الفلسفةُ: بوابةُ الحياةِ الواعيةِ، ومعبرُ الألمِ إلى المعنى

تكوين

 مقدمة:

وُلدت الفلسفةُ من عمق الحياة اليومية ونشأت بوصفها أداةً فكريةً تتصلُ مباشرةً بواقع الإنسان وتجربته الحياتية، وقد تَجلت هذه الولادة في شخصية سقراط الذي جاب الساحات العامة والطرقات مُتحدثًا مع الناس عن قضايا الوجود والحياة بأسلوبٍ عملي بسيط يُلامس تجربتهم اليومية، كان سقراط يرى أن الحكمة ليست معرفةً جامدة، بل حوار حي يكتسبه الفرد من طريق التفاعل مع الآخرين ومع الحياة نفسها، “ومع إعدام سقراط اتخذت الفلسفة منحىً مُختلفًا، إذ ترك أفلاطون أثينا ثم عاد ليؤسس الأكاديمية، مُبتعدًا عن الحوار اليومي في الأسواق، مما أدى إلى انفصالٍ نسبي للفلسفة عن الحياة اليومية”[1]، هذا التحول وضع الفلسفة في مسار مختلف، لتبدأ تنأى تدريجيًّا عن قضايا الحياة المباشرة لتتخذ منحىً أكثرَ تنظيرًا.

رغم هذا الانفصال النسبي بين الفلسفة والحياة اليومية، شهد العصر الحديث عودة قوية للصلة بينهما، وهو ما يتجلى بوضوح في فلسفة جان بول سارتر، على سبيل المثال أكد سارتر أن الفلسفة ليست ترفًا فكريًا مقتصرًا على النخبة، بل يجب أن تكون أداة فعالة تكون جزءًا لا يتجزأ من حياة الأفراد العاديين، تُسهم في توجيههم لفهم علاقتهم بالعالم والسياسة والمجتمع.

في كتابه “الوجود والعدم” (Being and Nothingness)، يطرح سارتر رؤيته لهُوية الإنسان، مؤكدًا أنها تتكونُ من أفعاله وقراراته، وليس مما يُفرض عليه. يرى سارتر أن الإنسان يُولد في عالم خالٍ من المعنى والقيم المُسبقة، مما يُحمِّله مسؤولية خَلْقِ هُويته وإضفاء معنىً على حياته عبر اختياراته الحرة. ومن هذا المنطلق يؤكد أن: “الشرط الأول للفعل هو الحرية، فالحرية هي الأساس في كل الماهيات”([2])، كما يشدد على أن الإنسان لا يمكن أن يكون حرًا أحيانًا وعبدًا أحيانًا أخرى: “إنه بأسره ودائمًا حر، أو هو ليس شيئًا”([3])، هذا الإقرار بالحرية المطلقة يضع الإنسان في مواجهة مباشرة مع ذاته، فيصبحُ مسئولًا مسئوليةً كاملةً عن اختياراته، بغض النظر عن الظروف المحيطة به ودرجة صعوبتها. في هذا السياق تعود الفلسفة إلى جذورها الأولى، لتستعيدَ دورها في طرح الأسئلة الكبرى المُرتبطة بتجربة الإنسان اليومية، مُتخذةً من مفاهيم مثل الوجود، الألم، الحرية، مادةً أساسية لتأملاتها.

في هذا السياق تظهر أهمية الفلسفة بوصفها أداةً أساسيةً لفهم الوجود وتَحَمُّل مسئولية الحرية، ما يجعلها ضرورة تاريخية وحياتية في آنٍ واحد. الفلسفة ليست نشاطًا ذهنيًّا منفصلًا، بل هي الأساس الذي يُعيد تكوين إدراكنا للعالم ولأنفسنا، لو غابت الفلسفة عن مسرح التاريخ، لفقد العقل الإنساني أدواته الجوهرية لفهم الواقع ونقده. فقد أرست النصوص الفلسفية الكبرى، مثل “الجمهورية” لـ أفلاطون، و”ثلاثيةكانط، و”رأس المال” لـ ماركس، بُنىً فكريةً تُنيرُ مسارات الوعي الإنساني، هذه النصوص ليست كلمات مكتوبة، بل خرائط عقلية تُعيد صياغة علاقتنا بالحب والجمال والحرية وتفتح آفاقًا جديدة للتأمل والنقد والتفكيك.

من هذا المنطلق يمكنُ القول إن فرضية هيجل القائلة بأن “تاريخ الفلسفة هو التاريخ ذاته”[4]، تظل قائمة بوصفها تعبيرًا عميقًا عن تطور الوعي البشري. الفلسفة من طريق التفكير النقدي والتأمل العميق، تمنحُ الإنسان القدرة على العيش بوعي أكبر ومسئولية أعمق، مما يجعله أكثر قدرة على مواجهة تحديات الحياة بتعقيداتها وجمالها، بهذا تعود الفلسفة لتؤكد دورها المحوري في ربط القيم الإنسانية بالتجارب اليومية، وصياغة مسارات جديدة لفهم الذات والعالم.

ما وظيفةُ الفلسفة؟

الفلسفة هي طريق لاكتساب الحكمة من طريق التجربة الذاتية، تُعرَّف بأنها حب الحكمة، وهو حب لا يُمنحُ جاهزًا، بل يُكتسب من طريق التفاعل المستمر مع مُجريات الحياة وتجاربها. إنها لا تقتصر على امتلاك حقائق يقينية بشأن أمور محددة، بل تتجسد في وعي الذات بفنائها وحدودها. ومع هذا الإدراك يظل الإنسان معنيًا بذاته، ساعيًا في الاستمرار داخل الحياة لتعميق حكمته عبر مواجهة صراعاتها وتجاوز تحدياتها.[5]

في هذا السياق تنشأ علاقة جدلية بين وعي الإنسان بذاته والعناية بها، علاقة تغذي كلًّا منهما الأخرى تغذيةً متبادلةً، فكلما ارتقى الفرد في مستوى عنايته بذاته، ازدادت معرفته بحدوده وإمكاناته، وكلما تعمقت هذه المعرفة، تمكن من ممارسة عناية أكثر فاعلية بذاته. هذه الدورة المتجددة تعزز نموه الشخصي وتكامله الإنساني، مكونةً أساسًا لتوازن وجودي أعمق يُمَكِّنُ الإنسان من بناء حكمة حياتية تُعينه على مواجهة تعقيدات الحياة وتحدياتها، كما قال الرواقيون:

“الفلسفة ممارسة الفضيلة، والفضيلة صناعة لا تتجزأ، وهي أشرف الصناعات منزلة، وهي تلائم طبيعة البشر ملاءمة خاصة. الفلسفة منهج مستقيم في الحياة[6]“.

الفلسفة ليست تأملًا نظريًّا أو انعزال في قضايا كبرى، بل هي ممارسة حية تتفاعل مع تفاصيل الحياة اليومية، تجربة تهدف إلى استكشاف معانيها المتعددة والغنية، من هذا المنطلق تُصبح الفلسفة أداة للتحرر من قيود الرتابة الفكرية وللنمو المستمر وللارتقاء بالإنسانية إلى مستويات أعمق من الوعي والإدراك، تنظرُ إلى الحياة لا بوصفها واقعًا معيشًا، بل بوصفها فرصةً مستمرةً للتأمل والتجدد، كما أشار عثمان أمين:

“فهي ليست مذهبًا فلسفيًا فحسب، وإنما هي كذلك وقبل كل شيء أخلاق ودين”.[7]

أداة عملية تُوجه الحياة نحو تحقيق التوازن والسيطرة على الانفعالات، تتبنى هذه الفلسفة مبدأً جوهريًا يدعو إلى التقبل والتركيز على ما يمكن التحكم فيه، ما يُعيد إلى الإنسان إحساسه بالسيطرة على ذاته وقدرته على مواجهة صعوبات الحياة بوعي واتزان. هذا المبدأ يجد صدىً واضحًا في كتاب “التداوي بالفلسفةلسعيد ناشيد فهو يقول:

“إذا لم تنفعك الفلسفة في مواجهة أشد ظروف الحياة قسوة، فمعناه أن دراستك لها مضيعة للوقت[8]

لكن الفلسفة ليست حكرًا على المفكرين أو الأكاديميين، بل هي ملكٌ مشاع للجميع، أداة عملية تُمكن الإنسان من تحقيق توازن دقيق بين واقعه وطموحاته وبين ألمه وأمله وبين فرديته ومجتمعه، إنها وسيلة لاستيعاب الحياة بجميع تعقيداتها، وتحقيق التوازن بين الداخل والخارج. إنها دعوة إلى النظر بعمق إلى الذات وإلى العالم المحيط، واكتشاف الحكمة التي تُعين الإنسان على مواجهة تحدياته، وكما قيل:

“من الممكن أن تعرف الحكمة على أنها فن الحياة[9]“.

الفلسفة إذًا تتأسس على ركائز ثلاث: الحكمة والتأمل والتفلسف. إن التغاضي عن هذه الركائز يُبعد الإنسان عن جوهر الحياة، فما معنى الحياة دون السعي وراء الحكمة ومحبتها؟ وهل يمكن أن يكون للحياة معنى دون التأمل العميق في معانيها؟ إن الحكمة والتأمل هما السبيل إلى حياة فلسفية، يصبح التفلسف فيها منهجًا لتحرير العقل والنفس من قيود الانفعالات السلبية، يقول شيشرون:

“العقل تلك القوة التي يرى الإنسان بها النتائج والأسباب، فوظيفة العقل هي ربط الأفكار والمعاني ربطًا يتألف منه نظام يُسمى بالعلم، لكن الحواس ليست إلا خادمة، والعقل يُسيطر عليها سيطرة الملك على رعيته”[10].

تتمحور وظيفة الفلسفة حول تمكين الإنسان من التآلف مع ذاته والعالم المحيط به، لا بوصفها حبًّا نظريًّا، بل بوصفها ممارسةً يوميةً ترتكز على التفكير النقدي ومراجعة الذات بصدق وشفافية. لقد أرسى كبار الفلاسفة مثل: أفلاطون وزينون الرواقي وأبيقور وسبينوزا ونيتشه، أسس فلسفات تُجسِّد فن العيش بعمق واتزان، وتهدف إلى تحقيق التناغم بين الإنسان وذاته وبين الإنسان والآخر وبين الإنسان والعالم.

إقرأ أيضا: تحقيقٌ مع المتهمِ بقتلِ الفلسفة

من هذا المنظور “أن يعرف الإنسان نفسه في جوهر وجوده يتطلب التمييز بين (ما ليس نحن) و(ما هو نحن)”[11]، هكذا تصبح الفلسفة دعوة دائمة إلى إعادة اكتشاف الذات في أعمق مستوياتها، والنظر إلى العالم بوعي مُتجدد يُعيد صياغة العلاقة بين الحكمة والحياة بوصفها وحدة متكاملة، لتتحولَ الحياة إلى رحلة تأمل ونمو مستدامين.

فن العيش

الفلسفة تجعل الإنسان قادرًا على التعايش مع ذاته (فن العيش) ومع العالم من حوله (فن العيش المشترك)، لكنها لا تُقدم إجابات جاهزة أو وصفات سحرية، بل تدفعه لاكتساب الحكمة من طريق التجربة الذاتية، “وقد اتفقت المدارس الفلسفية جميعها على أن السبب الأساسي لمعاناة الإنسان واضطرابه يكمن في الانفعالات غير المنضبطة، أي المخاوف الزائدة التي تتحكم في الناس وتحرمهم من عيش حياة حقيقية. وهنا تظهر الفلسفة بوصفها علاجًا لهذه الانفعالات، لأن كل مدرسة فلسفية تمتلكُ طريقتها الخاصة لتحقيق ذلك”[12].

على سبيل المثال تقوم الفلسفة الرواقية على مبدأ جوهري يتمثل في أن التفكير هو أداة لتحرير الإنسان من الانفعالات السلبية والغرائز البدائية مثل: الغضب والخوف والإحباط، إذ تُعدُّ هذه العوامل أساسية في نشوء الشقاء الإنساني. الطريق إلى التحرر يمر بالضرورة عبر إعمال العقل، لأن الرواقيين يرون أن الشقاء ليس واقعًا حتميًا، بل هو ما نُصوِّرُه نحن كذلك بفعل إدراكنا الخاص، لذا فإن تقليص دائرة الشقاء يعتمد على تنمية مهارة التفكير النقدي، التي تُمكن الإنسان من فهم مشاعره وتوجيهها توجيهًا يخدم قيمه[13].

الحياة البسيطة كما تصورها الرواقيون وأمثالهم من الفلاسفة لا تتمثل في الانعزال أو التقشف، بل في العيش بحرية وصدق بعيدًا عن التكلف والقيود التي تفرضها المجتمعات. إنها حالة من الغنى الداخلي يجد الإنسان داخلها السعادة في التفاصيل الصغيرة، ويرتقي بنفسه من طريق النمو الرُوحي والانسجام مع ذاته. هذا التصور للحياة يُركز على التخفيف من الأعباء الزائدة والعيش وفق الاحتياجات الحقيقية، كما أشار أفلاطون وسينيكا، اللذان أكدا أن الالتزام بقوانين الطبيعة وتبسيط الحاجات يُقللان المعاناة والضغوط.

ومن هنا تُعد السيطرة على الذات إحدى ركائز الحياة، إذ يُمثل ضبط المشاعر والانفعالات الحرية الحقيقية، فالإنسان الذي يتحكم في ذاته يُصبح سيدَ قراراته وليس عبدًا للظروف أو تقلبات المزاج، هذه السيطرة لا تعني إنكار المشاعر، بل فهمها وتوجيهها بما يخدم القيم والمبادئ، وكما أكد ماركوس أوريليوس، فإن تحقيق التوازن الداخلي يبدأ من القدرة على ضبط المشاعر والانفعالات، مما يُعزز العيش بصدق مع الذات وهو أساس السلام الداخلي.

نيتشه شدد على أن جوهر الحرية يكمن في أن يكون الإنسان ذاته كما هو، وليس كما يريده الآخرون، فالحياة البسيطة تُحرر الفرد من ثِقَلِ التوقعات الخارجية، وتمنحه القدرة على العيش بصدق مع ذاته. جان جاك روسو في كتابه في التربية، أشار إلى أن:

“العيش هو المهنة التي يجب أن يتعلمها الإنسان.[14]

في هذا السياق يتجلى التفكير النقدي بوصفه أداةً محوريةً لفهمٍ أعمق للحياة، لأنه يدعونا إلى التأمل بحكمة وتمعن على غرار “بومة مينيرفا” (Minerva’s Owl)، التي ترمز إلى البصيرة والعمق في الفلسفة الإغريقية المرتبطة بالإلهة أثينا، على النقيض من الببغاء الذي يكرر ما يُقال دون وعي، يُبرز التفكير النقدي أهمية التحليل والاستقلالية في بناء فهم حقيقي وواعٍ للحياة.[15] هذا النوع من التفكير القائم على التساؤل هو الأساس الذي تَبني عليه الفلسفة دورها في مساعدة الإنسان على البحث عن معناه وغاياته، ليصوغ رؤيته الخاصة للحياة، مُحددًا قيمه وإرثه الذي يسعى في تحقيقه، إلى جانب ذلك يُمثل العيش بامتنان فلسفة حياة تُعزز الإشباع الداخلي، يُقدَّرُ فيها الجوانب الإيجابية، سواء الكبيرة أو الصغيرة في الحياة. وقد حَثَّ الفلاسفة القدماء خاصة الرواقيون على ممارسة الامتنان يوميًا كونهُ وسيلةً لتركيز النظر في ما هو جميل وجيد في حياتنا، وكما قال سينيكا: “فلا شيء أكثر شرفًا من قلب ممتن”[16]، الرواقيون يرون أن الامتنان ليس فضيلة أخلاقية، بل هو أداة فعَّالة لتحرير النفس من قيود الحزن والغضب، مما يفتح آفاقًا أعمق لفهم معنى الحياة، ويُعزز القدرة على مواجهة الأقدار بنبلٍ ورضا، هذا المنظور يُسهم في خلق حياة أكثر توازنًا وثراءً، يصبح الامتنان فيها ممارسة يومية تُعيد صياغة التجارب، سواء كانت إيجابية أو سلبية، لتصب في مسار النمو الرُوحي والارتقاء الذاتي.

وسيلةً لفهم الذات

الفلسفة ليست إطارًا نظريًّا، بل هي أداة لفهم الحياة اليومية وإعادة تكوين علاقتنا بالواقع وبأنفسنا. عندما نتساءل: ما الذي تقدمه الفلسفة للإنسان في مواجهة تحديات الحياة؟ نجد أنها لا تُقدم حلولًا جاهزة، بل تمنح أدواتًا للتأمل ومراجعة الذات، وتدعونا إلى إعادة صياغة تفكيرنا بوعي أعمق، على سبيل المثال الغضب يُعبر عن صراع بين الواقع وتوقعاتنا، الرواقيون مثل: ماركوس أوريليوس وسينيكا، تناولوا الغضب بوصفه أحدَ أشكال الانفعالات التي يُمكن السيطرة عليها عبر تغيير طريقة فهمنا للواقع، حينما نغضب غالبًا ما يكون ذلك بسبب توقعاتنا بأن يسير كل شيء وَفَقَ رغباتنا، سواء في سلوك الآخرين أو الظروف المحيطة بنا، كما تقول القاعدة الرواقية:

“إن الذي يصيب الناس ويؤثر في حياتهم ليست هي الأشياء نفسها، بل آراؤهم عن الأشياء”[17]

أي أن الأشياء لا تسوء بذاتها، بل تسوء أفكارنا نحوها[18]، سينيكا أضاف إلى هذا المفهوم بقوله: “لتحقيق سلطان حقيقي، يجب أن يبسط الإنسان سلطانه على نفسه أولًا”[19]، وهنا تتجلى أهمية الفلسفة في تعليمنا التركيز في ما يُمكننا التحكم فيه، مثل أفكارنا ومشاعرنا، بدلًا من محاولة تغيير ما لا نستطيع التحكم فيه، هذا الفهم لا يُنكر المشاعر أو يقمعها، بل يُعيد توجيهها لتصبح قوة إيجابية تخدم قيمنا.

الماضي يُمثل تحديًا كبيرًا في حياتنا، إذ لا يمكننا تغييره، لكن يمكننا تغيير طريقة تعاملنا معه. الفيلسوف الفرنسي ألان باديو يُشير إلى أن:

“الحاضر هو الواقع الوحيد، أما الماضي والمستقبل فلا وجود لهما إلا كآراء”[20]

بمعنى أن الماضي لا يُصبح حقيقة قائمة إلا من طريق أفكارنا وذكرياتنا عنه، الألم الناتج عن ذكرياتنا قد يتحول إلى قوة دافعة للنمو إذا أعدنا صياغة فهمنا لها، هذا التحول في الفهم يتيح لنا التحرر من هيمنة الذكريات السلبية، مما يُمكننا من رؤية الماضي بوصفه مكونًا من رحلتنا الشخصية التي أسهمت في تكوين هُويتنا الحالية، بدلًا من أن يكون عائقًا يحبسنا في دائرة من الندم والمعاناة.

وكما أضاف باديو: “نحن لا نملك سوى الحاضر، أما الماضي والمستقبل فلا وجود لهما إلا حين نفكر فيهما، إنهما آراء وليسا وقائع”[21]، هذا التصور يعكس أن ذكرياتنا مهما كانت مؤلمة، ليست أكثر من تصورات شخصية يمكن إعادة تكوينها، الإيمان بأن الألم الناتج عن الماضي يمكن أن يتحول إلى دافع للنمو يمنحنا فرصة للتحرر والارتقاء. الرؤية الفلسفية هنا تفتح الباب لتحويل الألم إلى قوة إيجابية، لتصبح ذكرياتنا أدواتًا للتأمل والتعلم بدلًا من أن تكون قيدًا يُثقل كاهلنا، وكما تقول الحكمة: “إذا آمنتُ بأن أسقط، لا بد أن أسقط”[22]، هذا الإيمان بقدرتنا على تغيير نظرتنا للماضي يبدل تجربة الألم إلى حافز للتطور والنمو، وفق هذا المنظور الماضي لا يكون عائقًا أو سببًا للندم، بل جزءًا لا يتجزأ من رحلتنا التي أسهمت في تكويننا، هذا الفهم يدعم قدرتنا على مواجهة الحاضر بثقة، ويعزز تطلعاتنا نحو مستقبل أكثر توازنًا وإيجابية.

الأمل واليأس يكونان محورًا مهمًّا في الفلسفة، على الرغم من أن الأمل يُعد طاقة إيجابية، إلا أنه قد يُصبح عائقًا إذا كان مبنيًا على توقعات غير واقعية، وكما يشير روسو: “غياب الأمل في بعض الأحيان يمنح الإنسان قوةً غير متوقعة، لأن التقبل النهائي للواقع يحررنا من الانتظار العقيم”[23]، الفلسفة هنا لا تدعو إلى اليأس، بل إلى مواجهة الواقع كما هو، مما يساعد الإنسان على تجاوز الأوهام والتحرر من الانتظار غير المنتج، حتى في علم النفس الحديث يُستخدم اليأس أحيانًا بوصفه أداةً علاجيةً تُحفز المريض على مواجهة أقصى مشاعره، ومن ثم الوصول إلى مرحلة من التصالح مع ذاته.

السعادة من منظور فلسفي ليست هدفًا نصل إليه، بل أسلوب حياة. أبيقور وسبينوزا أكدا أن السعادة تتحقق من طريق العيش وفق قيمنا وضبط انفعالاتنا، بدلًا من ربط السعادة بتوقعات أو ظروف خارجية، السعي المفرط في السعادة المبنية على معايير خارجية يؤدي إلى الشقاء، بينما الرضا الداخلي والتوازن يمنحان السعادة الحقيقية.[24] في هذا السياق الفلسفة ليست حلًّا جاهزًا، بل هي طريق لفهم الحياة، إنها دعوةٌ للتأمل لمواجهة الواقع وإعادة صياغة علاقتنا مع العالم ومع أنفسنا، مما يجعل الحياة أكثر عمقًا وقدرة على مواجهة تحدياتها.

قد تبدو هذه الأفكار قريبة من علم النفس الحديث، لكنها في جوهرها فلسفية بامتياز، علم النفس نفسه استمد جذوره من الفلسفة، فقد تناول الفلاسفة الإغريق مثل أفلاطون وأرسطو قضايا الروح والعقل والمشاعر بطرق فلسفية تأملية. كارل يونج المُحلل النفسي الشهير، استلهم فلسفته من التقاليد الشرقية، مثل البوذية والهندوسية[25]، ليخلق رؤية شمولية تجمع بين التأمل الذاتي وفهم اللاوعي الجمعي، أشار يونج إلى أن المُحللين النفسيين يستخدمون أدواتًا فلسفية مثل الجدل السقراطي والتأمل النقدي، وإن لم يعترفوا بجذورها الفلسفية.

الفلسفة ليست وجهة، إنها رحلة، هي مجموعة أدوات للعيش، حوار مع الكون ودعوة لاحتضان تعقيدات الوجود بفضول وشجاعة، “لا تدع الأسماء الكبيرة أو المصطلحات المعقدة تخيفك، ابدأ بخطوات صغيرة، واختر نصيحة عملية، وانظر كيف تحول حياتك اليومية. تذكر، كل فيلسوف بدأ من مكان ما، يطرح الأسئلة ويسعى في الحكمة” [26].

في العالم الغربي شهدت الفلسفة تطورًا كبيرًا على صعيد تطبيقها في الحياة اليومية، فهي لم تعد محصورة في قاعات الجامعات أو دوائر النخبة الفكرية. ظهر مفهوم “الفلسفة بوصفها طريقة حياة“، وهو اتجاه يُعيد صياغة الفلسفة بوصفها أداةً عملية للتعامل مع تحديات الحياة اليومية، يتمثلُ هذا الاتجاه في استخدام الفلسفة في جلسات مشابهة للطب النفسي، تُساعد الأفراد على مواجهة أزمات حياتهم بتأمل نقدي، هذه التجربة جعلت الفلسفة أكثر قربًا من الواقع، ووسيلة لفهم الذات وتحقيق التوازن النفسي والاجتماعي.

أما في العالم العربي فتُعاني الفلسفة غُربةً ملحوظة تُعزى إلى مجموعة من العوامل التاريخية والثقافية والدينية. طبيعة الفلسفة التي تقوم على التساؤل الحر والتأمل النقدي، تصطدم بواقع تُهيمن عليه منظومات فكرية تقليدية تمنح إجابات نهائية وجاهزة، مستندة في كثير من الأحيان إلى سلطة النصوص الدينية والتراثية، هذا السياق يُقَلَّصُ مساحة التفكير الفلسفي ويجعله يبدو غريبًا وغير مألوف، إضافة إلى ذلك فإن تدريس الفلسفة في المناهج الأكاديمية العربية يفتقر إلى التركيز في الجوانب العملية والرُوحية التي تُجسِّر الفجوة بين النظرية والخبرة الحياتية، بدلًا من ذلك يُتعامل مع النصوص الفلسفية بطريقة تجريدية تُفقِدها صلتها بواقع الإنسان اليومي.

إقرأ أيضا: بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة: من الدعوة إلى الفلسفة وصولا إلى الدفاع عنها

لتجاوز هذه الغربة لا بُد من إعادة النظر في طرق تدريس الفلسفة في العالم العربي، لتُصبح أكثر ارتباطًا بالحياة اليومية والقضايا الراهنة، إدماج التأمل الشخصي والخبرة الحياتية في المناهج الدراسية يمكن أن يُعيد إلى الفلسفة دورها الحيوي في بناء إنسان أكثر وعيًا وحكمة، على سبيل المثال ربط الفلسفة بقضايا الحرية والعدالة وقيم التعايش يُسهم في جعلها أكثر قربًا من واقع المجتمعات العربية.

كما أن إعادة قراءة التراث بعقلية فلسفية نقدية تُعدُّ خطوةً ضرورية لتقليل التوتر بين الموروث والفكر المعاصر، مثل هذا الجهد يُظهر كيف يمكن للفلسفة أن تُصبح أداةً لفهم الدين والتراث بعمق، بدلًا من أن تُعدَّ نقيضًا لهما، كذلك، تعزيز الحوار بين الفلسفة والدين يُبرز نقاط الالتقاء بينهما، مما يُشجع على تبني رؤى أكثر شمولية تُساعد في مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية.

ختامًا الفلسفة ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة لتحرير العقل من الجمود وتحويله إلى أداة نقدية تُساعد في صياغة أسئلة معاصرة تتوافق مع تحديات العصر، سواء في الغرب أو في العالم العربي، تبقى الفلسفة الجسر الذي يربط بين التفكير النظري والخبرة الحياتية، والأداة التي تُساعد الإنسان على استكشاف ذاته وفهم العالم من حوله، لتصبح بذلك رحلة مستمرة في بناء المعنى وتحقيق التوازن الإنساني.

الفلسفة بهذا المعنى تتجاوز كونها رحلة ذاتية لبناء المعنى إلى كونها أفقًا مفتوحًا لتوسيع الوعي الجمعي. إنها أداة تُعيد تكوين الإنسان ليكون أكثر وعيًا بموقعه في العالم، وأكثر قدرة على مواجهة الألم بتساؤل عميق ورؤية متجددة للمعنى. باختصار الفلسفة ليست أداةً لفهم الوجود، بل دعوة مستمرة لإعادة خلقه بوعي وإبداع.

 

المراجع:

[1]  انظر، مراد وهبة، الفلسفة.. ورجل الشارع، الطليعة، مجلة عيون المقالات، ملحق الأدب الفن الفلسفة والعلم، العدد 4، 1 أغسطس 1986، ص 151.

[2] جان بول سارتر، الوجود والعدم، بحث في الأنطولوجيا الظاهراتية، ترجمة/ عبد الرحمن بدوي، منشورات دار الآداب- بيروت، ط1، أغسطس 1966، ص693، 701.

[3] المرجع نفسه، ص 704.

[4] سعيد ناشيد، التداوي بالفلسفة، دار التنوير للطباعة والنشر، ط1، 2008، تونس، ص 17، 18.

[5] Finn Janning, Philosophy for Everyday Life, Journal of Philosophy of Life Vol.5, No.1 (July 2015) p. 3:7, at: https://www.researchgate.net/publication/344454743

[6]عثمان أمين، أعلام الفلسفة، الفلسفة الرواقية، جميع الحقوق محفوظة للمؤلف، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة ص 1945، ص 157، 158

[7]المرجع نفسه، ص 6

[8]  سعيد ناشيد، التداوي بالفلسفة، مرجع سابق، ص8.

[9] عثمان أمين، أعلام الفلسفة، الفلسفة الرواقية، مرجع سابق، ص 160

[10]  المرجع نفسه، ص 69، 70

[11] بيير هادو، الفلسفة طريقة حياة، التدريبات الروحية من سقراط إلى فوكو، ترجمة: عادل مصطفى، دار رؤية، 2019، ط1، ص 111

[12] المرجع نفسه، ص 96، 97.

[13]  سعيد ناشيد، التداوي بالفلسفة، مرجع سابق، ص 10

[14]  المرجع نفسه، ص 26

[15] Himanshu Mishra, How To Apply Philosophy In Real Life:7 Transformative Ways, Medium, 2021, https://medium.com/@thefreedomsage/how-to-apply-philosophy-in-real-life-7-transformative-ways-f51b162881f6

[16] Sophia Merton, 68 Stoic Quotes on Gratitude, June 28, 2022, StoicQuotes.com.

https://stoicquotes.com/stoic-quotes-on-gratitude/

[17] عثمان أمين، أعلام الفلسفة، الفلسفة الرواقية، مرجع سابق، ص 162

[18]  سعيد ناشيد، التداوي بالفلسفة، مرجع سابق، ص 44

[19] بيير هادو، الفلسفة طريقة حياة، التدريبات الروحية من سقراط إلى فوكو، مرجع سابق، ص 104.

[20] سعيد ناشيد، التداوي بالفلسفة، مرجع سابق، ص 39، 40

[21] سعيد ناشيد، التداوي بالفلسفة، مرجع سابق، ص 30

[22] المرجع نفسه، نفس الموضع

[23]  المرجع نفسه، ص37، 38

[24] بيير هادو، الفلسفة طريقة حياة، التدريبات الروحية من سقراط إلى فوكو، مرجع سابق، ص 105

[25]  كارل يونج عالم النفس والفلسفة وتأثيره العميق على النفس البشرية، https://www.elmajale.com/2021/07/blog-post_29.html

[26] Himanshu Mishra, How To Apply Philosophy In Real Life:7 Transformative Ways, Medium, 2021, https://medium.com/@thefreedomsage/how-to-apply-philosophy-in-real-life-7-transformative-ways-f51b162881f6

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete