الفكر العربي المعاصر بين التجديد والتقليد (تساؤلات وإشكالات)

تكوين

تُطرح التساؤلات عادة في أي قراءة للفكر العربي عن المقصود تحديدا بهذا الفكر، هل هو من جهة: الفكر الديني عامة، النصوص التأصيلية، متبوعا بنصوص الاجتهاد الديني المتمثلة بالمذاهب والشروحات والتأويلات؛ أم هو من جهة أخرى الفكر الذي يتأسس على مناهضة فكر التأصيل والاتباع ويسعى نحو مساءلة قضايا وجودية وإنسانية خارج النصوص الدينية في مستوياتها المختلفة.

إذا ما اعتبرنا أن كل منتج نصي، هو فكر ما، بما أنّه ينتج عن التجارب الإنسانية، الاجتماعية أو الفردية، فإنّه من الممكن كما يبدو لي القول بفكر عربي، تبعا لتقاليد مجازية مشابهة كأن نقول الفكر الأوروبي في عصر ما أو الفكر الألماني.

توجهات الفكر العربي المعاصر

من هذا المنطلق يمكن القول إن الفكر العربي المعاصر كانت له توجهات كثيرة في مسألة التقليد أو التجديد، لكن السؤال يبقى حول ما أنجز في جانب الإبداع الفكري، وهل يتطابق هذا المنجز مع فكرة التجديد أو الدعوة إليه، فإذا عدنا إلى مطلع القرن التاسع عشر، على سبيل المثال، سنجد الإمام محّمد علي الشوكاني (1760- 1834) يحكم “على من ترك الاجتهاد، وهو قادر عليه، بالكفر والشرك” (1)، محرّماً في ذلك “التقليد على جميع الطبقات بما في ذلك عوام الناس”(2). وفي كتابه “القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد” يصل به الرأي إلى “عدم جواز إسناد وظائف القضاء والإفتاء لغير المجتهدين، إذْ أنّ قيامهم بمسؤوليتهم وهم مقلّدون، هو قيام بالأمر بغير علم”(3)، لكنّنا إذا ما اختبرنا آراء المجتهد اليمني نفسه حول مسائل أخرى كرأيه بالمختلفين معه في العقيدة أو في الطبقة الاجتماعية، سنجده ينطلق من موقف تقليدي اجتماعي محافظ، فقد كتب رسالة أسماها “إزالة الأشكال في إجبار اليهود على التقاط الأزبال” يوجب فيها “على المسلمين في اليمن إجبار اليهود اليمنيين على التقاط الأزبال (القمامة) وناشد كل مسلم بالامتناع عن هذا العمل وترك ذك لليهود الذين كتب الله عليهم الذلة والمسكنة والصغار والخزي في الدنيا”(4). وفي كتابه “أدب الطلب” ميّز فئة محددة في المجتمع وأعطى لأبنائها، وحدهم، حق التعلّم(5).

لكن هذا الازدواج بين مفهوم التجديد وممارسته في الواقع قد لا نجده في التجارب المعاصرة وإن غلبت عليها الانتقائية، فإذا تتبعنا المنحى النقدي المعاصر للتراث الفكري الديني سنجد أنّ هناك اتجاها متزايدا في التعامل مع النصوص التأصيلية الأولى أو مع تأويلاتها وتفسيراتها إما بطريقة نقدية أو بطريقة تأويلية انتقائية.

في المستوى الأول يمكن أن ندلل بمنجز فرح أنطون وصادق جلال العظم ومحمد أراكون ونصر حامد أبو زيد وجورج طرابيشي، وهناك كثيرون غيرهم.

هناك أيضا من يجمع بين القراءة النقدية والانتفاء كما عمل طه حسين وزكي نجيب محمود وحسين مروة ومحمد عابد الجابري وحسن حنفي؛ أو القيام بانتقاء نصوص وأحداث وتأويلات لغوية كما في تجربتي الصادق النيهوم ومحمد شحرور.

لكننا في المقابل سنجد أن منحى التقليد أو الإتباع هو المنحى المكرّس أو المهيمن في المجتمعات العربية، وتمثل في اتباع النصوص الدينية الإسلامية عبر تأويلات وانتقاءات تلبي حاجات فئات معينة من المتدينين اجتماعيا وحاملي خطاب أحزاب سياسية.

ففي تتبع لهذا المنحى التقليدي سنجد أنه لا يتعامل مع النصوص في مجملها، فهو إذ يعمل التأويل في تعامله مع النص القرآني عبر وسطاء من السلف، فإنّه مع النصوص السيرية للنبي والصحابة تظهر انتقائيته لما يلبي توجهه من النصوص بشكل واضح، فيظهر هؤلاء وقد صاروا يحملون وجها محددا، يختلف عما هم عليه في المصادر التي تحمل سرديات مختلفة قد تصل إلى حد التناقض فيما بينها. كما نجد أن ذهنية التحريم، حسب توصيف صادق جلال العظم(6)، قد طغت على ما عداها في العودة لقراءة التراث والتعامل معه في هذا الجانب، ولهذا برزت محددات ومحرّمات دون النظر إلى مسائل الخلاف حولها، مثل تحديد دور المرأة في المجتمع وفرض محرّمات عليها(7). أو القول بالتحريم القطعي للخمر، وهو القول الذي ظل طاغيا خلال قرون كثيرة، مخالفا ما جاء في السرديات التي تناولت انتشار شرب الخمر والنبيذ في القرون الأولى للإسلام وخلاف الفقهاء حول تحريمهما(8). حيث كان الفقهاء يحضرون مجالس الخلفاء التي تشرب فيها الخمر ويُسمع الغناء، فيناقشون أثناءها في حدّ شرب الخمر(9). ويروي الجاحظ أن كتاب “تحليل النبيذ” الذي صنفه بشر المريس كان موضع مناظرة حول قيمته في أحد مجالس المأمون(10).

الفكر العربيّ الجديد، والتحديث بوصفه إشكالَ العالَميَّة

وألّفت العديد من الكتب، أو وردت فيها، عن أنواع الخمر وأنواع النبيذ وتفضيل بعض الأنواع فيهما على الأخرى وكذا صفات هذه الأنواع وأزمنة تناولها والأشخاص الذين يناسبهم شربها وهناك كتب صنفت عن المنادمة ومجالسها وصفات الندماء وأخلاقهم.

وامتلأ كتاب (الأغاني) ودواوين الشعراء مثل بشار وأبي نواس ومسلم بن الوليد بوصف مجالس اللهو والشراب، وما كان يجري فيها من خلاعة ومجون(11).

وهذا التراث التعددي الخلافي صار مغيبا بسبب طغيان الذهنية التحريمية الالغائية لكل ما يخالف توجهها.

في الجانب السياسي أنشئت أحزاب وجماعات ترفع شعار الإسلام هو الحل، وتدعو إلى تطبيق الشريعة حسب تصوراتها أو عملها الانتقائي من التراث الفقهي الإسلامي. وإن رأى بعض الباحثين أن هذا الخطاب لا يحمل مشروعا سياسيا (12) نعرف من خلاله كيفية تصورهم لمفهوم الدولة وعلاقتهم بالمجتمع، فإن منطلق هذا النقد، كما يبدو، هو انكار الخطاب الديني الذي تتكئ عليه هذه الجماعات، لأن القراءة المتفحصة لمشروع هذه الجماعات الطامحة إلى تأسيس دولة دينية يكشف لنا أنه يرتكز على خطاب سلفي انتقائي تراكمت تصوراته في مختلف نواحي الحياة، ويظهر ذلك بوضوح لدى مرجعيات هذه الجماعات من سيّد قطب إلى حسن الترابي وراشد الغنوشي.

ولا مجال هنا للتفصيل أكثر، لكن يمكننا أن نتساءل عن معوقات نمو الحداثة الفكرية في العالم العربي في ظل نمو الجماعات المتشددة اجتماعيا وسياسيا.

فنشاط هذه الجماعات طوال العقود الماضية لقي دعما ماديا كبيرا من قبل أبرز الدول في المنطقة؛ وإن تخلّت عن دعمها في ما بعد وصنفتها كمنظمات إرهابية (13)؛ إلاّ أن دولة مثل إيران ما زالت تدعم هذه الجماعات بشقيها السني والشيعي دون أي تراجع، فقد لاحظ فهمي هويدي ذلك مبكرا في كتابه “إيران من الداخل”، فذكر أنّ الدعم الإيراني لفلسطين تجاهل منظمة التحرير الفلسطينية، ولم تكن وسائل الإعلام الرسمية تشير إليها، وتستخدم بدلا منها عبارة الثورة الإسلامية في فلسطين (14).

وكانت الجماعات المتشددة قد أزداد نموها وتطرفها في ظل رعاية مؤسسات الدولة سواء في اليمن أو في مصر أو في السودان أو في غيرها. ونتيجة ذلك حوكم مفكرون وأدباء وفنانون في هذه الدول من خلال مؤسسات قضائية دينية وليست قانونية دون أن تتدخل السلطات، بل إن بعض حملات التكفير كانت تصدر من مؤسسات وأشخاص وصفوا بالوسطية مثل مؤسسة الأزهر.

لهذا يمكن القول إنّ جهود التجديد الفكري لم تنتج تراكم خبرة لدى السلطات السياسية ومؤسساتها. وما زلنا نشهد كلّ يوم صعود عطشى للسلطة الدائمة دون احداث أي تغيير في بنية الفكر السياسي. فبقيت الدساتير والتشريعات والمناهج التعليمية منحازة للأصوليات التقليدية التي لا تحفز على التساؤل والجدل. بل إن بعضها تمنع تدريس الفلسفة وتعيِّن رقباء على كل كتاب أو معرض للكتاب.

وكان العرب قد اكتسبوا، بفضل التلاقح الفكري والسياسي سابقا ومن خلال الأحزاب، أفكار: الليبرالية والقومية والماركسية، وأحدث بعضها حراكا اجتماعيا مهما، إلاّ أن هذه الأفكار وأحزابها انهارت وتراجعت لعوامل عديدة، أبرزها اتجاه السلطات التي تبنتها نحو الاستبداد. وأي متأمل الآن لحال توجهات السلطات العربية سيجدها دون ملامح فكرية واضحة.

لهذا إذا كان من المهم للمشتغلين في المجال الفكري الإسهام في نقد بناء الدولة الحالية وخلفياته الفكرية وتقديم تصوراتهم للحاق بعصر الحداثة، فإن من المهم أيضا، كما يبدو لي، الاتجاه إلى مخاطبة المجتمع والحوار معه، باعتباره أساس أي تغيير. وهو منحى صعب في وقت طغت فيه ثقافة البرقية السريعة، إذ يمكن للشخص أن يلهو ويلعب في إحدى الوسائط الاجتماعية ويصل إلى مدى بعيد في انفتاحه، لكن ما أن يسمع رجل دين يحرّض ضد كاتب أو مفكّر بزعم أنه أساء للإسلام أو للنبي أو أحد الصحابة، نجد هذا الشخص يحوّل ما في يده من وسائط هي هبة الحداثة إلى وعاء هجومي يصرخ فيه: إلاّ رسول الله… ، إلاّ الدين…

وهكذا…

هكذا، يظهر السؤال ماذا نجدد من فكر عربي؟

هل نجدد الفكر الديني، القومي، اليساري، الليبرالي؟

وهل هذه الأفكار قابلة للتجديد أم للتجاوز؟

ما الفكر الذي نحن بحاجة إليه وهل علينا نحن أن نبدعه، إذا لم نجدد ما نعتبره منجزا في الماضي؟

وهل هذا الفكر بمعزل عن العالم وأفكاره، إذ صار من السهل الحصول على كتاب أو تسجيل على “يوتيوب” عن فكر أو شخصية فكرية؟

ما علاقتنا بهذا المنجز الإنساني؟ هل سنجدد أو نبدع بمعزل عنه؟

ثم، هل المشكلة فكرية أم هي في مكان آخر؟

 

هوامش:

(1) عبد الغني قاسم غالب الشرجبي: “الإمام الشوكاني- حياته وفكره”، مؤسسة الرسالة- بيروت، مكتبة الجيل الجديد- صنعاء، ط1، 1988، ص179

(2) عبد الغني قاسم، مصدر سابق ص179-180، 280.

(3) عبد الغني قاسم، مصدر سابق ص282، وحليمة بنت محمد  بوكروشة: “معالم تجديد المنهج الفقهي: أنموذج الشوكاني”، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية- قطر2002،  سلسلة كتب الأمة، العددان90-91، ص 106-139  عن  محمد بن علي الشوكاني: القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، ص97-99.

(4) عبد الغني قاسم، مصدر سابق ص473، نقلا عن “إزالة الأشكال في إجبار اليهود على التقاط الأزبال”، مخطوط، بحوزة مشرف عبدالكريم وكيل مكتب الإرشاد(سابقاً) بصنعاء، منقولة بتاريخ 9ذي الحجة 1305هـ ، ص1-7.

(5) محمد بن علي الشوكاني: “أدب الطلب”، مركز الدراسات والبحوث، ط1، صنعاء1979.

(6) صادق جلال العظم: “ذهنية التحريم”، دار رياض الريس بيروت، 1992.

(7) فاطمة المرنيسي: “ما وراء الحجاب- الجنس كهندسة اجتماعية، ترجمة فاطمة الزهراء أزرويل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط4، 2005 ، ص 43-44.

(8) علي المقري: “الخمر والنبيذ في الإسلام”، دار رياض الريس، بيروت، 2007، ص16

(9) حسين أحمد أمين: “دليل المسلم الحزين” ص64، ط2، مكتبة مدبولي، القاهرة 1987.

(10) د/ محمد عويس: “المجتمع العباسي من خلال كتابات الجاحظ “، القاهرة 1977 ، ص370.، ص289.

(11) أحمد أمين: ” ضحى الإسلام” ج1 ، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة 1964، ، ص124.

(12) رفعت السعيد: “حسن البنا: متى .. كيف .. ولماذا ؟: رؤية عصرية”، دار الهمداني عدن، ط2، 1985.

(13) وكالة رويترز، 12 مارس 2014.

(14) فهمي هويدي: “إيران من الداخل”، مركز الأهرام، القاهرة 1987، ص405.

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete