تكوين
بعض الظواهر المنتشرة في واقعنا، أو التي يتكرر ظهورها كلما اجتمعت معطيات معينة، تجعلك مضطرا للحديث عنها، بالنظر إلى خطورتها الظاهرة أو المضمرة، ومن هذه الظواهر العداء الذي يظهره بعض المتدينين أو المشتغلين بالدراسات الشرعية للفلسفة، والعكس صحيح أيضا، فهناك مشتغلين بالفلسفة يكنّون عداء كبيرا للدين وأهله، هذا العداء المتبادل مبني في عمقه على ما يسمى بالصور النمطية التي يحملها كل طرف عن الطرف الآخر، وهي متصلبة لدرجة كبيرة، مما يجعلها صامدة وتظهر للعلن كلما وجدت منفذا يسمح لها بذلك، والصور النمطية كما تحددها هيئة الأسكوا (ASCWA) التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، “بأنها التعميم أو التبسيط المسبق حول مجموعة من الناس دون اعتبار للفروق الفردية”، وبالتالي، فالصور النمطية تعبر عن أحكام مسبقة، وبالتالي، متسرعة، وغير مستحضرة للفرادة والمرونة والتغير والتعقيد الذي تتسم بها التجارب البشرية.
دور الفلسفة في “هدم” الصور النمطية
لعل ما دفعني للكتابة حول دور الفلسفة في “محاربة” و”هدم” الصور النمطية باعتبارها من أعتى العوائق التي تمنع تشكيل المعرفة الدقيقة على الأشياء والأشخاص والمفاهيم، تعليق على منصات التواصل الاجتماعي، باسم أحد أساتذة الشريعة الإسلامية، وخطيب في العديد من المساجد، بمناسبة الحديث هذه الأيام عن الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة (ثالث خميس من شهر نوفمبر كل سنة)، التعليق يقول:” العلاقة بين الفلسفة والمراحيض قديمة، والجديد أن تكوين رجال الفلسفة وتخرجهم سيكون من المراحيض…يحتاج الموضوع لمقالة فلسفية”، وهو تعليق على منشور لأستاذ آخر من نفس الكلية، كتب فيه: “19 نوفمبر…اليوم العالمي للفلسفة الموافق لليوم العالمي للرجل واليوم العالمي للمراحيض… ! هنيئا للفلسفة بنا… والمراحيض..! “، نحن أمام كلام “خطير”، وهو يعبر عن تدهور كبير في طريقة تفكير هؤلاء، ومن على شاكلتهم، لا تهمنا كثيرا أسماء هؤلاء ولا مراتبهم العلمية، إنما المهم بالدرجة الأولى هو النص؛ المنشور والتعليق: مضمونه ومضمره، فهذا النص يعبر عن موقف واسع الانتشار في المجتمعات العربية الإسلامية، يمقت الفلسفة بشكل رهيب ولا يترك أي فرصة تتاح له إلا ويثبت هذا العداء المضمر بأي وسيلة متاحة له، وهو يضمر، صورة نمطية عن الفلسفة، تجعل منها عدوا للدين ومدخلا للشر والفساد..، واستعادة آلية لمواقف معروفة في التاريخ الإسلامي تبناها محدّثون وفقهاء وأصوليون رموا من خلالها الفلسفة والفلاسفة بأشنع الصفات، من “أس السّفه”، إلى “مدخل الشر” إلى “تكفير الفلاسفة وتبديعهم”. قبل هذه الحادثة بسنوات قليلة اعتلى أحد أساتذة الشريعة الإسلامية، المنبر في أحد المساجد، يوم جمعة، ومما ورد في درسه أمام المصلين: “أساتذة الفلسفة ضلوا وأضلوا”، هذه عينة فقط من الصور النمطية المتكلسة في عقول فئة يفترض أن يكون لديها مستوى من الوعي يسمح لها بحسن تقدير الأمور، وتجنب مثل هذه الأحكام التعميمية المقيتة، فإذا كان هذا حال بعض الخطباء والأساتذة فكيف نتوقع حال المستمعين لهذا الخطاب، والكثير منهم أميون أو ذوو ثقافة محدودة؟
سوء فهم لبعض النصوص الفلسفية
قد يكون هناك سوء فهم لبعض النصوص الفلسفية، كما قد تكون هناك مواقف فلسفية معينة لا تروق الكثير من الناس، وهذا أمر طبيعي جدا، وقد يكون بعض المشتغلين بالفلسفة أساؤوا لها عن قصد أو بغير قصد، كل ذلك ممكن، وهي حالات تحدث مع التخصصات المعرفية الأخرى، فقد يسيء طبيب أو مهندس للطب أو للهندسة أو غيرهما، ولكن ذلك لا يمكن أن يكون أبدا، مبررا للتهجم على الطب أو الهندسة، وبالمثل، لا يمكن التهجم ولا الانتقاص من شأن الفلسفة، بناء على أي مبرر مهما كان، مثلما نرفض وندين أي مساس بالدين بناء على ممارسات بعض المتدينين مهما بلغت هذه الممارسات، فالإدانة تكون للمتدين لا للدين، للمتفلسف لا للفلسفة..الخ.
قديما قال سقراط لمحدثه الذي ارتدى أحلى حلة واصطنع الهيبة بمرافقيه وحرسه: “تكلم لأراك”، عبارة خلدها الزمن، قصيرة المبنى غزيرة المعنى، من دلالاتها الكثيرة أنه من الصعب تشكيل صورة مكتملة أو مقاربة للحقيقة عن شيء ما، إذا لم تقترب منه وتعاينه بدقة، سابرا أغواره مميزا غثه من سمينه، مستقصيا ما يخفيه، ذلك أن الأشياء لا تكشف عن حقيقتها بسهولة، ولا تكفي الصورة الظاهرة منها أو المنتشرة عنها لمعرفتها حق المعرفة، هناك دوما شيء من الحقيقة يخفى على المشاهدة البسيطة، ومن ثم تعريف الفلسفة بأنها “البحث عن الحقائق الكامنة خلف الأشياء”، الأمر نفسه – غالبا بتعقيدات أكبر- حينما يتعلق الأمر بالأشخاص والمجتمعات، إذا حورنا إحدى مقولات أرسطو، ستصبح: “أن تقول شيئا ما عن شخص/مجتمع ما، فأنت تقول شيئا آخر غير حقيقة ذلك الشخص أو المجتمع”، ولكن للأسف الشديد، تستأنس الجماهير بتلك الصور النمطية والقوالب الجاهزة والتعميمات المتسرعة التي تريح عقولها بسهولة استيعابها، لأنها تصب، غالبا، في بوتقة خدمة المصالح وإثبات التفوق على الآخر، أو التنمر عليه وما شابه ذلك، والنفس ميالة لما هو بسيط، مع أن الإبستيمولوجيا المعاصرة تعلمنا من خلال أحد روادها وهو غاستون باشلار، أنه لا يوجد شيء بسيط، إنما البسيط هو ما نبسطه نحن.
إقرأ أيضا: التعددية في عهدة الفلسفة
أحد الجنود الفرنسيين في خمسينيات القرن الماضي أرسل للخدمة العسكرية في دولة السنغال وكانت –كما كنا في الجزائر- مستعمرة فرنسية في ذلك الوقت، بعد تأدية واجبه الوطني، عاد لبلده، وفي لقاء مع أصدقائه سألوه: “كيف وجدت سكان السنغال؟”، فأجابهم بكل حماسة وبنبرة المستاء المتذمر، “إنهم حيوانات متوحشة، آكلون لحوم البشرDes Cannibales))”، أثار الجواب غير المتوقع انتباه المستمعين واهتمامهم بالاستزادة في الفهم، فطلبوا من محدثهم التوضيح أكثر، فقال شارحا وموضحا: “حينما كنت أهمّ بذبح أحدهم، كان يحاول بكل قوته أن يلتهم يدي”، والمثل الشعبي الفرنسي يقول: “أحسن كاذب هو الذي يأتي من بعيد”(Le bon monteur qui vient de loin) إذ يصعب إثبات كذبه.
قد لا تكون القصة حقيقية، لكنها تشير في مضمونها إلى تلك الصور النمطية والتعميمات والتضليلات المتبادلة بين الشرق والغرب، والموجودة في كل الثقافات عن الآخر بالدرجة الأولى، التي تصنع بهذه الطريقة، ويسير الناس للأسف الشديد على غيّها دون أية محاولة لاختبار صحتها أو أدنى تساؤل حول مدى صدقها، وكثيرة هي الصور النمطية التي فرضها المستشرقون حول الإسلام والشرق عموما، وكذا المهاجرون من المسلمين في البلدان الغربية حول المجتمعات الغربية، خصوصا، ونحن نعيش عصر قوة المعلومة والصورة وقدرتهما الرهيبة على اختراق الآفاق وبلوغ أقصى الأرض وأدانها في أقل وقت ممكن، فالتكنولوجيا، ومن خلال وسائط التواصل الاجتماعي توفر أيسر الطرق لنشر المعلومة صحيحة كانت أو غير صحيحة، وتعمل هي الأخرى على تكريس صور نمطية حول الدول والجماعات بما يخدم مصالح من يقف وراء هذه الوسائل والوسائط.
العوائق الإبستيمولوجية
رصد غاستون باشلار في قراءته لتاريخ العلوم وتفسيره لآليات تطور المعرفة العلمية، عن بعض المفاهيم التي سماها بالعوائق الإبستيمولوجية، ومن بينها: عائق التجربة الأولى وعائق التعميم المتسرع وعائق الجوهر..الخ، وهي تعمل على تعطيل التقدم العلمي، وتسد طريق الباحث عن الحقيقة، إذ لا يمكن للمعرفة العلمية أن تخطو خطوة مهمة إلى الأمام إلا بتحطيم هذه العوائق، وكان ابن خلدون قد أشار لهذه المسألة، حين نبه أثناء رصده لأسباب الغلط عند المؤرخين إلى سهولة التجاوز على اللسان حين يتعلق الأمر بالأعداد في الأموال والعساكر. وفقا لهذه الملاحظات المنهجية الدقيق، يمكن القول: أن الصور النمطية المتبادلة بين مختلف الأطراف المتصارعة (الشرق/الغرب، الإسلام/المسيحية، الفلسفة/الدين، الإسلام/العلمانية) تمثل عوائق إبستيمولوجية تعيق معرفة كل طرف للطرف الآخر على أحسن وجه. والأجدر، إن كنا فعلا نرغب في مقاربة الحقيقة، والفهم الأحسن لما يحيط بنا، تحطيم هذه العوائق، وتجاوز هذه الصور النمطية المتكلسة في عقولنا، والانطلاق من جديد في رسم الصور باستحضار معطيات التعقيد بدل التبسيط، والتعمق بدل التسطيح، وإعطاء هامش للفرادة والمرونة والتغير بدل التعميم المتسرع.
قد يكون الأمر عاديا –وهو سائر في كل الأمم- حين يتعلق بتعميمات وقوالب عفوية تعتاش عليها الجماهير في خطاباتها ويومياتها دون أن تمس خصوصيات الأشخاص والمجتمعات، ولكن الأمر يصبح خطيرا حين يتم فبركة هذه الصور النمطية بصورة دقيقة في مختبرات سرية، ويتم دعم انتشارها والترويج لها بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، لتحقيق المراد منها، وهو في الغالب زيادة هيمنة القوي على الضعيف، بتحقيره أو الانتقاص منه، أو السعي لتقسيمه وتفتيته حتى يسهل القضاء عليه. والأدهى والأمر كما يقال، حين ينجح القوي في جعل الكثير من المستضعفين يعتقدون صحة هذه القوالب والكليشيهات فيدعمونه في أهدافه ويسهلون مهمته، “كشاة تتلذذ حين يأكلها الذئب”.
إقرأ أيضًا: تحولات الفلسفة المعاصرة
معطيات الراهن بحمولتها الإعلامية والتكنولوجية تؤكد سهولة انتشار الصور النمطية وزيادة استغلالها في أساليب الهيمنة على الأفراد والشعوب، ولا سبيل لمقاومتها والتصدي لها إلا بمثلها، فـ”الحديد بالحديد يصهر”، الفكرة لا تواجه إلا بفكرة أقوى وأدق منها، والصورة لا تقاوم إلا بصورة مضادة، فاضحة وكاشفة لبطلان الأولى وخطئها، وهنا تبرز مكانة الفلسفة لا كأنساق معرفية فقط، ولكن كطريقة ومنهج وآليات للبحث عن الحقيقة والدفاع عنها وتأمين الطريق المؤدية للمعنى وللحقيقة. فالشك ونزع البداهة والنقد والبرهنة والحجاج وغيرها أدوات ضرورية لفضح التعميمات الباطلة، وكشف الحجج الواهية الفاسدة، وفضح إرادات الهيمنة القابعة خلف الأفكار والصور، فمن لم يشك لم ينظر كما قال الغزالي ومن لم ينظر لم يبصر وسيبقي في العمى والتيه، والشك يفتح المجال لانبثاق السؤال والسؤال هو البداية الصحيحة للبحث الناجح في مقاربة الحقيقة، وأصعب الأمور بدايتها، والنقد في معانيه القديمة فرز للنقود وتمييز العملة الصحيحة من المزيفة، وليس بعيدا عن ذلك البحث عن الصورة الحقيقية وسط ركام الصور المشوهة المزيفة، أما البرهنة والحجاج فهما سبيل الكشف عن فساد حجج الآخر، وتكريس اليقين الداحض لكل زيف، وهو المراد من قبل كل نفس سوية.