بين الفن والفِقْه المالكي في المغرب: شربل داغر نموذجًا

 تكوين

مقدمة

كثيرةٌ الأبحاث التي تطرَّقت إلى علاقة الفِقه الإسلامي بالفن، لكن معظمها يُهمِل المناهج الإنسانية في تحليلها لهذه العِلاقة، بخاصةٍ؛ وفي درسها لكل ما يتعلَّق بالفِقْه أو “النوازل الفِقْهية”[1]، بعامة. فالأبحاث حول هذه العَلاقة قد تأسَّست على درس الفن خارج الإطار التاريخ السياسي-الاجتماعي، أو أنها حصرت بحثها في تاريخ العقليات[2]، أو أنها ركَّزت على تاريخ النوازل من دون طرح مسألة الفنّ[3]. أما بقيَّة المؤلَّفات فلا تنتقد الموروث، خصوصًا مدوَّنة العقود الأخيرة منها، كما هو حال مقارنة فِقْه أنس بن مالك مع مساعي الفُقَهاء في المغرب العربي. إنها مقارنة اكتفت الدراسات عنها بالإشارة إلى التشابه الجغرافي بين البيئتين، وهي لا تستقيم سوى بالبحث في التاريخ الديني، والسياسي، والاجتماعي. فإذًا اختزلت الدراسات السابقة المقارنِة بين بيئة منشأ المذهب، أو “المصدر” والبيئة المستقبِلة له، أو “الطرف”، والمقصود المغرب، بالتشابه الجغرافي، فتكون منزوعة الأسباب التاريخية[4].

إزاء وضع الدراسات الفِقْهية، وصِلتها بالفن؛ يأتي كتاب “بين الفِقْه والفن: النِزاع على الصورة” للباحث اللبناني الدكتور شربل داغر من أجل الإضاءة على العَلاقة بين أدب النوازل والمجتمع الإسلامي -أو حياة المسلم، وسلوكاته، وعقيدته، ونمط حياته- من جهة؛ وبين المجتمع عينه وحياة الأوروبيين حين احتكّ بهم، مما أدّى إلى تبدّل واضح في وظيفة الفَقيه السياسية والشرعية، من جهةٍ أخرى[5]. من هنا، بحث داغر في عَلاقة الفِقه بالسياسة، لاسيما السلطان المغربي والدول الأوروبية أعداءه. فهو كتاب حلَّل فيه أولًا توطُّد المذهب المالكي في المغرب، وثانيًا اختيار المغاربة لمذهب أهل المدينة، فيقتَرِح أجوبة عدَّة عن أسئلة طرحها حول اختيار المغرب لـ”نقاوة السلف” بين بقية المذاهب من أجل اجتناب صراعات المشرق العربي، بما فيها الإمامة، فقط.

كما برزت محاولة توطيد حكم غير مستقر بسبب النزعة نحو التوسّع وحفظ مكتسباته؛ أو إن هذا الاختيار هو لتخطّي صراعات الأُسَر والقبائل في المغرب. فالمالِكية تميل نحو الجانب العملي أكثر من النظري وتتَّصفَت بـ”الفِقْه العملي”: إن شخصية صاحب المذهب ترفض الخوض في جدالات فلسفية، وفي علم الكلام. من هنا اجتهد أنس بن مالك في “النوازل الحادثة”[6].

ولِفَهْمِ عمليَّة تشكُّل خطاب الفِقه المالكي وتغيُّره تاريخيًا، استهدف داغر تاريخَ الصِراع الأوروبي مع المغاربة في آخر ثلاثة قرون. فاستيعاب الفِقْه المالكي، وتبدُّلاته، وتتابعاته، وسياساته -أي “الشرح”- يحتاج إلى درس بيئة هذا الفِقْه التي تعرّضت إلى تهديد أوروبي. فمسار الفِقْه ليس سوى ترسيمة قائمة على الاتّباع والتعاقب منذ أنس بن مالك، مرورًا بالفَقِيه خليل بن اسحاق، ولغاية الإمام أبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني المالكي. لكن تدوين الكُتُب الفِقْهية ضمن هذا المسار تندرج ضمنه تحوّلات تاريخية كتبدّل القِوى بين أوروبا والمسلمين بعد سقوط الأندلس، ودخول السِلَع الأوروبية إلى البيئة الإسلامية، وتعامل المسلمين معها وهي اللحظة التي استهدفها داغر بدرسه لها.

ومن متطلّبات البحث توفّر الحكم في النوازل الجديدة، وإعادة الحُكم في ما حُرِّم أو حُلِّل بفعل الأحوال المعيشية الجديدة التي فُرِضت على المجتمعات الإسلامية بعد تداول أفرادها بسلع جديدة، وبعد نشأة أوضاع جديدة عرَّضت الأخلاقيات للخطر بقيام سلوكات مغايرة للمجتمع الإسلامي التقليدي. ووصف داغر متطلبات البحث بمعايير تستلزم درس “مسألة المواد النازلة” و”مسألة الأخلاقيات المهدَّدة”، كما في استخدام آلة فوتوغرافية أو فونوغراف أو شراء لوحة زيتية وهي سلوكات تستدعي إجازات فِقْهية باستحسانها أو استقباحها عبر حكم القبول أو التحريم أو الحكم عليها بأنها غير مكروهة. فيكون المطلوب عدم “إسقاط النظر الدراسي المتأخر على الوضع التاريخي”، بل درس الموضوع -خصوصًا الصورة الفنية- على أساس الفِقْه، وخطابه، وموقفه من اللوحة وإلّا يقتصر البحث على “إعادة تأويل في المسألة وَفْق مستجِّدات النظر والتحليل”، وعلى الفَهْم التاريخي للمسألة.

ويرتكز منطوق الخطاب الفِقْهي، في بدايته، على ثنائية “دار الإسلام” أو “دار الأمة” و”دار الحرب”، وهي نِتاج علاقة شمال المتوسّط مع جنوبه وخصوصًا في فترات الحروب بينهما. فهذه القسمة حوَّلت “أهل الكتاب” إلى “كَفَرة” بالتمايز منهم وهو سياسي-قومي بامتياز ولو اتخذ شكلًا دينيًا-فِقْهيًا. ويستدلّ داغر على عيش المسلمين، والمسيحيين، واليهود معًا ضمن الخلافة الإسلامية والأندلس من أجل البرهان على أن الصراع هو قومي-سياسي وليس دينيًا، ثمَّ تغيّرت النظرة الإسلامية على أثر “حَراك إعادة التملّك” «Reconquista» وسقوط إمارة غرناطة آخر معاقل المسلمين في إسبانيا. من هنا، رأى داغر أن القسمة هي أساس أوّل لبناء المنطوق الإسلامي، لأنها رسمت حدودًا بين طرفَي الصِراع وهي حدود جغرافية-سياسية-دينية. فهذه الحدود تجعل نظرة المسلم إلى السلعة الأوروبية على أنها “كتيبة عسكرية إضافية”، أو “مخدّر” قادر على أن “يثبط همَّة الجماعة، ويُبْعِدها عن إيمانها الصحيح”.

ويرى داغر أن الأساس الثاني هو الحدود الداخلية: فالحدود المرسومة بين شمال المتوسِّط وجنوبه لم تكن الوحيدة، بل تتوفّر حدود داخلية لدى المسلم نفسه، وهي تفصل بينه وبين إيمانه، من جهةٍ أولى؛ وبين دينه ومجتمعه، من جهة ثانية؛ وبين سلوكاته الموافِقة لدينه والقِيَم المتآتية من أوروبا، من جهةٍ ثالثة.

انطلاقًا من الأساسَيْن، رأى داغر أن الخطاب الفِقْهي أصبح مُلْزَمًا بالحكم على ما لم يعرفْهُ سابقًا، ولم يصدر في حقِّه أي حكم فِقْهي سابق أو رأي أو اجتهاد. ويعتقد أن الفَقِيه قد أصدر أحكامًا في حقِّ المواد الأوروبية من دون فحصها أو معاينتِها مكتفيًا بما يأتيه من المسلمين المسافرين الذين ينقلون الأخبار إلى بيئته. وقد يعرف الفقيه بعض المعلومات عن المواد ولكن ليس بكليَّتِها، من هنا يشبِّهُه داغر بالجمركي الذي يبيح دخول المواد ويمنعها وَفْق سياسات الدولة التي تشجع الصناعات المحلية وتسمح باستيراد ما لا تنتجه اليد العاملة المحلية[7].

وبعد أن بيّنا أهمية الكتاب موضوع البحث، والمناهج التاريخية-السياسية-الاجتماعية المُعتَمَدة، والمسار المُتَّبع فيه، والأسُس المُستَخدَمة؛ نشير إلى التقسيمة الثلاثية للبحث، وهي علاقة الفِقْه بالتاريخ؛ ثم الفتاوى حول الفن؛ وبعدهما تلقّي الفن. فماذا عن القسم الأوَّل؟

القسم الأوَّل: علاقة الفِقْه بالتاريخ

قبل التطرّق إلى الفتاوى حول الفن، والتبدُّل في الخطاب الفنّي؛ كان علينا أن نتوقف عند تاريخ المغرب السياسي. فدرس التاريخ السياسي للمغرب يساعد في درس الفِقه عمومًا بهدف موضعته اجتماعيًا وسياسيًا ودرس التغييرات الحاصلة فيه.

وبعد مراجعة تاريخ المغرب، يرى داغر أن الفتاوى تنقسم تاريخيًا إلى لحظات ثلاث. فاختزال درسه للفتوى على نصوصها يُفقد السياق التاريخي، لذا كان عليه أن يموضع النصوص في الأحداث التاريخية بوصفها المُسبِّب الأوَّل للحاجة إلى الفتوى. تاريخيًا، جعل داغر اللحظة الأولى هي سقوط غرناطة، والثانية هي الاحتلال المباشر، والثالثة هي “عهد الحماية”. وسنبحث في مسوِّغات هذه القسمة ومدى واقعيتها وأثرها في الفتاوى بعامة. أما بالنسبة إلى فتاوى الفن فستُدرَس لاحقًا.

أولًا- اللحظة الأولى: سقوط غرناطة

شكَّل سقوط غرناطة اللحظة الأولى لانقلاب موازين القِوى بين المغاربة والأوروبيين. فقد بدأت أوروبا تمارس ضغطها على المغرب: احتلال البرتغال لمدينة سبتة عام 1415، ثم انتقال المدينة نفسها إلى الإسبان عام 1580 والإنكليز عام 1810 لتعود إلى الإسبان عند نهاية حروب نابليون. وكذلك مدينة طنجة التي أقامت فيها الهيئات الدبلوماسية وارتاب منها المغاربة، بالإضافة إلى سواحل مغربية عديدة احتلتها قوات أيبيرية بين القرن الرابع عشر والقرن السادس عشر. أما نتيجة التغيّرات السياسية، والاضطرابات، والفِتَن، وقلّة الموارد الاقتصادية، والحَراك الحاصل كوليدة الاحتلالات الأوروبية؛ فقد خرجت سلطة اتخاذ القرارات من “المخزن” إلى الفضاء العمومي. وأسهمت العوامل نفسها في إعطاء الفرنسيين ذريعة لاحتلال وجدة عام 1907، ثم أبعدت ألمانيا عن المغرب وقصفت الدار البيضاء، فما كان من السلطان إلّا أن وقّع معاهدة فاس عام 1912 ليعلِن قبوله بالحماية الفرنسية[8]. وعلى الرغم من التغيُّرات السياسية، فإن سياسات أوروبا تجاه المغرب لم تقتصر على الحرب، بل تعدَّتها إلى التجارة والدبلوماسية قبل الاستعمار، إذ ازدهرت مع أعمال التجارة القرصنة، والغصب، والتعدّي، وكل ما يندرج ضمن ما يسمّيه داغر بـ”الحرب الصامتة”[9].

إقرأ أيضًا: في علاقة الدين والفنّ: من خلال إغاثة اللّهفان في مصائد الشّيطان لابن قيم الجوزية

ويرى داغر أن الجغرافيا قد أسهمت في تعزيز سياسات الضغط الأوروبي على المغرب، بالإضافة إلى الصراعات القائمة بين الأوروبيين أنفسهم من أجل حيازة أراضي المغرب. ويُبدي داغر في هذا الإطار ملاحظتَين. فالأولى تتناول سياسات فرنسا الحربية منذ منتصف القرن الثامن عشر، ولو تجسَّدت بعض خروقات لهذه السياسة بالتفاوض بينها وبين المغرب. وستتطوّر هذه السياسة الحربية حتى تبلغ اللحظة الثانية باحتلال الجزائر. أما الملاحظة الثانية فتهتمّ بسياسة الخروج إلى العالم، وهي سياسة سبقتها ملاحة تجارية ومهّدت هذه السياسة لحروب بين الأوروبيين وتنافس في ما بينهم. فسياسات الضغط الأوروبي لا تحتاج إلى قضم أراضي المغرب لتعزيز هيمنتها، كما هو حال الإنكليز الذين مارسوا هذه السياسة من دون أي احتلال[10]. وبعد تحليل المعطيات التاريخية، ماذا عن الخِطاب الفِقْهي في هذه المرحلة؟ أي فَقِيه، بالنسبة إلى داغر، تبرز أهميته في المرحلة عينها؟

1- الخطاب الفقهي في “الحرب الصامتة”

بسبب التغيُرات السياسية، استجدَّت حاجات إلى الفتاوى كفتوى عنوانها “أسنى المتاجر في بيان أحكام من غلب على وطنه من النصارى ولم يهاجر وما يترتب عليه من العقوبات والزواجر” للشيخ أحمد بن يحيى الونشريسي أو الونشريشي.[11]هي باكورة فتاوى القرن الخامس عشر، وموضوعها التفاعل الإسلامي-الغربي، والإسلامي-الإسلامي بين مغاربة قطنوا في الأندلس وعادوا منها ومغاربة أفريقيين. بل يشير داغر إلى إن كل فتاوى نفوذ الإسلامي في الأندلس ستنقطع نهائيًا، لتنتظم مكانها فتاوى تتمحور حول التفاعل الإسباني-المغربي في البحر، أي المعارك البحرية وأعمال القرصنة. وستتغيّر سياسات الأوروبيين بعدها لتضغط على المغرب العربي بهدف التجارة، وتأسيس لسوق أوروبيا فيه، وهذا ما لم تلحظه فتوى الونشريسي، وستتنظر حتى بداية القرن التاسع عشر، أي ازياد وتيرة التجارة للتكلم على سلع الكفّار ودخولها إلى دار السلام. وعلى الرغم من التغيّرات السياسية، فإن الفتاوى حافظت على النظرة الثنائية إلى العالم: دار سلام، وهي العالم الإسلامي المتجزِّء إلى مجتمعات إسلامية ومنقسمة في ما بينها إلى دول، وممالك، وإمبراطوريات، من ناحية، ودار حرب، من ناحية أخرى[12].

ويبحث داغر في الحاجة إلى الفتوى أثناء الانقلاب الحاصل على صعيد موازين القِوى بين المسلمين والأوروبيين. فهو رأى أن موضوع السياسة المستجّدة جعل السلطان يحتاج إلى الفَقِيه في قضايا سياسية، وحربية، وتجارية أكثر منها فنيَّة، خصوصًا أن نظرة المسلمين إلى الغرب أخذت طابعًا عدائيًا، فأرادوا تجنّبهم. فانغمس الفَقِيه في السياسة وفي التاريخ بدءًا من القرن الخامس عشر، وتحديدًا مع فتوى الونشريشي.

2- الفَقِيه سليمان الحوات

للتعمُّق في الخطاب الفِقْهي، اختار داغر الفقيه سليمان الحوات، لاسيما أن الفقيه المذكور سبَّاقٌ في هذا المجال، وقد أصدر فتوى مٌعَنْوَنة بـ“تغيير المُنكَر فيمن زعم حرمة السكَّر”[13]وهي تخصُّ مسألة شراء السكر. والجدير بالذكر أن المسألة عينها تمَّ التداول بها بين الفقهاء قبل القرن التاسع عشر. أما بالنسبة إلى مكانته الاجتماعية، فقد ورث من أبيه ثروةً كبيرة، وكان قريبًا من البلاط بسبب إلقائه الشعر فاعتمد عليه السلطانَيْن محمد بن عبد الله وسليمان من أجل المشورة السياسية[14].

انطلاقًا من علاقة الفَقيه الحوات بالسلاطين، يتبيَّن أن البلاط أصبح يتوجّه نحو الفُقَهاء بعد أن تطوّرت التجارة بين المغرب وأوروبا على أثر الاتفاقيات التجارية والضغط الدبلوماسي واشتراط الأوروبيين على السلاطين بقبول بضائعهم في بنود الاتفاقيات عينها. وهو ما حصل مع مولاي الحسن الأوّل بالنسبة إلى تصدير الحبوب، والبهائم، والأنعام الذي طلب مشورة الفُقَهاء الذين انقسموا بين مؤيّد وبين آخرين يقولون “ما نعطيهم إلّا السيف”. فقد كانت سياسة المخزن هي الاحتكار من أجل مواجهة الأوروبيين. لكن تجّار المغرب كانوا يتعاملون مع الغرب، ويسافرون إلى بلدانهم. والجدير بالذكر أن الاتفاقيات التجارية المذكورة هي مفروضة على المغاربة، وهي تختلف عن الاتفاقات التجارية المُتعارَف عليها في عُرف القانون الدولي والتجارة الدولية. وبالإضافة إلى شكل الاتفاقيات التجارية، ظهر شكل آخر من التجارة وهو مجيء الأوروبيين بهيئة مسافرين ويشترون عيّنات من بضائع مغربية، ثم يعودون إلى المغرب معهم البضائع نفسها وبكميات كبيرة وأسعار أقلّ، وهي تجارة “مقنَّعة”[15].

3- موضوعات الفتاوى

إن موضوع الفتاوى في هذه المرحلة هي السِّلَع، وقد أحصاها داغر على سبيل المِثال لا الحصر: سُكَّر القالب، والشاي، والقهوة، والشمع، والجبن الرومي، والدجاج الرومي، وكاغد الروم، والصابون، والحرير، والمَلَف، والمكانات المحلّاة بالذهب، والتلغراف، والتلفون، والسيارة (طاموبيل)، والفونوغراف، والفوتوغراف، وغيرها… وبعد إحصائه لها، يبحث في أحكامها، فيبدأ بالشاي (الأتاي) والقهوة والسُكَّر: أصبحت المواد المذكورة تنتمي إلى المأدبة السلطانية منذ القرن الثامن عشر بإسهام من الإنكليز وبعد احتلالهم لجبل طارق. ويسأل داغر عن قدرة الفُقَهاء تحريم المواد عينها بعد أن استحسنها البلاط والجمهور معًا، خصوصًا أنها مُنتَجة خارج المغرب، فيرى أن سبب عدم تحريمها يعود إلى غياب أي مسكر في عناصرها. وذلك ما انطبق على مواد أخرى، كحليَّة الصابون وهو أولى حالًا من بقية المواد، لأن الفِقْه قد سمح بتناول المواد الغذائية التي أنتجها أهل الذمَّة، فكيف بالأحرى المواد غير الغذائية، ثم هو مادة توضع في ثوب ويتمّ غسله حتى يختفي وتستخدمه الطبقات الاجتماعية كافة. أما الورق الرومي فقد اختلف الفُقَهاء في تحريمه وإباحته بسبب تناول يد الكافرين له من دون أي معرفة مدى نجاستها. وكذلك اختلف العلماء على تحريم الجبن والدجاج الروميَين أو إباحته. وهذا الاختلاف طال الزيت المستورَد، والخمرة الرومية، والأدوية، والتبغ، والأعشاب المخدِّرة، والكتغد والصابون، والأثواب، والحرير. ويلحظ داغر أن مشكلة هذه المواد ليست مخالفتها للعقيدة الإسلامية، بل في إنتاج النصراني عدوّ المغرِب لها[16]. فقد بدأ الفقهاء بدرس البضائع التجارية وقسمتها بين الحلال والحرام. وكان الاتفاق بين العلماء على رفض البضائع حين يتوفّر لهم البرهان الكافي الذي يعلّل سبب هذا الرفض. فالمسلم لا يقوم بأي عمل قبل أن يعرف موقف الله منه وحكمه فيه[17].

ثانيًا- اللحظة الثانية: احتلال الجزائر

اللحظة الثانية عند داغر، هي احتلال فرنسا لمدينة الجزائر عام 1830 وقضْم ساحله بحجَّة محاربة القَرْصنة. ثمَّ واجهت القبائل القِوى الفرنسية التي بدورها استغلّت الموقف لاستكمال احتلالها للمغرب العربي[18]. وهي لحظة احتاج فيها الحاكم إلى معرفة تِقْنِيَّة حربية لمواجهة الغرب. وعاد داغر إلى المؤرخ المَنوني من أجل درسها: فقد وصفها المؤرخ بأنها “جالبة يقظة للمغرب الحديث”، لأن فيها مواجهة بين المسلمين والفرنسيين، وستستمر هذه اللحظة مع هزيمة الجيش المغربي في إيسلي عام 1844، ومع احتلال الإسبان للجزر الجعفرية عام 1848 وتطوان عام 1860، وصولًا إلى وفاة الداهية الوزير أبي حماد سنة 1900. وعلى أثر هذه المعارك وغيرها أتت معاهدات لمصلحة الأوروبيين كمعاهدات سنوات 1856، و1860، و1863.

ولم تكن المفاوضات والمعاهدات وحدها المفروضة على المغرب، بل أُضيف إليها تنازلات عديدة وتأسيس سفارات في دول أوروبا، خصوصًا فرنسا. ثم اجتمع الأوروبيون في مؤتمر مدريد للتوافق على احتلاله، فأصبحت الاحتلال مسألة وقت. وبعدها أتى مؤتمر الجزيرة الخضراء عام 1906 الذي نقل المغرب من حكم إسلامي بدأ مع إدريس الأوّل، إلى سلطة نصرانية.

ففي هذه اللحظة، ازدادت حاجة السلطانَيْن مولاي عبد الرحمن ومولاي محمد الرابع إلى فتاوى سياسة تحمي المغاربة المسلمين من الغرب، وهي لحظة لم يعشْها المسلمون منذ محاولة دون سبستيان تنصير المغاربة في القرن السادس عشر بعد إخراج الملكة إليزابيت المسلمين من الأندلس.

فما يحصل هو تداعي القوى المغربية أمام الدول الأوروبية الأربع، وهي إسبانيا، وفرنسا، وإنكلترا وإلمانيا. فاحتاج المغاربة إلى اليقظة بإصلاح الجيش، وتعزيز القِوى البحرية، وبناء معامل حربية، وإرسال بعثات إلى أوروبا وكأنهم يعترفون ضمنًا بتفوق أوروبا عليهم[19]. لكن داغر ينتقد اليقظة، والإصلاح: فالإصلاح لا يتميّز من “الرضوخ” إلى أوروبا، وهو يتشابه مع مصطلح “النهضة” الأكثر رواجًا في المجال العثماني. وفي هذه اللحظة، طلب السلطان رأي الفُقَهاء ومشورتهم في ما يتعدّاهم من أجل تأمين الشرعية للحكم. لكن طلب الإصلاح يبقى ضمن البلاط، لأن من ينادي به ليس من أي طبقة مثقفّة تنتقد سياسات الحاكم. وبالمقارنة بين المجال العثماني والمغرب العربي، يرى داغر أن التَجْرِبَة المصرية لم تنجح في منع استعمار أراضيها، لذا تسقط عنده كل فرضية أنها لو كُتِبَ لسياسة الإصلاح النجاح لكان المغرب استطاع التغلّب على الاستعمار. فتوصّل إلى أن الإصلاح في المجال العثماني كان أسبق مما هو عليه في المغرب العربي، بدليل تأخر الطباعة وحاجات المدرسة والكتاب والجريدة إليه[20].

1- مكانة الفقيه في اللحظة الثانية

يبحث داغر في علاقة الفقه بالثقافة انطلاقًا من مُصطلحَيْ “فقيه” و”شاعر”، فيلحظ أن اللغة الرائجة تعتبرهما مترادفَيْن، إذ إن الفقيه هو شاعر لكن العكس غير صحيح، وذلك سببه أن صِفة “فقيه” تُطلَق على المثقّف المغربي، بدليل أن التمحيص في سلسلة الفُقَهاء -كـ”فهرس الشيوخ” لعبد السلام بن عبد القادر بن سودة- يتوصّل إلى إن طالب العلم يرتبط بأكثر من شيخ كحال الأسانيد الصحيحة لبناء علم الحديث النبوي. فالفهرس المذكور يُبرز اسم 264 عالمًا اقتاد بهم المؤلف في أقل من قرن واحد. وقد وجد داغر أن الفِقْه المغربي ناشط في المجتمع، وينتمي إلى النسيج الاجتماعي حتى تماهت الثقافة معه: كل مثقف يطلب مكانة له في المجتمع، فلا خيار له سوى البناء الفِقْهي انطلاقًا من الوظائف الآتي ذكرها: مدرّس، وقاضٍ، وخطيب جامع، وصاحب فتوى، وحافظ، ومحدِّث، ورئيس طائفة صوفية، ورئيس مجلس علمي. ويذكر داغر أن بعضهم “قرضوا الشِّعر” فبحثوا في الأنساب والشروح. ولكن استجدَّت وظائف أخرى لم تكن متوفرة قبلًا في المجتمع المغربي تختصّ بالبعثات الدبلوماسية وباستشارات في الأمور الحربية، كحال الفقيه عبد الله بن عبد السلام الفاسي الذي أصبح سفير المغرب في باريس، ثم نائب السلطان مولاي عبد العزيز في طنجة وغيرها من الوظائف التي أثَّرت في المجتمع.

وأراد داغر البحث في مدوّنة الفُقَهاء لانتمائها إلى المجتمع المغربي، لاسيما أن الفقيه يحتكر المهن التي تحمل طابعًا ثقافيًا وتعليميًا حتى مطلع القرن العشرين أي بقيام طبقة من المتعلِّمين والاختصاصييّن. ثمَّ إن البحث في المدوّنة يُسهِم في اكتشاف توسّع أدوار الفُقَهاء ووظائفهم حتى شملت السياسة بعد أن كانت تقتصر على الفِقْه. وهذا التوسّع شكّل مجالات كتابية جديدة وغير متعارَف عليها سابقًا، وهي كتابات استخدمت المعاينة، والوصف، والرأي، والإرشاد، كحال “أدب الرحلة” وهو جزء من الأنواع الكتابية المُستَحْدَثة. كما رأى داغر سببًا إضافيًا على ما تقدَّم يُبرز أهمية العودة إلى المدوَّنة الفِقْهية، وهو ما يصيب الفِقْه من معرفة حيوية متناقِضة فيتغيّر المتن ويتجدَّد. فقد وجد في الفِقْه استجماعًا للمجتمع المغربي، ومن خلاله يتمّ درس التحوّلات الاجتماعية والتاريخية. والفِقْه يشكّل سندًا للمخزن في بعض الأحيان، ووعيه الاجتماعي في بعضها الآخر بتخطّي نزوة السلطان ومصلحته ونظرته السياسية التي يحدّدها بَلاطه، وحاشيته، ومستشاروه. ثمَّ إن دور الفقيه وموقعه الاجتماعيَين قد تغيّرا: بات الفقيه “وسيطًا” بين المخزن والجمهور، فقد كان خياره أن يمتثِل للسلطة أو أن يكون ناصحًا للسلطة، ومجادلًا لها، وخالعًا للسلطان نفسه. فإذًا انتقل الفقيه إلى “قائد رأي” في نواحٍ عدّة تختصّ بالتدوين، والدعوة، والتنظيم معًا. ويصف داغر الخطاب الفِقْهي بأنه “أشبه بنافِذة ومِرآة في الوقت عينه” من ناحية تفضيه إلى ما هو اجتماعي وتاريخي، ومن ناحية انعكاس مواقف الفُقَهاء فيه[21].

2- مميزات الفِقه وخطابه

أراد داغر درس الفتاوى المغربية في نهاية القرن التاسع عشر لتحديد أثر البيئة المغربية فيها على مستويَي الحاكم والمحكومين. ولحظ أن عددها كبير جدًا مما يدلّ على أزمة الشرعية بين الفقيه والحاكم السياسي. فقد شهدت الفتاوى لحظة مصيرية وهي انتقالها من مقاومة الضغط الغربي المُتَمَثِّلة برفض الكثير من سِلَعِ الغرب التجارية إلى لحظة مغايِرة وهي الحماية بعد سقوط مولاي عبد الحفيظ في ظلّ الاحتياج إلى التمييز بين المخترعات الغربية العصرية بين ما هو مقبول وما هو مرفوض. فلحظة الانتقال تتَّصف بأن الفقيه أصبح له معرفة أكثر بالاختراعات لأنه يصفها بشكلٍ واف. والعودة إلى جذر اسمها الأجنبي في اللغة الإغريقية كما هو حال التلغراف واستخدامه لإعلان ثبوت هلال العيد عند محمد بو جندر: فقد وصف الفقيه نفسه عمل هذا الاختراع وانتشاره في الغرب ولدى مكاتب الصُحُف الأميركية، ومدى صحة نقل المعلومات من دون أي تغيير في رسم الحروف؛ بعكس موقف الشيخ عليش الرافض للتلغراف. فموقف الفقيه محمد بو جندر قد بُنِيَ على التشابه الحاصل بين التلغراف والمناداة في الزمن الإسلامي الأول من ناحية التبليغ، لكن يبقى الاختلاف في قُرب المسافة لدى المناداة وبُعدها لدى التلغراف. ويجد داغر أن التبدّلات الزمنية جعلت مسألة الشاهد غير ضرورية باستبداله عبر الآلة العصرية بسبب اهتمام الأحكام الشرعية عند محمد بو جندر بالنوازل الحادثة في ظلّ الظروف الراهنة واختلاف الأمكنة[22]. ويختار داغر الفَقِهاء جعفر بن إدريس الكتاني، وأبو محمد عبد القادر الفاسي، ومحمد بن جفر الكتاني، فماذا عنهم؟

3- الفَقِيهان جعفر بن إدريس الكتاني وأبو محمد عبد القادر الفاسي

اختار داغر كتاب“رسالة في حكم صابون الشرق” للكتاني من أجل الدلالة على التغيّر في سلوكات المؤمنين تجاه الأجانب، خصوصًا أنه يبيّن أحوال المغاربة، وطعامهم، وملبسهم، ومشربهم الموَزَّعَة بين مُنتجاتهم ومُنتجات اليهود والنصارى. ثم إن المواد الخارجية قد احتلّت أسواق تطوان وغيرها من الأسواق المغربية ألزمت الفُقَهاء بالتمييز بينها على أساس ما يجوز منها مما هو حرام. أما معالجة الكتاني لهذا الموضوع فأتت بناءً على طلب الأعيان منه أحكامًا في شأن “صابون الشرق، وشمع البوجي، وصندوق النار المجلوب”. لكن الكتاني لم يكتفِ بإصدار أحكام التي طلبها منه الأعيان، بل تعداها إلى صناعات النصارى واليهود المتوفِّرة في الأسواق المغربية أو التي يحتاج إليها المغاربة. وأهم الفتاوى التي أتى بها الكتاني، وحرَّمه سابقوه، هو الجواز بلباس الكافرين وما ينسجوه حتى أثناء الصلاة، لأن كل صناعة محمولة على الطهارة لتحفظ الصنّاع على أعمالهم. ويشرح داغر هذا التبدّل بأن سببه تمييز السِلعة عن مصدرها، أي إن نِتاجات النصارى واليهود، ومأكلهم، ومشربهم، ليست نجسة أو طاهرة بالضرورة ولو غلب عليها النجاسة. فالطعام بشكلٍ عام، وفي أصله هو مُباح. كما أن معروضات سوق تطوان من ملابس لا تُميّز المسلم من الكافر. ويرى الكتاني خطأً في فَهْمِ الأحكام الفِقْهية، فالنجاسة في الصناعات الأجنبية ليست سوى كره في الاستعمال.

ويرى داغر أن موقف الكتاني يقترب من رأي الفقيه الفاسي في مسائل جواز استهلاك المنتجات الأوروبية الغازية للمغرب وتحريمه: فقد اعتبر الفقيه الفاسي أن هذه المُنتجات يجوز استعمالها مركِّزًا على توضؤ عمر بن الخطاب في بيت نصرانية، وجبّة الرسول الشامية الصُنُع، وغيرها من أقوال عمر بن الخطّاب، وابن عباس، وابن رشد، وكتب السيرة؛ وهي أخبار تبيح الأكل من طعام النصارى كالجبن، والكاغد الرومي، والخبز، والجبن، وعصير الزيتون، والصابون، والسمن، والزيت، والأدوية والمشروبات. وجارى الكتاني الفقيه الفاسي مبيحًا للمسلم الصلاة في نسج الكفّار. وفي مسألة استخدام صابون الأجانب، فقد حمله على الطهارة، بعكس غيره من الفقهاء الذين لم يجيزوه ولم يجيزوا بيعه بداعي نجاسة أيدي الكفار وأوانيهم. فقد اعتبر الكتاني أن الصابون ليس مما يُؤكَل أو يُصلَّى به، وعارض كل من لا يبيح الصابون، فَهُم يتساهلون في المُنكَر ليصبح عندهم معروفًا ويجعلون المعروف منكرًا: لقد ناقشهم في قضية الجلوس في المساجد على الأرض، وتناول البر والشعير التي تدوسها الدواب وتبول عليها، وعدم الاحتراز عرق الإبل والخيل على الرغم من التمرّغ في النجاسات. وقبل أن يصدر الكتّاني أحكامه، يعاين طبيعة المُنتجات موضوع الفتوى فيسأل التجّار وأصحاب الصلة، ويصرِّح عن صعوبة الوصول إلى الأخبار في بلد المنشأ الكافر[23].

4- الفقيه محمد بن جعفر الكتاني

يعود داغر إلى رسالة الفقيه “رفع الإلباس وكشف الضرر والبأس ببيان ما للعلماء النحارير الأكياس في مسألة الحرير التي وقع الخوض فيها بين الناس”، فيجد أن الثياب الرومية التي تُزَيَّن بها البيوت، ويُصنَع منها المخاد ليست حلالًا للبسها لدى الذكور، ولافتراشها، والاستناد إليها. أما الصوف المصنوع عند الروم فليس مُحرَّمًا لأن الأعمال المُتَداولة وحدها تبقى نَجِسة والتطهير يلحق التصنيع والإعداد. لذا، لا مانع من الصلاة عليها استنادًا إلى لبس الرسول جبة شامية صَنعَها النصارى. ويفسِّر داغر أن التحريم الذي يطال الحرير بسبب أحكام فِقْهية سابقة اجتماعية –أي منع المسلم من التزيّن- وليس لمصدره الخارجي. ويجد داغر أن تحريم الحرير أتى بعد اختلاف العلماء فيه، وهذا ما ينطبق على المالكيين، والشافعيين، والحنابلة. وبعد الحرير، يتناول الفقيه نفسه المجاسرة أي تزيين الأسواق بالقماش من الحرير والحلي، فيعايِنها ليلحظ أن أكثرها من الفضة والذهب، وأصبحت المجاسرة من العادات المنزلية التي تزيد المباهاة، لذا يحكم بعدم جواز التزيين بها. ثم يقارن الكتاني زينة كسوة المرء بزينة كسوة البيت، فهو يرفض التزيّن بعامةٍ، بغض النظر عن الأدوات المُستَخْدَمة، لحفظ النقاء الاجتماعي-الأخلاقي. فهو يقيم صلة بين الدين والجنسية، إذ يرفض أن يتشبّه المؤمن بالكافر عبر الزينة، والملبَس، استنادًا إلى حديثٍ أورده الإمام بن حنبل “لعن الله المتشَبِّهين والمُتشبِّهات”[24].

ثالثًا- اللحظة الثالثة: “عهد الحماية”

يبحث داغر في اللحظة الثالثة لعلاقة الفِقْه بالسلطان، فيرى أنها بدأت مع العقد الأخير من القرن التاسع عشر. ويشكِّل كتاب “مفاكهة ذوي النبل والإجادة حضرة مدير جريدة السعادة” للشيخ عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني أهمّ الكتب في المرحلة المذكورة: يرى داغر أن غلافه يحتوي على صورة للشيخ محمد الباقر الكتاني مع صورتَي السلطانين مولاي عبد العزيز ومولاي عبد الحفيظ. ويشرح داغر أن تواجد صورة السلطان والفقيه معًا ليس سوى انعكاس لدخول الفقيه إلى الشأن العام، والتنازع فيه مع السلطان الحاكم. من هنا، لا يكتفي أي باحث في درس حياة فقيه وحصرها بتحصيله العلمي، بل عليه التوسّع إلى الكشف عن مكانته الاجتماعية، ودوره السياسي في الحياة العامة كما هو حال أبي الفيض الكتاني، وعبد الحي الكتاني اللذين طالبا بالاصلاحات، وقيام دستور، والمقاومة، حتى بلغ التدخّل في الشأن السياسي أوجّه مع خلع أبي الفيض الكتاني للسلطان مولاي عبد العزيز[25] واستبداله بأخيه مولاي عبد الحفيظ. ثم رأى الفقيه أن السلطان الذي عيّنه لم يكن على مستوى تطلّعاته، فأعدَّ له كتاب نصائح فما كان من السلطان إلّا إنه اعتقله مع أخيه وأسرته بتهمة التحريض على قلب النظام، وسجنهم حتى مات أبو الفيض الكتاني ونُفِي أخوه إلي فرنسا. واستطاع الشيخان تأسيس جماعة دينية وهي “الزاوية الكتانية” في فاس عام 1855، فأصبحت هذه الجماعة مصدر قوة للشيخَيْن، وأحد أسباب اعتقالهما: فهي بدأت بشكل جماعة صلاة وتقوى، ثم أصبحت تعطي استشارات للسلطان وتخضع له في عهدَي السلطان محمد الرابع والسلطان الحسن الأول. ويجد داغر في ما حدث أن التقارب بين الفقيه والسلطان جعل من الأوّل شريكًا للآخر. فالفقيه يتأثّر بتغيّر السلطان وسياسته، حتى أنه يتحمّل عواقب وخيمة في خياراته، وفي مكانته أي بكونه شريكًا للسلطان[26].

بعد وفاة السلطان حسن الأول، حاول الصدر الأعظم تنصيب مكانه مولاي عبد العزيز، على الرغم من أنه لم يبلغ السن القانونية. في حين أن الشيخ عبد الكبير قد ولّى ابنيه كفَقِيهَيْن مكانه، وهما قد جدّدا في الجماعة، بعد أن تفشّى الفساد في الحركات الصوفية، والاضطراب بين القبائل والمخزن، وحالة الجماعة الهابطة في الأخلاق، والتهديد الأجنبي لها. ويتشابه عملهما مع سلوكات الأحزاب: نزلا إلى المدينة، وأخذا يبشران فيها، ويدعوّان إلى الوعي في الشأن السياسي، مما أثار حفيظة “المخزن” الذي بدوره استدعى الشيخ الكبير عام 1896 إلى محاكمة أو “مناظرة” في مراكش، تحديدًا في قصر الباهية، يواجه فيها فُقَهاء يميلون إلى سياسة القصر، وقد انتهت بإفحام الشيخ محمد لمواجهيه عبر تبنيّه للإصلاح. وعلى أثر المواجهة، وبعد خمسة عشر شهرًا، تمّ إسقاط تهمة “البدعة” عن الزاوية الكتّانية.

إقرأ أيضًا: حرية الفنان وتحرّر الجمهور العربي عند شربل داغر

وعلى الرغم من دعوى الإصلاح، فإن الأزمات تدفّقت في عهد مولاي عبد العزيز قبل بلوغه السن القانونية، وهو تحت وصاية الصدر الأعظم، وبعدها؛ حتى بلغ الأمر فتنة عسكرية قادها أبو حمارة منذ 1902 ولغاية 1909 لسبب أنه الابن البكر للسلطان المتوفّي.

لم يكن أي عداء بين السلطان مولاي عبد العزيز والشيخ محمد، بل كان الشيخ رافضًا لسياسات “المخزن”. بدأ الأمر مع مسألة جباية الضرائب وَفْق اقتراح السفير الفرنسي، فأنشأ السلطان مجلس أعيان لهذا السبب، فيما حارب الشيخ هذا الطرح عبر عقد مؤتمر دولي يواجه الطرح عينه، ثم استولى السلطان مولاي عبد الحفيظ على الحكم، واعتُبِر سلطان الجهاد لأنه سيقوم بتحرير المغرب من هيمنة الاستعمار، فجمع السلطان مولاي عبد الحفيظ حوله الأعيان والعلماء، وسانده الشيخ محمد الكتاني نفسه في بيعته. ولكن بعد مبايعته، انقلب السلطان مولاي عبد الحفيظ على طروحات الإصلاح التي طالب بها الشيخ الكتاني وأخوه. لقد اجتمع محمد وعبد الحي الشيخان في ضريح مولى إدريس من أجل وضع نص المبايعة بحضور علماء وتجّار، وفُقَهاء. وتضمّن هذا النص شروطًا على السلطان للقيام بالإصلاحات، باعتبار أنه “إذا لم تكن بيعة أمير المؤمنين مقيدة بشروط تُحققُ للأمة أهدافها ومقاصدها”. بالإضافة إلى وضع نص المبايعة، فقد اهتم الشيخان الكتّاني يالأمن في مدينة فاس، وقاما بمراسلة الدول الأجنبية، وبالترويج للمشروع الجديد عبر صحيفة “المؤيد” المصرية ردًا على مقالات جريدة “السعادة” التابعة لمؤيدي السلطان مولاي عبد العزيز. ومن أهم الأفكار التي وردت في مقالته هي التشريع لخلع السلطان مولاي عبد العزيز على أساس أن “الأمة هي الأصل في عقد الإمامة الكبرى، وأن السلطان مسؤول أمام أهل الحل والربط”. في حين أن نقد الشيخين للسلطان مولاي عبد العزيز طاله من الناحية الأخلاقية، إذ يبذّر المال من أجل الملذّات وبناء القصور ، والاقتياد بهوايات الإفرنج، ولا يمارس دوره التأديبي كحام يُطاع.

وبعد أن تولّى الحكم، قام السلطان عبد الحفيظ بالحكم الفردي مجهضًا كل محاولة إصلاح بعد أن وعد به، وعذَّب الشيخ محمد الكتّاني وقتله. أما المُراد من هذا  السرد، فَهُو أن الخلافة قد خرجت من القصر لترتبط بالثورة الشعبية، كما أن “الزاوية” تخطّت الوظيفة الدينية، فشاركت في الحكم من ناحية وضع الشروط للبيعة، والترويج السياسي[27].

1- مكانة الفقهاء الجديدة

توسَّع نفوذ الفُقَهاء بعد عهد السلطانَيْن مولاي عبد العزيز وعبد الحفيظ. لقد انغمسوا في الحكم بعد “عهد الحماية”. وتمظهر هذا الانغماس بتغيّر مصدر رزق الفُقَهاء الذين كانوا يعتاشون من الزكاة، أصبحوا يعملون في التجارة، كحال الفقيه محمد الحَجَوي[28]، وفي الوظائف العامة كالعالم محمد بوجندار. أما مواقف الفُقَهاء وخطابهم الفِقْهي فقد اختلفت بين قبول ما هو جديد ولا يُعارِض جوهر الإسلام، من جهة؛ ورفض كل ما هو قادم من الغرب، من جهةٍ أخرى؛ وذلك حول موضوعات عديدة مثل اعتماد التلغراف للإخبار عن رؤية هلال رمضان العيد. فما يهمّ داغر من هذه المسألة هو التغييرات في الخطاب الفِقْهي الذي كان المطلوب منه إبداء المشورة ثم أصبح حينذاك يطال أجهزة الحكم، وذلك بانتقاد الأمراء والسلاطين[29].

2- أثر التحوّلات السياسية-الاجتماعية في الخطاب الفِقْهي

بالإضافة إلى اعتلاء الفقهاء مكانة اجتماعية مميَّزة، فإن المجتمع المغربي شهد تحوُّلًا كبيرًا بسبب دخول المخترعات العصرية إلى المدينة والبادية لازمًا، لذا كان على الفِقْه أن يتعامَل معها وعدم إهمالها. ويتمثّل هذا التحوّل الاجتماعي بالتغيير في حياة المغاربة بوجود المخترعات، كفتوى صلاة المُسلِم أثناء ركوبه “الوابور” و”الطاموبيل”، وهي تقتصر على “الإيماء” عند الحاج أحمد الكشطي في وقت الصلاة، وذلك عند استخدام المُسلِم لآلات النقل في ظلّ وجوب الصلاة بحسب رأي الأئمة بإجماعِهم. ويرى داغر في هذه الفتوى نوعًا من القبول بالمخترعات الجديدة والتكيّف معها والانسجام مع متطلّباتها. كما رأى داغر، في ظلّ حضور الأجانب، نوعًا من تدرّج في طرح الإجازة الفِقْهية في ما يخصّ المأكل، والمشرب، وبعدهما الأدوات. وأسهَمت الإجازة الفِقْهية بتخفيف حالة العداء مع الأجانب، حتى إبطالها. فإذًا عايش المغرب تغيُّرات اجتماعية في ظلِّ الحماية، وقد شكَّلت المخترعات أحد عوامل التغيُّرات عينها. فأصبح لزامًا على الفَقِيه أن يتطرَّق إليها، وألَّا يغضَّ النظر عنها. فلم يعد يقتصر درس الفِقْهي على السِلَع الأوروبية، كدورة اللحظة القِتالية، بل تعدّاها إلى البحث في المجتمع الإسلامي، مستغنيًا عن لحظ السِلَع في الدورة السابقة. ويرى داغر أن عدم لحظ السلع يعني أنها أصبحت مقبولة بعامةٍ في المجتمع الإسلامي، ولكن استجدَّ تحوّل جديد في المجتمع وهو انتشار عادات غيّرت أحوال المغارِبة. فالتعليم العصري الذي فرضته الحماية وفَّرت نظرة نقدية نحو ظواهر بأنها متخلِّفة وسحرية مستخدمةً خطابًا عِلمويًا[30].

وعلى العموم، يكشف داغر عن تغيير في الخطاب الفِقْهي، ويصفه بـ”الاهتزاز” لاسيما أن مكانة الفقيه لم تعد كالسابق لأثر التفرنج في الشعب. وهذا الاهتزاز طال بناء الفتوى وموادها وقيمها، حتى أن الفقيه نفسه لم يعد يفتي في ظلّ غياب الأسس التي تقوم عليها كل فتوى، بل أضحى دوره مصلِحًا اجتماعيًا بالتركيز على العيب الذي أصاب المجتمع. ويتوقف داغر عند مقارنة حالة الإفرنج مع المغاربة، فقد رأى أن الإسلام قد أصبح غريبًا عن المغاربة من خلال اقتدائهم بالأوروبيين، كما أصبح المسلم متخاذِل وغير متعاوِن مع أخيه المسلِم، وقصير النظر. في المقابل يتبيّن تعاون جليّ بين الإفرنج، وهم بعيدو النظر، وجديّون في أعمالهم، وعمليّون من ناحية اعتمادهم على العقل للبحث في “ملكوت السماوات والأرض” ليكتشفوا أسرار الله في مخلوقاته[31]. وبعد وصف الخطاب الفِقهي بعامةٍ، يختار داغر الفقيه محمد بن جعفر الكتاني. فماذا عنه؟

3- الفَقِيه محمد بن محمد عبد الله الموقت

شكَّل الفَقِيه ابن الموقت حالة استثنائية: كان والده متصوِّفًا، وهو انتمى إلى إحدى المدارس، لكن قراءته لمحمد عبده ومحمد رشيد رضا جعلته ينصرف عن مذهبه فانتقده بحجَّة اهتمام أئمته بالمال واصطياد المغفَّلين. لذا، انتقد المتصوّفين من ناحية تلاعبهم بالشرع، وقدحهم لمن اتّبعه، عن علمٍ كان أم جهلٍ. فقط طلب ابن الموقت الإصلاح في الإسلام رافضًا الظواهر الجانية عليه كالتصوّف، وذلك لمصلحة الخطابين التنويري والعلموي الخاصَّيْن بالقرن التاسع عشر وقد تبنَّاهما الإصلاح الديني. وعلى الرغم من تأثّره بالإصلاح، فقد رفض ابن الموقت جعل أوروبا كعبة الإسلام بتبني فلسفتها، وأخلاقها، وعلومها مما ينافي روح الإسلام بالسُخطِ على الدين وأهله. ثمَّ إنه يرفض آلة الفونوغراف لأنها للَّهو حرَّمها الشرع، ومنع شراءها لبطلانها. فالمؤمن قد يظن أن الأصوات المتنوِّعة الصادرة عنها هي “استمداد شيطاني”، وقد انتشرت بفعل شراء الآلة في كل المغرب[32].

وبعد أن عَرَض داغر آراء ابن الوقت بعامةٍ، يبحث في درسه للمجتمع المغربي المتأثِّر بالحداثة الأوروبية ليلْحَظَ أن تدوينه لمؤلفه “الرحلة الأخروية” لا يشبه حالة الفتاوى بل يتوجَّه نحو أسلوب يدعوه داغر بـ”الكاتب المنفرد” أو المقالة حيث يتوجّه نحو القارئ المتعلّم من أجل التأثير فيه، كحال جبران خليل جبران، ومصطفى لطفي المنفلوطي، ومي زيادة، وشبلي الشميّل. ويرى داغر أن أسلوب “الكاتب المنفرد” يعرف كيف يؤثِّر في القارئ ويغويه عبر التحريض والإرشاد، وهو أسلوب لا يخصّ الفُقَهاء وأحكامهم، لذا فهو عِرْضَة للنقد، وقد تمَّ انتقاده بعد إصداره “الرحلة المراكشية”. أما كتاباته فقد استهدفت المسلمين بعامةٍ، إذ توجَّه نحو المصريين والمغاربة معًا، وهو ما فعله معظم الفُقَهاء.

انطلاقًا من مواقف ابن الموقت، يرى داغر مفارَقة بينها بسبب تصلّبها من ناحية التطوّر، وارتكازها على نبرة تميل نحو التطوّر. فابن الموقت هو نموذج عن سلفية متصلِّبة بتبني مواقف تعكس لحظة ما بعد سقوط غرناطة، كتحريم الذهب على الرجال وكذلك ارتداء الحرير، والقسي، والديباج، والميثرة، والاستبرق، ورفض قراءة الجرائد اليومية لكثرة المفاسد نسبة إلى المنافع لاسيما أنها تؤثِّر سلبًا في الأخلاق لاستخدامها السباب وكأنها “خرافات إسرائيلية”، وقسمة الطعام لدى الكتابيين بين عمر وهو ما يصنعونه لمأكلهم، وكفر، ومكر؛ والاقتياد بعادات الكفار كالنزهة يوم السبت. ويموضع داغر ابن الموقت ضمن أعداء الإفرنج وأثرهم في المغاربة في مقابل فُقَهاء أكثر تسامحًا مع الحماية الأجنبية.

ثمَّ يتوقف داغر عند “الكشف والتبيان عن حال أهل الزمن” لابن الموقت الصادر عام 1932، فيرى أنه يبحث في حال المغاربة اجتماعيًا، وحياتهم اليومية، وحِرَفِهم، وخروجهم عن حياة الإسلام بعيدًا عن وصف طرق العبادة إلّا في ما نَدَر. وقد أدرج المؤلِّف خصائص حياة المغارِبة ضمن الأخلاق متمنيًا نشأة أُخرى للشرع، من دون إيضاح مقاصِده من ناحية أن المجتمع قد خرج من إسلامه لتتأسَّس نشأة جديدة، أم هي النشأة عينها. فالكتاب ينتقد الحالة الحاضِرة المنحطَّة التي جعلت المغرب تحت الحماية الأجنبية، فيصفها بـ”زمن اتباع الأهواء واستحلال لبس الحرير والذهب، واستحلال المعازف والمزامير، وشرب الخمور، واتخاذ القينات”، حتى تشبّه الرجال بالنساء والعكس، فتشارك المرأة الرجل في التجارة. أما اقتصاديًا، فيتطرّق ابن الموقت إلى أحوال التجارة والحِرَف حيث يتكاثر الغِش، والتدليس، والخيانة، والخداع ضد المستهلِك فتظهر له البضائع مغايِرة عن حقيقتها في الوزن والشكل والحسن والصقالة. ثمَّ ينتقد سلوكات المسلمين حيث يدخلون الحمامات من دون إزر، ويسرقون مال اليتيم، ويشهدون زورًا في المحاكم، ويرتشون، ويعملون في الربى، ويخونون، ويسحرون، ويكهنون، ويقامرون، وينجِّمون، ويلعبون الشطرنج والورق أو الضامة والكارطة. ثمّ إن نساءَهم يخرجون من البيت وحدهن بكامل أناقتهن وزينتهنَّ ومتبرّجة بتبرُّج الجاهلية، وبصدور وسيقانٍ عارية، وأيادٍ مخضَّبة، وتلبسن رداءٍ هفَّاف لا يسترهنَّ، وكأن محارِمَهُنَّ معهنَّ، فتأتيَ لتشتريَ من البائع فتجلس في الحانوت وكأنها تختلي بالبائع، وهذا هو الزنى، لأن المجتمع يقتدي بالمدنية الأوروبية الكذَّابة. ومن خروج المرأة، يظهر أن المجتمع يخرج من الشرع من أجل التمدّن على الطِراز الأوروبي المزيَّف. فهذا الخروج هو سلب الإنسانية من الإنسان ولو بَقِيَ في زيِّ إنسان[33].

القسم الثاني: الفتاوى حول الفن

أدرج داغر بحثه في الخطاب الفِقهي ضمن السياق التاريخي السياسي للمغرب، انطلاقًا من الفصلَيْن الأوّل والثاني. أما البحث في علاقة الفِقْه بالفن فظلَّ معلَّقًا لغاية الفصل الرابع. في حين أن الفصل الثالث قد تطرَّق إلى موضوعات فنية لم يتناولها الفِقْه على أنها تنتمي إلى المجال الفنّي، كالباسبور passport، والفونوغراف. لذا، سنعتبرها في درسنا لـ“بين الفقه والفن: النزاع على الصورة” مقدِّمة لدرس علاقة الفِقه بـ”الصورة الفِقهية” وسنُدرجها معها.  والجدير بالذكر، أن مسائل الفن لم تكن مطروحة في المرحلتَين الأولى والثانية، بل سننتظر لحظة الحماية لتصبح أمرًا ملحًّا عند الفقهاء. وتجدر الإشارة إلى إن داغر لم يتطرَّق إلى الصورة الفوتوغرافية واللوحة، بل بدأ بمسائل لا تدخل في صلب الموضوع، وهي الباسبور والفونوغراف: فماذا عنهما؟

أولًا- مسألتا الباسبور والفونوغراف

إن حيازة الباسبور أصبحت أمرًا ملحًا في حياة المغاربة، فتوقف داغر عند إحدى المخطوطات التي تتكلّم عنه. ووقع على أحد الباحثين الذين اشتغلوا في المخطوط، وهو محمد بن إبراهيم السباعي. لقد عالج السباعي المخطوط واعتبر اسمه “كشف المستور عن حقيقة كفر أهل بسبور” ويعود إلى عهد “الحماية الفرنسية” بعد عام 1910. والجدير بالذكر أن اسم المخطوط غير مُتَّفَق عليه لأن تعدُّدَ العناوين سببه مقاصد الباحثين. فالسباعي رأى أن أحكام الصورة الفوتوغرافية جزء لا يتجزَّأ من مسألة الباسبور بسبب الصِلة بينها وبين النور. ووجد داغر التباسًا آخر، عدا عن عنوان المخطوط وقِسمته الثلاثية غير المُبَرَّرة، وهو أسباب التأليف التي تندرج ضمن “الكُفر”، بدليل تكرار المصطلح عينه، والانتباه منه وتنبّه الأمة من السقوط فيه عبر ارتكابها الكبائر والمصائب، كالخروج عن الشرع، أو تَرْك القرآن والسُنَّة والإجماع. وهذه السلوكات يشبّهها صاحب المخطوط بالتهديدات الداخلية للحصن الذي هو البيت الإسلامي. فسقوط الحصن من الداخل يعني أن المسلم يخرج من دينه القويم بلباسه زيّ الكفَّار، والذهاب معهم إلى الكنائس، والبِيَع وغيرها من سلوكات غير المسلمين التي تُخرِجهم من دينهم، بالإضافة إلى مخالطتهم بغير المسلمين، ومجانبتهم، ورفض موالاتهم، ومعاداتهم، وإلّا ظهرت “علامة الكفر” بحضور الأجنبي كَـ”عَيْن خبيثة” أو “جاسوس” في الأمَّة. فوَصْفُ العدوّ بالكافر أو بجالب الكفر هو تعيين حديث بحسب داغر، وقد تحدَّد بعد التَجْرِبة الأندلسية، بدليل تعايش الأديان الثلاثة قبل سيطرة الإسبان على الأندلس. لذا، فإن التعيين الجديد للعدو ليس سوى تبدُّلٍ في موقف المسلمين على أثر نشوء صراع مع الغرب. وقد دمجَّ التبدُّل المذكور الدين مع السياسة، فلم يعد المسيحيون أهل كتاب، بل أعداء الإسلام مع تجدُّد هذا الصراع.  فالتبدُّل الحاصل طال النظرة إلى أهل الكتاب وسِلَعِهم بما فيها الباسبور، بخاصةٍ، واستطاع التأثير في الفِقْه، بعامةٍ. فالباسبور أصبح دلالة جديدة على الكفر، فَهُو مكتوب أو مسطور يتهافت عليه الكفّار لحفظ أولادهم ووظائفهم المخزنية. أما ما لحظه داغر فَهو عدم معالجة موضوع الباسبور من وجهة نظر بَصَرية كاستعمال صور فيها هيئات آدمية، كما فَعَلت مجتمعات عربية عند استعمال الصُور الآدمية في الأوراق الثبوتية، بل انتقد المخطوط  الباسبور من ناحية اعتماده كشرط للوظائف المخزنية. ويعود داغر إلى نقد السباعي للمخطوط، حين تخطّى استخدام الباسبور للوظائف المخزنية ووسَّع بحثه إلى التعامل مع الأجنبي، و”الردّة الدينية”، وحيازة باسبور أجنبي، وسياسة التجنيس مع السلطان مولاي الحسن الأوّل[34].

بالنسبة إلى الفونوغراف، يختار داغر في سعيِه البحثي الفَقِيه العابد بن أحمد بن سودة من خلال “حكم سماع ماكينة الكلام والغِناء المسماة فونوغراف”، وقد تطرَّق الفقيه إلى دخول آلة جديدة إلى هذه المجالس أي “الفونوغراف” أو ماكينة الكلام والغِناء أو الحاكي قبل الأسطوانة وهي آلة قادرة على تسجيل الموسيقى والأغاني لِعَرْضِها في المجالس. فتأتي الفتوى بأن المتكلم في الفونوغراف هو شخص يعرفه المستمع باسمه، فيستطيع الاستغناء عن سماع الطرب في ذاته. وينسب الفقيه الماكينة إلى آلات اللهو، فتحريم الفونوغراف مستقلّ عن سماعه، حتى أن السماع في ذاته ليس حرامًا، لأن العلَّة أساسًا تكمن في حرمة آلة اللهو و”النظر إلى ما لا يحل النظر إليه والتلذذ بصوت المطرب”. فلا تهمّ الفقيه صوت الآلة أكانت تنقر بالأصابع أم تُنْقَر لضَبْطِ الصوت.

ويبحث الفقيه في بيئة المؤمنين، وأخلاقهم، وسلوكاتهم انطلاقًا من النصوص والاجتهادات. وهذا العمل هو اعتيادي عنده، أي إن خطابه سابق على اللحظة القِتالية، ومستمرٌ معها، ولاحقٌ عليها في آن من دون أن يصيبه حالة ثبات من ناحية أثر سلوكات جديدة طرقت على المجتمع عبر دخول عادات الأوروبيين إليه. والعلَّة هي تلقّي المغارِبة لهذه العادات وانعكاس هذا التلّقي على القرارات العامة المُنَظِّمة لحياة المؤمن[35].

ثانيًا- الصورة الفقهية

يرى داغر أن أولى الدراسات حول الصورة لم تتناول الصورة الفنية، بل اقتصرت على الصورة التي حرَّمها التنزيل والصورة الفوتوغرافية[36]. ثمّ إن “القول المحرَّر في اتخاذ الصور”، أي فتوى الكتاني في الصورة، هي أولى الفتاوى المغربية. وعلى الرغم من صعوبة تحديد تاريخ وضعها، فإن تاريخ وفاة الفقيه يعود إلى العام 1909. ولحظ داغر أن الكتاني يستهدف “اللُعَب” أو “الصور المطبوعة فوق حوامل مادية” فقط، مستبعدًا اللوحة أو التمثال، أو محفورات الفن. فالصورة التي اشتغل فيها الكتاني هي المُستَخدَمة اجتماعيًا وليست الصورة الجمالية أو الفنية. ثمّ إن الفقيه عينه قد ارتكز على الفِقْه القديم لدرس مسألة الصورة، وتحريم اقتنائها او استعمالها بشكلٍ عدائي. ويبدأ الكتاني الفتوى بنقاط ثلاث يتم تشريعها انطلاقًا منها وهي “اتخاذ الصور” أي التعامل بها بين المسلمين، ويعقبها “اقتنائها”، و”استعمالها”؛ وذلك من دون التطرّق إلى مسألة صناعة الصورة بل مكتفيًا بمعاينتها في المجتمع المغربي على أنها تشكّل خطرًا محدقًا على أمن المجتمع المسلم[37]. ويجد داغر تركيبًا بين الإصلاح والمناهَضة وَفْق الفِقْه المالكي. وعند وصف الأحوال الاجتماعية المعاصِرة، يرى الكتاني أنها مغايِرة عن السابق فيتَّفق مع النَهْضويين على تغيير الاعتيادات والسلوكات لتصبح رومية. وقد صرَّح الكتاني بأن الأحوال الجديدة أدَّت إلى ترك الشعائر الإسلامية، وسُنن الرسول من أجل الاعتماد على ثقافة الروم، وسُنَنهم، وآلاتهم، وبضائعهم، وزخارفهم، ومحدثاتهم، وبهذا يتغلّب الروم على المسلمين فتزول الدولة الإسلامية في غلبة الروم ونظام الحماية الذي يمارسونه. وبقيَ من دولة المسلمين أمير المؤمنين من الأسرة العلوية شكليًا. أما ما يفيد دراسة داغر فهو التصريح عن “الزخارف” و”المحدثات” التي تُبْهِر الأبصار وتُحدث مباهِج القلوب، أي الجمال والفنّ. فالموقف من الصورة قد أدرجه الكتاني عند حديثه عن مقاطعة السِلَع الأجنبية أي السكر والشاي. فهو يعلم نفوذ الأوروبيين المعاصرين من نواحٍ عدَّة، حتى الأخلاقية بالحرية التي تحدَّث عنها الشرع، وبالعدالة. فقد أفتى كسابقيه في الصورة عبر أقسامٍ خمسة وهي الإباحة كتصوير ما لا روح فيه، والتحريم إجماعًا كتصوير الحيوان العاقل وغير العاقل، والتحريم على المشهور كتجسيد الحيوان بالعجين والقشر، والمكروه كالصورة الحيوانية الخالية من الظل في الستور والسقوف والحيطان، وما هو خلاف الأوّل. وعلى أساس القِسمة الخماسية، يتَّخذ الكتاني أمثلة لُعَب البنات أي الدمى التي يلهو الأطفال بها، وصندوق الوقيد والشاي وإدراج اسم الله أو الرسول عليهما، والصورة من دون رأس لها أي المُدرَجة في الأثواب والستائر.

فدُمى الأطفال تندرج ضمن “الصور المُجسَّمة التي لها ظلّ”، وقد أباح بعض الفُقَهاء اللهو بها للضرورة أي لتعلّم تربية الأطفال وبعدها يتمّ الاستغناء عنها. ثمَّ يحرّمها الكتاني لأن اللعب بها لا يتطلَّب أن تكون الدمية بأعضائها الكاملة. ويستوقف داغر كلامه وكلام سابقيه من الفُقَهاء حول مسألة تعلّق البنات بالدمية تربويًا فقط ومن دون أي إقبال على الدمية نفسها للهو. ويرى داغر أن الكتاني يستعرض في هذا القسم تحريم الغسل بالصابون لأن ظلَّه من الحوت، وعلى المؤمن كسره فورًا.

أما صندوق الوقيد وزنبيل الأتاي فَهُما سِلعتان روَّجاهما الأوروبيون بإدراج اسم الله أو الرسول على غلافهما، مما أغضب المسلمون وسلطانهم. ثم عمد الأوروبيون إلى وضع صور حيوانات عى صندوق الوقيد وصور صبيَّتيْن تلعبان في البساتين على زنبيل الأتاي، فدعا الكتاني إلى إزالة الرأس منها لأن الصور محرَّمة، دلالة على عدم اكتمالِها.

في حين أن الصُوَر من دون رأس فيُمكن استخدامها بقطع الرأس لأن هذا القطع يؤدي إلى قطع الكلام فلا تعود الصورة تغري متلقّيها أو تسحره لأنها أضحت بهذا التغيير بريئة. فقطع الرأس، وتفرقة الأجزاء، وخرم الصورة في الستائر يبيح استعمالها.[38]

ثالثًا- الصورة الفوتوغرافية

قبل أن نبحث في ما أتى به داغر حول فتاوى الصُوَر الفوتوغرافية، رأينا أنه من الأفضل التوقف عند تاريخ الصورة الفوتوغرافية في المغرب ولو لم يراعِ ذلك الخطَّة المنهجية التي اتّبَعها الباحث.

فإن أول صورة التُقِطت تعود إلى السلطان الحَسن الأول في نهاية القرن التاسع عشر، وذلك وَفْقَ “نظرة عن الصورة الفوتوغرافية بالمغرب”. ويرى داغر أن هذه الدراسات تبقى قليلة المصادر، ثمَّ يعود إلى “الأدب العربي في المغرب الأقصى”[39] لمحمد بن عباس القباج بوصفه أول مؤلف يعرِّف الأدب المغربي بين القرنين التاسع عشر والعشرين، ويُدْرِجه ضمن الأدبي العربي بعامةٍ، بدلًا من حصره في الأدب المحلي المغربي. ولحظ داغر أن المؤلف عينه استخدم أسلوب يجمع بين سيرة الأديب وصورته الفوتوغرافية لتعيينه، شأنه شأن كتاب “المشاهير” لجرجي زيدان، وكتاب “تاريخ الصحافة العربية” لفيليب دو طرازي، أي من ناحية الخطة التأليفية والإخراجية.

أما كتاب “بوادر استعمال الصورة الشخصية الفوتوغرافية في المغرب” لمحمد أمين العلوي فيُشير إلى توفّر استوديو Em Condopoulos في مكناس، وتُعرَض في واجهته صورة المؤرِّخ المولى عبد الرحمن بن زيدان. وانطلاقًا من الصورة المذكورة، نشأ موقف الشاعر الفقيه أبا محمد عبد القادر العرائشي الرافض لها بوصفها تشاركًا مع الخالق في خلقه، فيما يدافع صاحب الصورة عن الصورة الفوتوغرافية بأنها “بديل عن الغائب” فقط ولكن الله هو الخالق للبشر. عدا عن المجادلة موضوع الصورة الفوتوغرافية، يذكر العلوي كتبًا ومجلَّات عدَّة تضمّنت صورًا فوتوغرافية لأعيان البلاد، وعلماء، وفُقَهاء، وأدباء. ثمَّ قام بتصنيف الصور الفوتوغرافية بين صور شخصية للإهداء، من ناحية أولى؛ وصور تذكار خالد، من ناحية ثانية؛ وصور على بطاقات التعريف وجوازات سفر، من ناحية ثالثة. ويوضِّح المؤلف موقف الإسلام من الصورة، وهو الرافض لها في بداية الدعوة “خوفًا من أن توحي بالوثنية”. ولكن بعد أن أدرك المسلمون أن الفرد لا يتعبَّد لها، أُجيز التصوير الشخصي الفوتوغرافي لضرورات العصر. والمقصود بهذه الضرورات هو التدابير الإدارية التي تُملى على المغاربة في عهد الحماية كإبراز بطاقة الهُوية وغير من الوثائق الرسمية التي تحتاج إلى الصورة الفوتوغرافية، حتى عند التنقلّ في النطاق الفرنسي.

وبعد التوقف عند تاريخ الصورة الفوتوغرافيَّة، سنتطرَّق إلى المواقف الفِقهية حولها. درس داغر فِقه الصورة الفوتوغرافية في “رسالة في التصوير”. فالفتوى تجيب عن سؤال حول الحكم الفِقْهي للتصوير الفوتوغرافي، ثمَّ توسَّعت نحو صور النازلة وأحكامها من دون تحريمها ومكتفيةً بأنها مكروهة. في حين أن مواقف بعض الفُقَهاء المتعاقبين يستنكرون وجود الصورة كحال ابن الموقت.

ولا بدَّ من الإشارة إلى إن داغر قد تطرَّق إلى فتوى الحَجَوي، وذلك في ما خصَّ الصورة الفوتوغرافية. فقد استند الفقيه إلى سند الضرورة أو فِقْه الضرورة، أي “أن الأصل في الأشياء عدم المنع، ولأجل الحاجة” لبناء منظوره الفِقْهي. فلم تعد معه مسألة عذاب من يضاهي خلق الله بالغة الأهميّة، بل استبدلها بمسألة الصورة الشمسية الفوتوغرافية في المجتمع الإسلامي المعاصِر له كضرورة، واعتمادها في “عَهْد الحماية” حين طلبت السلطة الفرنسية استخدام الصورة وطبعها على جوازات السفر وبقية الأوراق الثبوتية. كذلك أصبح ضروريًا استخدامها في الدراسة والتوضيح المدرسي من أجل “الرقيّ العظيم”. ومقارنةً مع بقية الفُقَهاء، يرى داغر أن مبدأ الضرورة لم يكن معمولًا به بين الفُقَهاء، فقد وظَّفه الحَجَوي في تبرير استخدام الصورة الشمسية[40].

رابعًا- فِقه التصوير ونصب التماثيل

قبل التطرّق إلى الفِقه المغربي، تجدر الإشارة إلى إن داغر قد وسَّع بحثه الفِقهي حول الفنّ، فلم يحصره فقط بالمالكية، لذا أردنا التوّقف عند النماذج الأخرى لإجراء المقارنة قبل البحث في موضوع الكتاب “بين الفِقْه والفن: النِزاع على الصورة”.

1- الفَقيه الشوكاني: نموذج عن اليزيدية اليمنية

يبرّر داغر درسه لفتوى الإمام اليمني محمد الشوكاني بعنوان “بحث في التصوير”، إذ إن الإمام غير مغربي، فيوسِّع به داغر دائرة بحثه مقارنًا بين فتواه وفتاوي المغاربة المعاصِرين له، بخاصةٍ؛ وبين فِقْه يزيدي متحوّل يمني، وفِقْه مالكي مغربي، بعامةٍ. وبعد تبرير اختياره للشوكاني، يبدأ داغر بالبحث في أسلوب الشوكاني الفِقْهي، فيلحظ أنه يعود إلى السلف الصالح، شأنه شأن الوهّابية السلفية في شبه الجزيرة العربية، والإصلاحية المصرية: وقد نَتِج من هذا التناقض “النهضة العربية”. وبالإضافة إلى انتماءه المذهبي، فقد اختار الشوكاني مراجع عدَّة لفتاويه، بما فيه الآيات القرآنية، واآحاديث النبوية، وتفاسير الفُقَهاء السابقين؛ وذلك من دون الانتباه إلى سياق التاريخي للخطاب الفِقْهي، كسابقيه من الفُقَهاء. فاعتماد الآية القرآنية خارج سبب نزولها، والحديث من دون سياقه الإخباري، ونصوص الفُقَهاء من دون البحث في علاقة بعضها ببعض قد يُسقِط الفقيه في خطأ التعامل مع النصوص. فالفتوى تأتي من اعتقاد الفقيه بأنه يأخذ من “مصدر حصين”، فيما أن الواقع يُظهر أن الفتوى تقوم على “مقادير من البناء الكتابي”، وقد استقى معلوماتها، وأسلوبها، ومنهجها، وبنائها عن الآخرين.

وبعد عَرض أسلوب الشوكاني، ومنهجه؛ يتطرَّق داغر إلى مضمون الفتوى بدءًا من صحَّة النهي عن التصوير: فيستند الشوكاني إلى الوعيد بالنار لكلِّ مصوِّر بحسب الأحاديث، وبعدها يحيل فتواه إلى القرآن، والآحاديث، والاجتهادات ليحكم بأن التصوير هو أشدُّ الحرام. أما المسألة الثانية فهي انتماء التصوير إلى مجال المحرّمات أو المكروهات؛ وقد أجاب عليها في المسألة السابقة. ثمَّ المسألة الثالثة تتناول نهي بعض موضوعات التصوير والتصريح ببعضها الآخر، فيجيب بجواز تصوير الجماد وما لا نفس له كالأشجار، والجبال، والأودية، والسماء، والأرض. وتعقب المسائل الثلاثة الأولى مسألة رابعة وأخيرة، وهي إنكار التصوير، فيجيب بأن “إنكار المُنكَر من أوجب الواجبات”. انطلاقًا من المسائل المطروحة، يتوصَّل الشوكاني إلى إن التصوير حرام، وكل ما هو حرام هو منكر. وفي ضوء خلاصته، يراجع الشوكاني المسألة الثالثة، و”إذا كانت الأحكام الفِقْهية تميِّز بين تصوير حيوان كاملًا ومستقلًا، أو منسوجًا، أو ملحمًا، أو مطبوعًا”؛ فيرى أن تصوير الحيوان كاملًا يقع فقط في التحريم. وبذلك يتشابه الشوكاني مع بقية الفُقَهاء المعاصرين له وسابقيه. ويرى داغر في هذا التشابه تحكم التقليد بالفِقْه، عمومًا؛ وبفِقْه الشوكاني، خصوصًا ولو أن الشوكاني لم يستعِدْ ما استند إليه التقليد الفِقْهي، وهو ما يحتاج إلى المزيد من التمحيص[41].

2- فتاوى المذاهب المختلِفة حول الصورة

بعد بحثه في المذاهب كافة، يرى داغر اختلافات عديدة حول فِقه الصورة. ويتوصَّل إلى إن الآراء المختلفة حول تحريم الصورة وإنتاجها ليست سوى دلالة على أنها كانت موضوع نزاع لدى المسلمين ونُخَبِهم الثقافية؛ فقد أُنتِجَت تصاوير في عهود، فيما حُرِّمت في فترات أُخرى. ويعطي أمثلة عن آراء المذاهب والفِرَق الدينية، كالمعتزِلة والحنابلة:

الفرقة الأولى أجازت التصوير فيما الفرقة الثانية حرَّمته. أما الأحناف فأجازوا موضوعات ليست فيها روح، من ناحية؛ وموضوعات فيها روح ومقطوعة الرأس لاسيما أن الرأس عندهم يمثّل الصورة وبقطعه أصبحت الصورة نقشًا، من ناحية أخرى. وبالإضافة إلى هذا الرأي العام لدى الأحناف، يزيد داغر رأي الكسائي، وهو أحد أئمتهم: التصاوير مكروهة بسبب الحديث عن دخول الملائكة إلى البيوت، فالاحتفاظ بها هو التشبُّه بعبادة الوثن باستثناء البساط والوسائد التي تُلقى أرضًا للجلوس أو للدوس عليها، فتصبح بذلك إهانة للصورة فلا تتشبَّه بعبادة الوثن. وبعكس الوسائد والسجاد، يُحرَّم التصوير على الستور، والأزر المضروبة على الحائط، والسقف، والوسائد الكبار؛ وإلَّا تُرسَم من دون رأس لتُعْتَبَر نقشًا. أما الخط حول العنق بخيط فلا يُعتَبَر قطع الرأس لأنها ظلَّت صورة مزيَّنة بحليَّة أو بطوق. كما أن صورة شيء من دون روح لها إجازة لأن المكروه يقتصر على الموضوع ذي روح.

بالنسبة إلى الشافعية، فالتصوير هو من “الكبائر”، وإذا كان الموضوع من ذوات الأرواح فيكون التصوير منكرًا. فالإباحت عندهم طالت غير ذوات الأرواح باستثناء صور ذوات الأرواح على أن تكون مُهانة، ومُداسة، أو مقطوعة الرأس. وبذلك تكون منكرةً التصاوير على الفِراش الحرير، والسقوف، والجدران، والثياب، والستور؛ ومسموحًا بها على الأرض والبساط ما دامت تُداس، وعلى المخاد ما دامت تُتَكَأْ عليها. أما الإمام الغزالي فقد رجَّح المنع وَفْقًا للحديث: “لعن الله المصوِّرين”[42].

3- فتاوى المذهب المالكي

وبعد عَرْض آراء المعتزِلة، والسلفية، والحنفية، والشافعية؛ بَقِيَ رأي المذهب المالكي الذي عبَّر عنه “مواهب الجليل في شرح مختصر الخليل” لمحمد بن محمد بن عبد الرحمن الحطاب. وقد تطرَّق هذا الرأي إلى التمثال لغير الحيوان، وهو مُجاز عنده؛ فيما رفض أن يكون لحيوان وله ظل أو أن يكون مجسّدًا. وبعكس التمثال المجسّد، يكون مكروهًا التمثال المسطَّح أي المنقوش في الحائط والورق والقماش. فإن ابن عربي حرَّم تصوير ما له ظل، لاسيما صورة كاملة الأعضاء؛ وأن يكون إنتاجها في ديمومة باستخدام الحديد، والنحاس، والحجارة، والخشب. ورأى الإمام أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني، في “الرسالة الفِقْهية”، أن التمييز مهمٌّ بين التماثيل والأنصاب، من جهة؛ والرقم على الثياب، من جهةٍ أخرى: فالأولى مُنْكَرَة والثانية مَكروهة[43].

وشاء داغر أن يعود إلى ما درسه البناني في “إبداع التحرير لأحكام التصاوير” من دون أي تحديد لتاريخ النشر، ولكنه يعود إلى فترة الحماية. ولحظ أن المخطوط لا يعاين الصور المعاصرة، بل يتَّكل على الذاكرة القديمة لأنه يقصد بالصورة ما ورد في الأحاديث النبوية، مستندًا إلى الأحكام المالكية والشافعية على الرغم من الاختلافات في ما بينهما على مستوى مسألة الصورة. وهذه العودة إلى “إبداع التحرير لأحكام التصوير” ساعدت داغر على استخلاص مصطلحات التحليل والتحريم، كـ”ثوب منصوب، وثوب مبسوط، وصور ذات أجسام، وصورة-رقم، وصورة ثابتة الهيئة، وصورة مفرقة الأجزاء، وصورة ممتهنة، وصورة الحيوان، وصورة الشجر، والصور الناقصة، ومضاهاة الخلق”. فقد قسَّم البناني الأحكام في الصورة بحسب المذهبَين المالكي والشافعي إلى أربعة: أولها تعتبر أن الشافعية رافضة للتصوير في الأقسام الثلاثة الأولى كافة، وثانيًا تحريم التصوير في جدار وما فيه والتصوير في ثوب منصوب وما فيه، وإباحة ما في الثوب المبسوط والمنصوب. وبعدهما، يأتي تحريم الصور إن كانت لها أجسام، أما إذا كانت الصورة رقمًا فيكون الجواز مطلقًا والمنع مطلقًا لظاهر الحديث، والمنع مطلقًا حتى الرقم والتفصيل. أما في حال كانت الصورة ثابتة فيقع التحريم باستثناء التفرقة إلى أجزاء التي تجعل الصورة مجازة. والقسم الرابع يحرِّم تصوير الحيوان لأنه من الكبائر خصوصًا أن فيه مضاهاة لخلق الله، فيما يجوز تصوير الشجر ورحال الإبل… ما مسألة لُعَب البنات، فيذكرها البناني بأنها صورة التمثال وهو يجوز عند المالكية والشافعية، لأن نص الإباحة غير منسوخ وَفْقًا للقرطبي. فالمراد هو تدريب البنات على تربية الأولاد بالصور الناقصة. ويستند البناني إلى شراء الرسول لعائشة لعبًا. فهذه اللُعَب لا يتلهّى بها الإنسان وأتت رخصة اللعب بها لما كانت عائشة غير بالغٍ وقبل تحريم التماثيل والصور، ولكن بعد التحريم أصابها ذلك أيضًا. ويتميّز البناني من بقية الفُقَهاء في استخدام مسألة الناسخ والمنسوخ في تناول المسألة من ناحية تاريخية، فَهُو لا يفهم الأحاديث بشكلٍ جامد. ويستدل داغر على معالجة البناني للمسألة في زمن حضور أجنبي، فقد قام بتجديد هذه المعالجة فيخرج بها عن المألوف. وكشف داغر عن معرفة البناني لبقية آراء الفُقَهاء إذ إنه يتابع خطاباتهم، ويعوِّل على آرائهم، ويحيل إليهم انطلاقًا من الكتب، والمجلات، والجرائد. ويتوصَّل داغر إلى أن البناني قد وضع جوازًا محدودًا للصورة محرّمًا بالتالي تصوير لذي الروح كتماثيل الأصنام للعبادة، وتماثيل غير الأصنام لمضاهاة خلق الله، وانتحال التصوير المحرَّم بالإجماع[44].

ولم يكتفِ داغر بالنماذج السابقة عن المالكية، بل بحث في فتاوي الفقيه الحَجَوي نظرًا لأهمية اللحظة التاريخية التي عاش فيها، إذ شكَّلت انعطافة تاريخية مهمَّة للخطاب الفِقْهي. فعاد داغر إلى الجزء الرابع من“الفكر السامي في تاريخ الفِقْه الإسلامي”الصادر عام 1926. وسياق الفتوى التاريخي هو سؤال وجَّهَه وزراء دولة تونس وبحضرة سادات أعلام وأعيان البلاد عام 1917 حول الصورة الفنية والتماثيل. فكانت إجابة الحَجَوي بسماح تصوير الجمادات بإفتاء من ابن عباس وبحسب صحيح البخاري، أما التصوير الشمسي ففيه اختلاف بين العلماء بين الكره والمنع، ولأحكام الضرورة في التعليم، والسياسة، والحرب، والتاريخ فهو مرخص به لأن منعه يؤدي إلى تخلّف الأمة وهو لم يتوفر في عهد النبوي، أكان الموضوع إنسانًا أم حيوانًا. أما مسألة إباحة ما لا ظلّ له فهو يوافق ما رواه ابن أبي شيبة عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، لكن هذا لا يعني أن منع الصور المُجَسَّمة ذات الظل سَبَبَه مَعِيبَة المتمدنين للمسلمين، لكن هناك إجماعًا على المنع باستثناء الصور التي تلعب بها البنات للتعلّم والتربية. فلا داعي لنصب هيكل عمومًا للأبطال أو العظماء كما يفعل الوثنيون، بل على الحكّام بناء مدارس باسم العظماء فتنتشر مآثرهم من دون تقليد التمدّن الوثني بشكلٍ أعمى، لاسيما أن التماثيل تبقى من الأمور التحسينية عند الأوروبي وليست من الحاجة والضرورة[45].

ويحلّل داغر ما أتى به الحَجَوي حول اللوحة والمنحوتة، فيرى أن يقوم على سند السُنَّة وسند الضرورة. فالسُنَّة عند الحَجَوي بعيدة عن الوهّابية وعن مواقف فُقَهاء مغاربة عدَّة حرَّموا صورة موضوعها حيّ، فيما سمح التقليدَيْن السنّي والشيعي بتصوير الجمادات. واختلف الحَجَوي مع بقية الفُقَهاء على تفسير حديث عائشة عن الوسادَتَين: رأى الفُقَهاء في الحديث لزوم منع ما لا ظلّ له بداعي تمزيق الرسول للوسادة، في المقابل يعطي الحَجَوي الإجازة في التصوير لما لا ظلّ له. أما بالنسبة إلى الصورة التي لها ظلّ، فيعرض الحَجَوي الصراع القائم نحوها، واعتبار حالة منعها عيبًا، فيما هي عادة أوروبية نصب تماثيل في ساحاتها. ويعتقد داغر أن الفتوى نِتاج طلب من السلطات التونسية نصب تماثيل تذكارية اقتيادًا بالأوروبي. فالمقارنة بين الحَجَوي وبقية الفُقَهاء جعلت داغر يخلص إلى إن الحَجَوي أكثر تسامحًا منهم في ما خصّ الصورة الشمسية -وَفْق ما رأيناه سابقًا- لكنه يرفض التماثيل لنهي الشرع عنها. وهذا الرفض سببه أن الأوروبي يستخدم التماثيل لتحسين مدنهم وتجميلها، فيما حاجة المسلمين إلى مدارس تحمل أسماء العظماء هي أكثر من نصب تماثيل لهم[46].

ولم يكتفِ داغر بتحليل ما أتى به الحَجَوي، بل رأى في الفَقيه لحظة تحوّل في الخطاب الفِقهي، لذا درس مؤلف له مُعَنْوَن بـ“الفكر السامي في تاريخ الفِقْه الإسلامي”؛ فرأى عنده موقفًا من “التراجع” على مستوى الفِقْه والأعراف والعوائد لمصلحة النحو، أقلَّه من ناحية التعويل على الأدلَّة مما يشكِّل اختصارًا في مجال البحث. فتراجع الاجتهاد الفِقْهي سببه الواقعي غياب المخطوطات الفِقْهية، وعدم استهداف المطابع المغربية الحديثة لها، بعكس المستشرقين الأوروبيين الذين اهتمُّوا بطباعة كتب أهل السُنَّة. ويخلص الحَجَوي إلى إن أصول الفِقْه قد اكتملت في زمن الرسول، لكن فروعَه لم تنتهِ بعد لغاية انتهاء الحوادث. أما اهتمام داغر في مؤلف الحَجَوي فقد ازداد بسبب قوَّة نقده وتمحيصه في القضايا الفِقْهية، وملاحَظته لظاهرة تراجع الفِقْه، لاسيما أن سَبَبَي هذا التراجع يكمنان في التقني، أي عدم طبع الكتب الفِقْهية، وفي النظر الفِقْهي. فهناك تعارض يتمثَّل بكره النحو وأدلَّته فِقْهيًا في المغرب، بعكس الأدلَّة الفِقْهية المحمودة وهي غير مُتَّبَعة في زمنه. لقد استطاع الحَجَوي أن ينتقد الخطاب الفِقْهي المغربي، وما أصابه من تراجع في ضوء اتباع الوائد والتقاليد المتوارَثة من أجل الحكم في مسألة معيَّنة. لقد تداعى هذا الخطاب في المجتمعات العربية وسقط، لكن الحَجَوي يرى أن الخطاب المذكور قد يبقى مستديمًا لعدم استكمال فِقْه الفروع، ولو أن الأصول قد كَمُلَت في العصر الإسلامي الذهبي. فلا بديل عن الخطاب الفِقْهي، وما زال المجتمع الإسلامي يحتاج إليه، وإلى مؤسساته التي ما دامت تحدِّد “الآمر بالمعروف والنهي عن المُنْكَر”. لكن ديمومة الخطاب الفِقْهي ومؤسساته لا تنكر بالواقع مواقف الحَجَوي الإصلاحية كطلب قيام مؤسسات مغربية في ظلِّ الحماية الأجنبية قادرة على وضع القوانين والعقوبات: فهذا الطلب لا يمنع من ضرورة وجود مؤسسة فِقْهية قائمة على علاقة أصول الفِقْه بفروعه. وانطلاقًا من موقف الحَجَوي، يخلص داغر إلى نهاية “فِقْه الصورة” وانفتاحها على المُستجدّات في آن؛ أقلّه في زمن الحَجَوي. أما استمرار موقفه في المدوّنة الفِقْهية المتأخرة، فيحتاج إلى مراجعة؛ خصوصًا في مسائل الصورة، والتمثال، والمحفورة عند دخول الفنون الأوروبية وتِقْنِيّاتها إلى المغرب. وكلام الحَجَوي يدلُّ على توفُّر سجالات بين الفُقَهاء، وذلك على مستوى فروع الفِقْه، أي ميدان الأحداث الطارئة. في حين أن الخطاب الفِقْهي يبقى متعدِّدًا ومتنوِّعًا، فلا تحدُّ النوازل مجال السجال، بل إن أسس الأحكام الفِقْهية ومسائلها هي من تحدُّ منطقة السجال، لاسيما أن المنطقة المذكورة قد نشأت على تخوم الأحاديث والتفاسير. فيكون كلٌ من الفِقْه، وخطابه، واجتهاداته وليدة النظرة التاريخية لدى الفُقَهاء، وليس كما يروِّج له الفُقَهاء، أي إنه أصل لا يتغيَّر في الزمن والتأليف بسبب الحوادث. ولتأكيد رأي داغر، يعود إلى تباينات المذاهب لتعيين منطقة السجال والتمايز في ما بينها، فيجد أن الفروق تطال الوعيد، والتحريم، والنهي، والكراهة، والإباحة، والإجازة؛ ثمَّ تطال موضوعات التصوير بين التحريم والإباحة؛ وبعدهما تميّز بين ما له ظل وما ليس له، أي التمثال والصورة؛ ثمَّ تميّز المعبود من المُعَلَّق، أو المنصوب أو المبسوط؛ وأخيرًا تصيب التجزيء بين أعضاء الكائن الحي أو تصيب تصويره بكامل أعضائه من أجل التحريم والإجازة[47].

4- فتاوى المذهب الشيعي

يميِّز داغر بين فتاوى الشيعية وواقع التجارب الفنية؛ لأن الأولى لا تختلف في ما بينها كحال المذاهب السنِّية؛ في حين أن الثانية اختلفت بسماح تصوير الرسول وعلي بن أبي طالب وغيرهما من الأشخاص الذين يحتلُّون مواقع دينية مرموقة ابتداءً من العهد الصفوي. في القرن السادس عشر، بدَّلت الدولة الصفاوية مذهبها لتعتنق المذهب الجعفري، لكن اتّباع تقليد فنّي فارسي والترويج للصورة يبقيان سابقَيْن على هذا التبدُّل. ويركِّز داغر على “تقليد التعزية” الخاص بمأساة كربلاء، وهو تقليد فنّي بدأ منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر، من شأنه أن يعرُض تشخيص حدث المأساة، وهو ما لم يعرفه الإسلام قبْلًا، في الهواء الطلِق ثمَّ خُصِّص للعرض المذكور أمكنة مُحدَّدة لها خلفية من أقمشة تحمل تصاوير وزخرفات. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، انتشرت أماكن لشُرب الشاي، لها حيطان تحمل صورًا تناسب عروض الحكواتي الذي يروي مأساة كربلاء. ويحلِّل داغر الصوَر المعروضة لتروي المأساة بأنها نِتاج أثر الفن المقدَّس المسيحي الشرقي، أي الأيقونة التي تتمحور حول أشخاص يحتلوُّن الموقع الأساس في وسطها، ويحملون هالات على رؤوسهم. بالإضافة إلى الأثر المسيحي، يرى داغر أن الإجازة بالعَرْض تحتاج إلى “إذن سلطاني” وهو ما وفَّرَته الدولة الصفوية لتأكيد عقيدتها عبر نشرها بين الجمهور، وتأكيد رموزها وهيئاتها عندهم، وتمييزها من بقية المذاهب الإسلامية.

إقرأ أيضًا: تاريخ الفرق الإسلامية: قراءة سوسيولوجية الشيعة الجزء الأول 

ولم يُهمِل داغر أثر الفن الفارسي في العرب، لاسيما “فن المثبَّت أو التصوير على الزجاج”. فقد اعتبره داغر “فنًا مُهَمَّشًا” وانتشر في تونس ودمشق بدءًا من نهاية القرن التاسع عشر، وذلك حين نقل حجّاج فرس، بحسب“التصوير الشعبي العربي” لأكرم قانصوه، تصوير الشاهنامه وغيره من التقاليد إلى العرب، كعائلة التيناوي المعروفة بهكذا نوع من التصوير، وقد تمظهر في ثقافة العرب انطلاقًا من حكايات البطولات كعنترة[48].

5- الخطاب الإسلامي النَهْضَوي

للبحث في الخطاب النَهْضوي، اختار داغر توجُّه الشيخ محمد عبده الفكري الذي يجمع بين الحرص على التراث المفقود لبعثِه من جديد، من جهة؛ والحِسِّ النقدي التاريخي للأحاديث، من جهةٍ أخرى. فهو يبرِّر الحسّ النقدي بكثرة الناقلين غير صادقين في العصر الأموي، بدليل أن الإمام مالك لم يحفظ من الأحاديث المُتداوَل بها حينذاك وعددها أربعة عشر ألفًا سوى ألف منها. ويرى داغر أن هذا النقد لا يتوفر عند غيره من الفُقَهاء: فقد خرج من “منطوق الفتوى” مستبدلًا إيَّاه بالتأليف المُعَلَّل، كحال النهضَويين. وما يُهمُّ داغر هو موقف عبده من الصورة والتماثيل وهو ما لم يدوّنه في فتوى معيَّنة، بل في رحلته إلى صقلية. لقد اطلَع الشيخ على مسائل الصورة والتمثال في أوروبا، إذ يميِّز الصور بعد معينتها بين ما هو مرسوم على الورق، والنسيج، واللوحة. كما عرِف الفلسفة الأوروبية، ومدى التقارب بين الشعر والرسم. وقد عرِف أيضًا مدى الحاجة إلى الصورة والتمثال والآثار. فقد أصبح الفن عند الشيخ محمد عبده “إبداعًا” بدلًا من مضاهاة خلق الله وَفْقًا للخطاب الفِقْهي. فقد رأى في الرسم والتمثال، تمثيلًا للانفعالات النفسية، والأوضاع الجسمانية، وهو ما يُعَدُّ فائدة محقَّقة، لذا لا يكون محرَّمًا أو مكروهًا. إن نظرة محمد عبده إلى الفن هي مختلفة، فجعل الكائن المُصوَّر “كائنًا منظورًا إليه” وهو كائن حامل لقوى نفسانية وبيولوجية بدلًا من “نطفة خلق”. أما بالنسبة إلى حديث “عقاب المصوِّرين” فقد تطرَّق محمد عبده إليه انطلاقًا من سياقه التاريخي، أي إنه في زمن الوثنية حيث إن حيازة الصور وإنتاجها بغية اللهو وهو ما يرفضه الدين، والتبرُّك وهو أحد أسباب مجيء الإسلام. فالهدفان قد اندثرا منذ زمن، لمصلحة “الفائدة” من تصوير النبات والشجر وما وُضِع في حاشية المصحف، والسور، وهذا ما أجازه العلماء لما فيه من فائدة؛ كذلك بالنسبة إلى تصوير الأشخاص. ويرى داغر أن “الفائدة” أصبحت البوصلة لدى محمد عبده في توجيه الفُقَهاء نحو إباحة الصورة، لاسيما الفائدة العلمية التي يوفِّرها التصوير، ومن دون أي ضرر قد يلحق بالدين عقيدةً وعملًا. ويرى محمد عبده أن فات الناس فوائد عدَّة لعدم حفظ الصور التاريخية؛ كحال بقايا العملات التي مدَّت الدراسات بمعطيات تاريخية كثيرة[49].

6- مراجعة داغر للخطاب الفِقهي بعامة

ينتقد داغر دراسات “فِقْه الصورة” من ناحية عدم التطرّق إلى سياق الأحاديث التاريخي، وإلى السبب الموجب لهذه الأحاديث؛ لذا يتطلّب البحث الموضوعي تقسيمها إلى مجموعات. بالإضافة إلى هذا الخطأ المنهجي، اعتمد الباحثون على الآحاديث النبوية من دون التوقف عند القرآن.

ويعود داغر إلى البحث في مصطلح “الصور” في القرآن، بحسب ما توصَّل إليه في “مذاهب الحسن: قراءة معجمية-تاريخية للفنون في العربية”: ورد المصطلح في أربعة مواضع بدلالات مختلفة أهمّها “الجنين قبل مولده” و”الله بوصفه خالق البشر”، وهي دلالات لا تهتمّ بالناحِيَتَن المادية والفنيَّة. واستكمل داغر ما بدأ به مع “الإسلام والفنون الجميلة” لمحمد عمارة، فلحظ أن المؤلِّف توقَّف عند سور قرآنية، أهمها سورة الأنبياء الخاصة بالاعتقاد الوثني، وبتطهير مكّة من الأنصاب والمعبودات الوثنية. وورد مصطلح “تماثيل”[50] في سورة سبأ الآيتَيْن 12-13 بمعنى أنها نِعمة إلهية اكتسبها الإنسان، فصنعها بإذن ربِّه، وَفْقًا للمؤلف نفسه؛ وفي سورة آل عمران الآيتين 48-49 بالمعنى ذاته. انطلاقًا من هذه التفاسير، يرى عمارة أن القرآن لم يتبنَّى موقفًا موحدًا تجاه الصورة والتماثيل، مما يُبعِد أي حكم مطلق نحوها، لاسيما حكمًا معاديًا تجاهها، مما يعني ترك الأمر للمقاصد، والغايات، والنتائج. والمقصود بذلك هو كيفية استخدام الصورة أو التماثيل: إذا كان استخدامها لإظهار براعة الإنسان، والجمال، وتخليد القِيَم، والمعاني فتكون مُباحة؛ أما إذا كانت تدعو إلى الانحراف عن الإيمان بالله، وإلى الشَركِ به، فتكون محرَّمة. لذا، اقتصر التحريم على المعبودات الوثنية دون غيرها، فتكون بذلك الصور والتماثيل مع عمارة نِعمًا الهية وَفْق نصوص القرآن[51].

يُقسِّم داغر الأحاديث التي تتضمن موضوع الصورة إلى أنواعٍ أربعة، أولها “تحطيم التماثيل وطمس الصور”؛ ثمَّ “تحريم التصوير بسبب مضاهاة خلق الله”؛ ويعقبهما مجموعة “كراهية الدخول إلى بيت فيه تصاوير وغيرها”؛ وآخرها “السماح بتصوير من دون غيره”.

ويدرس داغر المجموعة الأولى في العهد النبوي، فيلحظ أن حدَّها الأعلى تحطيم التماثيل والصورة المقصود منها العبادة الوثنية أو لدى أهل الكتاب. فهناك حديث رواه الشيخان والنسائي عن عائشة، ومحوره تصاوير اعتبرها الرسول “شرار خلق الله”، وقد وجدها في كنيسة حبشية؛ وآخر رواه مسلم عن أبي الهياج الأسدي عن علي بن أبي طالب يدعو فيه إلى طمس الصُوَر وتسوية القبر المشرف. بالإضافة إلى الحديثَين، هناك أخبار حول ما فعله الرسول بعد فتح مكة وردت في كتاب الأزرقي “أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار عن الأنصاب والصور”. ويتوصّل داغر إلى إن تفسير الأحاديث في سياقها التاريخي يحدِّد كراهية التصوير بمعبودات الوثنيين والمسيحيين. وقد رأى داغر أن هذه الأحاديث قد تمَّ وضعها في إطار مواجهة الإسلام بوصفه دينًا جديدًا لاعتقادات وقِيَم سابقة عليه وعاصرته. ويطرح داغر إشكالية جديدة حول الأحاديث، ومدى قابليتها أن تُقْرأ بشكلٍ يختلف عن ظروف نشأتها، لاسيما أن المجتمع الإسلامي باتت بيئته متغايرة عن ظروف الأحاديث عينها.

بالنسبة إلى مضاهاة عمل الخالق، فمجموعة الأحاديث المتمحورة حولها قد اتخذت صِيَغًا عديدة، وقد اختار داغر الصيغة التي اعتمدها الشوكاني، وهي متوفرة لدى البخاري ومُسلِم؛ أي “يا عائشة، أشدُّ الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهون خلق الله”. ويرى داغر أن الحديث لا يُحدِّد أن المصوّرين هم الذين يضاهون عمل الله في خلقه. فالصيغة المُعتَمدة تخصُّ الوثنيين الذين يعتقدون أن “يخلقون أرواحًا” أو أن في الشجرة روحًا. ويذهب داغر نحو صيغة أخرى للحديث عينه وهي: “أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يُضاهون خلق الله، أي المصوّرين”، فيرى إضافة على الحديث لتفسيره، لذا فقد لا يكون قد ورد في الحديث “بالضرورة”. ويستكمل داغر تفسير الحديث بأن الحديث بهذه الصيغة قد حصر الذين “يُضاهون خلق الله” بالمُصوّرين وحدهم، وهم –وَفْقًا له- “فئة تعمل في صناعة الصور، أي في معبودات العهد الوثني”. انطلاقًا من الصيغَتَين للحديث، يجد داغر أن المصوّرين غير مقصودين فيهما، بل من يُنتِج الصُوَر للعبادة اعتقادًا منه أن فيها روح. كما أن مضمون حديث “مضاهاة عمل الخالق” متوفر في حديث آخر يرد عند البخاري، والترمذي، والنسائي نقلًا عن ابن عباس: “من صوَّر صورةً عذَّبه الله يوم القيامة حتى ينفخ فيها الروح وما هو بنافخ”؛ وحديث عن ابن عباس ورد عند البخاري ومُسلِم: “كلُّ مصوِّرٍ في النار يُجعَل له بكل صورة صورَها نَفْسًا تعذِّبه في جُهنَّم”. وبعد أن عرض داغر حديث “مضاهاة خلق الله” ويدور في فلكها من أحاديث، يجد أن أساسها حديث واحد من ناحية أن تطال الوثني، وما يصنعه من صور للعبادات، واعتقاده بأن فيها روح أو أنها آلهة، ولو تعدَّد مصادر الأحاديث المذكورة، أي ابن عباس، وعائشة، وابن عمر. ويخلص داغر، في هذه المجموعة، إلى إنها غير معنيَّة بالتحريم الديني بصورة مباشرة كحال المجموعة السابقة، بل تنتمي إلى “دعوى الوعيد” بتنبيه سامعيه لاسيما المصوّرين على مصيرهم يوم الحساب، ويصفها داغر بأنها “أشبه بالحُكم الفِقْهي المُسبَق لمن قد يخرق هذا التحريم”. والمقصود بهذه الأحاديث هو التشديد على الدعوة إلى الإسلام واستخدام حُجَج حول أُسُسِه. فهي أحاديث لا تطلَّب فعلًا تجاه عاصيها بل تكتفي بالتنبيه والتحذير يوم القيامة.

أما المجموعة الثالثة تتمحور حول امتناع الملائكة عن دخول بيت فيه صورة، وهي واردة عند البخاري، ومسلم، والترمذي. كما أن هناك صيغة أُخرى للحديث واردة لدى المصادر عينها، ونقلًا عن أبي طلحة: “إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه تماثيل”. ووجد داغر صِيَغًا أُخرى للحديثَيْن تُظهِر كراهية تجاه التمثال، والكلب، والصورة؛ أكانت الملائكة أم الرسول نفسه: لم يدخل الرسول إلى بيته لأن عائشة قد اشترت نمرقة فيها صورٌ ليقعد عليها ويتوسَّدها. وهناك إضافة على الحديث وهي قطع النمط إلى وسادتَيْن وحشوهما ليفًا، فلم يَعِبْ الرسول هذا السلوك. ويُحلِّل داغر الحديث إذا كان كراهية للصنيع الفنّي أكان صورةً أم تمثالًا؛ أو أن الكراهية تخصُّ الاعتقاد العبادي الوثني وحده؛ أو أن هذه الكراهية محصورة بالملائكة ولا تطال البشر؛ أم على الملائكة والبشر معًا أن يحطِّما التماثيل والصور كما فعل الرسول مع نُصُب مكَّة. ثمَّ يحاول داغر وضع هذه الأحاديث في سياقها التاريخي-الاجتماعي، أي من ناحية اقتناء بيوت الوثنيين صورًا وتماثيلَ المعبودات؛ فيكون المقصود من الأحاديث استكمال إستراتيجية الرسول التي تقضي بإنها الحالة الوثنية الفردية بعد اندثارها اجتماعيًا. ويستند داغر، محتذيًا بمحمد عمارة، إلى حديث رواه مسروق عن الأعمش؛ وقد ورد عند البخاري ومُسلِم، مفاده أن دار يسير بن نمير تحتوي على تماثيل، فتمَّ تذكير صاحب الدار بما قاله الرسول عن عذاب المصوّرين.

أما المجموعة الأخيرة، فهي تسمح ببعض التصوير وَفْقًا لابن عباس، وقد ورد لدى البخاري ومُسلِم: “فإن كنت فاعلًا فاجعل الشجر وما لا نَفْس له”؛ أي أن التصوير غير مُحرَّم بكليَّته، فإن أصرَّ طالبه فعليه أن يُصوِّر ما لا روح فيه. فهذا فيه فَرْض طريقة معيَّنة غير التصوير العبادي. أما سياق الحديث، فهو أن مصوِّرًا من العراق أتى ابن عباس ليسأله حول استمرار عمله كمصوِّر أو عدمه. فيُفَسِّر داغر أن ابن عباس يدعو المصوِّر أن يتوقف عن ممارسة كل ما له علاقة بالعبادة الوثنية فقط. ولحظ داغر أن مصدر الحديث هو ابن عباس بناءً على اجتهاداته، واستنتاجاته من الأحاديث النبوية، وليس الرسول نفسه[52].

القسم الثالث: تلقّي الفن

بحث داغر في تلقّي المغارِبة للصورة انطلاقًا من تقارير المبعوثين، وغيرها من المدوّنات التي تندرج ضمن ما يدعوه بـ “أدب الرحلة”، والذي من خلاله استطاع معاينة ردَّة فعلهم تجاه الفن الأوروبي، وأهمّها القبول السلبي[53]. ولم يكتفِ بدرس تلقّي المغارِبة للفن، بل بحث في مدى قبول المسلم بتصوير الرسول ضمن علاقة الصورة بالعنف. لكننا رأينا أنه من الأفضل إدراج مسألة تصوير الرسول ضمن تلقّي المسلم للفن. فماذا عن أدب الرحلة؟

أولًا- أدب الرحلة

تطرَّق داغر إلى أدب الرحلة للبحث في تلقّي الدبلوماسيين  والمبعوثين للفنون الأوروبية، وقبولهم بها. تاريخيًا، إن سبب الرحالات المغربية هو سياسي، إذ إنها لا تعدو أن تكون بعثات قديمة سابقة على السفارة لاسيما أن المبعوث ينتقل بين المدن الأوروبية، ويناقش أفرادًا مختلفين بشكلٍ نادرٍ لذا يستبعد داغر أن تشكل البعثات القديمة لقاءً حضاريًا بالآخر. ويرى الباحث أن ازدياد حركة البعثات وما رافِقْها من نظرة إلى أوروبا، وتمدُّنِها، وفنونها، وتطوّرها، له علاقة بالقوّة الأوروبية العسكرية الضاغِطة على المغرب العربي. فقد أدرك السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان بعد وفاة السلطان مولاي عبد الرحمان عام 1859 أن التحضير لأي حرب ضدَّ أوروبا، بعامةٍ، وفرنسا وإسبانيا بخاصةٍ، بات مستحيلًا فما عليه سوى الرضوخ إلى الدبلوماسية. فقد شهد “المخزن” احتلالًا فرنسيًا للجزائر، وتحضيرًا إسبانيًا لغزو شمالي المغرب انطلاقًا من سبتة ومليلية، ثم غزو تطوان. وتوفّرت الدبلوماسية بتأسيس سفارة مغربية في فرنسا على رأسها السفير إدريس بن محمد العمراوي وأُخرى في إنكلترا برئاسة عبد الرحمان الفاسي ومحمد الشامي ورِفقة الأديب محمد الطاهر، فانتهت الحرب الشاملة، واستُبدِلَت بإبرام المعاهدات وتوقيع عقود تعاون عسكري واقتصادي. وتمَّ تدوين معالم التمدُّن الفرنسية عبر مشاهدات الأديب العمراوي ومعايناته في “تحفة الملك العزيز بمملكة باريز” أثناء رحلته إلى فرنسا ومجتمعها ودولتها برئاسة نابوليون الثالث. فوصف الأديب المذكور قوانين التجارة والصناعة، والمُنتَجات الفرنسية الحديثة، من دون أن يهمل أي مقارنة بين أحوال البلاد الفرنسية المتطوِّرة ومجتمع المغرب التقليدي. كذلك وصف عبد الرحمان الفاسي في “الرحلة الإبريزية إلى الديار الإنجليزية” ما رآه من مؤسسات إنجليزية ومبانٍ عدَّة كدار السلاح، والطباعة، والسِّلَع، وأخبار السلك والتلغراف، والصِحافة، وتكوين الجيش، وحديقة الحيوان، ومحطة سكَّة الحديد، ومعمل الزجاج. وتطَرَّق الفاسي إلى الصناعات الحديثة كبابور البحر، وبابور البرّ وغيرها من الصنائع واصفًا إيَّاها بالدهشة وبنوع من الحسرة عند مقارنتها بصناعات بلاده[54]. ومن أجل التعمُّق في مواقف المبعوثين، اختار داغر نماذج عن البعثات الدبلوماسية وتوسَّع فيها لاكتشاف ردَّة فعل الدبلوماسين المختلفِة تجاه الفن الأوروبي، وأهمُّها أبو القاسم الحجري، والصفَّار، ومحمد بن عبد السلام السايح. فماذا عن الحجري؟

1- رحلة أبي القاسم الحجري

تاريخيًا، يرى داغر أن أبا القاسم الحجري، الهارب من محاكم التفتيش الإسبانية، هو من أوائل المبعوثين المغاربة وقد أرسله السلطان زيدان إلى بلدان أوروبية عديدة. أما إحدى مهامه فكانت إعادة حقوق الموريسكيين بعد طرد الملك فيليب الثاني لهم من الأندلس[55]. وما يميّز رحلة الحجري من الرحلات اللاحقة، هي قد تندرج بين البعثة والزيارة من ناحية أن الأولى ترتبط بمهمَّة محدَّدة، فيما الأخرى تختص ببرنامج تعدّه دولة أوروبية لعرض مدى تمدّنها أمام السفير المغربي. ولكن لا يهتمّ داغر بتعيين رحلة الحجري، بخاصةٍ، ورحلات المغارِبة، بعامةٍ؛ على قدرِ معاينة الزائر أو المبعوث للفن الأوروبي المغاير عن المغربي. والاهتمام بالمعاينة انطلاقًا من الرحلات يتطلَّب معطيات كثيرة، وبحث واسع في علاقة المخزن المغربي بالسلطات الأوروبية وهي علاقة تتمثّل بالضغط على المغرب في القرن التاسع عشر وما بعده وإقامات الأوروبيين في المغرب والبلاط، أكانوا بعثات، أم موفَدِيْن، أم خبراء عسكريين. وقد تكون أهداف الزيارة عرض المسائل العالِقة، وإغراء المبعوثين المغاربة لميلهم نحو التقدم الحضاري. وكلّ هذه الأهداف هي سياسات ضغط تمارسها الدول الأوروبية بأشكال عديدة، منها الشكل المُلَطَّف الخاص بالدبلوماسية والإراء. من هنا، فإن البحث في مدوَّنة الرحلة يستلزمه درس معاينة الفنون من دون التطرّق إلى النواحي الأخرى. والجدير بالذكر أن أدب الرحلات في علاقة المغرب بالأوروبيين لم يقتصر على ما دوّنه المغارِبة: هناك كتابات عديدة أعدّها أوروبيون في هذا المجال كوصف رحلة توماس بيلو الذي أَسَرته قراصنة وتمَّ نقله كعبد إلى مكناس وهو يبلغ الحادي عشر من عمره، وقد قضى ثلاثة وعشرين عامًا في الأسر حتى فرَّ عائدًا إلى بلاده، ثم أعدَّ وصفًا للأحداث منها المعارك بين مملكتَي فاس ومراكش بين الأعوام 1720 و1736.

وجد داغر أن مدوّنة الرحالة المغاربة قد شملت فنونًا عديدة كالمسرح، والغناء، والتماثيل، والصورة. فكان مفروض على المبعوث أن يقبل بالصورة وببقية الفنون، بعكس المغربي الذي يعبّر صراحةً عن مدى كراهيته للتصوير كما وصف المستشرق أوجين دولاكروا كرههم لمهنة التصوير عبر رشق المغاربة له بالحجارة لدى التصوير علانية، فيما أن المصوِّر إدمون دوتي لم يلاقِ أي معارضة عند تصويره فوتوغرافيًا لأن المغاربة يجهلون حينذاك آلة التصوير. واستوقف داغر موقف المبعوثين نحو التفاوت بين النظرتَين المغربية والأوروبية نحو الفن من ناحيتَي الحكم والاستعمال، وبين طبيعة الإنتاج الفني في البيئتَيْن؛ ثمَّ تمَّت الإشارة إلى هذا التفاوت في نهاية القرن التاسع عشر عبر شعور مغربي بالتأخر مقارنةً مع التقدّم الأوروبي. ولِفَهْم الاختلاف في مدوّنة الرحّالة المغربية، يقارن داغر بين ما دوّنه السفيران محمد بن عثمان المكناسي في القرن الثامن عشر وإدريس بن محمد بن إدريس الجعايدي بعد قرن من الزمن: زار الأوّل إسبانيا لعقد صلح ومهادنة مع الملك كارلوس الثالث، بالإضافة إلى إطلاق سراح أسرى مسلمين، وذلك بعد فشل المغارِبة من استرداد الأندلس. وأثناء رحلته، دُعِيَ إلى “الوبرة” opéra، فكان واجبًا عليه حضورها من دون التمعّن فيها، أو النظر إليها، أو الحكم عليها. فقد اكتفى السفير بوصف حفلات الإسبان، وحالة البزخ التي يعيشونها، كذلك الأبنية، والشوارع، والأرصفة قائلًا “أعادها الله دار الإسلام”. وهذا الجوّ العدائي لم يمنع السفير من وصف التمدُّن الإسباني ونِتاجات أهلها كالورق، وسك النقود، والساعات، والمعاصر بحسب “الإكسير في فكاك الأسير”. وبمقارنة مدوّنة السفير الأول بالآخر، تبقى معايناته ضمن مجال الحرب الشاملة، أما السفير الثاني فوصف بشكلٍ تفصيلي للعروض الفنية كالتياترو وتِقْنِيَّات الإضاءة. فيجد داغر أن خطاب السفير الأوّل هو تحقق من تأسيس كيان اجتماعي جديد مغاير  طالبًا استعادته كما كان الحال سابقًا[56].

2- رحلة السفير الصفّار

يستكمل داغر بحثه في أدب الرحّالة، وقد اختار “صدفة اللقاء مع الجديد: رحلة الصفّار إلى فرنسا” للبحث في نظرة السفراء إلى المجتمع الأوروبي، فلحظَ أن السفير الصفّار يدوّن ما يراه للمرة الأولى بدهشة وإعجاب، من ناحية؛ واستنكار، من ناحية أخرى. ويعود داغر إلى سيرة السفير للتعمّق في ما أتى به ليجد أنه كان مدرِّسًا ثمَّ تحوَّل إلى كاتب لدى السلطان وصدرٍ أعظم خلال عهد مولاي عبد الرحمن. وكان له دور في تنصيب خلف سيدي محمد بن عبد الرحمن. أما بالنسبة إلى معاينة ما يراه خلال رحلته، فيجد داغر دقّةً في وصف الأمور المُستَحْسَنة والمُستَقبحة كالعادات، والسلوكات، والبيوت، والقهاوي، وديار الفرجة، وفوّارات المياه، وتماثيل آدميين في الساحات، والمسارح. فمنها أمور لا تتفق مع قِيَم المسلمين، وهو ما يفسِّره داغر بأنه “قبول به” أو “قبول الاختلاف”. أما اهتمام الصفّار فقد انصبَّ على المسارح، والعروض الفنية، والتياترو، والكوميدية، والأوبرة: فهي محال فرجات الأوروبي فيها مستغربات اللعب ومضحكاته، وحكايات عن حروب نادرة ينتفع منها المشاهد بالعلوم. وبهذا الموقف يتّفق الصفَّار مع الطهطاوي وخير الدين التونسي على التهذيب والتنشئة كدورَين للمسرح. فقد شاهد المسرح لأكثر من مرّة خلال فترة مكوثه القصيرة  في أوروبا. ووصف جمهور المسرح بأنه أكابر القوم، فقد تراوده العائلات، ويخصص الملك مكانًا للمسرح في قصره يدعو إلى اللعابين والمشاهدين. ويستشهد الصفّار بحديث عن عطاء بن السائب يقول فيه أن سعيد بن الجبير يقص على الحاضرين حتى يُبْكيهم، ثمَّ يُضحِكهم ويعيد إليهم آمالهم. ويرى داغر أن السفير يحاول الجمع بين القصّ العربي-الإسلامي والمسرح الأوروبي من أجل تبرير القبول بالمسرح، فيما تغيب الصِلة بينهما واقعيًا. كما جرى إطلاق تسمية “رواية” (الخاصة بالقصّ) على المسرح عند العديد من الكتّاب كحال محمد الحَجَوي.

ولحظ داغر في نصوص الصفَّار صفات تلحق بالعروض الغِنائية والمسرحية، وبخاصةٍ “الغريبة” و”العجيبة” وهي مصطلحات تدلّ على “أكثر من قبول” بالعروض عينها، وعدم استقباحها على الرغم من أنه قد شاهدها للمرَّة الأولى. بالإضافة إلى استحسان المسرح، يرى داغر أن الصفَّار قام بوصف الإعلان عن عروضه في الجرائد وعن توقيتها، والجهود المبذولة من أجل كتابة الأدوار والحوارات، واستخدام اللغة، وبناء المشهد، وهندسة الخلفيات، وملابس اللاعبين، والزينة، والإنارة، وكل ما يُسهِم في جعل المشاهد يعتقد بأن ما يراه حقيقة، كما في تمثيل معركة إشبيلية. ويتوصَّل داغر إلى فكرة “الفن أشبه بالواقع” إذ إن المفارقة بين “الفن” و”الصواب” أصبحت غير مُستَحْسَنة، كما كان حال الشعر لدى العرب الذي يقبل الكذب: فالكتابات غير الشعرية سعت إلى صحة الأمور وتجويد اللغة معًا بتحسين الواقع ومن دون إبداله. بالإضافة إلى علاقة الفن بالواقع، رأى داغر أن الصفَّار قد استخدم مصطلحات جديدة غير معهودة في الخطاب المغربي أي “اللعب” و”اللذة”، وهي دلالة أخرى عن علاقة بين فعلَي تلقّي الفن وإنتاجه، وهي تختلف عن سابقاتها وتتضمَّن علاقة الفِقْه بالفن[57].

بحث داغر في نصوص الصفّار، فوجد عنده، بالإضافةٍ إلى اهتمام بالمسرح، كلامًا عن الصور وفي أكثر من سياق، كالبناء التخيُّلي التاريخي، وديكورات المسرح… وقد رأى داغر أن الصفَّار يستخدم مصطلح “صورة” ومشتقَّاتها للدلالة عن مشهد عَرَضي كما في “لم يتغيّر التصوير”، و”ثمَّ أُرْخِيَت الستارة وغير التصوير”. ويرى داغر حركة انبناء طالت الخطاب المغربي، وهي عبارة عن علاقة مُستَحْدَثة تضمّ الحقيقة مع الفن انطلاقًا من المسرح، وتتمثَّل العلاقة المُستَحدَثة بعلاقة خشبة المسرح مع الواقع الخارجي، وهي تجمع بين التخيُّل والمعاينة. من هنا، أصبح للفن دور إظهار ما هو عليه وما يُمكن أن يكون عليه؛ مُستخدِمًا التِقْنِيَّات والتخيُّل. فالفن قادر على جمع عصور مختلِفة ومدن عديدة في “كتاب مشهدي يقع تحت النظر”. وهذا الجمع تعجز عنه أي وسيلة نقل يستخدمها الراكب للانتقال من مدينة إلى أُخرى. كما أن الفن يجمع أيضًا بين المُتعة أو اللذة، من ناحية؛ والمعرفة والفائدة، من ناحية أُخرى؛ وهو ما خَرَج عن إطار الفِقْه نحو أحكام لم تتشكّل بعد بصورة نهائية.

3- رحلة السفير محمد بن عبد السلام السايح

توقف داغر عند مدوَّنة السفير أثناء رحلته إلى فرنسا للتفاهم معها من أجل تأسيس مسجد في عاصمتها، وذلك عام 1922 في ظلّ “الحماية”. فوصف فيها ملهى “الكراند تياتر” على أنه أهم ملهى في العالم من ناحية بنائه، وزينته، وزخرفته. كما وصف “المرسم” (وقد يكون المسرح) في الملهى حيث يحضر الممثلون والممثلات ليلعبوا أدوارهم بأقمشة مزركشة، وتمويه الأوجه بالأصباغ وباللُحى، وتحيط بهم الإضاءة الجذَّابة، بالإضافة إلى الموسيقى التي تطرب سامعها، حتى يخال المرء نفسه في الجنَّة. كما ركَّز السايح وصفه على تنظيم الشرطة الفرنسية للمسارح حيث تزدحم الحشود لحضور المسرح. ثمَّ يصف السايح استماع الفرنسيين للفونوغراف، وكيفية طلب أغنية معيَّنة، ودفع النقود للاستماع، ووضع السمّاعة في الأذن، حتى أن الموسيقى المغربية متوفِّرة عندهم. وبعدها، يذكر السايح الصورة الفوتوغرافية، وكيف استُقْبِل وفده، وركوبه الأتوموبيل كمركب وحيد للتجوُّل[58].

4- مواقف المبعوثين تجاه الفنون

يبحث داغر في مواقف المبعوثين تجاه الفنّ، ومنها الفن المقدَّس، لاسيما تماثيل صلب السيد المسيح، والملائكة والأنبياء. فالسفير المكناسي ثار على صورة الصلب وأنكرها أثناء زيارته لكنيسة في إشبيلية كانت مسجدًا في ما مضى، حتى قال للقيّم “هذا محض كذب وافتراء” بسبب التناقض بين رواية القرآن حول صلب السيد المسيح وما يراه في الفن، فإذًا لا يهتمّ المكناسي بجوانب الفن. وتعرَّض الصفَّار للموقف عينه، فنظر إلى المصلوب معتبرًا إيَّاه مجرمًا محكومًا عليه بالصَلِب، فيفترض داغر أن الصفَّار قد يكون قد تناسى أي حقيقة دينية خاصة بالمصلوب أو أنه قد خفَّف من عدوانيته تجاه الصليب. أما المبعوث العمراوي فقد قبل بهيئة الملائكة الفنيَّة على أنها صور يَعتَقِد المسيحيون بأنها ملك. فإذا تباينت المواقف حول تماثيل صلب السيد المسيح وصوره، فإنها متشابهة في ما خصَّ تصوير بقية الأنبياء: لم يحبّذه المكناسي بالضرورة مما اعتبره داغر “تخفيفًا لموقف كراهية التصوير” في الفِقْه الإسلامي. وهذا التخفيف يطال الصور ذات الطابع الفنّي بالإضافة إلى الطابع الديني، كما هو حال السفير الصفَّار الذي لا يستقبح الصورة، لكنه يعاينها في البيوت والكنائس والمسارح، ويصفها بدقَّة، ولو كانت موضوعاتها يُحرِّمها الفِقْه المغربي، أي أشخاص الحيوانات والتماثيل[59].

أما بالنسبة إلى الصورة والتماثيل، يقوم داغر بالتمحيص في الأوصاف التي يستخدمها المبعوثون في نظرتهم نحوها، فيرى أنها غير حيادية، إذ يستثيرها المنظر والمكان، بدليل أن المبعوث يولي عناية شديدة بوصف الصورة، في حين أن الرحلات السابقة تتضمَّن إكراهات. ويرى داغر “لزومًا” لدى العين الناظرة بوصف العالم الجديد الذي يحيط بها، وهو “عالم بات على درجة مزدوجة من العرض ومن العلانية”. وهذا اللزوم أدَّى إلى بناء “فن الشبه” أي أن يكون المسرح أو اللوحة بديلًا عن الواقع، ويرى داغر في هذا العَرْض أمرًا مستجدًا لم يعرفه المجتمع الإسلامي كفن يمثّل الخارج: فالقصائد العربية قليلة التي تختصّ بالوصف والسرد، كبخلاء الجاحظ، ومقامات الهمذاني، وصُوَر الواسطي وهي لا تبلغ مستوى الأوروبي من ناحية محاكاة المجتمع والتاريخ بدليل دهشة الرحّالة العرب تجاه الفن الأوروبي لاسيما الصورة. وسبب هذه الدهشة هو التباين الحاصل بين ثقافة السفير وما يراه في أوروبا وهو تباين لا يلحظ المضاهاة مبدأ الأساس لتحريم الصورة في الفِقْه. ويستدلّ داغر على ذلك بمثل لعب مسرح في المجتمع الإسلامي حينذاك: يُجري اللاعبون حوارات بعضهم مع بعض، أو حوارات فردية مما يعرِّضهم للإحراج الاجتماعي لاسيما المخالطة بين الجِنسَيْن فوق الخشبة أو بين المشاهدين من دون التطرّق إلى المضاهاة أو محاربة الوثنية. كما أن المبعوث لا يستقبح الفن أو يستحسنه انطلاقًا من فتاوى النوازل، بل يكتفي بـ”حصول محاكاة” بين ما هو معروض على المسرح والواقع، مما يعني أن مبدأ المضاهاة لدى الحد الفِقْهي لم يعد يناسب ما هو معروض في الصالة أو في القصور، وينتج منه سقوط التحريم السابق[60].

وعلى العموم، إن عملية تلقّي المبعوثين المغاربة للصنائع الأوروبية بدأت بالخشية من الأوروبيين، وصناعاتهم، وفنونهم؛ ثمَّ تحوَّلت إلى فضول، وبعدها قبول بها ولو أنها محرَّمة في مجتمعهم التقليدي. أما بحث داغر فيقوم على الفنون وخصوصًا اللوحة، فقد تقبَّلها الرحَّالة ولو أنها محرَّمة، وظلَّت محرَّمة فِقْهيًا لأن الفُقَهاء قد حرَّمها من دون معاينة لها[61]. وبعد البحث في أدب الرحلة، ماذا عن القبول بتصوير الرسول؟

ثانيًا- القبول بتصوير الرسول

لم يبحث داغر في مسألة تصوير الرسول على أنها تندرج ضمن تلقّي المسلم أو رفضه لها، بل خصَّص الباحث لها الفصل الأخير من كتابه “بين الفِقه والفن: النِزاع على الصورة” على أنها مسألة مستقلة بذاتها، عمومًا، لكنها ملحَّة وبالغة الأهمية من ناحية طرحها. فهي مسألة تتعلَّق بالتنافس بين الحضارات حتى أضحت الصورة “علامة صراع” وَفْق داغر[62]. لكننا ارتأينا أن نموضعها ضمن تلقّي المسلم للفن، خصوصًا أنها تلائم العنوان العام المطروح. وعلى الرغم من موضعتنا للمسألة خارج السياق الذي طرحه الباحث، فإننا سنحفظ الترتيب العام لها من أجل فَهْم أفضل لها، بخاصةٍ؛ ومن أجل تفسير عملية تلقّي المسلم لتصوير الرسول، استحسانًا كان أم استقباحًا، بعامةٍ. إلَّا إن تحليل تلقّي المسلم لتصوير الرسول لن يمنعنا من التطرّق إلى الإنتاج الفنّي، لاسيما “معراج نامه”، متخطيًا الذائقة الإسلامية إلى الفنانين مبدعيها.

1- الصراع على الصورة

يرى داغر أن الصورة بمرجعية إسلامية شكَّلت علامة صراع دموي في العالم، وذلك من دون أن تَظهر أسباب الصراع المذكور بشكلٍ جليّ. ويسأل داغر عن حصر هذا الصِراع بتصوير الرسول أو بالسخرية منه، أم أن هناك أسبابًا أُخرى مخفية. انطلاقًا من هذا الصراع، يطرح داغر مسائل أُخرى خاصة بِحُرِيَّة الفنان في التعبير في مقابل القوّة الرقابية الاجتماعية التي تمارسها جماعة تعتقد بأن لها السُلطة بتحديد هُويتها. كما يُضيف إلى المسألة المذكورة مدى اتساع هذا العنف ليتخطَّى نطاق الفن أو ينحصر فيه، ومسألة علاقة العنف بوسائل الإعلام الإلكتروني من ناحية سرعة تناقل الصورة فيزيد من حدَّة الصِراع. لكن هذه الأسئلة تخرج عن إطار بحث داغر في “بين الفِقْه والفن: النزاع على الصورة”، لذا كان عليه أن يغيِّر شكل الأسئلة المطروحة لتناسب موضوعه، كنهي الفِقْه تصوير الرسول أو التحريم يطال التصوير بموضوعاته كافة؛ والاتفاق أو الاختلاف بين المذاهب الفِقْهية حول الصورة. فالأسئلة المطروحة يتفرَّع منها أسئلة أُخرى قد تُسهِم في التعليل والطرح، كالقِسمة الحضارية شرقًا وغربًا والاختلاف في موقف كلٍ منهما نحو الفن والصورة يُعزِّزان العنف بين الجانبَيْن؛ أو أن الأحداث مُفتَعَلة لكي يتمكَّن مُرتَكبوها المخفيُّون من “التسيُّد على جماعتهم” كما فعلوا ذلك سابقًا في قضايا أُخرى كالحِجاب مثلًا؛ أو أن هناك شعورًا باليأس تجاه العولمة التي تضغط على الكيانات والاعتقادات فتُلْغيَ حدود كل كيان منها وعلاماته.

بعد أن وضع داغر أسئلة عديدة ومتشعِّبة حول علاقة الفنّ بالصراع الدموي والقوَّة، يعود إلى منشورات صحفية عام 2005 حول الأحداث الأمنية التي نَتَجت من رسوم ساخرة أصدرتها جيلاندس-بوستن Jyllands-Posten في العام ذاته بعد تحدٍ قَبِله 12 رسامًا وقد أطلقه كاتب بأن لا يستطيع أحد أن ينشر رسوم تتصل بكتابه الذي صدر على أثر اغتيال ثيو فان غوغ في هولندا. وقوبِل نشر الرسوم بمظاهرة ضمَّت آلاف المسلمين في كوبنهاغن، وتهديد شاب لإثنَين من الرسَّامين بالقتل، ثمَّ تهديد باكستان بقتل الرسَّامين، فتظاهر المسلمون في كافة أرجاء العالم. ويحلِّل داغر أسباب هذا الصراع بأنها “هبَّة عولمية عنيفة” وأَسْهَمَت وسائل الذيوع في انتشارها. كما أن هناك أسبابًا محليَّة سياسية شكَّلت دافعًا لدى المتظاهرين، وسرعان ما تحوَّلت إلى عالمية. فقد أشار داغر إلى دراسة لجريدة لو موند الفرنسية الصادرة في 4 شباط 2006، رأت أن الهدف من إنتاج الصور هو سياسي وحزبي، وهو “استثارة جمهور المسلمين” من أجل تعزيز جوّ التشدُّد نحو المهاجرين المُسلمين. كما أشار داغر إلى موقف جريدة “دي فلت”الألمانية التي نشرت الرسوم الساخرة، وقد علَّقت في افتتاحيتها بأن الاعتراضات المسلمة هي خبيثة لأنها لم تفتح فاها عندما بثَّ التلفيزيون السوري أكثر من دراما تُظهِر أن الحاخامات هم أكلة لحوم بشر.

ويضيف داغر أن “دوافعَ جماعيةً” قد وجَّهت سياسات الغربيين، من ناحية؛ والمسلمين، من ناحية أخرى، للتضامن والتكافل ضدَّ عدوّ كل مجموعة خارجية، مما يؤكِّد أن الصراع يتخطَّى الفن والسياسة معًا. ولكن شذَّ عن هذا التضامن مواقف مختلِفة ولم يكن لها أثر سياسي أو إعلامي في مجتمعهم[63].

2- تصوير الرسول في التاريخ

يبحث داغر في صُوَر الرسول المُتوَفِرة لدى حضارات غير إسلامية، ووَفْق المدوّنة الإسلامية؛ فيرى في “مروج الذهب ومعادن الجوهر” للمسعودي حوارًا بين قرشي وملك الصين حول صُوَر الأنبياء، وبينهم صورة الرسول على الجمل بِرفقة أصحابه. وكذلك يرى في “السيرة في الفن الإسلامي” للدكتور زكي محمد حسن تصاوير مأخوذة من مخطوط “كتاب جامع التواريخ” للوزير رشيد الدين، وموضوعها السيرة النبوية، بالإضافة إلى تصوير فارسي وموضوعها المعراج. وهناك تصاوير أُخرى للرسول ووجهه غير محجوب بعكس التقليد الفارسي لرسم المذوَّقة ويُغطّى وجه الرسول فيها؛ مما يدلّ على القبول بتصوير الرسول في آسيا الصُغرى وتركيا خلال القرن الرابع عشر، لينحصر المنع في المجال العربي فقط بحسب عبد الوهّاب المؤدب في “تمثيل الرسول أصبح محرَّمًا”. ويجد داغر أن ما توصَّل إليه الباحث المذكور هو صحيح للغاية، وقد يحتاج إلى تمحيص من ناحية التشدُّد في مسألة الصورة الدينية، بعامة؛ وصورة الرسول بخاصةٍ؛ وذلك في المناطق العربية شرقًا، وغربًا، وجزيرة العرب[64].

3- الرسول بين تصويره ووصفه الكتابي

يتحقَّق داغر من غياب أي نصّ يمنع من تصوير الرسول، لذا اختلفت التقاليد الدينية بين عهد وآخر، ومجال وآخر حول نهي تصويره أو إجازته. ويلحظ داغر أن الصور المُتوفِّرة عنه لا تشبه الرسول بل هي نتاج المخيِّلة بدليل أنها لم تستند إلى المتن الإسلامي التاريخي، كالأحاديث النبوية، والسيرة، والمغازي؛ وإلى موادها الكثيرة بما فيها من وصفٍ للرسول، ولهيئته، ومظهره، وملابسه، وحِليَته. فإذًا هناك فوارق بين الأخبار عن الرسول وتصويره، وقد لحظها بيت شعري من “الشمائل المحمدية والخصائل المصطفوية” للترمذي باعتباره أقدم الكتب التي تناولت شأن وصف الرسول. هذا البيت يدلُّ على حِفظ أوصاف الرسول بالكلام، وهو ما فُقِد عن النظر إليه حاليًّا. فقد توسَّع الكتاب المذكور بوصف هيئة الرسول من تسريحته حتى نعله، وبوصف سلوكاته، وملابسه، وسلاحه. ويعقب “الأنوار في شمائل النبي المختار” للبغوي كتاب الترمذي، لكنه أكثر توسُّعًا في الاستناد إلى عدد الأحاديث من كتاب الترمذي، إذ بلغ عددها 1275 حديثًا نبويًا. ويستهلُّ البغوي بمقدِّمة تَذْكُر أن بحثه صعب لوصفه “ما هو بعيد المنال”، وما ذلك سوى دلالة على أن صورة الرسول في ذهن المسلمين باتت أكثر علويَّة ومثالية ورافضة لأي وصف إنساني، وذلك في عصر البغوي[65].

4- البحث في “معراج نامه”

لتحليل تصوير الرسول من الجوانب الفنيَّة الخالصة، اختار داغر “معراج نامه” ليُظهرَ “أوجه مختلفة من العلاقة مع الصورة، والهيئة، والجمالية عمومًا” وليدرس صناعته، وفنيّته. فـ“المعراج نامه” هو مخطوط متوفِّر لدى “المكتبة الوطنية” في باريس، ويعود إلى القرن الخامس عشر، وقد أُنتِج في خراسان. أما أهميتَه تكمن في مخالفته للتقليد الإسلامي من ناحيتَي الدينية ورسم الآدمي. ويرى داغر أن المخطوط يلتقي مع مزوَّقات دينية متأخرة تخصُّ الرسول، وغيرها من المذوَّقات بموضوعات مختلفة كمصرع الحلّاج، وغيرها.

وقبل أن يستكمل بحثه في المخطوط، يشير داغر إلى بروز ممارسات متبايِنة بين الحقبات التاريخية المختلِفة حول التصوير، لاسيما أن الرسم لا يُعَدُّ من المسائل الدينية الإسلامية الأساس كحال الأيقونة في المسيحية. وبعكس الظاهرة الفنية المقدَّسة المسيحية، نهى الإسلام عن التصوير، واعتبره عملًا يُضاهي فعل الخالق، ويحاكِيه؛ حتى إن المباني الدينية الإسلامية لم تلحَظ أي صورة آدمية منذ نشأة الإسلام وحتى الآن. بالإضافة إلى المباني الدينية، يرى داغر أن سكَّ العملات العربية الإسلامية قد شهد ظاهرة تحريم التصوير أيضًا: في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، أصدرت الدولة الأموية دينارَين فيهما صُوَرٌ، وعقبهما دينار نُقِشَت فيه آية قرآنية من دون أي صورة مرافِقة لها. وبعكس العملة والمساجد، فإن نطاق عيش الخلفاء وأمكنة سكنهم لم تلتزم بقاعدة التحريم، لاسيما الحمّامات، والاستراحات الأموية، والأعمدة العباسية؛ حتى أضحت الصورة تقليدًا بلاطيًا مُستحسَنًا وضروريًا.

وبعد أن بحث داغر في السياق العام للمجتمع الإسلامي، لاسيما البلاط والمساجد؛ يعود إلى درس مخطوط “معراج نامه” المُتَرْجَم عن العربية، ليلحظ أنه يجمع إحدى وستين مزوّقة لفنانين بأساليب فنية مختلفة، تنتمي إلى أزمنة عديدة، وإلى مجالات ثقافية مغايِرة بعضها عن بعض أي عربية، وفارسية، وعثمانية. وأهمُّ واضعي المخطوط هما الشاعر التركي مير حيدر، والخطّاط مالك بخشي. أما أهمية المخطوط فتكمن في نَسبِه إلى البلاط الفارسي الذي ضمَّ نخبة من الشعراء، والفنانين، والعلماء، والموسيقيين. فمتطلِّبات الفن السلطاني جعلت الفن يقوم على قصيدة المدح، والحُلَّة الفاخرة، والسيف المحلَّى، والآنية النادرة. والمخطوط خاضع للتنافس بين الحكّام لاقتنائه[66].

يميّز داغر بين كتاب وآخر، من جهة؛ وكتاب ومخطوط، من جهةٍ أخرى؛ على الرغم من التداخلات في ما بينها. فمخطوط “معراج نامه” يعتمد على القرآن كسندٍ له مثل سائر المخطوطات الفنية. ويبحث داغر في علاقة القرآن مع المخطوطات، بعامة؛ ومخطوط “معراج نامه”، بخاصةٍ؛ انطلاقًا من صناعة الكتاب في المجال الإسلامي بعد تعرُّفه إلى حضارات مغايرة عنه كبيزطية، وفارس، وبلاد القُبْط؛ أثناء خروج المسلمين من شبه الجزيرة العربية. كان على داغر البحث عن لحظة تكوينية لهذا الفن. أما الدراسات المعاصرة اختارت درس الفن الإسلامي في المتحف؛ لذا رأى داغر أن التحليل يبدأ ما قبل لحظة وجود الفن الإسلامي في المتحف، وذلك بالعودة إلى القرآن كـ”بديل الوجود المادي الذي نقع عليه في المنظور الإغريقي-الروماني”. كما وجد داغر عَلاقةً تربط المسلم بكتابه -هي أوسع من إطار الديني الضيِّق- وأسَّسَت نظرة القارئ إليه، ثمَّ بَنَت ترتيبه في سُوَر، وآيات، وفقرات، وصفحات؛ وبعدها قامت بتحريكه لتمييز حروفه بعضها من بعض. ويسمّي داغر هذه الظاهرة بـ”كتابية العمل الفنّي المادي” لأن العمل يمتثل لشكل الكتابة ونَسَقها من اليمين إلى الشمال، وأُفُقي بتتابع الأحرف والكلمات، ونَسَق عمودي كالألف والميم. ويدرس داغر حسن الخطّ وهو مطلوب قبل الوضوح، وَفْقًا لابن مقلة الذي درس الحرف انطلاقًا من “حسن التشكيل” و”حسن الوضع”؛ أي “التوفية، والإتمام، والإكمال، والإشباع، والإرسال” في ما خصَّ التشكيل؛ أما الوضع فيتضمَّن “التوصيف، والتأليف، والتسطير، والتنصيل”.

فالخط يجمع بين تناقضات، بحسب أوصاف داغر: “أصم\سميع”، و”ساكن\راوٍ لحديث”، و”له حضور مادي\ له معنى قُدسي”، و”ساكن\متحرّك”. فلا يقتصر الخط على قراءته بل إنه “يخاطب اللحظ”. ويرى داغر أن العمل الفنّي، لاسيما الخط العربي قد احتذى بالقرآن من ناحية اعتباره مثالًا له، ليصبح الخط “نَسَقًا ناظمًا ومشتركًا” في ما بين المخطوط والنص المقدَّس. فالانطلاقة تتعيَّن في آية قرآنية، أو نص قرآني، أو قصَّة قرآنية، أو أي وجود نصّي آخر ليكون موضوعًا فنيًا بدلًا من وجود مادي. فتكون النتيجة تمثُّلًا للعمل الفنّي لا تمثيلًا له، بمعنى آخر إن الموضوع تصوّر للأمور ما يمكن ما تكونه وليس ما هي بواقع حالها. ولحظ داغر في التمثُّل نوعًا من الارتقاء إلى درجة سامية كامنة وراء الحروف المُستَخدمة. فمتطلّبات العمل الفنّي “السفر” أو “الوهم” من دون انتقال واقعي لبلوغ كمال الموجودات؛ بدلًا من معاينتها على واقعها، ومحاكاتها؛ وبهذا يُخفي العمل الفنّي كلَّ تشويهٍ من الموضوع، أو كلَّ عارضٍ يختصُّ بالمحاكاة؛ بهدف “النقاء، والدِّقة، والوضوح التام”. فتمام الموجودات وكمالها هما في خافيان عن النظر، لأن الفنان لا يهتمُّ بما يرى ليصوّره؛ بل يميل إلى ما يقرأه وما يرى في القراءة. فيتعيَّن الموجود بما هو ملفوظ وفي كتاب ما، وذلك “قبل أن تكون من هيولى أو من شكل مادة”[67].

يبحث داغر في مخطوط “معراج نامه” بوصفه رحلة دينية ورمزية في آن. لذا أخذ يدرس التَجْرِبة الصوفية انطلاقًا من المخطوط، مستخدمًا المنهج التاريخي الذي يحدِّد سياقات التَجْرِبة عينها من خلال التَجْرِبَتَين المسيحية والفارسية وغيرها من التجارب السابقة على الإسلام. لكن موضوع المخطوط هو إسلامي، أي المعراج، وهناك تشابه بين ارتقاء الرسول إلى العرش عابرًا بين السموات المختلِفة، من جهة؛ وارتقاء المُريد للوصول إلى الحضرة عبر الحالات المُختلِفة؛ من جهةٍ أخرى. ويبحث داغر في المعراج لدى ابن عربي، فيرى أن العارف يكون في حالة النوم أثناء رحلته السماوية؛ وهو يرى المعراج أثناء نومه وهو يدرك جيدًا أنه ينام. ويصف داغر، بعامة، آداء المتصوّف، وسلوكاته: فما يقوم به من صلاة، وتأمّل، وصيام، وتلاوة، وكتابة -لاسيما التدوين لكشف المعنى- هو ممارسات تعيينية، وتسموية، وتعبيرية خالية من أي صورة. فأسلوب التصوف يعتمد على إدراك حقيقة غيبية بالكشف، والمجاهدة، والخلوة، والذِّكر، والاقتياد، والاتّباع فأدَّت الممارسات هذه إلى “تكشّف لهم (المتصوّفون) ما يُخفيه الحجاب، أو الإدراك الخارق”؛ وذلك بعكس المعرفة الفكرية القائمة على التدليل والبرهان أو المؤسَّسة على الحسّ. وانطلاقًا من سلوكات المتصوِّف، يبحث داغر في العلاقة بينها وبين معراج الرسول، فيرى تناسبًا بين المتصوّف والرسول: ما وصل إليه الرسول بات متاحًا أمام المتصوّف عبر التخيُّل، والتأمّل، والتلاوة؛ فيدرك “عالم المُثُل المعلَّقة”المتموضِع بين العالمَين الأنوار المحضة والمحسوس وَفْقًا للسهروردي. والجدير بالذكر أن “المعلَّقة” هي ليست بمادية، بل إنها مُثُل تتجلَّى بمظاهر كحال الصورة في المرآة. بالإضافة إلى سلوكات المتصوِّف، يفسِّر داغر نظرته إلى المعراج انطلاقًا من أحد مقوِّمات عقيدته أي “وحدة الوجود”: يرى داغر أنها “تُنهي الوجود في ابتدائه،…، لكنها تُكثِر الكلام”؛ ويصفها بأنها “وحدة جغرافية” تقوم على عوالم عديدة، وتحفظ تراتبية العوالم المذكورة ووحدتها، وتتطلَّب وسائل نقل بين أحوال جسمانية ومقامات محجوبة وهو السفر قلبيًا من دون الجسم. فهذا الوصف مختلف عن معراج الرسول وإسراءَه خلال النوم لأن سفرُ المتصوِّف بعيد عن اللاوعي كما هو حال الرسول. ويبلغ المتصوّف وعيه الأخير أي رتبة انكشاف الحقائق من دون أن ينقل ما كشفه إلى الآخرين مكتفيًا بالتحقق من هذا البلوغ وحدوث الانكشاف، وقد يكون له لون أحيانًا من دون أي انتقال واقعي. ثمَّ يرى داغر أن وحدة الوجود لدى ابن عربي هي “وحدة مكانية للكون” حيث ينتفي الزمان فلا بداية له أو نهاية؛ فهي تتفق مع الخيال من ناحية الاتصاف بالموجود، أو المجهول، أو القابل للتصديق، أو النفي. فالتوصيف لدى المتصوِّفين قليل جدًا، وإن قاموا بالكشف في الحجاب وهو اللون الأبيض في العادة، وتكون الوجودات عقلية لا حدود لها أو مقاسات لأنها غير حسية وخالية من الصفات. ففي حالة التصوّف، يرى داغر أن الكون قد اتصف بالخيال لانتفاء المكان والزمان فيه من تعييناتهما المقاسية الوجود والتعاقبية كافة؛ أي إن القريب والبعيد -أو الظاهر والخفيّ- حاضران معًا كالسابق، والراهن، واللاحق؛ فيكون الأول زمنيًا لا ابتداء له والأخير لا نهاية له. وبهذا الوصف يُشبِّه داغر المتصوِّف وعالمه بالمسافر على أجنحة البُراق الخيالي. فيتحدَّد الجمال عند المتصوّفين بالتمثُّل، والحَراك بالسكون، والواقع بالخيال. فقد دلَّ عنده المعراج على الكشف من أجل بلوغ الحَضْرة، فيقع في مسألة “رؤية الله وصفاته” التي انقسم حولها العلماء بين مؤيِّد ومعارِض حتى قبل التصوّف. فمن المتصوّفين -كالجُنَيْد- من يعتبرون أن الرؤية غير متاحة، أو مُمْتَنَع عنها باستثاء طرق الرؤوس، كما حدث مع النبي موسى بحسب الآية 143 من سورة الأعراف. فانقسمت الرؤية بين العين والقلب؛ فيكون الكشف من دون صور؛ أو أن يتمّ التواصل مع الله عبر وسطاء كإبراهيم وجبريل؛ لا موسى الذي اقتصرت علاقته بالله من خلال الكلام ومن دون رؤية. فيكون رسول الإسلام بدوره عند المتصوّفين متصوّفًا في معراجه أي “انتقال من دون انتقال، بلوغ من دون ملامسة، وموجودات من دون محسوسات”؛ إذ وصل إلى الله ورأى؛ وهو هدف المتصوِّفين الأسمى[68].

5- تصوير الرسول والصِراعات السياسية

يعود داغر إلى مسألة تصوير الرسول، وما ولَّدت من صراعات دموية و”هبَّات عنفية”؛ وقد رأى أن مصدر هذه الصراعات هي سياسية وعولمية بالإضافة إلى انتشارها الواسع في وسائل الإعلام. فالمُتعارَف عليه هو أن صورة الرسول متوفِّرة في النصوص القديمة بشكل كلمات، ولدى جماعات مُسلِمة معيَّنة بشكلِ صُورٍ، ولدى الهازئين من الرسول بشكلِ صورٍ تدعو إلى التهكُّم. والعودة إلى التاريخ الإسلامي تُظهر أن المسلمين اخذوا مواقف متبايِنة نحو المسألة عينها، أما حاليًّا فلا يتمُّ أخذ هذا التاريخ في عين الاعتبار. لذا، يسأل داغر إذا كان الكلام عن الصورة يُشكِّل انعكاسًا للأفكار المعاصِرة ويتمُّ إسقاطها على الماضي المُغاير للكلام عينه لتحريف الماضي وتغييره بما يناسب الخطاب السياسي؛ أم إن ذلك غير صحيح. وهذا السؤال يفتح آفاقًا جديدة نحو مجموعة أُخرى من المسائل التي تطال حرية الفنان في اختيار موضوع فنِّه، في ظلِّ الرسملة التي تتعرَّض لها اللوحة. فتكون حينها مسألة صورة الرسول والهزء منه ومن نبوّته سياسية بامتياز إذ تفؤض نخبٌ مسلمة سيطرتها على الطبقات الاجتماعية كافة عبر تحلّيها بصفة حامية المقدَّسات، بما فيها دعوة الرسول والرسول نفسه.

ويرتكز داغر على تاريخ اللوحة كسند له من أجل توكيد ما خلُصَ إليه؛ وهو تاريخ يتضمّن صراع على اللوحة وتجاذب نحوه منذ عهد ماني، ثمَّ عقبته العهود اليهودية، والمسيحية، والإسلامية. وحاليًّا يرى داغر أن الفِقْه الإسلامي بات يعترف بفنية اللوحة ويقبل بها، بدليل ما دوّنه محمد عمارة حول خصام الباحثين المسلمين مع الفنون التشكيلية بوصفه خصامًا وهميًا، وذلك من دون أي مواجهة له. فعصر التحريم قد انقضى: إن معاينة أحوال المغرب والخليج العربي من ناحية توفّر المتاحف، والمصارف، وصالات العرض وجميعها تحتوي على مواد الفن الحديث؛ بالإضافة إلى كثرة الفنانين العرب وتسويق أعمالهم في مزادات فنية عالمية. ويعلِّل داغر ظاهرة اختفاء تحريم الفن بتراجع دور الخطاب الفِقْهي في المجتمعات الإسلامية لمصلحة الدساتير والقوانين التي باتت ترسم حدودًا بين المُباح وغير المُباح عدا عن أن الفن خرج من دائرة المسموح والممنوع[69].

مراجعة عامة

بعد قِراءتنا لكتاب “بين الفِقه والفن: النِزاع على الصورة”، رأينا إسهامًا فكريًا مهمًّا في موضوع عَلاقة الفِقه بالفن، وذلك من ناحية قِسمة التاريخ المغربي بعد سقوط غرناطة إلى ثلاث لحظات تمَّت فيها تغييرات في الخطاب الفِقهي على أساس عَلاقة الفَقِيه بالسلطان، من ناحية أولى؛ وعَلاقته بمجتمعه، من ناحية ثانية؛ وعَلاقة المغرب بأوروبا، من ناحية ثالثة.

وعلى الرغم من هذا الإسهام الفِكري، فقد برزت مشكلة في التطرّق إلى موضوع صِلة الفِقه بالفن: سننتظر الفصل الثالث لنجد شذرات حول الباسبور والفونوغراف، والفصل الرابع للدخول إلى الموضوع مما جعل الفصول الثلاثة الأولى تشكِّل مقدِّمة للكتاب (نحو 41% من الكتاب)، ولو إنها لازمة لتأريخ الخطاب الفِقهي. وهذا الأمر انعكس على بحثنا الذي ألزمنا بتخصيص قسم أوّل لدرس الفِقه بعامة وعَلاقة الفَقيه بالسياسي من دون التحدّث عن الفن. فكان من الأفضل أن تندرج أمور الصورة في لحظات ثلاث مع بقية المواد الفِقهية، ولو أن بعض المعلومات تُلزِم الباحث بإفراد فصول خاصة بالفن، كالفَصْلَيْن السادس والثامن.

هذا من ناحية الشكل، أما من ناحية المضمون نعتقد أن الباحث قد أغفل التشكيلة المعرفية الأساس التي بُنِيَ عليها القرآن والسُنَّة وذلك باختياره سقوط غرناطة اللحظة الأولى لبحثه. فإهمال التشكيلة المعرفية للحظة الإسلام الأولى جعل البحث يقتصر على التغيير في الخطاب الفِقهي وهو تبدُّل سياسي-تاريخي-اجتماعي منذ اللحظة الأولى للبحث. فيما نرى أنه من الأفضل مقارنة كيف التزم الخطابُ الفِقُهي المُتَبدِّلُ العواملَ المؤسِّسسةَ للخطاب الإسلامي الأوَّل.

ولشرح ذلك، وجب علينا تحليل التشكيلة المعرفية الأولى للإسلام: بدأ الرسول بخطاب نُهْيَوي في مكَّة[70]، ثمَّ انتقل إلى خطاب سلطوي وتشريعي في المدينة: لقد أصبح “مجاهدًا وغازيًا، ورجل دولة، ومنظم جماعة جديدة تتسع وتنمو شيئًا فشيئًا”[71]. ولِفَهم هذا الانتقال وأهميته، علينا أن نعود إلى بدء التقويم الإسلامي الذي اختار هجرة الرسول “لحظةً مفتاحية لنشوء الإسلام”، وذلك بدلًا من اعتبار تاريخ ولادة الرسول أو موته أو بعثته هذه اللحظة المفصلية. كما تُظهر المدوّنة الإسلامية بوضوح هذا التبدُّل الحاصل كابن إسحق، والطبري، والواقدي[72]. نجد أن بدء الوحي لم يَحتَج إلى التشريع، بل اكتفى بقصص الأنبياء من أجل توكيد مكانة الرسول وتشريعها أمام معتَنِقي الدين الجديد، وبنقلِ المواجهات بينه وبين مشركي قُرَيْش. ثمَّ تحوَّل المجتمع الإسلامي في يثرب إلى مجتمع حربي كإسبرطة في اليونان القديمة: أكثر من ثمانين غزوةً في عشر سنوات قضاها الرسول في المدينة، بمعدَّل غزوة كل شهرَيْن ونِصف. وهذا المجتمع الحربي يتطلَّب تشريعات تستلزم بدورها تَمويلِ الحروب قِسمة الغنائم، من دون أي تبذير للمال في “اللَّهو”، أي الفنون والزينة كما في سورة لقمان[73]. حتى إن التبرّج مرفوض لعدم الإسراف في الزينة. فاللَّهو مرفوض في الإسلام، لأن المجتمع هو حربي، وذلك بِناءً على الحديث: “كُلَّ ما يَلهو به الرجل المُسلِم باطل إلَّا رَمْيَه بقوسِه وتأديبه فَرَسه”[74]، وهو حسن صحيح. وذلك ينطبق أيضًا على سورة المائدة[75]، لاسيما شرب الخمر الذي يُبعِد الرِجال عن القتال والجهاد في حال الإسراف فيه؛ والمَيْسَر الذي يُسهِم في تبذير الأموال[76].

وفي ضوء هذه المعطيات، نرفض الحديث عن “مضاهاة خلق الله”، ولو ذكرَتْها الأدبيات الإسلامية. فتكون “المضاهاة” محاولة يائسة لتفسير رفض المسلم للفن. ولو عاش الرسول بعد انتهاء الحروب، لكان تشريع الفن ممكنًا بنسخ الآية نفسها من سورة لقمان. ولكن العملَ الحربي جعله يهتمّ بالجهاد. وهذا ما وجَّه المجتمع نحو الجهاد بتعدُّد الزواج، ومنع زواج المرأة المسلمة من غير المُسلمِ، والسماح بزواج المسلم من غير المُسلِمة، وكِثرة الولادات، وغيرها من الموضوعات التي تفيد القتال والجِهاد. من هنا، نستطيع تفسير سورة الكهف[77] على أن الأبناء هم ذخيرة حربية للقتال والمال من أجل تمويل الغزوات وليست من أجل اللَّهو والفن. وأي محاولة إضفاء شرعية للقبول بالفن عبر النصوص تبقى فاشلةً للغاية. وبالإضافة إلى مسألة “مضاهاة خلق الله”، نرفض فكرة خوف المسلم من مواد الفن فلا يقتنيها أو ينتجها لتشابه هذا السلوك مع عبادة الوثن إذ ظهر فرق كبير بين الزينة، ورسم الإنسان، وكل ما هو حيّ، من جهة؛ وتماثيل ترمز إلى آلهة معبودة، أو أصنام هي في ذاتها معبودة، من جهةٍ أخرى. والمسلم يُدرِك هذا الفرق جيدًا بدليل وجود فن إسلامي في البيئة الإسلامية؛ فإذًا هذا التفسير لا نرَحِّب به ونستبدله بتشكيلة المجتمع الإسلامي المعرفية التي تميل إلى التقشّف والحرب. وبقي حال الإسلام كما هو، أي مجتمع حربي ينتظم فيه الأفراد والمؤسسات السياسية على هذا الأساس ومن دون تغيير في التشكيلة المعرفية، بدليل ما ذكره داغر عن القسمة الثنائية بين “دار السلام” و”دار الحرب”. ويفسِّر داغر التغيير الحاصل في المجتمع على أنه تحوّل في نظرة المسلم إلى غير المسلم وحضارته وإنتاجاته الثقافية؛ في حين أننا نرى التبدُّل ليس سوى ضعف الخطاب الديني في نفوس المؤمنين، وهو ما يتلاقى مع داغر من ناحية ضعف الخطاب الفِقْهي في المجتمع الإسلامي.

ففي رأينا، كان على أي باحث تنويري أن يقرأ النصوص في سياق التشكيلة المعرفية المذكورة، أي من خلال مجتمع الحرب، على أن يتمَّ نسخها بعد تمدُّن المجتمع وتحويله من مجتمع حربي إلى سلمي؛ فلا يتمّ اعتماد الآيات القرآنية خارجًا عن سياق التشكيلة المعرفية. أما خطأ الفِقْه، فيكمن في قيام أحكام سلبية حول الفنّ بتكريس التشكيلة المعرفية التي تخصُّ بيئة الرسول، مما جعله ينحرف عن المُراد برسالة الإسلام؛ معتبرًا أن المجتمع الإسلامي بيئة جامدة غير قابلة للتغيير؛ ولو أن حكم الناسخ والمنسوخ يعترف ضمنًا بتبديل الأحكام في عصر الرسول أثناء التغييرات الحاصلة في الظروف الاجتماعية. فما قام به الفِقْه هو تكريس نسخ الآيات المدنية للآيات المكيَّة المرتبطة ببدء الوحي وبحسن العلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب. وهذا التكريس جعل الإسلام غريبًا عن محيطه باعتراف الرسول في حديث رواه مُسلِم عن ابن عمر (بدأ الإسلام غَريبًا، وسيعود كما بدأ غريبًا). وفي ظلِّ هذه الغرابة التي سبَّبها المجتمع الجِهادي، نستطيع أن نَفْهمَ رفض الإسلام للفنّ، والزينة، وللحياة ومباهِجَها، وليس عبر اعتماد “مضاهاة حكم الله” وعبادة الوثن كتفسيرَيْن ظاهِرِيَين لهذا الرفض.

المصادر والمراجع:

–  داغر، شربل. “بين الفِقْه والفن: النزاع على الصورة”، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- المغرب وبيروت-لبنان، الطبعة الأولى، 2022؛

– ابن بردزبه البُخاري الجَعفى، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة. “صحيح البخاري”، شرح الشيخ قاسم الشمّاعي الرفاعي وتحقيقه، المجلَّد الثاني، بيروت-لبنان، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة، 1997؛

– ابن العربي المعافري، محمد بن عبد الله بن أحمد بن عبد الله. “الناسخ والمنسوخ”، تحقيق رضى فرج الهمامي، صيدا-بيروت، المكتبة العصرية، شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع، الدار النموذجية، المطبعة العصرية، 2009؛

– ابن كثير، عماد الدين أبو الفِداء إسماعيل. “تفسير القرآن العظيم”، الجزء الثاني، بيروت، دار المعرفة، الطبعة العاشرة، 1997؛

– ابن كثير، عماد الدين أبو الفِداء إسماعيل. “تفسير القرآن العظيم”، الجزء الثالث، بيروت، دار المعرفة، الطبعة العاشرة، 1997؛

– رينولدز، كبرئيل. “نشوء الإسلام: التقاليد الكلاسيكية من منظور معاصِر”، أبحاث إسلامية، دار المشرق، مكتبة إسطفان موزعون ش.م.ل.، بيروت، طبعة أولى، 2017؛

– غولتسير، اغناتس. “العقيدة والشريعة في الإسلام: تاريخ التطوّر العَقَدي والتشريعي في الديانة الإسلامية”، ترجمة يوسف موسى، منشورات الجمل، بغداد-بيروت، طبعة أولى، 2009؛

– غولتسيهر، إغناتس. “مذاهب التفسير الإسلامي: بحث في اختلاف المصاحف ونشأة القراءات ومدارس التفسير وخلافات الفرق حول النص وتفسيره”، ترجمة عبد الحليم النجّار، منشورات الجمل، بيروت-بغداد، طبعة أولى، 2016؛

[1] – المقصود بها نصوص مطبوعة بناءً على أسئلة يوجِّهها بعض الناس عن وقائع جزئية، أو مشكلة عقائدية، أو أخلاقية، أو ذوقية تواجه المؤمن في حياته اليومية؛ فيجيب عنها الفَقيه بحلولٍ لها.

[2] – كتاب “تداخل التاريخ بالفِقْه: نموذج النوازل الفِقْهي” لأحمد السعيدي الذي عَرَضَ تاريخَ العقليات من شأنه البحث في ما “ينفلت من الأفراد ويكشف عن المضمون اللاشخصي لتفكيرهم”. فهكذا توجُّه يُهمِل تمايز الفُقَهاء بعضهم بين بعض سعيًا منهم إلى السلطة. راجع داغر، شربل. “بين الفِقْه والفن: النزاع على الصورة”، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- المغرب وبيروت-لبنان، الطبعة الأولى، 2022، ص. 64

[3] – والمقصود على سبيل المِثال كتاب “التاريخ وأدب النوازل: دراسات مهداة للفقيه محمد الزنيبر” الذي يكشف عن تعاقب أدب النوازل ابتداءً من القرن الثالث الهجري، على الرغم من قلةّ المخطوطات، ومن دون الاهتمام بالفنون وصِلتها بالفِقه. راجع م.ن.، ص.14-15

[4] – يطلب داغر اتباع خطوات عديدة لتصويب الأبحاث التي تتعلَّق بالفِقه، وهي أولًا تتبّع هجرة الفُقَهاء المغربيين إلى المصدر من أجل التحصيل العلمي؛ ثانيًا تحليل نفوذ الحنفية في إفريقيا، وهو نفوذ سابق على المالكية أصبح الدين الرسمي في عهد الأغالبة؛ ثالثًا درس المذهب الأوزاعي الذي هَيمن بدوره على بقية المذاهب في الأندلس؛ رابعًا عدم استبعاد المذهب الشافعي الذي انتشر بوتير أخفّ في الغرب الإسلامي؛ خامسًا عدم إهمال مذاهب الشيعة، والخوارج، والمعتزلة التي أسست دولًا في شمالي أفريقيا. راجع م.ن.، ص. 14

[5] – راجع م.ن.، ص. 13-14

[6] – راجع م.ن.، ص. 19

[7] – راجع م.ن.، ص. 75-79

[8] – راجع م.ن.، ص. 49

[9] – راجع م.ن.، ص. 52

[10] – راجع م.ن.، ص. 50-51

[11] – بحث داغر في هذه الفتوى نظرًا لأهميتها التاريخية، فوجد أنها تحتوي على موضوع عام وآخر خاص: بالنسبة إلى العام، فهو سؤال طرحه مسلمون تركوا أرض الكفّار وذهبوا إلى المغرب، فضاقت عليهم أمورهم الاقتصادية، ولم يعودوا يشعرون بالأمن كما كانوا يفعلون في بلاد الكفّار، فأخذوا يقدحون بدار الإسلام لمصلحة الأرض التي كانوا يعيشون فيها قبل هجرتهم، فأرادوا الهجرة من جديد إلى أرض الكفّار حتى ولو عاشوا تحت ذمّتهم. فكانت إجابة الشيخ أن الهجرة واجبة من دار الحرب إلى دار السلام، معتمدًا على أحاديث استقاها من الموطإ وصحيح البخاري. فهو قد قارن بين الهجرة إلى الحبشة وهجرة الأندلسيين إلى المغرب، وذلك على الرغم من اختلاف الظروف في ما بين الهجرتين، لأن الهجرة الأولى هي لحظة لحمة بين المسلمين، وحماية لهم من مشركي مكَّة، وتوسّع الدين الجديد؛ في حين أن الهجرة الأندلسية هي لحظة تقهقر وهزيمة للمسلمين. أما الخاص، فيتعلّق بشخص معروف بتقواه، ورفض الهجرة إلى دار الإسلام بسبب بحثه عن أخيه الضائع. ثم لزم مكانه لاحتياج المسلمين الذين رفضوا الهجرة إليه. وهنا، يعتمد الونشريشي على الفتوى العامة لعدم الترخيص ببقاء الشخص عينه في دار الكفرة، خوقًا عليه من التمثّل بهم. راجع م.ن.، ص. 20-21

[12] – راجع م.ن.، ص. 22-25

[13] – إن سياق الفتوى التاريخي هو الظنّ بأن النصارى يستخدمون الدمّ المسفوح عند طبخ السكَّر بسبب شهود عيان رأوا بدورهم أن أوّل ما يظهر عند طبخه احمرارُ…ولرواج هذه الفكرة بين المسلمين، قام فُقَهاء بتحريم السكَّر بسبب نجاسة الدمّ فيه فلا يصير طاهرًا بعد التدنيس. لذا، تحقَّق الفقيه الحوات، كما فعل الفقيه محمد بن عبد السلام الناصري الدرعي، والعربي الزرهوني، وبدر الدين الحمومي، ومحمد الكتّاني، من اللون الأحمر الظاهر عند طبخ السكَّر فاستنتجوا أنه “عَيْن السكَّر في أوَّل أطوار طبخه وحمرته أصالة فيه، وليس به دم”. ويرى داغر أن الجدل الفِقْهي الوارد عند الحوات جعله يعتمد على شهادات البعثات المغربية في أوروبا، معوِّلًا على تيقّظهم فلا تلتبس عليهم الأمور. كما أن حُمرة طبخ السُكَّر شبيهة بحُمرة العسل، وماء العرقسوس، وماء العنب، وعصير التمر الأوّلي. وعَرضَ الحوات في مؤلَّفه صورة لإعلان السكر باللغة العربية أعدَّه فقيه وهران علي بن عبد الرحمان بناءً على طلب شركة فرنسية. وعلى أثر بحث داغر، يكشف عن مجموعة أسئلة اعترضت الفقيه قبل أن يعدَّ فتواه، وهي وجود السكَّر في زمن البعثة أو بعدها، وإذما تناوله الرسول، وحكمه بعد التصفية؛ وهي أسئلة تدلَّت على حالة الموضوع، طارئة كانت أم معروفة سابقًا، ومدى القبول بالموضوع أو تحريمه بعد تحليله إلى العناصر المكوِّنة له، وبالعودة إلى سوابق فِقْهية لتوظيفها في بناء الحكم الفِقْهي. راجع م.ن.، ص. 57-59. كما تناول داغر مسألة الخمر عند الحوات في “حكم الحضور في مجالس الغناء والخمور”، فوجد أنه عاد إلى مراجع فِقْهية سابقة وَفْقًا لما استُجِدّ في الحضارة الإسلامية، أي حضور الفُقَهاء لـ”مجالس الغِناء والرباب والطار، وأشعار الخمر والمرد”، وهم يعتبرون أن الأحكام في ذلك مُختَلَف عليه لجهلهم أم إلباس الحق ثوب الباطل. فقد أشار الحوات بوضوح مقاصده من الحكم، أو الباعث إلى التأليف، وهو معروف قبل القرن الخامس عشر في العصر العباسي حيث شرب الخلفاء والأمراء والتجّار والشعراء الخمر على الرغم من تحريمه في القرآن، وذلك قبل اللحظة القتالية أي سقوط غرناطة. وما يحث على شرب الخمر هو المتعة والرغبة وتفضيلهما على حساب الواجب والأخلاق. فالتاريخ يسرد أنه جرى التهاون بالقاعدة الفِقْهية على مرِّ العصور. فهناك حدود داخلية في المجتمع الإسلامي وهي مسافة مهمّة تُبعِد الحُكم الفِقْهي عن دوافع الرغبة، وهي قبل اللحظة القتالية. ويأتي دور الفقيه من أجل تمييز”المُتَّفَق عليه” من”المُختَلَف فيه” بالتبصُّر والتفكُّر ، ومن دون إصدار أي حكم مُبْرَم لأن فتاوي الحوات تمتاز بالتفهُّم للإجازة ولعدمِها. راجع في هذا الخصوص: م.ن.، ص. 84

[14] – راجع م.ن.، ص. 56

[15] – راجع م.ن.، ص. 59-61

[16] – راجع م.ن.، ص. 61-63

[17] – راجع م.ن.، ص. 64

[18] – راجع م.ن.، ص. 52

[19] – راجع م.ن.، ص. 25-26

[20] – راجع م.ن.، ص. 26-29

[21] – راجع م.ن.، ص. 129-132

[22] – راجع م.ن.، ص. 64-65

[23] – راجع م.ن.، ص. 65-69

[24] – راجع م.ن.، ص. 69-71

[25] – خصَص داغر لعهد هذا السلطان فصلًا كاملًا، وذلك للغموض التاريخي الذي أحاط بتنصيبه: فقد أخفى العتروس، وهو الحاجب السلطاني، مع والدة السلطان مولاي عبد العزيز نبأ وفاة السلطان، فَحُمِلَت جثته في صندوق تمَّ نقله عبر الجمال بين مراكش والرباط، ثمَّ أُعلِن تولية السلطان مولاي عبد العزيز بناءً على وصية مشكوك فيها، وعلى الرغم من صِغَر سن السلطان المُعيَّن. وهذا الغموض، بحسب داغر، جعل سند السلطان ضعيفًا، في مواجهة الخارج الأوروبي، والابن البكر للسلطان المتوفى عبد الحفيظ، وثورة قبيلة المحيمر. وما زاد في الطين بلَّة هو عدم تمرّس السلطان الصغير في سياسات المخزن، فنُقِلَت الحرب الشاملة إلى البلاط نفسه، وهي نِتاج صراعات بلاطية-فِقْهية-أجنبية؛ أي بين أخيه البكر عبد الحفيظ، والفقيه محمد عبد الكبير بن محمد الكتاني المعروف بأبي الفيض الكتاني، وفرنسا، وإسبانيا؛ وازداد الضغط على شخص السلطان نفسه خصوصًا الضغط الأوروبي قبل أن تكون هيمنة عسكرية. راجع م.ن.، ص. 157-158

[26] – راجع م.ن.، ص. 29-32

[27] – راجع م.ن.، ص. 32-36

[28] – اهتمّ داغر بسيرة الفقيه محمد الحَجَوي الشخصية لأنه يشكِّل استثناءً بين بقية الفُقَهاء: مارس التجارة مع الدول الأوروبية فيما رفض الفُقَهاء هذا السلوك بداعي أن أرض الغرب هي أرض حرب. لكن الحَجَوي يرى معاهدات عدَّة بين المغرب والدول الأوروبية عاش المسلم بموجبها آمنًا من أي خطر قد يصيبه أو يصيب ماله أو عرضه. والجدير بالذكر أنه دوَّن الأحداث التي حصلت في المغرب، ومعاهداته مع الدول الأوروبية. كما تولّى وظائف مخزنية، حتى بلغ نائب الصدارة العظمى، ثم عمل في إصلاح التعليم وتحديثه بتدريس العلوم الغربية. فموقفه هو تجنّب أي إشكال مع مكتشفات عصره بوصفها غير معارضة للدين الإسلامي. راجع م.ن.، ص. 40. وسنتوقف عنده لدى البحث في فتاوى الصورة الفنيَّة.

[29] – راجع م.ن.، ص. 36-39

[30] – راجع م.ن.، ص. 91

[31] – راجع م.ن.، ص. 97

[32] – راجع م.ن.، ص. 91

[33] – راجع م.ن.، ص. 100

[34] – راجع م.ن.، ص. 79-83

[35] – راجع م.ن.، ص. 85

[36] – راجع م.ن.، ص. 123

[37] – راجع م.ن.، ص. 104

[38] – راجع م.ن.، ص. 101-104

[39] – وظَّف داغر هذا الكتاب لدرس القبول بالصورة الفوتوغرافية في المجتمع المغربي: فهو يتضمن تراجم سبع وعشرين شاعرًا، ويبدأ كل منها بصورة اختارها كل شاعر منهم ويبلغ عدد الصُوَر الفوتوغرافية ثلاثًا وعشرين، بالإضافة إلى صورة المؤلف. فذلك إشارة إلى طلب على الصورة الفوتوغرافية، وهو طلب اجتماعي، بعامةٍ؛ وطلب لدى القرّاء والمثقفين والمؤلفين والشعراء، بخاصةٍ؛ من أجل نشر المؤلفات. وهذا خير دليل على سقوط تحريم الصورة في المجتمع المغربي أقلَّه في عهد الحماية الأجنبية. كما أن صُوَر عِدَّة مُعَدّة لبطاقة هُوية أو لجواز سفر لأنها تشمل الرأس وأعالي الصدر؛ وبعض منها يُلتَقط بوضعية إخراجية حيث يتمّ أخذ صورة الجسم كاملًا بمحاذاة قطعة أثاث أو بمحاذاة شيء آخر يقف قربه. أما بقية الصُور فالظاهر أنها التُقِطَت في منزل المصوِّر أو خارجه. والجدير بالذكر أن الصور لا تعطي الباحث أي معلومات عنها، وعن تاريخها، وعن مصوّريها. ويعتقد داغر أنها تلبِّي طلب إعداد الكتاب بسبب تزامنها مع طلبات إعداد كتب أخرى في العراق. بالإضافة إلى الصُوَر، ترِد أبيات شعرية مُرفَقة بها، وهي قصائد لا تَتَّبع التقليد المُتعارَف عليه في الشعر العرب، فتقترب أكثر من “الشعور الحيّ”، كحال قصيدة “شبابنا المُمَثِّل” وفيها حديث عن مشاهدة أول مسرحية في المغرب، ولعب أدوارها تلاميذ مغاربة من فاس، وذلك عام 1926. فأهمية القصيدة إلى جانب الصورة الفوتوغرافية تكمن في اعتبار الصورة مقبولة في المجتمع المغربي. راجع م.ن.، ص.172

بالإضافة إلى قبول المجتمع بالصورة الفوتوغرافية، يرى داغر أن الأشخاص الذين قبلوا بتصويرهم بحسب كتاب القباج أرادوا السفر، والتفاعل مع مسلمي الدول العربية الأخرى؛ لذا اختاروا موقفًا إصلاحيًا يتعاونون به مع سلطة الحماية. كما أن دراسة العلوي ترفق لوحتَين زيتيَتَين تمَّ تصويرهما فوتوغرافيًا لاحقًا للسلطان الأعظم مولاي الرشيد بن الشريف العلوي (1666-1672) والسلطان مولاي اسماعيل بن الشريف بن علي الحسني (1672-1727)؛ وغيرها من الصور الفوتوغرافية لسلاطين بدءًا من السلطان الحسن الأول وهي في الأصل صورة زيتية للبلجيكي théo van Rysselberghe، وتمَّ تصويرها فوتوغرافيًا؛ وصور فوتوغرافية لابنَيْه عبد العزيز، وعبد الحفيظ. ولا تتوفَّر أي معلومات حول الصور الفوتوغرافية، باستثناء صورة السلطان إسماعيل، والحسن الأول. بالإضافة إلى كِتابَي القباج والعلوي؛ وجد داغر في مجلَّة “أخبار لندن المصوّرة” «The Illustrated London News» صورة للسلطان مولاي الحسن الأول يتفحصّ أسلحة بحضور السفير الإنكليزي كربي كراين. راجع م.ن.، ص. 177-179

[40] – راجع م.ن.، ص. 128

[41] – راجع م.ن.، ص. 183-186

[42] – راجع م.ن.، ص. 192-194

[43] – راجع م.ن.، ص. 195

[44] – راجع م.ن.، ص. 104-109

[45] – لتبرير منع التماثيل، استند الحَجَوي إلى صحيح البخاري لسرد حديث عن رؤية تماثيل في كنيسة مارية الحبَشية. فقد روت أم حبيبة وأم سلمة ذلك للرسول فأجاب الرسول أن موت الصالح فيهم جعلهم يصوِّرونه بتمثال وهو أشرّ خلق لدى السماء. كما استند الحَجَوي في مسألة الرقم في الثوب إلى حديث يروي أن زيد بن خالد الجهني قد علّق في بيته سترًا يحمل تصاويرَ وَفْق البخاري. كما أن صحيح البخاري ومُسنَد أحمد يذكران حديثًا عن عائشة مفاده أنها اشترت نمطًا فيه تصاوير ليكون حجلة فأمرها الرسول بأن تقطعه وسادتَيْن ليتَّكِأَ عليهما

[46] – راجع م.ن.، ص. 123-128

[47] – راجع م.ن.، ص. 196-198

[48] – راجع م.ن.، ص. 195-196

[49] – راجع م.ن.، ص. 201-204

[50] – ﴿يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل﴾

[51] – راجع م.ن.، ص. 186-187

[52] – راجع م.ن.، ص. 188-192

[53] – راجع م.ن.، ص. 132

[54] – راجع م.ن.، ص. 153-154

[55] – انصبّ جهد داغر على تقرير الحجري، فيرى توتُّرًا سياسيًا، وسجالات تختصّ بالنصاب الحضاري بين الحجري ومحاوريه الأوروبيين، وتصل هذه الخلافات إلى مواجهات بين العالمَيْن. ويشمل التقرير موضوعات عديدة، كالصوم، وشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، وسلوكات الأوروبيين منها التجّار والنساء وهي سلوكات مختلفة عن القِيَم الإسلامية. ووقع الحجري في حب امرأة فرنسية، فتوصل إلى النزاع الشخصي ودوَّن أن الخصام كان ماليًا، ودينيًا ثمَّ أضحى بين نفسه والشيطان. وقد أعدَّ في “ناصر الدين على القوم الكافرين” سجالًا بينه وبين زوجة قائد إسباني حول تحريم الصور والتمثيل في الوصايا العشر، ويُظهر كأن المرأة لا تستطيع مناقشته في المسألة المطروحة. راجع م.ن.، ص. 140

[56] – راجع م.ن.، ص. 140-143

[57] – راجع م.ن.، ص. 143-148

[58] – راجع م.ن.، ص. 154-155

[59] – راجع م.ن.، ص. 148

[60] – راجع م.ن.، ص. 149-152

[61] – راجع م.ن.، ص. 156

[62] – راجع م.ن.، ص. 209

[63] – راجع م.ن.، ص. 209-212

[64] – راجع م.ن.، ص. 212-215

[65] – راجع م.ن.، ص. 215-218

[66] – راجع م.ن.، ص. 222-225

[67] – راجع م.ن.، ص. 225-228

[68] – راجع م.ن.، ص. 228-231

[69] – راجع م.ن.، ص. 232-234

[70] – راجع غولتسير، اغناتس. العقيدة والشريعة في الإسلام: تاريخ التطوّر العَقَدي والتشريعي في الديانة الإسلامية، ترجمة يوسف موسى، منشورات الجمل، بغداد-بيروت، طبعة أولى، 2009، ص. 23

[71] – م.ن.، ص. 25-26

[72] – رينولدز، كبرئيل. نشوء الإسلام: التقاليد الكلاسيكية من منظور معاصِر، أبحاث إسلامية، دار المشرق، مكتبة إسطفان موزعون ش.م.ل.، بيروت، طبعة أولى، 2017، ص. 53-54

[73] – 31/6 ﴿ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتَّخذها هزوًا أولئك لهم عذاب مهين﴾. فالأشقياء هم من أعرَضوا عن سماع كلام الله مستبدلينه بالغِناء والطرب. فيكون “الَّلهو” في الآية المذكورة هو سماع الغِناء والمزامير بالتواتر. راجع في هذا الخصوص ابن كثير، عماد الدين أبو الفِداء إسماعيل. تفسير القرآن العظيم، بيروت، دار المعرفة، الطبعة العاشرة،1997، الجزء الثالث، ص. 450-451

[74] – روى الترمذي، في سننه، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، حديث 1637. وأخرج أبو داود الحديث عن عقبة بن عامر: “سمعت رسول الله يقول: ليس من الَّلهو إلَّا ثلاث تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله ورميه بقوسِه”. وهناك حديث رواه إبراهيم بن موسى عن هشام عن مَعْمَر عن الزهري عن ابن المُسَيِّب عن أبي هُرَيرَة، مفاده أن عُمَر بن الخطاب دخل عند الرسول فرأى الحَبَشة يلعبون بحرابِهم فَحَصَبَهم ليتدخل الرسول من أجل منعه. وزاد علي على الحديث عن عبد الرزَّاق ومَعمَر بأن الحادثة كانت في المسجد. راجع في هذا الخصوص: ابن بردزبه البُخاري الجَعفى، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة. صحيح البخاري، شرح الشيخ قاسم الشمّاعي الرفاعي وتحقيقه، بيروت-لبنان، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع، 1997، الطبعة الثالثة، المجلَّد الثاني، باب 721، حديث 1091، ص. 443

[75] – 5/90 ﴿يا أيُها الذين آمنوا إنما الخمر والمَيسَر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلَّكم تفلحون﴾. نَسَخَت الآية المذكورة منافع الناس من الخمر والميسَر بحسب الآية 219 من سورة البقرة 2 ﴿يسألونك عن الخمر والميسر قُل فيهما إثمٌ كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نَفعهما﴾. وبذلك يطلب الرسول من صحابته اجتناب الميسر والخمر. راجع في هذا الخصوص ابن العربي المعافري، محمد بن عبد الله بن أحمد بن عبد الله. الناسخ والمنسوخ، تحقيق رضى فرج الهمامي، صيدا-بيروت، المكتبة العصرية، شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع، الدار النموذجية، المطبعة العصرية، 2009، ص. 24.

[76] – حتى اعتُبِر الشطرنج ولعب الصبيان بالجوز من الميسَر: راجع تفسير القرآن العظيم، الجزء الثاني، م.س.، ص. 94

[77] – 18/46 ﴿المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربِّك ثوابًا وخير أملًا﴾

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete