للصوت الإنساني والعلمي بتصنيفات معينة.
لمعرفة عمق هذا التجلِّي في الفتوى نحاول أنْ نقتبس إشارات قرآنية تبتعد بنا قليلا عن ضيق الأفق الأصولي في تعامله مع قضية الفتوى، وانحصارها في باب الأحكام الشرعية من حلال وحرام، دُون فتح المجال على أُفُق أرحب وأوسع لبعض تجليات هذا المعطى. فالفتوى في القرآن هي طلب الحلّ وليس حكماً شرعيا، يصدِرُه الفقيه، أو المتخصص في العلوم الشرعية بالمنع أو التّرخيص. فلا بدّ لإيجاد الحلّ، وتقديره تقديرا حسناً من خطوات وقوانين معينة تحكُم أيّ ظاهرة، أو تساؤل، فقول القرآن في شأن الملك وورؤيته:” وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ “[7]، يتبيّن بأنّ الأمر متجاوز لحدود النّطق بالحلال والحرام، أو ما يعرف بالحكم الشّرعي في الثقافة الأصولية، ومتجاوز لمنطق المفتي صاحب اليد الطولى في تقرير المصير. فمن سيفتي داخل هذا السّياق همْ ملأٌ باختيارهم إنْ كانوا سيعْبُرون عبر طريقة من الطرق، إلى تحديد ملامح هذه الرؤية، وليس نطقاً بما يستلزمه الوعي الجمعي لثقافة معينة، يتحوّل فيها المفتي إلى ناطق باسم الله، وباسم السياسة في إحكام القبضة على بني الإنسان. وكذلك فعلت امرأة ملكَتْ سبأ:” قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ “[8]، فهذه الفتوى هي طلب للخروج من مأزق عسكري خطير، يحتاج إلى دراسة الخصم، وخططه الاستراتيجية، وإعداد فعلي للحرب، وحالات التأهب القصوى التي تكون مداراً لها، وليس إلى النطق بكلمتي المنع والجواز.
إنّ الفتوى تتجاوز في حدودها نظرية الأصول الشرعية، إلى آفاق كبرى، حين تتحوّل إلى طلب الحلّ في قضايا معينة من باب المعرفة، لا من باب ثقافة الآباء، وما سطَّره الناس باسم العلم الشرعي، في مقابل آخر غير شرعي، جعل الإنسان يتبوأ أسفل المنحدرات الإنسانية والحضارية. فبالعلم والمعرفة يمكننا الخلاص من كل التبعيات الفكرية والثقافية والحضارية، عبر استجلاب الفتاوى، والحلول، من المختصين، وأصحاب الشأن في مختلف التخصصات العلمية. وما ابتعادنا عن هذا الطريق إلا سقوطاً في شرَك الكهنوت الدّيني والسياسي الملازم لمسار التاريخ الإسلامي، منذ فترات طويلة كان الفقيه والمفتي فيها يصدر مراسيمه، وفتاواه لتكبيل الناس وعقولها، بدَل تحرير العطاء والطاقات من أجل الإبداع الحضاري و الإنساني.
فلو رجعنا إلى الثقافة الدينية اليهودية، لوجدنا بأنّ هناك تأثيرا حقيقيا بين ما هو إسلامي وبين ما هو يهودي في مفهوم الفتوى، فحركة التثّاقف أو التّأثير والتأثّر لم تتوقّف يوماً عن المسير في جدلية الإنسان والدين. وظلّت مساهمة بشكل أو بآخر في رسم معالم هذه المسيرة الإنسانية. قلت هذا لأنّ الفكر اليهودي كان يصنع له فتاوى منبثقة من عقله المشبع بثقافة الحلال والحرام، والمستوعب للوحي المكتوب كما يسمّونه، ونظرة إلى التلمود بشِقَّيه نجد هذا المعطى بارزا بشكل كبير في هذا المسار، فالمشنا هو عبارة عن مجموعة من القوانين والقواعد السياسية والدينية والأحكام الفقهية والمدنية، التي كتبها الفقهاء من أجل التذكير بما جاء في أسفار موسى الخمس من الوصايا، خاصة الخروج واللاويين والتثنية. أما الجمارا فهو عبارة عن إضافات أضيفت من طرف المعلّمين في عصر يهوذا، وقد حاول هؤلاء تجميع كلّ الروايات التي استبعدها يهوذا من مشناه وأضافوا إليها ما استجدّ من أمور وأحكام فقهية وكوَّنوا ما سموه جمارا أو الإضافات[9]. فهذا المسار الفقهي اليهودي كان متأثِّرا بسياسة الفتوى في شِقِّها الحُكْمي الحدودي المرتبط بالمنع والجواز، وانتقلت العدوى إلى خارج النسق اليهودي، ليحتضنها العقل المسلم، والناطقين باسم الله، والموقِّعين عن ربِّ العالمين في أخطر خطوة، يتحول فيها الإنسان بكل مظاهر ضعفه، إلى موقِّعٍ عن الرب ناطق باسمه لوأد العقل الإنساني.
قائمة المراجع:
[1] – دنيس، كوش. مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية. ترجمة منير السعيداني. المنظمة العربية للترجمة،ط1،2007 . ص:92.
[2] – يرى بخلر بأن للإيديولوجيا خمس وظائف:1- وظيفة التجمع ralliment. 2- التبرير Justification.3- الإخفاء.4- التعيين désignation.5- تجويز الإدراك autoriser la perception.
انظر: دفاتر فلسفية.نصوص مختارة. الإيديولوجيا. إعداد وترجمة. محمد، سبيلا. وعبد السلام بنعبد العالي. دار توبقال للنشر. ص: 52
[3] – عبد الكريم، سروش. الأقلي والأكثري في الدين والفقه. قضايا إسلامية معاصرة، العدد 26، 2004. ص: 97.
[4]– اللقاني، إبراهيم.تحقيق وتقديم الهلالي، عبد الله. منار أصول الفتوى. المملكة المغربية وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. ص: 231
[5] ينظر في موضوع الفتوى كما تدوالها الفقهاء كتاب:” آداب المفتي والمستفتي ” لابن الصلاح، و ” المجموع شرح المهذب ” للنووي
[6] – سورة المائدة الآية 50
[7] – سورة يوسف الآية 43
[8] – سورة النمل الآية 32
[9] – انظر المزيد عند إيبش، أحمد. التلمود كتاب اليهود المقدس. ص: 28