بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة: من الدعوة إلى الفلسفة وصولا إلى الدفاع عنها

تكوين

مقدمة:

يحتفل العالم ثالث خميس من شهر نوفمبر كل عام باليوم العالمي للفلسفة، الذي أقرته منظمة اليونيسكو عام 2002، ليكون مناسبة لتجديد العلاقة مع الفلسفة، من طريق تنظيم ندوات وحوارات وفتح نقاشات داخل المنظمات والجمعيات والمؤسسات الأكاديمية في كل الدول بشأن مستجدات البحث الفلسفي مفاهيمًّا ومناهجيًّا وإشكاليًّا، وعلى الرغم من عراقة هذا الحقل المعرفي وتجذره في التاريخ البشري، إلا أنه يبقى في حاجة إلى مثل هذه الفرص، بالنظر لاضطراب الموقف بشأنه في كثير من المناطق، وأن بعضهم عدُّوه مزاحمًا للدين تارة وللعلم تارة أخرى، أو النظر له بوصفه مجرد لهوٍ أو لغوٍ لا طائل من ورائه.

المفارقة الكبيرة في وضع الفلسفة تتمثل في كونها تقدم نفسها بوصفها بحثًا عن الحقيقة والأسباب القصوى للموجودات والتنظير للفضيلة وتحصيل السعادة، غير أن بعضًا من تاريخها وخصوصًا سِيَرُ كثير من كبار الفلاسفة يقول العكس تماما؛ يحدثنا هذا التاريخ عن فيلسوف عاش في برميل (ديوجين) وآخر أكمل حياته مجنونا (فريديريك نيتشه) فيما انتحر آخر (جيل دولوز) وقتل آخر زوجته (لويس ألتوسير) وفيلسوف مات بالإيدز نتيجة الشذوذ (ميشال فوكو) كما يحدثنا التاريخ عن فيلسوف كتب في التربية في حين ترك أبناءه يعيشون في دار للأيتام (جان جاك روسو)… كما يحدثنا التاريخ –وحتى الحاضر- أن بعض الفلسفات كانت مُتكئً للاستبداد وتبريرَ الطغيان وتدميرَ البلدان (برنارد أنري ليفي مثلا)، أغلب الأحكام المُناهضة للفلسفة منشأها هذه الوقائع الجزئية ومن هنا نتساءل: لم هذه المفارقة في وضعية الفلسفة؟ إذ يُفترض في المجال الذي يدرس قيم الحق والخير والجمال أن يحظى بمنزلة رفيعة في المجتمع، كما يفترض -ومن باب أولى- أن تنعكس هذه القيم السامية لدى المشتغلين بالفلسفة قبل غيرهم؟ فما منزلة الحقيقة والفضيلة والسعادة في حياتهم؟ وهل أدركوا هذه القيم التي كرسوا لها نصوصهم؟ ثم هل الفلسفة محصنة من الاستغلال الذي يحيد بها عن وظيفتها السامية؟ ولعل السؤال الأكثر حدة وتعقيدا: كيف نقنع الناس بأهمية الفلسفة؟ وكيف نحثهم على طلبها والاشتغال بها، وهم لا يرون لها في واقعهم أية فائدة مادية أو معنوية؟

أولًا: الدعوة إلى الفلسفة:

يرصد أرسطو في كتابه الموسوم بـ: “دعوة إلى الفلسفة“، وعنوانه الأصلي (Protrepticus)، عديدًا من الحجج ليثبت من طريقها أهمية الفلسفة واقترانها بالحياة الإنسانية، لدرجة أنه أنهى الكتاب بعبارة حماسية جازمة ربط فيها معنى الحياة بالتفلسف وغياب هذا الأخير يجعل الحياة بلا معنى والموت أفضل منها يقول:

“ينبغي للإنسان إما أن يتفلسف وإما أن يودع الحياة ويمضي من هنا، إذ يبدو أن كل ما عدا ذلك إنما هو ثرثرة حمقاء ولغو فارغ”[1]،

وقد وصل أرسطو إلى هذا الحكم بناء على سلسلة من الحجج والبراهين على ضرورة التفلسف، وكونه صنوا للحياة البشرية الحقيقية، فالإنسان وُهِب العقل و”مهمة هذه الملكة هي التفلسف[2]، وعدم قيام العقل بوظيفته من طريق التأمل والمعرفة، ومن ثم  التفلسف يعني انحدار الإنسان إلى مرتبة أدنى من الإنسانية، وليس يصح -يقول أرسطو–  أن يبذل الإنسان كثيرًا من الجُهد والمال في السفر من أجل مشاهدة عروض مسرحية أو ألعاب أولمبية (وهي مجرد تمثيل بغرض الترفيه) ثم يَعْزُف عن تأمل طبيعة الأشياء أو حقيقة الظواهر بغير مقابل مادي[3].

قد تكون هذه الدعوة إلى الفلسفة بوصفها طريقًا للحياة الكاملة منسجمة مع معطيات الحضارة اليونانية والعالم القديم عمومًا، حيث كانت الفلسفة حاضنة المعارف كلها نظرية كانت أو عملية، ومن ثم كان يفترض أن تكون مكانة الفيلسوف أو محب الحكمة راقية في نظر المجتمع، بوصفه أعرف الناس بحقيقة الأشياء والمفاهيم وأقدرهم على الجدل وغلبة الخصوم (سقراط مثلا)، إلا أن ذلك لم يحدث فقد أعدم سقراط بتهمة الإلحاد وإفساد عقول الشباب، وقبله قُتل فيثاغورث، وكان أرسطو نفسه سيلقى المصير نفسه لولا هربه، والمؤكد أن بقية الفلاسفة اليونان لم يعيشوا في أحسن حال فكأن قدر الحقيقة أن تكون مرغوبة للبعض مزعجة للآخر، لأنها تفضح وتُعري وتهتز بفعلها العروش وتتلاشى الأوهام.

بعد أفول العالم القديم زاحمتها الديانات في أثناء القرون الوسطى في الحديث باسم الحقيقة، بل وسحبت منها هذه الوظيفة على الرغم من مساعي عديد من الفلاسفة في التوفيق بين الحقيقة التي تتضمنها النصوص الدينية والحقيقة التي يصل إليها الفلاسفة (ابن رشد، ابن ميمون…)، ثم منعها العلم الحديث من التدخل فيما يتعلق بمعرفة الطبيعة أولًا، ثم الإنسان آخرًا، بعد تأسيس العلوم الإنسانية والاجتماعية ومع حلول القرن العشرين وصعود النزعة العلمية بدأ الحديث عن موت الفلسفة بسبب أن ما تبقى لها من قضايا لتدرسها (الميتافيزيقا)، هي أشباه قضايا أو قضايا خالية من المعنى مقارنة بالقضايا العلمية تحليلية كانت أو تركيبية.

ثانيًا: الدفاع عن الفلسفة:

مثلما وجد في كل الأزمنة مناهضون للفلسفة وجد كذلك، مدافعون عنها، مُبرزين أهميتها لدى الإنسان والمجتمع وحتى لدى الدين والعلم، فلا يكاد أعداؤها يخرجونها من الباب حتى يدخلها المدافعون عنها من النافذة، بل أن محاولات تبرير عدم الحاجة إلى الفلسفة لا يكون إلا من طريق ممارسة التفلسف، فإذا كانت النصوص الدينية المقدسة تتضمن الحقيقة المنزلة، فإن فهم هذه النصوص وإدراك معانيها العميقة في حاجة دومًا إلى التدخل البشري شرحًا وتفسيرًا وتأويلًا، وهذه العمليات تفتح المجال إلى عودة الفلسفة بعُدتها المفاهيمية والمنهجية والإشكالية، وإذا كانت العلوم التقنية تُقدم نفسها مثالًا للدقة واليقين، فإن نتائجها وتطبيقاتها تُفرز قيمًا وإشكاليات يعجز العلماء عن مناقشتها وهو ما يفرض تدخل فلاسفة العلم ومؤرخوه للتعبير عن هذه القيم ومناقشتها، كما أن تسيير المجتمع وتنظيم المؤسسات السياسية في حاجة دوما إلى التدخل الفلسفي لبيان ما ينبغي أن تكون عليه، حتى تؤدي غرضها وتؤتي أكلها.

وحتى يثبت لدينا أن التفلسف فعل ضروري وأن للفلسفة مكانة مهمة للفرد والمجتمع بغض الطرف عن مناوئيها، هناك بعض الملاحظات المهمة التي قد تساعد في استيعاب مبررات الهجوم على الفلسفة، ومن ثم مناقشتها بما يثبت محدوديتها أو تهافتها بصورة كلية.

  1. الفلسفة والفلاسفة:

من المهم التمييز بين الفلسفة وممارسات الفلاسفة، فكثير من العداء للفلسفة سببه النظر في سير بعض الفلاسفة التي انطباعا بأن هؤلاء كانوا أبعد الناس عن القيم التي تدعو إليها الفلسفة، فلا فضيلةً مارسوا ولا سعادةُ حَصَّلوا ولا حقيقة قدموا، بل أن منهم من كانت حياته عكس هذه القيم، فبدلا من انتقاد هؤلاء مباشرة ينتقدون الفلسفة كلها وهذا خطأ كبير، إذ لا تتحمل الفلسفة وِزر المنتسبين إليها وأخطاؤهم لا تعني بالضرورة خطأ الفلسفة، فالفلاسفة أناس عاديين وليسوا معصومين، حياتهم تحكمها الظروف المحيطة والمصالح والعلاقات والإكراهات التي يتعرض لها أي إنسان في حياته، كما أن هناك دخلاء على الفلسفة ولا يملكون منها إلا الاسم، يقول أحد المفكرين:

“لا شك أن عدد الدجالين أدعياء الفلسفة كان كبيرا جدا طوال العصر القديم”[4]،

والأمر لا يتوقف عند العالم القديم فقط ففي الحاضر أدعياء للفلسفة يستغلون القول الفلسفي لقضاء مآرب لا علاقة لها بمرامي الفلسفة، هناك مثل شعبي سائر يقول: “اعمل بما يقوله الإمام ولا تعمل بما يفعله”، الأمر نفسه ينطبق على الفلسفة والفن وغيرهما، وإذا كنا لا نستطيع محاكمة الدين بناء على ممارسات بعض المتدينين، فإننا على نحو مماثل لا نستطيع الحكم على الفلسفة أو الفن بناء على ممارسات بعض “الفلاسفة” أو “الفنانين”.

من جهة أخرى فإن كثيرًا من الأذى لحق الفلسفة والفلاسفة بناء على قراءات معينة لنصوص هؤلاء وتأويلات خاصة لها، والكاتب مهما كان تخصصه فهو غير مسئول عن التأويلات والتوظيفات التي تطال نصه، فالماركسية بوصفها فلسفة غير مسئولة عن ممارسات الأحزاب اليسارية والاشتراكية، مثلما لا يتحمل نيتشه أية مسئولية تجاه الحركة النازية أو الحرب العالمية، والأمثلة المشابهة كثيرة في تاريخ الفلسفة.

2. الفلسفة طريقة للحياة الراقية:

يذهب أرسطو في كتابه سالف الذكر إلى أن التفلسف إن لم يكن هو الحياة الكاملة، فهو أنجح الوسائل التي تقود النفس إليها[5]، في السياق نفسه، كَرَّس الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي بيير آدو (1922-2010) المختص في الفلسفة القديمة، أحد كتبه للدفاع عن الفلسفة من منطلق أنها طريقة للحياة أو فنًا للعيش، ورصد مجموعة من المزايا التي تقدمها لنا الفلسفة من طريق ما سماه بـ: “التدريبات الروحية“، فالفلسفة في نظره:

“ليست تعاليم نظرية مجردة، وهي أبعد ما تكون عن عملية تفسير نصوص، إنما هي فن العيش، الفلسفة موقف حياتي وأسلوب محدد في الحياة يشمل الوجود بكليته(…) الفعل الفلسفي يرفع الفرد منا من حالة حياتية غير أصيلة وغيبوبة مُعتمة ووهم مُنَغِّص، إلى حالة حياتية أصيلة يمتلك فيها المرء الوعي الذاتي والرؤية الدقيقة للعالم والسلام الداخلي والحرية”[6].

أغلب الناس ينظرون إلى الفلسفة بوصفها مجموعة من النصوص التي كتبها الفلاسفة تُدرس وتُفسر للطلبة المختصين، هذا بالطبع جانب مهم من جوانب الفلسفة إلا أنها لا تقتصر على هذا الجانب فقط، فهي أوسع من أن تُحصر في مجموعة نصوص نظرية، لأن وراء أي سلوك نقوم به رؤية معينة ووعيًا ما بموضوع السلوك، تلك الرؤية وذلك الوعي يُعَدان من صميم الفلسفة، لدرجة أنه يُمكن القول إن الفلسفة تَسْكُننا وتُحيط بنا من كل جانب سواء كنا واعين بها أو لم نكن واعين.

ضمن التدريبات الروحية التي نتعلمها بفضل الفلسفة يذكر بيير آدو تعلم الحوار، سواء تعلق الأمر بالحوار مع الذات أو الحوار مع الآخرين، فالفلسفة تعلمنا “العيش في صحبة الأسئلة، والعبرة ليست بحل مشكلة معينة، إنما هي بالطريق الذي نقطعه للوصول إلى الحل، طريق يُكوّن عبره المحاوِر والتلميذ والقارئ فكرهم ويجعلونه أجدر باكتشاف الحقيقة بنفسه”[7]. ففي الفلسفة الأسئلة أهم من الأجوبة، بل الفلسفة هي فن السؤال وصحبة الأسئلة تساعد في الاستقلال الفكري من طريق جعل الفكر يقظًا حذرًا من الرضوخ لأية فكرة قبل التساؤل بشأنها من مختلف الزوايا، حتى تتضح له وضوحًا تامًا، وهذه هي الخُطوة الأولى في المنهج الديكارتي، “قاعدة البداهة” بمعنى ألا نقبل أي شيء حتى يتراءى لنا واضحًا بينًا لا يحتاج إلى برهنة، كما يعلمنا طريقة الحوار، كيف نقرأ؟ وكيف نتعاطى مع ما نقرأ؟ من طريق وضع مسافة بيننا وبين النص قصد مساءلته وكشف نسيجه المعرفي والسلطوي، ذلك أن النص تتمفصل فيه المعرفة مع السلطة فهو يوضح ويخفي، يقول ويسكت، يعلن ويحجب…

تُعلمنا الفلسفة كيف نتعامل مع أبعاد الزمن (الماضي/الحاضر/المستقبل)؟ وكيف نعيش اللحظة الحاضرة، ونستمتع بها أيما متعة ممكنة، يقول بيير آدو:

“علينا ألا نفكر في الماضي أو المستقبل إلا فيما كان شيئا سارا (متعة ماضية أو مستقبلة) وبخاصة إذا كان ذلك تخفيفًا عن معاناة راهنة (…) أنقى اللذات وأشدها يمكن نيلها بسهولة في الحاضر”[8]

كثير منا يُهدر وقتًا كبيرًا في الحنين إلى ماض لن يعود، أو يشرئب إلى مستقبل لم يأت بعد، وفي كلتا الحالتين فهو يُضيع على نفسه متعة حاضره الذي هو لحظة سريعة الهروب إن لم نعشها أصبحت ماضيًا، والمستقبل لم يأت بعد ولا يمكن الوثوق في لحظة لم تحن بعد، لذلك فالفلسفة تعلمنا أن نعتني بالحاضر ونعيش كل لحظة فيه كما يجب، يقول بيير آدو:

“نحن مدعوون إلى أن نعي عبثية رغباتنا التائهة، ونعي وشوك الموت في الوقت نفسه، وفرادة الحياة وفرادة اللحظة الحاضرة، من هذا المنظور تبدو كل لحظة كهدية بديعة تملئ قلب متلقيها بالشكر والعرفان”[9].

هذا النص بالإضافة إلى تمجيده للحاضر فهو يشير إلى سؤال الموت والفلسفة تعلمنا أن نفكر سؤال الموت، وهو سؤال رافق الإنسان وأرَّقه منذ القدم، سؤال طرحه المصريون القدامى فتركوا لنا جوابهم ضمن “كتاب الموتى“، طرحه العراقيون القدامى فكتبوا “ملحمة غلغامش“، أرَّق الهنود فوضعوا قواعد اليوغا من أجل الوصول إلى حالة “النرفانا” أو لحظة حلول “الأتمان” في “البراهمان“، و”عرض سقراط نفسه للموت من أجل الفضيلة وفضل أن يموت على أن يتخلى عن مطالب ضميره، رافعا بذلك الخير فوق الوجود والفكر والضمير فوق الحياة والجسد، فإذا صح أن الفلسفة تُخضع الجسد لأن يحيا وفق المطالب العليا للفكر، فإن لنا أن نقول بأن الفلسفة هي تدريب وتمهن للموت”[10]، تجاوبات حضارية عديدة فكرت في سؤال الموت وقدمت إجاباتها ومقارباتها الفلسفية تجاهه، ومهما تكن قيمة تلك المقاربات فإنها تؤكد أهمية طرح السؤال، هذا السؤال الذي بقي صامدًا وسوف يظل كذلك، لأن الإنسان مشروع يكتمل بموته كما في فلسفة هيدغر (1889-1976)، ومن ثم يجب على الإنسان أن يسعى في تحقيق أكبر قدر من الممكنات وهو مستعد للموت الذي يحاصره في كل لحظة من حياته ومن تعلم كيف يموت، فقد تعلم كيف يحيا حُرا وفيا لمبادئه وتلك هي الحياة الجديرة بأن يحياها الإنسان، حياة حرة واعية بإرادة مُتوثبة ومبادئ موجهة كما قال المتنبي:

عش عزيزا أو مت وأنت كريم بين طعن القنا وخفق البنود

فاطلب العز في لظى ودع الذل ولو كان في جنات الخلود

خاتمة واقتراحات:

إن تخصيص يوم في السنة للاحتفاء بالفلسفة أمر مهم، لذلك ويجب تثمين مبادرة منظمة اليونيسكو مثلما يجب تثمين جهود المشتغلين في هذا الحقل المعرفي، غير أن يوما واحدا يبقى غير كاف خاصة وأن إحياء هذا اليوم يأخذ في كثير من الأحيان طابع الاحتفال، فتكون النشاطات المبرمجة فيه لحظية عابرة، يُتبادل فيها التشكرات والتكريمات، وينتهي الأمر حتى السنة المقبلة وهكذا دواليك، وهذا غير كاف وغير مجد بالنظر للأهمية التي تكتسبها الفلسفة سواء كانت النظرة إليها بوصفها مجالًا معرفيًا ضمن مختلف حقول المعرفة، أو بوصفها طريقة للحياة هدفها الارتقاء بالإنسان ليعيش حياة أكثر وعيًا وأكثر حرية، ومن ثم أكثر معنىً وأكثر عمقا.

قد يكون بعض المنتسبين إلى الفلسفة وبعض الأدعياء جنوا عليها بممارساتهم غير المتوافقة مع طبيعة الفكر الفلسفي أو بتوظيفهم الفكر الفلسفي لتبرير ممارسات منافية للقيم الفلسفية السامية، وأسهموا بذلك في إقامة الحجة بواسطة الخصوم على الفلسفة، ومن ثم وجب التنبيه على ضرورة التمييز بين الفلسفة والفلاسفة، فهم لا يمثلون إلا أنفسهم والفلسفة براء منهم كما أن لكل عصر معطياته، وكثير من هذه المعطيات لا سبيل إلى استحضارها كما كانت، فقد تكون هناك مبررات موضوعية لمناهضي بعض الفلاسفة انطلاقا من الظروف التي كانوا يعيشون فيها، فلا يمكن أن تلوم إنسانًا جائعًا على عدم اهتمامه بالتأمل والتفلسف، ومثلما نتحدث عن متطرفين مناهضين للفلسفة فهناك متفلسفة متطرفين وقد يمثلون خطرًا على قيم مجتمعاتهم، فالعقل والحرية قد يتحولان إلى أسلحة خطيرة في بعض الأحيان…

إن ارتباط الفلسفة بالبحث عن الحقيقة أو الفضيلة أو السعادة لا يعني بالضرورة إمكان إدراك هذه المفاهيم وتجسيدها في أرض الواقع، إنما يعني مداومة الاشتغال والسعي المستمر في مسار تحقيق أكبر قدر ممكن من تلك المفاهيم، بفضل مصاحبة الأسئلة كما عبر عن ذلك بيير آدو وتقليب الموضوعات من مختلف أوجهها، فالتدريبات الروحية التي نظَّر لها هذا الأخير، تبقى مستمرة دون نهاية، لأن الحكمة كما يقول: “تبقى مثالا نسعى فيه دون أن ندركه، وأقصى ما نستطيعه، أن نكون محبي الحكمة لا حكماء”[11]، وهو ما قال به فيثاغورث منذ قرون عديدة حين قال عن نفسه أنه ليس حكيمًا إنما هو محبٌّ للحكمة، فنحن سالكون لا واصلون بلغة المتصوفة، فالأسئلة أهم من الأجوبة والمنهج أهم من الحل.

إجابة للقائلين بعدم جدوى الفلسفة يقول الفيلسوف الجزائري البخاري حمانه (1937-2018)، في مقال مهم وسمه بــ: دفاعًا عن الفلسفة:

“ذلك أن الفلسفة الحقيقية لم تُحارب في الماضي ولا تُحارب اليوم لأنها غير مجدية، بل حُوربت وتُحارب لأنها مُجدية ومؤثرة (…) الفلسفة مُؤثرة وخطيرة لأنها تدفع إلى التساؤل وتطلب الوضوح في كل شيء، والتساؤل يدفع إلى الحوار والحوار يدفع إلى الطرح الموضوعي للقضايا والمشاكل، والطرح الموضوعي لها يدفع إلى مواجهتها بأسلوب منهجي، والمنهجية أعمق ثورة عرفتها الإنسانية إلى اليوم، لأنها الوحيدة القادرة على تعليمنا شيئًا جديدًا”[12].

  • الفلسفة في حاجة إلى اهتمام أكبر في عدة مستويات خصوصًا في بلدان العالم الثالث التي ننتمي إليها، ففي مستوى البرامج التعليمية، ينبغي التعامل معها كأية مادة تعليمية أخرى، وهنا نتساءل: لماذا يُؤخرُ تدريس الفلسفة؟ لماذا لا تُدَرَّسُ مثل الرياضيات أو اللغة أو التاريخ… منذ المرحلة الابتدائية؟ مع أنه بالإمكان وضع برامج فلسفية ملائمة لكل مرحلة عمرية، يُمكن البداية بتعليم الفلسفة بواسطة الألعاب ثم تعليمها من طريق شرح أهم المفاهيم والمناهج ثم تدريسُ تاريخها وأهم مدارسها وصولًا إلى مناقشة الإشكاليات الفلسفية. إن تأخير تدريس الفلسفة كان سببًا رئيسًا في بقائها غريبة، ومن ثم غير محبوبة لدى الطلاب إن لم نقل إن ذلك كان سببًا –ضمن أسباب أخرى- لمعاداتها.
  • كما ينبغي إدراجها بوصفها مادة تعليمية إجبارية في مختلف التخصصات الجامعية، فطلبة الآداب والقانون والطب والهندسة… كلهم في حاجة إلى الفلسفة بما يوافق تخصصاتهم؛ طلبة اللغة والأدب مثلًا لن يتمكنوا من معرفة المرجعيات الفكرية للمدارس الأدبية واللسانية إذا لم يدرسوا الفلسفة، وطلبة القانون والشريعة في حاجة إلى دراسة فلسفة القانون، ومناهج التأويل وآلياته وهو ما يُمكن للفلسفة أن تتيحه لهم، فيما يحتاج طلبة الطب والجراحة إلى معرفة الأخلاق الطبية (Bioéthique) والسياسة الحيوية (Biopolitique)، وطلبة الهندسة المعمارية يتقاطع تخصصهم في بعض المسائل مع فلسفة الفن والجمال (L’esthétique)، وقل الأمر نفسه لدى باقي التخصصات العلمية، فحتى التكنولوجيات الجديدة ووسائط التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي في حاجة إلى فلسفة مرافقة وموجهة خاصة فيما يتعلق بالجوانب الأخلاقية والقيمية عمومًا لهذه المستجدات التي اكتسحت العالم، وأصبحت تفرض مفاهيمَ جديدةً وتعيد النظر في مفاهيم أخرى.
  • من الضروري أيضًا فتح مجال التوظيف أمام خريجي أقسام الفلسفة في مختلف الوظائف والإدارات بما يلائم تكوينهم، بوصفهم مستشارين أو ضمن خلايا إعداد البرامج والاستشراف والمتابعة والتقييم… لأن أحد أسباب عزوف الطلبة عن دراسة الفلسفة وعدم الاهتمام بها -في مجتمعاتنا خاصة- يعود إلى شُح مناصب العمل وانسداد الآفاق في وجه خريجي أقسام الفلسفة.
  • في مستوى مؤسسات المجتمع المدني تبدو الفلسفة ضرورية لضمان ممارسة أفضل لمهام هذه الهيئات الوسيطة بين المواطنين ومؤسسات الدولة، فالفلاسفة هم الأحسن إصغاءً لأصوات الجماهير، وهم الأقدر على صياغة المطالب والتفاوض من أجل تحقيقها، من جهة أخرى تحتاج بلداننا إلى خطط عمل وبرامج تنموية شاملة، وهذه الأخيرة تستلزم إشراك المشتغلين بالفلسفة في فرق إعدادها، فالفلسفة بحكم نظرتها الكلية للأمور لديها ما تقدمه وتفيد به هذه المخططات، ومن دون فلسفة سوف تكون كثير من هذه البرامج كما كانت منذ استقلال دولنا برامج جزئية عرجاء مُتخبطة…
  • ليست الفلسفة مجرد برامج دراسية تنتهي بنهاية العام الدراسي أو بتحصيل شهادة عليا، إنما هي ممارسة يومية يمكنها أن تُسهم في تكريس قيم الحوار العقلاني الهادئ والتسامح والتعايش بين المختلفين في المجتمع الواحد، والدعوة إلى السلم بين مختلف الدول من طريق ممارسة النقد البناء وفضح شتى أساليب الاستغلال والاضطهاد وإدانتها دفاعًا عن القيم السامية وعن الإنسان، وختامًا نقول إن الفلسفة مُحايثة لنا في يومياتنا شئنا أم أبينا، لذلك فعيشها بِدِراية أهم وأكثر نفعا من عيشها دون دِرَاية.

الإحالات:     

 أرسطو: دعوة للفلسفة (كتاب مفقود لأرسطو)، ت: عبد الغفار مكاوي، بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع(د ت)، ص 73. [1]

 المرجع نفسه، ص 46.[2]

 نفسه، ص 50.[3]

 بيير آدو: الفلسفة طريقة حياة ، ت: عادل مصطفى المملكة المتحدة، مؤسسة هنداوي،ط1، 2023، ص 34.،[4]

 أرسطو: مرجع سابق، 68.[5]

 بيير آدو: مرجع سابق، ص 65[6]

 نفسه، ص 77.[7]

 نفسه، ص 200[8]

 نفسه، الصفحة نفسها.[9]

 نفسه، ص 79.[10]

 نفسه، ص 90.[11]

 البخاري حمانه: تأملات في الدنيا والدين، الجزائر: دار القدس العربي، ط1، 2012، ص 297.[12]

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete