تكوين
الفلسفة والأدب: وجهان لعملة واحدة
في عالم الفكر والفلسفة والمعرفة ليس هناك فواصل، إلا إذا كانت الفواصل عبارة عن ضرورات إجرائية، لهذا نجد تجربة المزج بين الفكر والأدب، دوما عملية تفاعل بين مفاهيم فلسفية وأفكار عميقة مع تعبيرات أدبية وجمالية. هذا المزج، وهذه التجربة الإنسانية، غالبا ما تنتج لنا نصوصا تعبر عن الحالة الذهنية والنفسية والفكرية، التي تختلج الإنسان في مرحلة من مراحل حياته بأسلوب يطبعه الدقة والإبداع. إنها الحالة التي يربط فيها الإنسان بين التحليل العقلي والمنطق الفلسفي، وبين الخيال الأدبي، مما يتيح للقارئ أن يستوعب المفاهيم بشكل أعمق وأكثر تأثيراً.
إن التمايزات تسقط كلما كانت الفكرة المعبر عنها عميقة بقدر عمق الأسلوب الذي تقدم به. فبالرغم من أن في الفكر يتم التركيز عادة على الفهم، التحليل، والبحث عن الحقيقة. فإن في الأدب، يتم التركيز على الأسلوب، السرد، والتجربة الشعورية. وباجتماعهما تتحول هذه التجربة الإنسانية إلى عوالم ينتج عنهما نصوص تلهم العقل والقلب معاً. هكذا نقرأ تجربة العديد من الفلاسفة، مثل نيتشه وسارتر الذين وظفوا الأدوات الأدبية في أفكارهم الفلسفية بشكل أدبي وجذاب. ولولا هذا المزج لم يكن لأفكارهم أن تلقى الحظوة الملائمة في عالم لا يحتاج فقط إلى الفكرة، بل إلى الأسلوب أيضا. وحدها تجربة المزج والتفاعل بين الفلسفة والأدب من تجعل الأفكار المعقدة بطريقة أسهل للقارئ العادي، حيث يستفيد من الجمال الأدبي للتعبير عن المعاني العميقة. كما فعلت روايات فلسفية مثل “الغثيان” لجان بول سارتر، و”هكذا تكلم زرادشت” لفريدريك نيتشه.
فلسفة أفلاطون
وإذا عدنا إلى الماضي لنلتمس الجواب لهذه التجارب الإنسانية فيمكننا أن نقرأ أعمال أفلاطون، الفيلسوف اليوناني الشهير، الذي استخدم الأدب بشكل متقن لنقل أفكاره الفلسفية. فكتبه على شكل حوارات فلسفية، مثل الجمهورية والمأدبة، تجمع بين السرد والحوار الفكري العميق. حيث كان يستخدم الأدب لعرض الأفكار الفلسفية بطريقة تجعل القارئ يفكر ويشارك في النقاشات. الأمر نفسه تكرر مع أرسطو في فن الشعر، فقد ركز على أهمية الشعر والمسرح في تنمية العقل والشعور. وهو أحد الأوائل الذين وضعوا أسس النظرية الأدبية وربطوا بين الأدب والفكر. وكتاباته حول الأخلاق والسياسة هي أيضاً أمثلة على كيفية استخدام الفلسفة لتوجيه القيم والمعايير الأدبية. أما جالينوس، الفيلسوف والطبيب اليوناني، فقد كان له دور كبير في المزج بين الفكر الفلسفي والأدب الطبي. ففي كتاباته، كان يوظف اللغة الأدبية لتقديم نظريات طبية معقدة بأسلوب يسهل فهمها. وفي السياق الإسلامي لا ننسى ابن سينا الذي كان له حضور بارز في تجربة المزج بين الفكر الفلسفي والأدب. وابن طفيل الذي كانت فلسفته موجهة بالعقلانية والفكر العميق. خاصة نصوصه الأدبية مثل حي بن يقظان الذي كان تأملاً فلسفياً في شكل سردي.
الفلسفة والأدب في مواجهة العبث
العبثية هي فكرة فلسفية تتمحور حول الاعتراف بعدم وجود معنى أو هدف نهائي للحياة. وتنشأ من الصراع بين رغبة الإنسان في إيجاد مغزى للحياة، وبين صمت الكون الذي لا يقدم إجابات واضحة لهذه التساؤلات. يشعر الإنسان بأن حياته وأفعاله لا تؤدي إلى شيء نهائي أو مفهوم، ما ينتج لنا شعورا باللاجدوى والضياع. على الرغم من أن العبثية قد تبدو فلسفة تشاؤمية، فإنها تدعو إلى قبول هذا الواقع بدلاً من مقاومته، وعيش الحياة بوعي كامل بهذا التناقض. كما يمكن أن يؤدي هذا الفهم إلى شعور بالتحرر، حيث يكون الإنسان حراً في خلق معناه الشخصي وتحديد قيمه الخاصة، حتى في عالم يبدو بلا معنى أو نظام واضح.
العبثية ببساطة هي اللحظة التي يفقد فيها الإنسان كلَّ إطار مَرجعي إزاءَ الزمان والمكان والتاريخ. ربما يعيش خارج كل هذه الأشياء حيث يصبح الشك هو سيد المواقف، ذلك الشك المفضي إلى إفقاد المعنى من كل شيء يحيط بنا بما في ذلك ذواتنا، هذا هو المقصود بالعبث من وجهة نظر كامو والتي عبر عنها في مختلف كتاباته خاصة مقال له بعنوان «أسطورة سيزيف» حيث وصفَ كامو شعوره بالعبث وهو يرى رجلًا على الجانب الآخر من نافذة المقهى، يتحدَّث بحيوية في الهاتف: لم يستطِع كامو أن يسمعه؛ ثم رأى شخصا آخر يتحدَّث بجدية إلى قِطعة من البلاستيك، فكان هذا الموقف أو هذه المواقف محفزة للشعور بهذا الإحساس، إحساس بالعبث في أبهى صورة. من خلال كتابه المعنون ب ألبرتكامو مقدمة قصيرة جدا لأوليفر جلوج[1]، يرصد هذا الأخير تجربة العبثية الفريدة للكاتب الفرنسي ألبرتكامو، ويحلل قدرته على التعبير على أفكاره عن طريق الأدب، تجربة فريدة ومميزة، استطاع من خلالها الكتاب تجميع فكرة العبثية في كتابات ألبرتكامو المختلفة، ولكن بطريقة مختصرة ومفيدة.
ما الذي جعل كامو يشعر بالعبث بهذا الشكل المتنامي والمتزايد؟
لا شك أنها تجربته الإنسانية وتفاعلاته الاجتماعية مع مختلف مكونات الحياة، لكن كانت هناك أحداث مركزية ومهمة تستدعي منا التوقف عندها:
- تأثير التجارب الشخصية على فلسفته: كانت تجارب كامو الشخصية عاملاً محوريًا في تطور فلسفته حول العبثية. ولا ننسى أنه نشأ في الجزائر، وسط تنوع ثقافي واجتماعي، مما أضفى بعدًا إضافيًا على إحساسه بالانفصال والاغتراب.
- الحرب وتأثيرها: كان كامو من الفلاسفة الذين عاصروا المراحل الملتهبة من الحرب العالمية الثانية، كما شهد الفوضى والدمار الناتجين عنها. وكان طبيعيا أن تولد هذه الأحداث القاسية تجربة اللامعنى لديه، كما جعلته يتساءل عن طبيعة الوجود في عالم يسوده العنف والقوة المفرطة.
- المرض والموت: أُصيب كامو بمرض السل في سن مبكرة، وهو ما جعله يواجه الموت بشكل مباشر. هذا الوعي بالموت شكل لديه إحساسًا دائمًا بعدم الاستقرار وعبثية الحياة. وفي كتاباته، يظهر هذا الشعور بشكل واضح، حيث يطرح تساؤلات حول الفناء وما يعنيه ذلك بالنسبة للوجود الإنساني
- العزلة والهوية: من الموضوعات المؤثرة في مسار كامو نجد موضوعات الهوية والانتماء. فهو من القلائل الذين عاشوا وعاصروا ثقافات متنوعة، بحكم النشأة في الجزائر، التي ساهمت في تعزيز شعوره العميق بالغربة. هذا الصراع مع الهوية دفعه إلى البحث عن معنى في سياقات متعددة، مما زاد من إحساسه بالعبث.
- التأثر بالفلسفات الأخرى: يعد ألبرت كامو من الفلاسفة الوجوديين من حيث الرؤية والمنطلقات، حيث يعتبر الفرد هو المركز الأساسي للمعنى والكون. ولكنه، خالف الفلاسفة الوجوديين، حينما رأى أن الاعتراف بالعبثية يجب أن يقود إلى استنتاجات مختلفة. ففي حين تُشير الوجودية إلى حرية الفرد في خلق معانيه، أكد كامو أن هذه المعاني لا تعني أن الحياة مليئة بالهدف، بل يجب أن نتقبل عدم وجود معنى نهائي[2].
هذا عن تجربة كامو والأسباب الكامنة وراء هذا الحضور العبثي في كتاباته ومقالاته وطريقة رؤيته للأشياء المحيطة به. وباختصار شديد كل هذه المشاعر الممتزجة بهذا التيار العبثي وجدت تعبيرات مختلفة في كتاباته، ولنأخذ بعضا منها على سبيل الاختصار:
كاليجولا
“من الأعمال البارزة في المسار الأدبي والفلسفي لألبرت كامو نجد العمل المسرحي “كاليجولا”، حيث تعتبر واحدة من أبرز أعماله. وتتناول المسرحية العديد من الموضوعات، كالوجودية، والحرية، والعبث. تدور أحداث هذه المسرحية حول الإمبراطور الروماني كاليجولا، الذي يعاني من صدمة عميقة بعد وفاة أخته دروسيلا، التي كان يحبها حبًا كبيرًا. بعد هذه المأساة، يشعر كاليجولا بالعبث وعدم معنى الحياة، مما يدفعه إلى اتخاذ قرار جذري: السعي لتحقيق الحرية المطلقة. وهنا يسعى كاليجولا إلى تحقيق فهم أعمق للوجود، ويريد أن يكتشف معنى الحياة في عالم يفتقد هذا المعنى. كما يسعى إلى إلغاء القيود المفروضة عليه، مما يؤدي إلى تصرفات غريبة وعنيفة. لقد كان كاليجولا يعتبر نفسه فوق الجميع، ويريد أن يعيش كما يريد دون أي اعتبار للعواقب. هكذا يتجلى العبث، حيث يدرك كاليجولا أنه لا يوجد معنى أو هدف حقيقي في الحياة، فيبدأ بالشعور بالعزلة والاغتراب النفسي، بالرغم من كونه إمبراطورًا، فعزلته جعلته غير قادر على التواصل مع الآخرين، مما يزيد من تعقيد حالته النفسية[3].
رواية الغريب والعبث
تشكل رواية “الغريب” لألبرت كامو واحدة من الأعمال ذائعة الصيت في مسار الاديب والفيلسوف، حيث تجسد أفكاره حول العبث والوجودية. تدور أحداث “الغريب” حول ميرسو، شاب جزائري من أصول فرنسية (في فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر)، يعيش حياة عادية وخالية من الطموح أو الاهتمام العاطفي. تبدأ الرواية بوفاة والدته، وهو يتلقى الخبر بشكل بارد ودون مشاعر واضحة، ما يثير دهشة المحيطين به. خلال القصة، تتطور شخصية ميرسو ليصبح محور العديد من الأحداث الغريبة التي يعالجها ببرود وعدم اكتراث. ذروة الرواية تحدث عندما يقتل ميرسو رجلاً عربياً على شاطئ البحر بدون دافع حقيقي واضح سوى شعوره بالانزعاج من حرارة الشمس، الأمر الذي يدخله في سلسلة من المحاكمات. لكنه خلال المحاكمة، لا يُحاكم فقط على جريمته، بل على عدم إظهاره لمشاعر الحزن بعد وفاة والدته، وعلى طبيعته “الغريبة” عن المجتمع. وقد عالجت الرواية العديد من التيمات الأدبية والفلسفية أهمها:
- العبثية: وهي فكرة تؤمن بأن الحياة خالية من المعنى أو الهدف العميق. فميرسو بطل الرواية يعبر عن هذا الفكر من خلال تصرفاته التي تفتقر إلى المشاعر والتفسير المنطقي.
- الوجودية: ميرسو يُظهر صفات الشخص الوجودي، الذي يختار أن يتقبل الحياة كما هي دون محاولة البحث عن معنى أعمق، ويعيش وفقًا لمواقفه الخاصة.
- الموت واللامبالاة: الرواية تُعالج موضوعات الحياة والموت من خلال منظور اللامبالاة، حيث أن بطل الرواية يتعامل مع الموت ببرود، سواء موت والدته أو موته المحتمل بعد المحاكمة.[4]
أسطورة سيزيف
تعد “أسطورة سيزيف” من الأعمال الفلسفية التي تجسد فكرة العبث عند ألبرت كامو، تلك الفكرة التي تطورت عبر أعمال مختلفة لعل أهمها ما رأيناه سابقا من رواية “الغريب” ومسرحية **”كاليجولا”**. وكلها أعمال تعالج مواضيع فلسفية تتمحور حول قضية العبثية، وإمكانية الحياة في عالم يفتقر إلى معنى واضح.
إن عنوان المقالة مستوحى من أسطورة سيزيف الإغريقية. ففي الأسطورة، يُعاقب سيزيف من قبل الآلهة بأن يدفع صخرة ضخمة إلى قمة جبل فقط، لكي تتدحرج مرة أخرى إلى أسفل الجبل بمجرد وصوله إلى القمة. يُجبر سيزيف على تكرار هذه العملية إلى الأبد، مما يجعل هذا العمل بلا معنى وبلا نهاية. في هذه المقالة، يستخدم كامو أسطورة سيزيف كرمز للحالة البشرية. فالعبث، وفقًا لكامو، هو الفجوة بين بحث الإنسان عن معنى في الحياة، وصمت الكون اللامبالي. وكأن الإنسان في حياته يختبر صراعًا شبيهًا بما يواجهه سيزيف، حيث يسعى لتحقيق معنى أو هدف في عالم لا يقدم أي توضيح حول وجود هدف أو معنى. يتساءل كامو عن سؤال مركزي: هل الحياة تستحق العيش؟ من هنا، ينطلق لفحص العبثية التي تتمثل في هذا الصراع بين رغبة الإنسان في الوضوح والنظام في عالم عشوائي وفوضوي. هذا الشعور بالعبث يأتي عندما يدرك الإنسان أن الكون لا يهتم بوجوده، وأنه لا يوجد معنى محدد للحياة. لكن بدلاً من الانتحار أو الاستسلام، يرى كامو أن الحل هو التعايش مع العبث والتمرد عليه. كما يؤكد على أهمية التمرد أو القبول الواعي بعبثية الحياة. فالإنسان يجب أن يتقبل أن حياته بلا معنى خارجي، لكن في الوقت نفسه يواصل العيش بشجاعة وخلق أهداف ومعانٍ شخصية في إطار هذا اللامعنى[5].
سارتر والتمرد على العبث
إذا كنا نتحدث عن الفكر والفلسفة يبرز اسم آخر في سماء الفلسفة المعاصرة، إنه جون بول سارتر[6]، الفيلسوف، والكاتب، والأديب الفرنسي المشهور. يُعدّ سارتر أهم العلامات الفارقة في الفكر الفلسفي المعاصر، وأبرز المفكرين في القرن العشرين. كما ينسب له التيار الفلسفي الوجودي، بل يعتبر أحد المؤسسين له، خاصة في الشق الوجودي المادي. وحينما نذكر الوجودية فإن نعني بذلك، التيار الفلسفي الذي يُركّز على الحرية الشخصية والمسؤولية الفردية، في ظل غياب المعنى المطلق للحياة[7]. وقد أثرّت أفكاره بعمق في مجالات الفلسفة، الأدب، السياسة، والفكر الاجتماعي، كما كان لنشاطه السياسي والفكري تأثير كبير في الحياة الثقافية والسياسية في أوروبا والعالم.
إن سارتر وليد بيئة مثقفة، فقد انحدر من عائلة متعلمة، وكان والده جان باتيست سارتر ضابطًا بحريًا، ووالدته آن ماري ابنة عم الفيلسوف الشهير ألبرت شفايتزر. بعد وفاة والده وهو في سن الثانية، انتقلت عائلته إلى منزل جده من جهة الأم، الذي تولى رعايته وتعليمه المبكر. درس سارتر في معاهد النخبة في فرنسا مثل “مدرسة الأساتذة العليا” (École Normale Supérieure)، حيث تلقى تكوينه الفلسفي وتخرج منها عام 1929. في هذه المدرسة، التقى سارتر بالكاتبة الشهيرة سيمون دو بوفوار، التي كانت شريكته العاطفية والفكرية مدى الحياة، وكان لهما تأثير متبادل عميق في الفكر الوجودي والنسوي.[8]
إقرأ أيضاً: الفلسفةُ في مواجهةِ الهشاشةِ الإنسانيةِ: رحلةُ البحثِ عن المعنى والخلاص
كان سارتر فيلسوفا وأديبا، فهو الذي يختزن هذه التجربة الفكرية والأدبية بشكل واضح، حيث طور فلسفته الخاصة حول الوجود والحرية من خلال الأدب خاصة الرواية والمسرح. ففي تلك الفترة، أصبح مقربًا من التيارات اليسارية وانخرط بشكل كبير في الأنشطة السياسية. وخلال الحرب العالمية الثانية، انضم سارتر إلى حركة المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي، وهذه التجربة كانت لها تأثير عميق على رؤيته للحرية والمقاومة. كما عُرف سارتر بمواقفه السياسية الراديكالية، ودعمه للثورات الاجتماعية والقضايا التحررية حول العالم. فكان بحق ناقدا شرسًا للاحتلال الفرنسي، خاصة في الجزائر، وداعمًا لحركات التحرر الوطني في العالم الثالث. رغم تعاطفه مع الماركسية، إلا أنه انتقد بشدة الستالينية، مما جعله شخصية مثيرة للجدل حتى في أوساط اليسار.
لكي نرى عمق الأدب والفلسفة في فكر سارتر لا بد من الإشارة إلى أعماله الفلسفية والأدبية، وهي مشكلة بالأساس من الروايات، المسرحيات، المقالات الفلسفية، والنقد الأدبي. وقد استخدم الأدب كوسيلة فعّالة لنقل أفكاره الفلسفية حول الوجود، الحرية، والاختيار.
الغثيان (La Nausée)
- هو أول عمل روائي رئيسي للفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، نُشر عام 1938. ويُعد هذا العمل إحدى أهم الروايات الوجودية في الأدب العالمي، إذ يُجسد من خلالها سارتر فلسفته الوجودية بشكل أدبي. وتدور الرواية حول الأزمة الوجودية التي يعيشها بطلها أنطوان روكانتان، وهو رجل يعيش حالة من الاغتراب والغثيان بسبب إدراكه لعدم جدوى العالم ولعبثيته. تتمركز أحداث هذه الرواية في مدينة خيالية تُدعى “بوفيلي” في فرنسا، في فترة غير محددة من القرن العشرين. وبطلها كما أشرنا هو روكانتان، شاب في الثلاثينات من عمره، يعيش وحيدًا ويعمل على مشروع بحثي حول حياة دبلوماسي فرنسي من القرن الثامن عشر يُدعى “ماركيز دي رولبون”. وخلال إقامته في هذه المدينة الصغيرة، يبدأ روكانتان في تجربة شعور داخلي من الغثيان، والذي يتجلى في شكل إحساس عميق بعدم الراحة والاشمئزاز من العالم المحيط به، بل حتى من وجوده الشخصي. ولكن ما يهمنا هنا هو المواضيع الفلسفية التي عالجتها هذه الرواية.
- الوجود والعبثية: هذا الأمر يتجلى من خلال تركيز سارتر على فكرة أن الوجود البشري خالٍ من أي معنى مُسبق أو غاية محددة. بطل الرواية روكانتان، يشعر بأن العالم والأشياء من حوله ليس لها أي غاية، وأنها ببساطة “موجودة”. هذه الحالة من الإدراك هي ما يولد شعور “الغثيان”، إذ يبدأ في الشعور بأن وجوده الشخصي بلا هدف، وأنه، مثله مثل الأشياء الأخرى، موجود بلا سبب.
- الغثيان كإحساس وجودي: الغثيان الذي يشعر به روكانتان ليس مجرد شعور جسدي أو مرضي، بل هو تجربة وجودية، تعكس حالة من الإدراك العميق بعبثية العالم. إنه شعور ينشأ من وعي البطل بوجود الأشياء المادية حوله وفقدانها لأي معنى جوهري. يرى أن كل شيء من حوله، بما في ذلك هو نفسه، موجود بشكل مستقل عن أي غاية أو تفسير. هذا الشعور يولد لديه نوعًا من الاشمئزاز، ويصل إلى درجة من الرعب الوجودي عندما يدرك أنه لا يوجد أي شيء “ثابت” أو “معقول” في الحياة.
- الحرية الفردية والمسؤولية: في الرواية، يعبر سارتر عن فكرة أن الإنسان “مدانٌ لأن يكون حرًا”، وهي إحدى الأفكار المحورية في الفلسفة الوجودية. روكانتان، بعد إدراكه لعبثية العالم، يُدرك أيضًا أنه وحده المسؤول عن إعطاء معنى لحياته. لا يوجد أي قانون خارجي أو قوة ميتافيزيقية تُحدد له كيفية العيش أو ماذا يجب أن يفعل. هذه الحرية المطلقة تُحمّله عبء المسؤولية، وتزيد من شعوره بالغثيان، لأن الخيارات التي يقوم بها ليست مبنية على أي توجيه أو معايير مطلقة، بل هي مجرد تعبير عن حريته الشخصية.
- أزمة الهوية والشخصية: روكانتان يعيش حالة من الاغتراب النفسي. فهو لا يشعر بأنه يستطيع التواصل مع ذاته بشكل كامل، ويعاني من إحساس بالعزلة النفسية والعاطفية. هذا الشعور بالاغتراب يتضخم مع تفكيره في العلاقة بين الذات والآخرين. إدراكه العميق بعدم جدوى الحياة يجعله غير قادر على الارتباط بأي شيء أو شخص، حتى تاريخه الشخصي وعلاقاته السابقة تبدو له خالية من المعنى.
- نقد المجتمع والروتين: الرواية تنتقد أيضًا المجتمع البرجوازي والنظم الاجتماعية القائمة. شخصيات مثل “الأرشيفي” تمثل الرتابة والتكرار في الحياة، وكيف أن الناس يحاولون إضفاء معانٍ زائفة على حياتهم من خلال الالتزام بالتقاليد والقوانين المجتمعية. روكانتان يدرك أن هذا مجرد وهم، وأن الناس يهربون من مواجهة عبثية حياتهم عن طريق الانغماس في الروتين والمهام اليومية.
هنا سنصل إلى النقطة المفصلية في هذا المقال، إذ رواية “الغثيان” ليست مجرد عمل أدبي، بل هي أيضًا تعبير فلسفي عن أفكار سارتر الوجودية، خاصة حول الحرية، العبث، والاغتراب. من خلال شخصية أنطوان روكانتان، يعبر سارتر عن الأزمة الوجودية التي يعيشها الإنسان في عالم بلا معنى، وعن التحدي الذي يواجهه الفرد في بناء حياته وسط هذا الفراغ الوجودي. “الغثيان” تظل عملًا عميقًا ومعقدًا يجسد قضايا الإنسان المعاصر ويطرح أسئلة فلسفية حول الوجود والحرية.
“الذباب“(Les Mouches)
تعد مسرحية الذباب أحد الأعمال البارزة في المسار الفلسفي والأدبي لسارتر، وقد صنفت ضمن الأعمال الأدبية التي تعني بالفلسفة الوجود أو ما يسميه البعض بالأدب الوجودي، وتعكس الكثير من أفكار سارتر حول الحرية، المسؤولية، والاختيار، بالإضافة إلى تناول موضوعات مثل اللوم، الندم، والتضحية. تدور أحداث مسرحية “الذباب” في مدينة أرجوس اليونانية القديمة، حيث يتمثل الصراع في علاقة إنسانية معقدة تتضمن أبعادًا فلسفية عميقة. بطل المسرحية هو أورستيس، الذي يعود إلى وطنه بعد غياب طويل ليكتشف أن بلاده تعاني من الظلم والاستبداد تحت حكم الملك إجيست، الذي اغتال والده أجاممنون. وقد عالجت العديد من المواضيع الفلسفية منها:
- الحرية والمسؤولية: تتناول المسرحية مفهوم الحرية الفردية، حيث يُظهر أورستيس الصراع بين الرغبة في الانتقام وضرورة تحمل المسؤولية عن أفعاله. يواجه البطل خيارات صعبة تتعلق بالولاء العائلي مقابل العدالة، مما يثير أسئلة حول ما يعنيه أن تكون حرًا.
- الندم والذنب: الندم والذنب هما موضوعان مركزيان في المسرحية، حيث يعكس أورستيس الصراع الداخلي الناتج عن قراراته. يدفعه شعوره بالذنب نحو تحقيق العدالة ولكنه يتساءل عن تكلفتها وتأثيرها على حياته.
- الصراع بين الأجيال: تتحدث المسرحية عن صراع الأجيال والتوتر بين الأفكار القديمة والجديدة. يُظهر الصراع بين أورستيس وإجيست كيف يمكن أن تؤثر الأفعال السابقة على الأجيال التالية، مما يؤدي إلى تكرار حلقات العنف.
- التضحية: تسرد المسرحية قصة التضحية، حيث يتعين على أورستيس اتخاذ قرارات صعبة تؤثر على حياته وحياة الآخرين. يُظهر هذا الجانب التعقيد الأخلاقي الذي يواجه الأفراد في عالم مليء بالخيارات الصعبة.
إن مسرحية “الذباب” تعكس عمق التفكير الفلسفي عند سارتر، حيث تجسد الصراعات الإنسانية المعقدة وتطرح أسئلة وجودية عن الحرية، المسؤولية، والعدالة. فمن خلال شخصياتها ومشاهدها الدرامية، تتيح المسرحية للجمهور فرصة لاستكشاف معاني الحياة والوجود، مما يجعلها عملًا أدبيًا خالدًا في التراث المسرحي العالمي.
قائمة المراجع:
[1]– أوليفر، جلوج. ألبرتكامو مقدمة قصيرة جدا. ترجمة مؤمن محمود رمضان أحمد. مؤسسة هنداي،ط 1،2022.
[2] – الوجودية كما رآها سارتر هي فلسفه إنسانية، وحينما قال عنها ذلك فلقد كان يعني أنها تضع الإنسان في صلب اهتمامها، وعلى قمة هرم قيمها. ولعل هذا الاعتراف من سارتر يؤكد على أن الوجودية تصر بلا هوادة على أن القيمة المطلقة والغاية من الوجود كله، يجب أن تكون هي رعاية حريه الفرد التي كان يقصد بها سارتر تحسين إمكانياته الملموسة في الاختيار. وبالتالي لا يجب علينا أن نضحي بهذه الحرية الفردية، مقابل أي قيمة أخرى كيفما كان سموها، سواء أكانت الطبقة لدى الماركسيين، أو الإله لدى المؤمنين… هذا التصور يوافق إلى حد بعيد الصورة التي سماها نيتشه بالأرواح الحرة في كتابه هو ذا الانسان.
توماس، آرفلين. الوجودية مقدمة قصيرة جدا. ترجمة مروة عبد السلام. مؤسسة هنداوي، ط1، 2014، ص: 55.
[3]– أوليفر، جلوج. ألبرت كامو مقدمة قصيرة جدا. ترجمة مؤمن محمود رمضان أحمد. مؤسسة هنداي،ط1،2022.
[4] – المرجع نفسه.
[5] – المرجع السابق.
[6]– فيلب تودي، وهوارد ريد. أقدم لك سارتر. ترجمة إمام عبد الفتاح إمام. المجلس الأعلى للثقافة، ط1،2OO2.
[7] – يرجى الاطلاع على مفهوم الوجودية لدى سارتر في كتابه. سارتر، جون بول. الوجودية مذهب إنساني. ترجمة عبد المنعم الحفني. ط1، 1964.
[8] – يمكن التعرف على حياته بشكل مختصر في كتاب، فيلب تودي، وهوارد ريد. أقدم لك سارتر. ترجمة إمام عبد الفتاح إمام. المجلس الأعلى للثقافة، ط1،2OO2.