الفكر السلفي وأثره في العقل المصري

تكوين

أتاح الانتشار الواسع والتطور في وسائل التواصل الاجتماعي الفرصة للاطلاع على عديد من الظواهر الموجودة في المجتمع، وعلى التحولات التي تحدث -باستمرار- سواء في مستوى الأحداث أو الأفكار، ومن طريق هذه المتابعة يُمكن ملاحظة عديد من الظواهر السلبية التي تصيب أنماط التفكير والسلوك في شريحة من المجتمع، وفي المنظومة القيمية التي تحكمها التي تظهر بجلاء في التفاعل مع عديد من القضايا الحيوية والأحداث الجارية والأفكار المطروحة.

ويمثل الدين أحد المكونات الرئيسة للشخصية، وأحد المصادر المهمة التي تكون الثقافة، ويسهم نمط التدين السائد في مجتمع ما في تكوين العقل بدرجة كبيرة. وقد استطاع التيار السلفي أن يحقق حضورًا كبيرًا في المجتمع المصري منذ سبعينيات القرن العشرين، بلغ ذُروته مع الربيع العربي في عام 2011، ولم يكن ذلك الانتشار نخبويًا فقط، بل وصل إلى عمق المجتمع بسبب طبيعة التيارات الدينية وطريقة عملها، الأمر الذي ترتب عليه إحداث تأثير كبير في جوانب متعددة وفي مستويات عدة.

في هذا البحث نسعى في التعرف على أحد أبرز جوانب هذا التأثير، وهو المتعلق بالعقل المصري ومدى تأثير الفكر السلفي فيه، وما إذا كان ثمة رابط ما بين انتشار هذا الفكر في المجتمع وبين تلك الظواهر والسمات السلبية الموجودة في أنماط التفكير والسلوك ومنظومة القيم الحاكمة لشريحة منه.

في البداية نطرح جُملة من الأسئلة، نسعى في الإجابة عنها في إطار البحث

  • هل ارتبط ظهور التيار السلفي بحقبة السبعينيات من القرن الماضي، أم إنه كان حاضرًا قبل ذلك؟
  • هل السلفية تُعبر عن تيار معين ضمن مكونات الحركة الإسلامية، أم أن السلفية منهجٌ ونمط من التفكير يُميزها جميعًا؟
  • ما مظاهر الحضور السلفي في المجتمع؟
  • ما أبرز سمات الفكر السلفي؟
  • هل أسهم الفكر السلفي في إعادة تكوين العقل المصري؟ وهل كان ذلك إيجابيًا أم سلبيًا؟
  • ما مستقبل الحضور السلفي وتأثيره؟ وهل هناك مُتغيرات في السنوات الأخيرة أثرت فيه؟

وسوف نتناول هذا الموضوع من طريق عدد من المحاور:

  1. الحركة الإسلامية المعاصرة، وَحْدَةُ المنطلقات وتعدد المسارات
  2. مظاهر تأثير الفكر السلفي في العقل المصري
  3. مستقبل حضور التيار السلفي

أولًا، الحركة الإسلامية المعاصرة، وَحْدَةُ المنطلقات وتعدد المسارات

في القرون الأولى من تاريخ الإسلام ولأسباب سياسية ودينية تكونت عديدٌ من الفرق والتيارات الفكرية، بعض تلك التيارات اتسم بالمحافظة، وآثر الأخذ بظاهر النص ورفض الاجتهاد، مقابل التقليل من مكانة العقل ودوره، وهو التيار الذي تأثر بمذهب أحمد بن حنبل الذي رَسَّخَ أسس المنهج السلفي، وبعضهم الآخر اتسم بالعقلانية وإعطاء مكانة كبيرة للعقل، وقد مَثَّله المعتزلة وفلاسفة المسلمين، ولأسباب متعددة استطاع التيار المُحافظ أن يسود على حساب التيار العقلاني ويكون ثقافة المجتمعات الإسلامية بدرجة كبيرة طيلة قرون.

واستمرت الغالبية من تلك المجتمعات مع مرور الوقت في حالة تراجع سياسي وثقافي وحضاري، وأصبحت أكثر ميلًا نحو النزعة المحافظة التي تتجلى مظاهرها في سيادة ثقافة التقليد والجمود والانغلاق، حتى استيقظت بعد ذلك على صدمة حضارية حين جاء الاحتلال الفرنسي إلى مصر حاملًا أسلحته ومدعومًا برصيد حضاري من العلم والثقافة أبرزت الفجوة الهائلة بين الشرق والغرب، وكصورة من صور الاستجابة للتحدي فقد تكونت عديدٌ من التيارات الفكرية في المجتمع المصري، مُنطلقة من البحث في شأن أسباب التخلف وسبل النهوض، مشغولة بسؤال الهُوية الذي لا يزال يؤرقها حتى اليوم.

إقرأ أيضا: تأثير التيارات الفكرية في العقل العربي

ورغم عديدٍ من محاولات الإصلاح الاجتماعي والديني والسياسي وعمليات التحديث التي قام بها محمد علي منذ أوائل القرن التاسع عشر، وظهور نخبة مثقفة كونت تيارًا عقلانيًا استمر تأثيره في المجتمع المصري حتى القرن العشرين، إلا أن ثمة عوامل أسهمت في أن يكون التيار الأكثر تأثيرًا هو التيار المحافظ مقابل التيارات الأكثر حداثة وعقلانية. أول تلك العوامل أن هذا التيار هو امتداد للتيار السلفي المحافظ الذي كون ثقافة المجتمع الإسلامي طيلة القرون السابقة، ومن ثم فهو إفراز طبيعي لتلك الثقافة، وقد مثّل السياق الذي نشأت فيه الحركة الإسلامية المعاصرة أحد العوامل المهمة الأخرى في ميلها نحو النزعة المحافظة وتمسكها بها، فالاحتلال الأجنبي لمصر ولعدد من الدول العربية، ثم سقوط الخلافة العثمانية واتفاقية سايكس–بيكو وغيرها من السياسات الاستعمارية، وانفتاح المجتمع نتيجة تأثره بالثقافة الغربية[1]، كل تلك العوامل أسهمت في خلق شعور بالتهديد تجاه الدين والهُوية، زاد من الميل نحو المحافظة وأسهم في خلق كِيانات دينية في النصف الأول من القرن الماضي تُعبر عن هذه النزعة، أبرزها جماعة أنصار السنة المحمدية والجمعية الشرعية وجمعية الشبان المسلمين وجماعة الإخوان، وقد أسهمت أسباب أهمها مكانة الدين في المجتمع وإمكانات هذه الجماعات التنظيمية وبخاصة جماعة الإخوان في قدرتها على الانتشار والتأثير العميق في المجتمع، كما أسهم عامل آخر في النصف الأول من القرن العشرين في تعزيز النزعة المحافظة وتوفير المناخ الملائم للتيار الديني المُعبر عنها في العمل والتأثير مقابل التيار الأكثر حداثة وعقلانية، فقد أصبح لدى عديدٍ من المفكرين والأدباء نزعة نحو الماضي بصور أكبر بحثًا عن أسس لنهضة المجتمع، بعدما كان هناك تأثرًا بالثقافة الغربية ورغبةً في بناء تلك النهضة على أسسها، وقد أسهم في ذلك الحرب العالمية الثانية ثم عززتها حرب فلسطين 1948 “ففي أعوام الحرب الثانية ينطوي الكُتاب على أنفسهم، لكن انطواءهم هذه المرة كان معناه العودة إلى ماضي الأمة العربية يجترونه، ويحيون أبطاله، وقد كانت التكملة الطبيعية لهذه العودة إلى الماضي في صور أبطاله ومواقفه، أن تنصرف بعض الجهود إلى تحليل العقيدة الإسلامية نفسها وفلسفتها وإلى بحوث علمية في تأصيل الفكر الإسلامي على اختلاف عصوره وأطواره، كثرت الدراسات الإسلامية والعربية فيما بعد الحرب العالمية الثانية، وتفسير ذلك أنه كان تمهيدًا قويًا لولادة جديدة، تولد فيها أمة تتعرف على سماتها العربية الإسلامية، بعد أن كادت تضيع هذه المعالم في غمرة النقل عن ثقافة الغرب[2].

وفي النصف الثاني من القرن العشرين استمرت عوامل أخرى في تعزيز النزعة السلفية المحافظة وترسيخها في المجتمع المصري، أبرزها هزيمة يونيو 67 وما أحدثته من صدمة نفسية وفقدان للثقة في عديد من الأفكار المطروحة والمشروعات السياسية القائمة، الأمر الذي هيأ مناخًا ملائمًا لظهور مزيد من التنظيمات والتيارات الإسلامية التي بدأت في تقديم نفسها بوصفها بديلًا فكريًّا وسياسيًّا قادر على حل مشكلات المجتمع، وقد أسهمت التحولات السياسية والاقتصادية الداخلية والخارجية التي صاحبت فترة حكم السادات في توفير ذلك المناخ بصورة أكبر للتيار الديني ساعده على التأثير العميق وإعادة صياغة العقل المصري، فقد منح المساحة الكبيرة للتيار الديني بكل مكوناته للعمل في المجتمع بعد إجراء التحالف معه، وأسهمت سياسته في التقارب مع الولايات المتحدة الأمريكية في توظيفها التيار الديني في صراعها مع الاتحاد السوفيتي في إطار الحرب الباردة مما أعطى له قوة أكبر وقدرة على الانتشار والتأثير، وتسببت سياسته الاقتصادية في تزايد حركة الهجرة خصوصًا إلى الخليج والتأثر من ثم بالفكر الوهابي الذي امتد تأثيره داخل المجتمع المصري بدرجة كبيرة سواء من طريق المصريين المهاجرين أو من طريق أنشطة عديدة كانت تقوم بها السعودية في المجتمع باستخدام بعض الدعاة والجمعيات الممولة منها، وفي ذلك المناخ تكونت عديدٌ من الجماعات والتيارات الدينية التي وإن اختلفت في عديدٍ من الأمور وتفرقت في مسارات متعددة ووقع الصراع فيما بينها في أوقات كثيرة واتخذت وسائل مختلفة لتحقيق أهدافها واعتمدت على أدوات متنوعة في ممارسة أنشطتها والعمل على إحداث الانتشار والتأثير في المجتمع، إلا أنها رغم ذلك ظل يجمع بينها قاسم مشترك وهو المنهج السلفي وهذا المنهج له عدة مظاهر.

في هذا المحور سوف نعمل، بإيجاز لتوضيح جوهر المنهج السلفي، وذلك للخروج بنتيجة مفادها أن كل مكونات الحركة الإسلامية المعاصرة تشترك في هذا المنهج رغم وجود عديد من الاختلافات فيما بينها، لكنها اختلافات فرعية لا تنفي أن كل تلك المكونات تُعبر عن مشروع فكري واحد له التأثير نفسه في العقل المصري، مما يجعلنا نرى أن تلك المكونات تجمع بينها المنطلقات الفكرية وتفرق بينها المسارات التنظيمية.

أحد علماء الشريعة المنتمين إلى التيار السلفي يرى أن العلماء قديمًا وحديثًا حددوا مفهوم “السلف” بقرون الإسلام الثلاثة الأولى، حيث وضحوا أن المقصود بالسلف هم أصحاب هذه القرون من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ويوضح أنه يدخل ضمن دائرة “السلف” كل من تمسك بالكتاب والسنة وسار على نهج الصحابة والتابعين في فهمهما والعمل بهما حتى وإن عاش في القرون المتأخرة، وأن السلفيون هم الملتزمون بما التزم به السلف الصالح من أهل القرون الثلاثة الأولى سواء كانوا فقهاء أو محدثين أو مفسرين وغيرهم، ويؤكد أن العبرة في تحديد “السلفي” ليست بالفترة الزمنية، أي بمن عاش في تلك القرون الأولى، لكن السلفية منهج وخط متصل من الأتباع لهذا المنهج، وأن السلفية يُراد بها الطريقة التي كان عليها الصحابة والتابعون ومن تبعهم بإحسان من التمسك بالكتاب والسنة وتقديمهما على ما سواهما والعمل بهما على مقتضى فهمهم[3]، وبذلك فهو يؤكد أن السلفية منهجٌ وليست انتماءً لمذهب فقهي معين، كما أنها تُمثلُ نمطًا من التفكير جوهره التقليد والاتباع وإخضاع الحاضر لسلطة الماضي، ومن طريق أحد المنشورات الواردة في إحدى الصفحات السلفية المتخصصة في الفتاوى داخل موقع فيسبوك، نستطيع فهم جوهر السلفية بجلاء “إذا وجدتم أمرًا شاع ثبوته واشتُهر فهم معانيه، وتلقته الأمة كابرًا عن كابر بالقبول والبناء عليه، فلا تحاولوا ضرب هذه الثوابت لأنها لن تكون عبثية فقط، بل تدل على سطحية الناقد وتغابيه، ويقع بعدها تحت سياط النقد اللاذع، تملُّك الأقدمين آلات الفهم اللغوية والبلاغية مع صفاء سريرتهم وقيامهم بأعباء هذه الدعوة تجعل أنظارهم خارقة وبعيدة في فهم النصوص، فالتعقيب عليهم فيها اتهام للمجموع، وتفرّد مرير بالرأي”[4].

وما يؤكد الطبيعة السلفية للحركة الإسلامية المعاصرة بمكوناتها العلمية والحركية والثورية والجهادية، أنه على الرغم من إيمان بعضم بشرعية التجديد الديني وضرورته، إلا أن مفهومها عن التجديد يُمثل في الوقت ذاته جوهر المنهج السلفي الذي يعود إلى الماضي ولا يعبأ بالحاضر ولا يسير نحو المستقبل، فيرى الشيخ يوسف القرضاوي على سبيل المثال أن التجديد لا يعني أبدًا التخلص من القديم أو محاولة هدمه، بل الاحتفاظ به وترميم ما يلي منه وإدخال التحسين عليه[5]، وهو المعنى ذاته الذي تحدث عنه الشيخ أمين الخولي، فقد أشار إلى صورتين للتجديد: الصورة الأولى، صورةٌ تقليدية تُفهم بوضوح من كلام العلماء قديمًا، وهي الراسخة لدى التيارات السلفية اليوم وكان هدفها حماية المجتمع والانتباه إلى العوامل السيئة المُفسدة له والعمل لمواجهتها، ولذلك كان مفهومهم عن التجديد هو إحياء السنة وإماتة البدعة وإحياء ما اندرس، والصورة الأخرى، تُفهم فهمًا غير مباشر وهي تتضمن معنى التطور، والفارق بينهما كبير، فالأولى تصيب الدين بالجمود وتجعله عاجزًا عن مواكبة حركة الاجتماع البشري، والأخرى تمنح الإسلام الحيوية والحضور الدائم المتجدد، وتجعله قادرًا على الاستمرار بفعالية وإيجابية وبصورة غير معوقة أو متعارضة مع التطور الإنساني[6].

ومن أبرز هذه المنطلقات المشتركة بين مكونات الحركة الإسلامية والتي تعكس جوهر السلفية:

  1. توصيف الواقع: فترى كل الحركات أن المجتمعات الإسلامية ابتعدت عن الإسلام، وأن الأنظمة الحاكمة لا تطبق الشريعة وتحارب الإسلام.
  2. رؤية الآخر: فترى أنها تمتلك الحق المطلق، وأن كل التيارات الأخرى مُعادية للإسلام، وكل صاحب رأي أو طرح مختلف في نظرها مخالفٌ الدين.
  3. هدف إقامة الدولة الإسلامية: تتفق كل الحركات والتيارات على أن الهدف الرئيس هو إقامة دولة إسلامية تُطبق الشريعة، لكنهم يختلفون فيما بينهم بشأن الوسيلة، فمنهم من يرى أنها تتم من طريق التربية حتى يتحول المجتمع إلى مجتمع مُسلم، ومنهم يرى أنها تتم من طريق العمل السياسي والوصول إلى الحكم، ومنهم من يرى أنها تتم من طريق استخدام القوة من أجل تغيير الأنظمة.
  4. نموذج المجتمع المثالي: كل التيارات ترى أن مجتمع الإسلام في القرون الأولى هو النموذج المثالي الذي يجب استعادته، لأنه يُمثل الإسلام في صورته النقية الصافية قبل اختلاطه بالأفكار والثقافات الأخرى بعد اتساعه بسبب الفتوحات ودخول أفراد ومجتمعات تنتمي لأمم وحضارات مختلفة.
  5. التعامل مع الموروث: لا تؤمن تلك الحركات بفكرة التجديد، وتعتقد بأن مفهوم التجديد هو إعادة الشيء إلى أصله وإزالة ما طرأ على الدين من مستجدات، وهي بذلك تشترك في نمط تفكير واحد يجعل للماضي سلطة على الحاضر، ويعجز عن مواكبة حركة الاجتماع البشري، ويقلل من قيمة العقل ومكانته، حتى حسن البنا الذي يُوصف بأنه مُجدد الإسلام في القرن العشرين من جماعة الإخوان وبعض الرموز الفكرية القريبة منها، نجد أن مشروعه وأفكاره كلها تدور في إطار الفقه القديم بمذاهبه المعتدُّ بها، فتصوره عن الدولة ووظيفتها ومسألة الإمامة ومفهوم الجهاد وصوره وأهدافه ووسائله ومسألة الخلافة وغيرها من أفكار ومفاهيم كلها تدور داخل هذا الإطار، ولم يأت بجديد في ذلك.

ومن الدلائل العملية على وَحْدَةِ المنطلقات بين مكونات الحركة الإسلامية، أولًا سهولة انتقال الفرد من تيار إلى آخر أو من تنظيم إلى آخر دون مراجعة فكرية، وهو ما حدث في حالة انتقال كثير من الأفراد من المنتمين إلى جماعة الإخوان أو تيارات سلفية أخرى إلى تنظيمي القاعدة وداعش بعد 2011، وثانيًا، انتقال التيار أو التنظيم ذاته من مسار إلى مسار آخر في ظروف معينة، كما حدث في حالة الدعوة السلفية بالإسكندرية التي انتقلت من العمل الدعوي والتربوي والابتعاد عن العمل السياسي قبل الثورة، إلى العمل السياسي المباشر بعد الثورة من طريق تكوين حزب سياسي والترشح للانتخابات وعقد التحالفات السياسية، وكما حدث أيضًا في حالة جماعة الإخوان التي تحولت بكاملها منذ أواخر 2013 وحتى بداءات العام 2015، بسلاسة إلى مسار القوة وتكوين كِيانات تمارس العنف، دون أن يتم ذلك بعد مراجعة فكرية، أو بوصفه نتيجة لانشقاق مجموعة سلكت ذلك المسار بطريقة شاذَّة عن الجماعة، فقد حدث الانشقاق فيما بعد في 2015 نتيجة الاختلاف بشأن تقييم جدوى ذلك المسار ومدى نفعه أو ضرره على الجماعة.

ثانيًا، مظاهر تأثير الفكر السلفي في العقل المصري

أسهم الانتشار الواسع الذي استطاع التيار السلفي بمكوناته المختلفة أن يحققه في المجتمع في إحداث تأثير كبير وعميق في العقل المصري، وهذا التأثير بالطبع لا يشمل المجتمع بأكمله، لكنه في الوقت ذاته لم يقتصر على الأفراد المنتمين إلى هذا التيار بطريق مباشر، فقد ترك آثاره على أنماط تفكير وسلوك شريحة كبيرة تنتمي إلى طبقات اجتماعية مختلفة، وتُمثل مستويات تعليمية متباينة، وأضفى على العقل المصري سمات معينة، كثير منها لم يكن موجودًا من قبل، هذه السمات بعضها مرتبط ببعض فيعد بعضها سببًا أو نتيجة لآخر. ومن طريق الملاحظة يُمكننا رصد بعض مظاهر ذلك التأثير، بواسطة عدد من العناصر نوضح في كل منها كيف تبدو هذه السمة في الفكر السلفي، وكيف أثرت في العقل المصري وانعكست في الواقع.

  • النزعة الماضوية:

تُمثل هذه السمة أبرز سمات الفكر السلفي، ويمكن عدُّها سمة تأسيسية يترتب عليها ما يلي من سمات أخرى، فالتصور السلفي يقوم على توصيف واقع المجتمعات الإسلامية بأنه بعيد عن الإسلام، ويترتب على هذا التوصيف رفض الواقع والرغبة في الهروب، والسعي نحو نموذج مُتخيل للمجتمع من الماضي والعمل على استعادته، من هنا تبدأ أزمة الفكر السلفي، حين يسير عكس حركة التاريخ، وضد طبيعة الحياة القائمة على التطور المستمر، فيجعل الماضي مطلًا بشبحه على الحاضر دائمًا ومتحكمًا فيه، فالنزعة الماضوية إذًا ليست مجرد حنين إلى الماضي، بل هي مشروع فكري واجتماعي يسعى في إعادة تكوين الحاضر وفق رؤية تاريخية معينة.

تعكس كثير من أدبيات الحركة الإسلامية هذه النزعة، ولعل من أبرزها ما خطه سيد قطب في عديد من كتاباته التي يقول في بعضها “إن العالم يعيش اليوم كله في جاهلية[7]، ويُعبر عن رفض هذا الواقع بقوله “لا بُد لنا من التخلص من ضغط المجتمع الجاهلي والتصورات الجاهلية والتقاليد الجاهلية والقيادة الجاهلية في خاصة نفوسنا، ليست مهمتنا أن نصطلح مع هذا المجتمع الجاهلي ولا أن ندين بالولاء له… إن مهمتنا الأولى هي تغيير واقع هذا المجتمع”[8]، ويقول عن ضرورة العودة إلى النموذج الأول “فلا بُد إذًا في منهج الحركة الإسلامية أن نتجرد في فترة الحضانة والتكوين من كل مُؤثرات الجاهلية التي نعيش فيها ونستمد منها، لا بُد أن نعود إلى النبع الخالص الذي استمد منه أولئك الرجال، النبع المضمون الذي لم يختلط ولم تشبه شائبة… نستمد منه تصوراتنا للحياة وقيمنا وأخلاقنا ومناهجنا للحكم والسياسة والاقتصاد وكل مقومات الحياة”[9]، ويُعبر كاتب آخر عن تلك النزعة “لقد غشيتنا الظُلمات يوم أدرنا ظهرنا للإسلام، وولينا وجوهنا شَطَرَ أوروبا وأمريكا، ودخلنا المتاهة يوم تركنا القرآن طريق الله المستقيم، وتعلقت أبصارنا بالمذاهب الأوروبية من ديمقراطية واشتراكية وشيوعية وغيرها، وضاع منا الحق يوم هجرنا كتاب الله الذي أنزله على رسوله بالحق، وتعلقنا بكتب جان جاك روسو وكارل ماركس ولينين وأشباههم من الفسقة الكفرة أئمة الكفر والضلال”[10].

وهذه النزعة الماضوية لها أسباب موضوعية جعلتها راسخة في العقل الإسلامي الحركي، من أبرزها طبيعة النصوص الدينية التي تتطرق إلى عديد من تفاصيل الحياة بتنظيمها ووضع محددات وضوابط لها، وطبيعة المدونة الفقهية المتشعبة في كل جوانب الحياة والتي صارت قانونًا يحكم المجتمع الإسلامي طيلة قرون، وكذلك وجود دولة تحكم العالم الإسلامي أو أجزاء كبيرة منه لفترات زمنية طويلة من طريق هذا الفقه وتحت مظلة الشريعة، أيضًا من العوامل الشعور الراسخ لدى الحركات الإسلامية بالهزيمة والضعف والتخلف عن الغرب بطريقة تتناقض مع صورة الدولة الإسلامية التاريخية، وكذلك الممارسات الغربية منذ القرن الثامن عشر الخاصة بالاستعمار واستغلال ثروات العالم الإسلامي وممارسة الاستبداد تجاهه، وأيضًا واقع المجتمعات الإسلامية وأوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية المأزومة، وغياب الحرية الذي يحول دون التطور الفكري؛ هذه العوامل أفرزت عقلًا سلفيًا محافظًا منغلقًا على نفسه متمسكًا بالماضي لا يرغب في مفارقته حتى لا يشعر بالتيه.

إقرأ أيضا: السَّلَفِيَّةُ: النَّشْأةُ والتَّطورُ التاَرِيخي من الإِصلاحِ الإسلامي إلى النُّسَخِ (الرَّجْعِية)  الجزء الأول: السلفية الإصلاحية 

كما أن لهذه النزعة أسباب تتعلق بوجود نصوص دينية تُفسرُ من طريق قراءتها الظاهرية بوصف الحياة تسير باستمرار نحو الأسوأ، مثل الأحاديث التي تُشير إلى أن الأمة سوف تمر بمراحل خمس هي النبوة ثم الخلافة الراشدة ثم الملك العَضُوض ثم الحكم الجَبْرِي ثم يدور الزمن دورته ليعود إلى صورته الأولى في خلافة راشدة على مِنهاج النبوة، والأحاديث التي تتحدث عن أن الساعة تقوم على شرار الناس، إلى غير ذلك من نصوص تؤكد أفضلية الماضي على الحاضر.

وتلك النزعة الماضوية تركت آثارها على أجيال نشأت في ظل انتشار الحركة الإسلامية وتأثيرها، فجاءت لتعبر عنها في عديد من المواقف وتجاه القضايا المختلفة، ويمكننا ذكر نموذج واحد لأثر هذه النزعة من طريق كتابات أحد الأفراد على وسائل التواصل الاجتماعي الذي يُعبر عنها من طريق رؤيته إلى الإسلام بوصفه دينًا أصوليًا بطبيعته، فيقول “إننا بوصفنا مسلمين مطالبون بنص القرآن بالنظر في الماضي بغرض الاعتبار في المقام الثاني و التأسي في المقام الأول، إن أملنا الأكبر بوصفها مسلمين الواجب السير إليه والعمل لتحقيقه هو خلافة على منهاج النبوة، لذلك ستبقى فترة الرسول صلوات الله وسلامه عليه هي النبع الذي نستلهمه والأسوة التي ننظر إليها والأصل الذي يجب أن تقوم أعمالنا على أساسه، وعلى ذلك فالإسلام نفسه أصولي… الخلاصة هي تأكيد ضرورة التخلص من عقيدة التقدم ولن يحدث ذلك إلا بتفكيكها والاشتباك معها بوصفها فكرةً مكذوبةً والأهم هو التمسك بالقرآن تلاوةً وتدبراً لقدرته اللامحدودة على استئصال هذه الخرافة وكل خرافة من النفس الإنسانية”.

وتؤثر النزعة الماضوية سلبًا في أنماط التفكير والسلوك، فنجد أثرها في عدم تقبل أي رؤية تجديدية للدين، والاعتراض على أي اجتهاد يعمل لإعادة قراءة النص الديني بطريق يتلاءم مع متغيرات الواقع وتطور حركة الاجتماع، والتشكيك وتوجيه الاتهامات المختلفة لمن يُقدم رأيًا جديدًا، ومن ثم التسبب في جمود الدين وفقدانه للحيوية المطلوبة التي تجعله قادرًا على التجدد والاستمرار، فتنشأ الصراعات في المجتمع تِبعًا لذلك، ويبتعد كثيرٌ من الأفراد عن دائرة التدين وعن دائرة الدين بالكُلية، ونجد أثرها أيضًا في رفض كل الأفكار التي أنتجتها ثقافات وحضارات أخرى، ومن ثم الانعزال والانغلاق على الذات، وكذلك عدم القدرة على التعامل مع الواقع وتحدياته بما يلائمه من آليات والتعامل معه من منظور قديم لا يتلاءمُ معه، وعدم القدرة على الاستفادة من تجارب الماضي وأخطائه، فيُنظرُ إليه بعين انتقائية تعظم الإيجابيات وتتغاضى عن العيوب والسلبيات، وينعكس ذلك أيضًا على طريقة النظر إلى الحاضر والتفاعل معه.

  • صناعة الخوف:

ذلك السياق الذي نشأت فيه الحركة الإسلامية الذي أشرنا إليه سابقًا، جعل من الخوف ثقافة راسخة داخل العقل السلفي كونت هُويته وعززت النزعة الماضوية لديه، فأصبح يُعيد إنتاج تلك الثقافة من طريق خطابه بصور مختلفة تركت آثارها في نمط تفكير المتلقي للخطاب وسلوكه، وتسبب في أن يكون الدين مصدرًا للخوف بدلًا من أن يكون مصدرًا للأمن والطمأنينة وللطاقة الرُوحية التي تدفع بالإنسان إلى الأمام.

ومن هذه الصور ولعل أقلها هي تركيز الخطاب على معانِ العذاب والنار والحساب… بصورة أكبر من معاني الرحمة والحب والنعيم… لكن الصورة الأخطر والأكثر تأثيرًا في ترسيخ الخوف لدى الفرد، هي تعزيز الشعور العميق بداخله بالذنب والتقصير المستمر، الناتج عن الفجوة المُتخيلة بين واقعه البعيد عن الإسلام وبين النموذج المثالي للمجتمع في الماضي، والفجوة بينه وبين نماذج تاريخية في واقع مغاير يؤكد له الخطاب السلفي دومًا على نقاءها، ويطالبه بضرورة محاكاتها وتجسيدها؛ هذا الشعور يخلق لدى الفرد إحساسًا بالعجز وعدم الرضا عن الذات، ويدفعه نحو رفض الواقع والرغبة في العزلة. فحين يقرأ الفرد في كتابات الحركة الإسلامية كلامًا مثل “ابتعد المسلمون بعامة عن الإسلام وهجروا أحكامه حتى خرجوا على الإسلام وهدموا معالمه… وإذا أوجب الإسلام على المسلمين أن تكون لهم دولة واحدة وإمام واحد، فلم يفعلوا ما يُوجبه عليهم الإسلام فما هم بمسلمين حقيقين بوصف الإسلام، وعملهم كُفر خالص إن فعلوه متعمدين غير متأولين… والإسلام يوجب على المسلمين أن يحاربوا أعداء الإسلام حتى يستسلموا كارهين، ويعطوا الجزية صاغرين، لكن المسلمين اليوم يُسالمون أعداء الإسلام الذين يحاربونهم، ويستسلمون لهؤلاء الأعداء”[11]، فلا بُد أن يترسخ لديه ذلك الشعور.

وأخيرًا هناك صورة أخرى تُسهم في ترسيخ ثقافة الخوف، وهي تعود إلى نمط التدين السلفي القائم على التقليد والالتزام باجتهادات الفقه في القرون الأولى، وعدُّ أيُّ أمر جديد في الدين بمنزلة بدعة مما يجعل الفكر السلفي غير قادرٍ على استيعاب المُستجدات التي تحدث في الحياة باستمرار، ويترتب على ذلك أن مساحة الحلال/المسموح تضيق عنده بدرجة كبيرة، في حين تتسع عنده مساحة الحرام/الممنوع، ليصبح التحريم كأنه الأصل في نظر المتأثرين بالخطاب، وهذا من شأنه إصابة الفرد بخوف مستمر من الوقوع في دائرة التحريم.

وثقافة الخوف هذه يمكننا ملاحظة أثرها في العقل من طريق عدة مظاهر منها: فقدان الفرد للثقة في نفسه وشعوره الدائم بأنه في حاجة إلى وسيط بينه وبين الإله أو إلى مرشد ديني يلجأ إليه في كل تفاصيل حياته، وهذا يظهر بوضوح من طريق حجم الأسئلة ونوعيتها التي تردُ في صفحات ومواقع سلفية مُخصصة للفتاوى التي يُلاحظ أنها تتطرق إلى أمور فرعية وتفاصيل حياتية صغيرة والسؤال عن كل تصرف وكل موقف وهل هو حرام أم حلال، وهذا الأمر يجعل المتأثر بالفكر السلفي مسلوب الإرادة مفتقد لذاتية الفكر والممارسة، وهذا بدوره يُفقد المجتمع جزءًا كبيرًا من قوته البشرية المُسيطر عليها بواسطة هذا التيار، كذلك فإن الخوف ربما يؤدي في وقت ما إلى ابتعاد بعضهم عن دائرة التدين أو دائرة الدين ذاته بوصفه رد فعل تجاه الخوف الدائم وآثاره النفسية، كما أنه يُنتج نمطَ تدين متشدد يصيب الآخرين بالخوف من الدين، ومن نتائج الخوف أنه يقتل الإبداع داخل الفرد ويقيد حريته، ويخلق فيه رهبةً تجاه كل جديد، ويجعله متعصبًا لرأيه وما يعتقد بأنها حقائق مطلقة، مُتخذًا موقفًا عدائيًا تجاه كل صاحب رأي مخالف، مما يزيدُ من التعصب ويصيب المجتمع بالانقسام، كما يؤدي الخوف إلى رفض التطوير والرضا بحالة الجمود والتأخر التي تصيب المجتمع عمومًا، لأنه يصبح نمط تفكير حاكم للفرد.

  • ضعف الارتباط بالوطن:

يُمثل هذا الأمر أحد أبرز الآثار السلبية التي تركها الفكر السلفي في العقل المصري، وقد أصبح أكثر وضوحًا في السنوات الأخيرة بعد الصراع الذي نشأ بين التيارات الإسلامية والدولة المصرية بعد 2013، وهو أثر لم يقتصر فقط على الأفراد المنتمين مباشرة إلى تلك التيارات، بل أصاب كثيرًا من الأفراد المتأثرين بها، وهذا يتضح من طريقة تفاعل هذه الشريحة مع عدد من الأحداث والقضايا في وسائل التواصل الاجتماعي، مثل دعم سياسات وممارسات دول وجماعات أخرى خارج حدود الدولة الوطنية وتشجيعها، بسبب بعض مواقفها التي تصب في مصلحة الإسلاميين، أو لأنها تتمتع بمسحة دينية تبدو في خطابها أو في بعض سياساتها، وذلك مقابل النقد الهدام لما تقوم به الدولة المصرية في أي شأن، بل واتخاذ مواقف ضد المصلحة الوطنية أحيانًا والاستعداد لعقد اتفاقات وتحالفات مع دول أخرى اتفاقًا يَضُرُّ تلك المصلحة في سبيل خدمة مشروع الخلافة المنشود، وكذلك تعظيم انتصارات وبطولات رموز وشخصيات تنتمي لدول أخرى مقابل التحقير والتقليل من انتصارات وبطولات وطنية، ونأخذ هنا مثالًا واحدًا لأحد أعضاء جماعة الإخوان في مصر الذي كَتَبَ منشورًا في موقع فيس بوك يقول فيه “أما من يُمنِّي نفسه الأماني ويُعوِّل على جيش الدولة المصرية أن يصمد في حرب إسرائيل فهو يعيش حالة إنكار مُرة ليس أكثر، هذا الأمر ضد طبيعة وعقيدة وخبرات وجاهزية وتسليح جيش الدولة المصرية”، وفي المقابل يقول في حق حركة حماس: “محظوظون أننا عشنا في زمانهم، محرومون أننا لم نتشرف بالجهاد تحت لوائهم”.

وهناك عدد من الأسباب التي تجعل الموقف من الدولة الوطنية سلبيًا بعامة، وتجعل الولاء له والارتباط به ليس له الأولوية لدى التيار السلفي، أبرزها وجود قناعة بفكرة شمولية الإسلام، وهي تعني أن الإسلام جاء بنظام دقيق ونصوص تشمل تنظيم كل جوانب الحياة إما بطريق مباشر أو غير مباشر، وأسهم في ذلك منظومة فقهية تكونت عبر التاريخ اعتنت بتنظيم المجتمع بكل تفاصيله وأمدته بجملة من الأفكار والقوانين والنظم والمفاهيم التي تجعله مكتفيًا بها وليس في حاجة إلى الأخذ عن ثقافات وحضارات من خارج دائرة الإسلام ومخالفة له، ومن أمثلة الأدبيات الخاصة بالحركة الإسلامية التي تُعبر عن هذا المعنى، ما يلي “وقد آن للشعوب العربية والإسلامية أن تتحرر من التبعية للغرب والشرق، وأن ترفض كُلَّ حل مستورد، وكل منهج دخيلٍ، وأن تتخذ من الإسلام الصحيح حلًا لمشكلاتها ودستورًا لحياتها”[12]، وأيضًا “معنى الحل الإسلامي أن يكون الإسلام هو المُوجه والقائد للمجتمع في كل الميادين… وأن تُصبغ الحياة بالصبغة الإسلامية، وأن تكون عقيدة المجتمع إسلامية، وشعاراته ومفاهيمه وأفكاره ومشاعره ونزعاته وأخلاقه وتربيته وتقاليده وآدابه وقوانينه وتشريعاته كلها إسلامية”[13].

ومن أبرز المفاهيم التي يرفضها الفكر السلفي في إطار رفضه لكل ما أنتجته الحداثة من مفاهيم ونظم وقوانين وفلسفات، هو مفهوم الدولة، فمفهوم الدولة الوطنية الحديثة من المنظور السلفي هو مفهوم غريب على البيئة الفكرية الإسلامية، فالدولة في العقل السلفي هي الدولة الإسلامية الكبرى “الخلافة” التي تضم كافة الدول الإسلامية وتخضع لحاكم واحد، وهي الدولة التي تقوم على أساس العقيدة، فهي دولة المسلمين التي يعيش فيها أصحاب الأديان الأخرى بوصفهم أقليات لها حقوق يكفلها النص الديني، يقول حسن البنا في ذلك: “حين أقول الوطن لا أقصد مصر وحدها، بل أعني مصر وبلاد العرب الشقيقة ودول الإسلام ومواطنه الحبيبة، فإن وطننا نحن الإخوان المسلمين كل شبر أرض فيه مسلم يقول لا إله إلا الله”[14]، وهذا الهدف هو ما تسعى في كل الحركات الإسلامية، فهي ترى أنه شرط أساسي لإقامة الدين، ومن ثمَّ تعده أصلًا من أصول الدين[15]، ولذلك تسعى في هدم الدولة القائمة وإقامة دولة إسلامية وفق نموذج متخيل، ومن الممكن أن يكون هناك ولاء للدولة الوطنية في حال توافر بعض السمات بها التي تجعل منها دولة إسلامية وفق المنظور السلفي وتكونُ جزءًا من الدولة الإسلامية الكُبرى المنشودة، وتكون الدولة كذلك عندما تطبق الشريعة وتدعوا إلى الدين “فالدولة وظيفتها الدفاع عن العقيدة، وأساس شرعية السلطة ومحور وسبب وجودها هو نشر الدعوة فيها… والبيعة بوصفها عقدًا سياسيًّا مصدرًا للسلطة تتمركز في عنصر أساسي واحد هو وحده محور شرعيتها وهو مضمون الممارسة للسلطة، احترام الأحكام الإسلامية، فإذا حدث إخلال بذلك المضمون يصير المسلم، ليس من حقه فقط عدم الطاعة، بل من واجبه رفض تلك الطاعة ومقاومة الحاكم ولو بالسلاح”[16].

بينما الدولة الوطنية الحديثة التي لا تتوفر فيها هذه السمات فهي في نظر التيار السلفي صنيعة استعمارية وأداة للتفرقة بين المسلمين وتفتيت الدولة الإسلامية وإضعافها لاستنزاف ثرواتهم والقضاء على الدين، ومن ثمَّ لا يكون الولاء والانتماء واجب في هذه الحالة، ولكن الولاء يكون للجماعة التي يقع عليها عبء إقامة الدولة الإسلامية والتي تعد البديل المؤقت للدولة المنشودة، ولذلك تُنزلُ النصوص الدينية الخاصة بالبيعة وطاعة ولي الأمر على تلك الجماعات، كما من الممكن أن يكون الانتماء لأي دولة أخرى تتوافر بها السمات المطلوبة وفق المنظور السلفي كأن تطبق الشريعة أو تدعم الجماعات الإسلامية وتمنحهم المساحة المطلوبة للعمل بها، لأنه طبقًا لمبدأ الولاء والبراء يكون الولاء لأهل الإسلام والبراء من أعدائه، ويصبح أي عمل من شأنه دعم الدولة الوطنية التي لا تتوافق مع المعايير السلفية والمشاركة في استقرارها أمر غير مقبول لأنه يؤخر إقامة الدولة الإسلامية، ويظهر موقف الفكر السلفي من الدولة الوطنية من طريق عدة أمثلة، منها تحريم تحية العلم “لا يجوز للمسلم القيام إعظامًا لأي علم وطني أو سلام وطني، بل هو من البدع المُنكرة، ولا تجوز تحية العلم”[17]، ومنها بعض الدعوات الخاصة بالحث على التعليم المنزلي الموازي بوصفه بديلًا للتعليم العام، لأن المناهج التعليمية وفق التصور السلفي تتضمن أفكارًا تخالف الدين كما تتضمن تاريخ مصر القديم الذي ينظرون إليه من زاوية دينية ضيقة، ومنها الموقف ممن يموت في سبيل الوطن “قال الشيخ بن عثيمين: إن الذي يقاتل من أجل وطنه الإسلامي ويريد بذلك أن يُعلي كلمة الله فهذا شهيد، وأما إذا كان يقاتل من أجل وطنه ولا يريد بذلك أن يُعلي كلمة الله، فهذا ليس بشهيد، لأنه يستوي في ذلك مع الكافر”[18].

  • إفقاد العقل لقدراته

من السمات البارزة في الفكر السلفي أن العقل لديه يحتل مكانة متدنية، والمساحة التي يعمل فيها ضيقة، والدور الذي يؤديه محدود، ومن سماته الإيمان بالأحكام المطلقة، والانطلاق من عدد من الأفكار تمثل له مسلمات لا تقبل التفكير ولا المراجعة، كذلك لديه نظرة انتقائية للتاريخ حيث ينظر بعين واحدة، كما أنه يُقدس الأشخاص والأفكار، ويعتمد على مخاطبة العاطفة واستثارتها بهدف التأثير في الجمهور أكثر مما يعتمد على العقل بدرجة كبيرة، ولا يشجع على التفكير النقدي ويرسخ ثقافة التقليد والطاعة.

وربما تعود هذه السمات لعدد من الأسباب أهمها ما ذكرناه سلفًا من أن هذا الفكر السلفي إنما هو امتداد لتيار تاريخي في الأمة يعظم من مكانة النقل على حساب العقل “فالثقافة العربية في عصور الازدهار هي ثقافة تُعطي أولوية للنقل على العقل، وأن دور العقل في الغالب ينحصر العمل في روح النص، ولذلك فإن بعض المذاهب والشخصيات التي أعطت إلى العقل الأولوية على النقل مثل: المعتزلة وابن رشد، لم تلقَ رواجًا في ثقافتنا العربية… ولكن سلطة الفقهاء وسلطة السياسة كان لهما دورهما البارز في وأدِ أي توجه في ثقافتنا ينحو نحو إعطاء سلطة مركزية للعقل، ولهذا فلم يُكتب لمثل هذه التيارات النمو والازدهار في ثقافتنا”[19]، وذلك التيار التاريخي له منهج وسمات منها الاعتقاد بحجية النص وحرفيته والتمسك بظاهر النص ورفض التأويل، كذلك إيثار السلف على الخلف، ومعاداة الفلسفة والمنطق، وهي معاداة منطلقة من اعتقاد بكفاية النص الديني في تنظيم الحياة وتقديم إجابة عن كل شيء، وكذلك تغييب فاعلية الإنسان، وذلك بعدم الاعتراف له بالإرادة والقدرة على الفعل وتمتعه بالحرية[20].

وقد قدم عدد من المفكرين نقدًا لهذه السمات، منها القول بأن “هؤلاء يعيشون في الماضي أكثر مما يعيشون في العصر، ويهملون نعمة العقل أو يغضون من شأنها، حتى ليُسَوِّيَ نفر منهم بينها وبين الهوى، ويضفون قدسية الدين على تجارب السلف، فيتوهمون إمكان صبُّ الحاضر والمستقبل في تجارب السلف”[21]، ويرى الدكتور فؤاد زكريا أن الهجوم على العقل البشري واتهامه بالقصور أصبح من أبرز السمات المميزة للدعوات الإسلامية المعاصرة، وأن كثيرًا من الدعاة يتصورون أن الوحي الإلهي لن تصبح له مكانته في النفوس إلا على حساب العقل البشري، وأن عليهم أن يحطوا من شأن العقل حتى يؤمن الناس بمكانة الوحي[22].

وتنعكس هذه السمات على الخطاب السلفي الذي يروج كثيرًا لعدد من الخرافات والأساطير والتفسيرات غير المنطقية للأحداث والقضايا المختلفة، كما ينعكس على نظرته إلى العلم الذي يتخذ منه موقفًا سلبيًا سواء في مستوى العلوم التطبيقية أو الإنسانية، ومن بعض نظرياتها التي يعتقد أنها مخالفة للنص الديني، ويعتقد بأنه يمتلك سردية دينية قادرة على تفسير كل شيء في الحياة، ومن ثم فهو ليس في حاجة إلا إلى الاتباع والتطبيق، والتيار السلفي عمومًا من مصلحته أن يُبقيَ العقل معطلًا، لأن من عوامل استمراره وبقاء تأثيره سيادة الجهل والتفكير السطحي حتى يبقى المجتمع واقعًا تحت سيطرته، فغياب الوعي أو نقصانه أو تزييفه يُساعد هذا التيار على استمرار السيطرة على المجتمع.

ولهذه السمة العديد من الآثار السلبية على أنماط التفكير والسلوك في عديد من المواقف لدى الشريحة المتأثرة بهذا الفكر، فإجمالًا يُؤدي تحجيم دور العقل وإفقاده لقدراته وإمكاناته إلى إصابته بالضمور والعجز عن التفكير النقدي والإبداعي، وهذا يجعل الإنسان عرضة للخرافة والوهم والتطرف والاستقطاب والشائعات، ويخلق لديه الاستعداد لتصديق أي شيء وتقبل أي فكرة مهما بدا عدم منطقيتها أو خطأها طالما صدرت ممن يثق به من رموز التيار الديني، ومن الآثار التقليل من أهمية الأسباب في تحقيق النتائج، مثل الترويج لفكرة أن الواقع المأزوم سببه الذنوب والابتعاد عن الإسلام، وأن الحل في التوبة والرجوع إلى الدين، والترويج إلى أن كل ما يحدث في المجتمع وفي الأمة كلها إنما هو نتيجة مؤامرات من جهات مختلفة ضد المسلمين والإسلام، مما يُصيب الفرد بالإحباط والشعور بالعجز وعدم القدرة على التغيير، ويؤدي ذلك إلى تسطيح الفكر وإضعاف العقل وجعله أقل كفاءة من العقل المتحرر من القناعات المسبقة والأحكام المطلقة، مما يؤدي في النهاية إلى حرمان المجتمع جزءًا كبيرًا من طاقته البشرية نتيجة تعطيل قدرات العقل البشري لدى ملايين ممن تأثروا بالفكر السلفي.

  • النظرة المتدنية إلى المرأة

في التصور السلفي تُعد المرأة أصل الشرور ومصدر الغواية والفتنة الذي يجب إخفاؤه دومًا عن الأنظار، ومكانتها أقل من الرجل بحكم الفطرة والخلقة، وهذه الرؤية مستمدة من التراث الديني وأقوال الفقهاء المتأثرة بالبيئة والواقع الذي خرجت منه، ونظرًا لطبيعة المنهج السفلي القائم على التقليد والاتباع وتقديس السلف فقد عُدَّت هذه الأقوال بمنزلة نصوص مقدسة لا يجوز تجاوزها.

وتمتلئ أدبيات التيار السلفي بعديدٍ من الكتابات بشأن موضوعات تتعلق بالمرأة، فيعدُّ هذا الموضوع من بين أهم القضايا التي يركز فيها الخطاب السلفي، فهو يرى قوة المجتمع وانهياره مشروطة بوضع المرأة ودورها فيه، بل منهم من يرى أن اكتساب المرأة لجزء من حريتها وبعض من حقوقها إنما يُمثل مؤامرة غربية لإفساد المجتمعات الإسلامية والقضاء عليها “كانت حركة تحرير المرأة كلها من أولها لآخرها جزءًا من مخطط الاحتواء الغربي والغزو الثقافي والاجتماعي الذي يستهدف إخراج المرأة من رسالتها وقيمها ودفعها إلى أمواج المحيط العاتية”[23]، وتنطلق كل الأفكار والآراء المتعلقة بالمرأة من نظرة لها بأنها أدنى منزلة من الرجل “لا ينازع في تفضيل الله الرجل على المرأة في نظام الفطرة إلا جاهل أو كافرالذكورة كمال خلقي وقوة طبيعية وشرف وجمال، والأنوثة نقص خلقي وضعف طبيعي[24]، ويبررون ذلك بأن المرأة مخلوقة بطبيعتها بقدرات أقل من الرجل: “إن حظها من العقل الذي لم تبلغ به مبلغ الرجل، فُصِّل على قدر ما تفهم به نفسها وواجبها ومكان وظائفها في الحياة… فما من عمل زاولته المرأة من غير وظائفها الأصلية في البيت وخارجه إلا وكان الرجل مُتفوقًا عليها فيه”[25]، والأصل عند التيار السلفي هو عدم خروج المرأة من بيتها إلا لضرورة “الأصل لزوم النساء البيوت… وخروجهن من البيوت رخصة لا تكون إلا لضرورة أو حاجة”[26]، كما يربط الفكر السلفي بين لبس المرأة وانتشار الرذائل في المجتمع “ومن أعظم الأسباب والتدابير الواقية من الزنى فرض الحجاب على نساء المسلمين”[27]، وقد وصفها الشيخ الشعراوي بأنها وسيلة لتفريغ شهوة الرجل[28]، وأن المرأة التي تبالغ في زينتها إنما تفعل ذلك إلحاحًا في عرض نفسها على الرجل الذي يُفهم من ذلك أنها تنتظر إشارة منه[29].

ويعد موضوع المرأة من أكثر المجالات التي يتجلى فيها تأثير الفكر السلفي في العقل المصري، فتُبنى عديد من الممارسات القهرية التي تُمارس ضدها في الواقع على تبريرات دينية وفق التصور السلفي، وكلها تنطلق من فكرة أساسية وهي أن مكانة المرأة أقل من مكانة الرجل، فنجد على سبيل المثال، الرغبة في السيطرة عليها والتحكم في كل تصرفاتها، والحد من حريتها بدعوى القوامة والولاية، وتقييم سلوكها بطريقة متشددة عن الرجل وتحميلها المسؤولية الأكبر عن الخطأ، وإلقاء عبء كل الأنشطة المتعلقة بالمنزل والأسرة عليها سواء قبل الزواج أو بعده، ورفض عملها في كثير من الأحيان رغبة في استمرار السيطرة عليها، وحرمانها من الإرث جزئيًا أو كليًا، والتعدي عليها بصور مختلفة من الإيذاء البدني والمعنوي وتبرير ذلك في كثير من الأحيان، إلى غير ذلك من ممارسات ناتجة عن ثقافة ذكورية متجذرة في المجتمع ومغلفة بغطاء ديني، كما يتجلى ذلك التأثير في عدد من الظواهر المنتشرة مؤخرًا، ومنها الكتابات والرسومات التي تتضمن تشويهًا وتحريضًا وإضفاء صورة ذهنية عن المرأة العاملة وتصويرها على أنها امرأة منحلة، والمطالبة بمنعها من العمل، والدعوات التي يتبناها سلفيون لتشجيع الزواج من غير المِصريات، وأيضًا الحملات التي تُروج لما يُسمى “الزواج الشرعي“، تُستغلُّ النساء من طريقها تحت غطاء ديني، بتشجيع الفتيات على قبول الزواج دون تكاليف كثيرة ودون تبعات على الزوج الذي يتخذ من صورة الزواج هذه وسيلة للزواج من أكثر من فتاة لمدد قصيرة، بوصفها صيغة الزواج الشرعي الموافق للإسلام، وأيضًا دعوات السلفيين المستمرة لفكرة تعدد الزوجات واستخدامها في أحيان كثيرة بوصفها مصدرَ تهديدٍ وأداةَ ردعٍ للمرأة .

وقد أدى التركيز المفرط للخطاب السلفي في المرأة إلى حالة من الهوس المرضي، وتحولت المرأة في نظر الشريحة المتأثرة بالخطاب إلى مصدرًا للغواية وأداةً لتفريغ الشهوة فحسب، وأدى ذلك إلى خلق حالة من الخوف من أي علاقة مع المرأة، مهما كانت سطحية، خَشية أن تكون مُقدمة لعلاقة غير مشروعة، ولم يقتصر تأثير الفكر السلفي بخصوص المرأة على الرجال فقط، بل امتد ليشمل شريحة من النساء أيضًا، فقد استطاع الخطاب السلفي بما يسوقه من أدلة دينية وبآراء فقهية يتبناها ويؤكد أنها الدين الصحيح، أن يجعل شريحة من النساء تؤمن بتلك الأفكار التي تحط من قيمتها وتسلبها حقوقها وتبرر الممارسات القهرية ضدها، بل وتدافع عنها وتُعيد إنتاجها تجاه غيرها من النساء، وهو نوع من العنف الرمزي يمارسه التيار السلفي تجاه المرأة يجعلها تتقبل القهر بصدر رحب.

كما أسهمت تلك النظرة إلى المرأة في ترسيخ عدد من الممارسات والتصورات السائدة في المجتمع، فيرسم الخطاب السلفي صورة نمطية للمرأة الصالحة وفق معاييره الخاصة، تشمل لباسها وطريقة كلامها وعملها وتحركاتها والأماكن التي يجوز لها التواجد فيها، ومن لا تتوافر فيها هذه المعايير تصبح من وجهة النظر السلفية امرأة مشكوك في أخلاقها، وأدى ذلك إلى انتشار نظرة من الريبة، وسهولة توجيه الاتهامات وإطلاق الأوصاف المُشينة ضد أي امرأة لا تستوفي هذه المعايير، كما تؤدي تلك النظرة إلى تزايد معدلات الاعتداء والتحرش ضد المرأة التي لا تلتزم بالمعايير السلفية، لتصبح في نظر المجتمع هي السبب في ما ينالها من اعتداء بل مستحقة له.

ونذكر مثالين هنا لكتابات أفراد متأثرين بالخطاب السلفي تجاه المرأة في مواقع التواصل الاجتماعي، الأول يقول: “يا رجال البيوت متابعين بناتكم بيروحوا الجامعة بلبس عامل أزاي؟ إنتو متأكدين إنهم رايحيين يتعلموا؟ يا أبو البنات سناتر الدروس أوكار وغرز وكباريهات تحرش لفظي وجسدي وسفالة لا تخطر على بال، يا رجال المسلمين لا فلاح لكم إن رضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة وانصهرتم مع كمين التعليم المختلط”، والآخر يقول: “هدفي من تعليم بنتي رفع الجهل عنها، ومش محتاج ده يكون نهايته ختم نسر يجبرها على الاختلاط والاحتكاك بمجتمع ساقط، لذلك ناوي أعلمها في المنزل، لأني مش منتظر منها وظيفة، هي عندي أنا مكلف بالنفقة عليها، ولما تنتقل عند زوجها تنتقل النفقة، يا أهلًا بالرجعية ووداعًا للحداثة”.

  • محدودية رؤية العالم

النظرة السلفية إلى العالم تنطلق من منظور ضيق جدًا، فهي نظرة غير قادرة على استيعاب الجوانب المختلفة للأمور، سواء فيما يتعلق بالواقع أو التاريخ، وسواء فيما يتعلق بالأفكار أو المواقف أو الأشخاص، وتأتي هذه النظرة من اعتقاد التيار السلفي بأنه من يملك الفهم الصحيح للدين، ويمتلك من ثم الحقيقة المطلقة، ولأنه فكر قائم على التقليد والأخذ بظاهر النصوص، وأن هذا أصبح يُمثل نمطًا من التفكير يتحكم في نظرته بعامة، فإنه أصبح غير قادر على رؤية الأشياء سوى من زاوية واحدة ومن طريق مظهرها الخارجي، ودائمًا ما تحكمه فكرة الثنائيات، الحق/الباطل، الصواب/الخطأ، الإسلام/الكفر، الماضي المثالي/الحاضر السيء، الولاء/البراء… لذلك حكمه على الأشياء مُطلق، والأمور لديه لا تحتمل أكثر من وجه، وهناك معايير لديه لكل شيء، وإذا خالف الشخص أو الفكرة أو الرأي أو الموقف معاييره، فإنه يصبح حينئذٍ مَحَلَّ رفض ونقد، فلا يستطيع رؤية إيجابيات وسلبيات في ذات الشيء، فالأمر لديه إما قبول تام أو رفض مطلق، ولذلك فهو يفتقد إلى حس النقد الذاتي، والنموذج المثالي لديه هو ما كان خاليًا من العيوب التي تتفق مع معاييره فقط، ولذلك فهو يعيش دائمًا حالة من الصراع مع أطراف عدة.

فمن جانب يرفض الغرب وحضارته رفضًا مُطلقًا ويرى فيه شرًا خالصًا، كما أن لديه موقفًا عدائيًا من أصحاب الديانات الأخرى، ولديه حدود ومعايير متشددة في التعامل معهم في المواقف المختلفة، ولديه أيضًا نظرة انتقائية للتاريخ سواء للأحداث أو الشخصيات، فهو يُعظم من الإيجابيات ويتغاضى عن السلبيات والعيوب ويختلق أمورًا لإضفاء هالة من القداسة عليه، أيضًا يتخذُ التيار السلفي موقفًا عدائيًا تجاه المؤسسة الدينية الرسمية بكل مكوناتها، ويحذر أتباعه من منهجها وأفكارها الذي يراه مخالفًا للدين سواء في مستوى العقيدة أو الفقه، ويعمل لتشويهها باستمرار أمام جمهوره، كما يتخذ موقفًا عدائيًا تجاه أصحاب الآراء التجديدية حتى ممن هم داخل إطار الفكر الإسلامي، ويتهمهم بالعداء للدين والعمل لهدمه، كما أن لديه موقفًا حادًّا وعدائيًّا ضد كل شخص مختلف معه في الفكر أو الرأي أو ناقدًا له من المجتمع عمومًا، وتزيد هذه النظرة من الميول التعصبية لدى الأفراد المتأثرين بهذا الفكر التي تجعله يتعامل مع كل هؤلاء من طريق عدة توصيفات واتهامات جاهزة تُوجَّهُ إلى أي أحد خارج منظومته الفكرية، فيُوصفوا بأنهم مُلحدين أو علمانيين أو أعداء الدين… وفي مقابل ذلك لا يستطيع إدراك عيوبه الذاتية وأخطاءه ولا يملك القدرة على معالجتها.

وتنعكس هذه الرؤية ونمط التفكير على ممارسات الأفراد المتأثرين بالفكر السلفي، ونتيجة لعمق هذا التأثير وحجمه، فإننا نرى عديدًا من السلوكيات السلبية في المجتمع بطريقة أصبحت تُمثل ظاهرة اجتماعية، فنجد كثيرًا من هؤلاء الأفراد يستخدمون الألفاظ النابية والشتائم بأنواعها وبدرجاتها المختلفة تجاه المختلف معهم أو المخالف لهم في أي رأي أو فكرة أو توجه، ونجد سخرية وهجومًا وتشويهًا معنويًا وتدخلًا في خصوصيات الأشخاص بصورة فَجَّةٍ وغير أخلاقية، وممارسةً للوصايةِ عليهم بدعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحاولة لفرض الأفكار والمواقف فرضًا قهريًّا على الآخرين، والمتابع للتفاعل والتعليقات على كثيرٍ من الأحداث والمواقف التي تخص قضايا اجتماعية أو سياسية أو دينية يلاحظ هذا الأمر بصورة واضحة.

كما أن أثر تلك النظرة ونمط التفكير ليس في التعصب الذي يعني الانحياز لرأي أو فكرة أو طرف ما، ولكن الأثر الأهم هو سمة القسوة والغلظة التي أصابت كثيرين نتيجة هذا النمط من التدين والأفكار والتصورات التي يُقدمها، فنجد في كثير من المواقف درجة عالية من الحدة في إبداء الرأي والقسوة في إصدار الأحكام والغلظة في النقد، دون مراعاة أي جوانب إنسانية أو ظروف شخصية، ودون مراعاة لطبيعة الحياة القائمة على الاختلاف والتنوع، وربما زاد من هذه القسوة والغلظة تحريم هذا التيار للفنون والآداب التي تغذي الروح وتجعلها أكثر عذوبة، وإهمال العلوم الإنسانية التي تغذي العقل وتجعله أكثر مرونة.

ومن الأمثلة على التأثر بالفكر السلفي في هذا الإطار، ما كتبه أحد الإنفلونسرز السلفيين في فيسبوك بمناسبة أعياد المسيحيين “قد هنئوني في عيدي فلماذا لا أهنئهم بعيدهم؟! لأن عقيدتك لا تقبل المزاح ولا المداهنة بخلاف عقيدته”، ويكتب آخر “ولذا ترى غالب العلمانيين والغربيين أصدقاء أوفياء للطغاة السفاحين ولو قتلوا الإنسان وباعوا البلاد ونشروا الجهل والفقر والمرض… في حين هم أعداء ألدَّاءٌ للإسلاميين مهما فعلوا بالبلاد من تنمية وعمارة وإصلاح”، ويكتب آخر بمناسبة وفاة ممثل مصري له موقف سياسي مخالف “أي واحد هيكتب ربنا يرحمه تعليقه هيتمسح ويتحظر، روحوا اترحموا عليه على حساباتكم، ربنا ينتقم منه”، ويُعلق آخر على عنوان كتاب لكاتبة يراه مخالفًا لحديث نبوي دون أن يطلع عليه “لو أنها عثرت على رجال في بيتها وتربت على أيديهم وتعلمت أن هناك قانونًا يُعاقب على ذلك ما فعلت، إبراهيم عيسى والكفار الذين ينتهجون نهجه فتحوا الباب لمثل تلك الجاهلة، أسأل الله أن يُحيي البلاد على طاعته وتطبيق الشريعة الإسلامية”.

  • التدين الشكلي

يعني التدين الشكلي الاهتمام بالمظهر على حساب الجوهر والمضمون، الاهتمام بالطقوس والشعائر وظاهر العبادات أكثر من الجانب الرُوحي والأخلاقي ومن آثار تلك العبادات في الواقع، فهو “ذلك النمط السطحي المجوَّف من التدين، المفرَّغ من نبضِ الحياة الرُوحية، ووهج الضمير الأخلاقي، الذي يضع معايير ظاهرية شكلية تُقاس درجة التدين بمدى الالتزام بها، بغض النظرِ عن بناء الكيان الداخلي للمتدين”[30].

ويأتي تركيز الفكر السلفي على نمط التدين الشكلي والاهتمام بالشكل على حساب الجوهر لعدة أسباب: أولها، سعي الفقهاء قديمًا في أن تتسع أحكامهم الفقهية لتشمل كل جوانب الحياة وأدق تفاصيلها، ليكون الفقه بمكانة مؤسسة لضبط السلوك الاجتماعي، فوضعوا قواعد لتنظيم كل تفاصيل الحياة، من المأكل والمشرب واللباس والزينة، كما اهتموا بظاهر العبادات والطقوس ووضع أحكام لها غير واردة في النص القرآني، وهذا الاهتمام بظاهر العبادات كان على حساب جوهر الإيمان[31]، والتيار السلفي في العصر الحديث متأثرًا تأثرًا كليًا بالمذاهب الفقهية وبهذا النمط من التفكير، السبب الآخر يتعلق برغبة التيار السلفي خاصة منذ السبعينيات في تأكيد قوة حضوره وسعة انتشاره وعمق تأثيره، وكان يتخذ من بعض مظاهر التدين الشكلي أداة لإثبات ذلك مثل الحجاب وشكل الثياب للمرأة والرجل وإقامة الفعاليات الدينية المختلفة والشعائر في أماكن عامة وغيرها من أدوات، كما يعود انتشار هذا النمط من التدين الذي يركز على الشكل إلى سهولته لمن يرغب في الالتزام الديني وكسب القبول الاجتماعي مقارنة بنمط التدين الذي يُركز على الجانب الأخلاقي والقيمي والروحاني.

وتتعدد مظاهر الاهتمام بالشكل في الخطاب السلفي، فنرى مثلًا اهتمامًا بالغًا بمسائل الحجاب والنقاب واللحية وطريقة الكلام وممارسة الطقوس والعبادات بطريق جماهيري دعائي، كما نجده في تركيزه على شكل الدولة الإسلامية المنشودة التي يركز فيها على الشكل أكثر من الجوهر، يُوضح القرضاوي أبرز معالمها، من ناحية وظيفتها المُتمثلة في حماية العقيدة وصبغ المجتمع بصبغة إسلامية، وإقامة الشعائر الدينية مثل الصلاة والزكاة والصيام وتعقب ومعاقبة من يمتنع عن أدائها، وتحريم الربا والخمر، وتطبيق الحدود[32]. إنه نموذج الدولة الحارسة التي لا تهتم بقيم التنمية والتقدم والعدالة والحرية بقدر اهتمامها بسلوك الأفراد وإضفاء مظهر خارجي يُحاكي نموذج الدولة الإسلامية في الماضي، ومن مظاهر ذلك التدين كذلك التعامل مع العبادة بمنطق المنفعة، فيركز الخطاب السلفي على فكرة المقابل من وراء أداء العبادة أو عمل الخير والمعروف، وهو التعويض الدنيوي الذي لا بُد أن يأتي بعدها، مثل أن الصدقة ومساعدة الآخرين تُرد إلى الفرد في صورة مكسب دنيوي، والصوم أو الصلاة بنية النجاح أو العمل، إلى غير ذلك من أساليب يقوم بها الخطاب السلفي لترغيب أو ترهيب الأفراد لعمل الطاعات وتجنب المعاصي.

وهذا التدين الشكلي ترك آثارًا في نمط تفكير لدى الأفراد وسلوكهم في المجتمع منها: ذلك التناقض الشديد بين كثرة مظاهر حضور الدين في المجتمع، من ناحية مثلًا كثرة المساجد وأعداد المصلين، والإقبال على حفظ القرآن سواء من طريق مكاتب التحفيظ أو الإنترنت، وتزايد الإنتاج الثقافي الديني من برامج دينية وكتب، وأعداد الحجاج والمعتمرين الكبيرة طوال العام، وحضور الدين في الحديث بين الأفراد وفي كثير من تفاصيل الحياة اليومية، هذا من ناحية، وفي مقابل ذلك وجود كم كبير من الظواهر السلبية والسلوكيات غير الأخلاقية ومظاهر الفساد في المجتمع، وهذا التناقض نابع من أن الدين رغم حضوره إلا إنه لم يؤثر تأثيرًا إيجابيًّا بسبب نمط التدين الذي ركز في المظهر دون الجوهر، ومن الآثار أيضًا أن معايير الحكم وتقييم المواقف والأشخاص أصبحت ظاهرية، وهذا خلق حالةً من النفاق والزيف في المجتمع جعلت تركيز الأشخاص على إظهار الجوانب التي تكسبهم الرضا الاجتماعي دون الاهتمام بالمضمون، ومن ثم جعلت الحكم على المواقف والأشخاص حكمًا غير حقيقي.

ومن الآثار كذلك التدخل الفج في شئون الآخرين نتيجة الاعتقاد بأن المظاهر كافية في التقييم والحكم عليهم، كما أن ثقافة الشكل تحولت إلى ثقافة عامة جعلت الأفراد يهتمون في كل عمل بمظهره الخارجي دون الاهتمام بجوهره أو بنتائجه المرجوة، مما جعل كثير من الأعمال لا تتم بالشكل المطلوب المفيد للمجتمع، ومن الآثار أيضًا استخدام كثيرين لمظاهر التدين كأداة للتحايل والخداع من أجل تحقيق مصالح شخصية، وذلك لقناعتهم بأن الناس يثقون في تلك المظاهر، ويسبب ذلك في بعض الأحيان صدمة للفرد عند التعامل مع تلك النماذج مما يؤدي مع الوقت إلى رسوخ صورة سلبية عن الدين ذاته، ومن الآثار أيضًا تحول الاهتمام بالشكل إلى نمط سطحي من التفكير في كل شيء، والتركيز على توافه الأمور وقشورها، كما يُنتج هذا التدين نوعًا من الاتكالية واللامبالاة، فيترسخ لدى الفرد أن القيام بالشيء دون الاهتمام بجوهره أو جودته كفيل بتحقيق النتيجة المرجوة، كما نجد أثر ذلك في ظاهرة تتمثل في أن كثيرًا من المتدينين، خصوصًا الشباب، يمارسون الدعوة إلى الدين بأساليب متدنية أخلاقيًا وبطرق منفرة، ونجد في الفترة الأخيرة رد فعل مضاد لهذا التدين الشكلي، يتمثل في عدة مظاهر منها: القيام بممارسات للتعبير عن الخروج من سيطرة التيارات السلفية، كما نلاحظ في ظاهرة خلع الحجاب المُنتشرة مؤخرًا، فكما كان الحجاب أداة التيار السلفي لإثبات حضوره وتأثيره، صار خلعه اليوم محاولة للتعبير والإعلان عن الرغبة في الخروج من دائرة ذلك التأثير.

ثالثًا، مستقبل التيار السلفي وحضوره

مَنَحَ الربيع العربي الفرصة ووفر المساحة للحضور السلفي بدرجة كبيرة، سواء للكيانات والرموز الموجودة من قبله أو لتلك التي ظهرت بعد ذلك، لكن عددًا من المتغيرات حدثت في السنوات الأخيرة أثرت في درجة ذلك الحضور وشكله.

فبينما قلَّ حضور بعض الكيانات وتأثيرها مثل: الجمعية الشرعية وجماعة أنصار السنة، بسبب فقدان سيطرتهم على المساجد بعد بسط المؤسسة الدينية الرسمية رقابتها عليها، وكذلك اختفاء أو تقلص حضور عدد من الرموز السلفية والشيوخ عن البرامج الفضائية والدروس المسجدية، وأيضًا انخفاض حجم العمل الخيري للجمعيات السلفية والتي كانت تتيح لها فرصة الانتشار في المجتمع، كما أنه على جانب آخر أثر الصراع السياسي والانقسامات الداخلية على جماعة الإخوان وأفقدها جزءًا كبيرًا من مكانتها وتأثيرها نتيجة تخليها عن الدور الدعوي بسبب الصراعات السياسية التي سيطرت على جزء كبير من عقلها ونشاطها، لكنها لا تزال تؤثر في هذا الجانب من طريق قنواتها الإعلامية ومواقعها الإلكترونية، التي توجه نشاطها للهجوم المستمر على الدولة والعمل على إحداث انقسام واضطراب في المجتمع.

ورغم ذلك لا تعكس هذه الصورة تراجعًا للحضور السلفي وتأثيره بدرجة كبيرة، لأن شكل هذا الحضور اختلف في السنوات الأخيرة، فعديد من هذه التيارات استطاع توظيف التقدم الحاصل في التكنولوجيا وفي وسائل التواصل الاجتماعي لصالحه، واستطاع إنشاء عديد من الصفحات والجروبات والمنصات التي يقوم فيها بالتواصل مع الجمهور والتأثير فيه، ويتم ذلك غالبًا باستخدام وجوه شبابية مؤثرة يتابعها في تلك الوسائل ملايين من الأفراد ولها قدرة على التأثير في العقل المصري من طريق تقديم الرؤية السلفية تجاه عديد من القضايا والأحداث، وهذه الوجوه تنتمي إلى تيارات مختلفة منها من ينتمي إلى السلفية العلمية والحركية والجهادية، وقد صار التيار السلفي أكثر قدرة على استغلال وسائل التواصل الاجتماعي في الوصول إلى الشباب، بطريق ممنهج وأكثر تنظيمًا عما كان عليه من قبل، وأصبحت المنصات السلفية التي تقدم العلم الشرعي ومعه عدد من المفاهيم والقضايا الفكرية من منظورها الخاص ووفق منظومتها الفكرية منتشرة انتشارًا كبيرًا في وسائل التواصل الاجتماعي، واستطاعت أن تجذب كثيرٍ من الشباب الراغبين في التدين من كل أنحاء الوطن العربي الذين يجدون فيها مصدرًا للمعرفة الدينية، وهذه المنصات يُطلق عليها “أكاديميات“، وهي تعمل بطريقة أكثر حداثة وتنظيمًا، ويوجد منها عدد كبير، من أبرزها: أكاديمية زاد، أكاديمية البناء المنهجي، أكاديمية البناء الفكري، أكاديمية صناعة المحاور، أكاديمية الجيل الصاعد، أكاديمية أبجديات أون لاين، وأكاديمية الفرقان، وكورس نجم.

والسؤال هنا: هل لتلك المتغيرات الحادثة في السنوات الأخيرة تأثير في مستقبل الحضور السلفي؟

من الممكن أن نتناول بعض هذه المتغيرات في صورة نقاط قوة ونقاط ضعف يُمكن من طريقها قراءة ملامح مستقبل الحضور السلفي، فمن نقاط القوة لهذا التيار خاصة تيار السلفية العلمية أنه تيار سائل لا يحكمه تنظيم قوي يحد من حركته أو يُمكِّن الدولة من تحجيمه وإضعافه، كما أن تركه للعمل السياسي يعطي إليه القدرة على التحرك والعمل دون لفت الأنظار بدرجة كبيرة، وإن كان ابتعاده عن العمل السياسي لا يقلل من خطورته وتهديده للعقل المصري، لأنه يشترك في المنطلقات الفكرية نفسها مع باقي مكونات الحركة الإسلامية حتى الجهادية منها، ومن ثمَّ فهو بجانب أنه يُمثل خطرًا مُستقبليًّا على الدولة، فإنه يُمهد المجتمع ويوفر البيئة الخصبة التي تُسهل للتيار الجهادي والثوري العمل ويوفر له الروافد البشرية التي يستقطبها، أيضًا فإن الحالة الاقتصادية وما يترتب عليها من آثار اجتماعية توفر بيئة ملائمةً للتيارات السلفية فتسهم تلك الظروف والأزمات في تزايد الاتجاه نحو التدين، أيضًا فإن الحرب في غزة وموقف الغرب منها قد أسهم في قدرة تلك التيارات على إعادة إنتاج أفكارها مرة أخرى، كذلك التغيرات السياسية الأخيرة في سوريا وسقوط النظام الحاكم قد أسهمت إسهامًا كبير في منح ذلك التيار بكل مكوناته الأمل في إمكان التغيير في المجتمع وإعادة التموضع مرة أخرى والتأثير بدرجة أكبر.

وعن نقاط الضعف فإن من أبرزها طبيعة الفكر السلفي ذاته الذي يتسم بالجمود وعجزه عن مواكبة التطور في حركة المجتمع، الأمر الذي يسهم في تجاوز المجتمع له مع الوقت، أيضًا أسهمت تجربة الإسلاميين بعد 2011 في كشف عدد كبير من العيوب التي تعتري هذا الفكر، وقد وفرت وسائل التوصل الاجتماعي والتطور الحاصل فيها في تزايد حركة نقد هذا الفكر، ومن ثم تزايد درجة الوعي لدى شريحة من المجتمع تجاهه، مما خلق تيارًا مضادًا قويًا تجاهه، أيضًا التحولات التي تحدث في المملكة العربية السعودية وتراجع تأثير الفكر الوهابي هناك ومن ثم توقف الدعم السابق للتيارات السلفية في دول أخرى ومنها مصر يُمثل نقطة ضعف، كذلك السياسة الأمنية تجاه عدد من رموز التيار السلفي قللت من حضورهم وأسهمت في تحجيم نشاطهم ومن ثم تأثيرهم، أخيرًا فإنه ومع أهمية بعض العوامل الأخرى، يبقى مستقبل الحضور السلفي مرهونًا بزيادة درجة الوعي في المجتمع، الأمر الذي يُلقي بمسئولية كبيرة على النخبة المثقفة.

خاتمة

تكمن الأزمة الحقيقية في الفكر السلفي الذي يتمثل جوهره في التقليد ورفض التجديد والعمل لاستنساخ الماضي وفرضه على الحاضر، بأنه فكر يسير عكس حركة التاريخ، ويتناقض مع طبيعة الحياة القائمة على التطور المستمر، وهذا يجعله من ناحية مُضرًا بالدين ذاته، ففي حين يسعى في إقامة الدين واستمرار حضوره، فإنه على العكس يتسبب في جموده وتعطيل ديناميته وفقدانه القدرة على التطور ومواكبة حركة الاجتماع، ومن ناحية أخرى فإن هذا الفكر يقف عائقًا أمام تقدم المجتمع، لأنه يسلبه كثيرًا من إمكاناته وطاقاته البشرية، من طريق تأثيره السلبي في العقل والإضعاف من قدارته اللازمة لهذا التقدم، ويتسبب في إدخال المجتمع كله طوال الوقت في دائرة مغلقة من الجمود والصدام والصراع، ثم يَتَّهِمُ مخالفيه بالعداء للإسلام.

 

المراجع:

[1] بشأن بعض التحولات الاجتماعية والسياسية في المجتمع المصري في تلك الفترة أنظر، شريف يونس، البحث عن خلاص: أزمة الدولة والإسلام والحداثة في مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2014

[2] زكي نجيب محمود، في حياتنا العقلية، مؤسسة هنداوي، 2018، ص22 – ص31

[3] مفرح بن سليمان القوسي، المنهج السلفي: تعريفه، تاريخه، مجالاته، قواعده، خصائصه، دار الفضيلة للنشر والتوزيع، الرياض، ط1، 2002، ص41

[4] بوست منشور على صفحة قطوف من الآسك – تهتم بالمرأة، على موقع فيس بوك بتاريخ 2 فبراير 2025، يمكن رؤيته على الرابط: https://2u.pw/Vxa7bRA4

[5] يوسف القرضاوي، الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد، مكتبة وهبة، ط2، 1999، ص29

[6] أمين الخولي، المجددون في الإسلام، الهيئة العامة المصرية للكتاب، 1992

[7] سيد قطب، معالم في الطريق، دار الشروق، ط15، 1992، ص10

[8] المرجع السابق، ص22

[9] المرجع السابق، ص21

[10] عبد القادر عودة، الإسلام وأوضاعنا السياسية، مؤسسة هنداوي، 2014، ص188

[11] عبد القادر عودة، الإسلام وأوضاعنا السياسية، مرجع سابق، ص 183 – 186

[12] يوسف القرضاوي، الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا، مكتبة وهبة، القاهرة، ط5، 1993، ص8

[13] يوسف القرضاوي، الحل الإسلامي فريضة وضرورة، مكتبة وهبة، القاهرة، ط6، 2001، ص39

[14] حسن البنا، نظرات في كتاب الله: تفسير سورة التوبة، مقال منشور بمجلة الإخوان المسلمين الأسبوعية، 8 نوفمبر 1947

[15] سعيد بن سعيد العلوي، دولة الإسلام السياسي: وهم الدولة الإسلامية، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، ط1، 2017، ص19

[16] رفاعي سرور، التصور السياسي للحركة الإسلامية، دار الفرقان للتراث، 1995، ص38

[17] https://2u.pw/L1BGw1DC

فتوى صادرة عن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز، موقع إسلام ويب، على الرابط:

[18] جزء من خطبة مسجدية في أحد المساجد المصرية للشيخ أحمد علي الشيمي، يمكن الاطلاع عليها على الرابط: https://2u.pw/SHTjNQO3

 

[19] أحمد محمد سالم، العقل والدين: من الخطاب الإصلاحي إلى الخطاب العلماني، رؤية للنشر والتوزيع، ط1، 2011، ص8

[20] محمد حافظ دياب، نقد العقل السلفي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2017، ص143 – ص168

[21] محمد عمارة، الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين، نهضة مصر للطباعة والنشر، 2000، ص19

[22] فؤاد زكريا، الوهم والحقيقة في الحركة الإسلامية المعاصرة، مؤسسة هنداوي، 2018، ص26

[23] أنور الجندي، المرأة المسلمة في وجه التحديات، دار الاعتصام، ط1، 1979، ص11

[24] محمد بن أحمد إسماعيل المقدم، المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية، دار الخلفاء الراشدين للنشر، 2007

[25] أنور الجندي، مرجع سابق، ص16، 17

[26] بكر بن عبد الله أبو زيد، حراسة الفضيلة، دار العاصمة للنشر، الرياض، ط11، 2005، ص58

[27] المرجع السابق، ص74

[28] https://www.youtube.com/shorts/WOM40A4JWKw

مقطع من درس مسجدي للشيخ الشعراوي، منشور في موقع يوتيوب من طريق الرابط التالي:

[29] https://www.facebook.com/search/posts/?q=%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%88%D9%8A%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%A3%D8%A9%20

مقطع من درس مسجدي للشيخ الشعراوي، منشور على موقع فيس بوك على الرابط التالي:

[30] https://2u.pw/ivdPp2qm

عبد الجبار الرفاعي، التدين الشكلي، الحوار المتمدن، عدد 6263، سنة 2019، رابط:

[31] نادر الحمامي، إسلام الفقهاء، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 2006، ص6 وما بعدها

[32] يوسف القرضاوي، الحل الإسلامي فريضة وضرورة، مرجع سابق، ص75 – 79

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete