هل للفلسفة من دور في تفكيك البنية الذكورية؟ العتبة الأخيرة نحو المواطنة

تكوين 

حين تقسو الفلسفة على نفسها

سيكون السؤال قاسيّا لكنه جوهر الإشكال في كل الأحوال، إذا كانت الفلسفة نفسها قد تعرّضت لهيمنة الفلاسفة الذكور خلال معظم عصورها الممتدة على مدى خمسة وعشرين قرنا، دون أن يزعجها ذلك، فكيف يمكننا أن نعول عليها لغاية تفكيك البنية الذكورية؟! إذا كانت الفلسفة عبر تاريخها الطويل، لم تفتح أبوابها للنساء إلّا في الآونة الأخيرة، وربّما على مضض، فكيف يمكنها المساهمة في تقويض أسس البنيات والمفاهيم المنتجة للهيمنة الذكورية؟!

يبدو السؤال قاسيا بالفعل، غير أن القسوة هنا مبررة، ليس فقط لجهة فشل الفلسفة في احتضان النساء على مدى تاريخها الطويل، اللهم ناذرًا، بل أيضًا لجهة قدرة الفلسفة على مساءلة نفسها باستمرار، قدرتها على تفكيك مفاهيمها بين الفينة والأخرى، بل قدرتها على التشكيك في جدواها عند الاقتضاء، والحال أن الفلسفة التي تدعو دوما إلى إخضاع كل شيء للمراجعة النقدية، لم تتردد في إخضاع نفسها لتلك المراجعة النقدية، لا سيما أثناء الهزات التاريخية الكبرى.

لذلك ليس مستغربا أن يكون تاريخ الفلسفة تراجعيا وتراكميا في الآن نفسها، حيث تعمل الفلسفة على تقويض أسسها في الوقت نفسه الذي تراكم فيه عملية البناء.

ثمة قسوة في أن تخضع الفلسفة نفسها للتشريح النقدي، لكن لا ينبغي أن ننسى أنّ أحد التمارين الأساسية للفلسفة يتعلق بتشجيع الناس على مساءلة مسلماتهم، يقينياتهم، وبداهاتهم، وحريّ بالفلسفة أن تمارس ذلك التمرين على نفسها أوّلًا، لا سيما خلال المنعطفات التاريخية الحرجة والتي تتطلب نوعا من المراجعات النقدية لأسس العقل الإنساني.

ماذا كان يفعل سقراط باعتباره أب الفلسفة في الساحة العمومية؟ هل كان يبشرهم بأي نوع من الحقائق؟ هل كان كان يخبرهم بأي نوع من الأسرار؟ هل كان يمارس الدعاية والترويج لأي نوع من الأجوبة عن أسئلة الكون والكينونة؟ لا، بل كل ما كان يفعله هو تشجيع المواطنين على أن اختبار أفكارهم بأنفسهم. ولأنه كان يعلم بأن الدرس قاس فقد كان يمزجه بقدر كاف من السخرية والبهجة، تماما مثلما يفعل المعلمون الحاذقون مع تلاميذهم الصغار. كان سقراط يعلم الناس أن يسائلوا مسلماتهم بأنفسهم، كان يعلمهم التفكير الفلسفي، وكان بالتالي يعلمهم كيفية اكتساب السلوك المدني الصحيح.

لذلك كله، طبيعي أن يبدي سقراط أثناء محاكمته أسفه على أن الحكام لم يدركوا الخدمة الجليلة التي كان يقدمها للوطن والمواطنين، والتي لو أدركوها لخصصوا له راتبا يضمن له عيشا كريما بدل جره إلى المحاكمة، ذلك ما أعلنه في مرافعته الأخيرة قبل إعدامه. كان سقراط محقًّا في ذلك الإعلان، إذ يعرف ما الذي كان يفعل بالضبط؟

من خلال عمله على تنمية الحس النقدي لدى محاوريه، ومن ثمة تنمية الذكاء العمومي لدى المواطنين كافة، فقد كان سقراط يُعلم الناس كيف يصبحون مواطنين صالحين؟ ذلك أن المواطنة الفعلية لا تكتمل إلّا من خلال امتلاك قدر كاف من الوعي بالذات، وتحديدا الوعي النقدي بالذات.

إلا أن مساءلة الذات هي التمرين الذي تمارسه الفلسفة تجاه نفسها أيضًا أو بالأولى، لا سيما أثناء الأزمات الكبرى للعقل البشري، أزمات أسس المفاهيم والقيم والمنطلقات. في كل الأحوال، حين يتعلق الأمر بالفلسفة فلا شيء يفلت من النقد، لا شيء يمتلك الحصانة عن النقد، بما في ذلك الفلسفة نفسها.

الفلسفة دواء، لكن ماذا عن الآثار الجانبية؟!

الفلسفة علاج روحي للوضع الدراماتيكي للكائن البشري، تلك قناعتي التي أعبر عنها وأمارسها أيضًا، لكني لا أنسى في المقابل أنّ بعض الأدوية والعلاجات قد تحمل آثارًا جانبيّة تظهر في الحين أو بعد حين. هنا تكمن مشروعية إخضاع كل العلاجات التي تقترحها الفلسفة للاختبارات الدائمة والمساءلة النقدية، مع القدرة على تتبع الآثار الجانبية المحتملة، والتي قد تنجم عن سوء فهم، سوء تأويل، أو سوء تقدير. هذا ما حدث مرارا، وذلك عندما اضطر الفلاسفة إلى إعادة قراءة موقف أفلاطون من الديمقراطية مثلا، أو إعادة قراءة موقف نيتشه من المرأة على سبيل المثال، وهو ما تعكسه أيضًا إشكاليات راهنة تتعلق بمساءلة الفلسفة لنفسها، إشكاليات من قبيل ما يأتي:

  • إذا كان مفهوم السيادة على الطبيعة لدى ديكارت، يمثل علاجا لمشاعر الضعف الوجودي والخوف من الطبيعة، أفلا تكمن بعض الآثار الجانبية لذلك المفهوم في ما يحدث اليوم من تدمير للبيئة، تخريب لطبقة الأوزون، واختلال للتوازن المناخي؟
  • إذا كان مفهوم وحدة الإرادة العامة عند روسو، يمثل علاجا ضد الطائفيات والغيتوهات، أفلا تكمن بعض آثاره الجانبية في ظهور روبسبيير، واليعاقية، وفي النهاية صعود المنظومات الشمولية إبان النصف الأول من القرن العشرين؟
  • إذا كان مفهوم الصراع الطبقي لدى ماركس، يمثل علاجا للظلم الاجتماعي، والفقر، والتفاوت بين البشر، أفلا تكمن بعض آثاره الجانبية في صعود الستالينية، والخمير الحمر، والعنف الثوري اليساري إبان أواسط القرن العشرين؟
  • على المنوال نفسه، قد نجد أنفسنا أمام سؤال إضافي، إذا كان مفهوم العقلانية الذي ساد في تاريخ الفلسفة، يمثل علاجا ضد الأوهام والأخطاء، أفلا يكون قد ساهم في استبعاد الحدس، والخيال، وذكاء الجسد، ومن ثم تكريس الهيمنة الذكورية على قطاع الفلسفة طيلة ألفين وخمسمائة عام من الزمن؟

البنية الذكورية المتوارية خلف كل الأشياء

لا ننس أن آفة الذكورة لا تخص الفلسفة لوحدها، فطيلة قرون طويلة ظلت البنية الذكورية كامنة في معظم أنظمة الفكر الإنساني، سواء في الدراسات اللاهوتية مثل علم الكلام والفقه والثيولوجيا، أو الدراسات العلمية مثل الفيزياء النظرية والرياضيات والكونيات! ثم لا ننس بعد ذلك كيف ظلت النساء الفرنسيات إلى حدود نهاية الجمهورية الثالثة، ممنوعات من دراسة الفلسفة أو تدريسها، بدعوى سبق إليها الفقهاء ومفادها غلبة البعد العاطفي لدى المرأة على البعد العقلاني!!

واضح أن هناك بنية ذكورية كامنة في اللاوعي الجمعي لمعظم المجتمعات، كانت ولا تزال تخترق معظم مجالات النشاط الذهني للإنسان، وهي متجذرة بسبب عمرها الطويلة والذي يقاس بآلاف السنين، لذلك لن يكون الخروج منها بالأمر الهين، إنه يتطلب درجة عالية من الحس النقدي، والقدرة على تفكيك البنيات الذهنية الكامنة في اللاوعي الجمعي للمجتمعات، أو للبشرية جمعاء. الخروج من الحقبة الذكورية سيرورة شاقة لكنها الرهان الأخير نحو المواطنة.

الوظائف الميكروسكوبية للفلسفة

لا يكتفي الفيلسوف بنقد خطاب العبودية، بل يجرؤ على إخضاع خطاب التحرر والحرية نفسه للنقد، إنه يحاول أن يكشف عن بذور العبودية التي قد تكون متوارية بين ثنايا خطاب التحرر، ويحاول الكشف عن بذور الهيمنة التي قد تتوارى خلف خطاب الحرية.

يفكك الفيلسوف بنيات التسلط الكامنة في خطاب السلطة، وفي الوقت نفسه يفكك بنيات التسلط التي قد تتوارى خلف خطاب السلطة المضادة، يفكك البنيات الذكورية الكامنة في الخطاب الذكوري، وفي الوقت نفسه يفكك البنيات الذكورية التي قد تتوارى ولو بنحو لاواع خلف الخطاب النسائي نفسه.

دور الفيلسوف أن يرى اللّامرئي، يفكر في اللّامفكر فيه، ويقول ما ينفلت من اللغة.

يقايا البنيات الذكورية قد تكمن في اللغة التي نستعملها حتى حين ندافع عن المرأة أحيانا، قد تتخفى خلف بعض أنماط الفرجة والإشهار حتى حين ندافع عن الحياة أحيانا، بل قد تختبئ حتى خلف أكثر المظاهر رقة ونعومة حتى حين ندافع عن الأنوثة أحيانا، هنا تكمن الكثير من التفاصيل الميكروسكوبية لمواصلة معركة تفكيك البنيات الذكورية، والتي قد تكون المهمة الباقية للفلسفة خلال القرن الواحد والعشرين.

 

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete