تمكين
يُوشك اللاهوتي أن يتفلسف لكنه خوَّاف، لذا يُحجم عن تجاوز ثوابته المعرفية، أو بالأحرى يُحجم عن تجاوز ما تعلَّق بثوابت الأمة التي ينتمي إليها معرفياً، ما يجعله يُساهِم، بطريقةٍ فعَّالة، في الإبقاء على أوضاع الأمة، في الأذهان كما في الأعيان، على ما هي عليه، دونما زيادة تُذْكَر. ففي اللحظة الحرجة، أعني اللحظة التي تُهدَّد فيها (قيمته ومعناه الأنطولوجي/ قيمة أمته ومعناها الأنطولوجي)، ويشعر أنَّ المعرفة يمكن أن تُشكَّل خطراً داهماً على تلك القيم والمعاني؛ يعود إلى ثوابت الأمة المعرفية التي قرَّت من سنين طويلة واصْطُلِحَ عليها الاصطلاح النهائي والأخير. ويتعمَّق هذا الخوف لدى اللاهوتي، إذا ما عمل على تبيان فضائل تلك الثوابت وقوتها، بصفر النظر عن تحقُّق ذلك على المستوى المعرفي، ومدى تمكنها من عقول ووجدان أبنائها. فهو بذلك يُساهم مساهمة العاقل، الواعي، الرَّاشد، في تعزيز ما هو قائم هُويَّاتياً، بكل تعالقاته السياسية والاجتماعية والنفسية والاقتصادية والحضارية، وعدم اجتراحه نسقاً معرفياً جديداً لما يجب أن يكون، بعد إحداث إزاحة كبرى في البنى المعرفية القائمة. فهو قارٌّ، أي اللاهوتي، فيما هو كائن، بسبب خوفه المصيري على روح الأمة وثوابتها العميقة، وليس لديه أي رؤية لما يجب أن يكون. فهو وإنْ كان يقترب من الفيلسوف، تحديداً في المقدمة التي ينطلقان منها، وهي مناقشة الإله كأحد المحاور الرئيسية التي يشتغل عليها الفيلسوف، إلا أنَّهُ عاجزٌ عن التفلسف، بسبب بنيته المُحافِظة، التقية، الرصينة، الهَوَوَيَّة، والقارة في كينونة ثابتة أكثر من تحرُّكها في سيرورة معرفية.
ما الفرق بين الفيلسوف واللاهوتي؟
مقابل ذلك، الفيلسوف لا يتجاوز اللاهوتي فحسب، بل والموضوع اللاهوتي برمُّته أيضاً، لا سيما في الأوقات الحرجة، أعني في الأوقات التي تُهدَّد فيها قيمته أو قيمة الأمة ومعناها الأنطولوجي التي قرَّت سابقاً. فالفيلسوف لا يُقرُّ بما هو كائن، أياً كانت صيغته والمعاني التي تنطوي عليها تلك الصيغة، بل يسعى، عبر اجتراح أنساق معرفية جديدة، إلى التحقُّق فيما يجب أن يكون؛ مع تأقيت هذه التحقُّق المستقبلي وعدم إغلاقه إغلاقاً أخيراً، يُفضي إلى موته وفنائه. وهذا بطبيعة الحال ليس مزلقاً في طبيعة المعارف التي يطرحها الفيلسوف على مستوى أبنيتها الدَّاخلية الماكنة والمتينة، بل هو إيمان بتطوُّر العقل المستمر على المستوى الخارجي، عبر تجليه في العالَم، وقدرته على إضافة جديد، بما يضفي حيوية معرفية على ما يجب أن يكون. لذا، الفيلسوف، والحالة هذه، أكبر هادم لكينونة الأمة القارَّة معرفياً وثوابتها الأنطولوجية، مع التأشير أنَّ هذا الهدم ليس هدماً سلبياً، يُمارسه الفيلسوف بطريقة عشوائية أو انتقامية أو كنوعٍ من الثارات الشخصية، بل هو استبصار بحالة التداعي التي وصلت إليها تلك الثوابت أو الأركان، وآن أوان ليس صيانتها فحسب، بل تغييرها تغييراً جذرياً بالأحرى. وهذا ما يجعل من عملية الهدم التي يمارسها الفيلسوف عملية غير مكتملة، على مستوى النسق المعرفي، إذا لم يتبعها بناء لثوابت أو أركان معرفية جديدةٍ للأمة. فالفيلسوف، ليس بفيلسوف، أو لا يمكن له أن يتحقَّق في الصفة الاعتبارية لشخصية الفيلسوف، إذا اشتغل على الهدم فحسب، بل لا بُدَّ له أن يشتغل، أيضاً، على البناء المعرفي الجديد ليس لاستواء نسقه المعرفي فقط، بل لكي لا تتهدَّم الأمة معرفياً وحضارياً أيضاً.
السؤال الأساسي في هذا المقام: مَنْ هو الفيلسوف، ومن هو اللاهوتي؟ بما يجعل من صورة التقديم السابقة أكثر وضوحاً وجلاءً وإحكاماً.
الفيلسوف:
في كتابي (الإنسان الفيلسوف: عن أسئلة الأطفال وإجابات الحكماء)[1] عرَّفتُ الفيسلوف بأنه: الشحص الذي يُعيد قراءة ثلاثية: 1- الإله. 2- الإنسان. 3- العالَم؛ قراءة جديدة، وذلك بمنحها مفاهيمية جديدة، غير تلك المفاهيمية القائمة. وضرورةً سيستلزم إحداث إزاحة في هذه المفاهيم، عمليتي: 1- هدم من ناحية. و- بناء من ناحية أخرى. وإذا حدث نقص في إحدى طرفي معادلة الهدم والبناء، فإنَّ الصفة الاعتبارية للفيلسوف تبقى مثلومة ويعتورها النقص. إذ لا يكفي، رغم إمكانية حدوثه، أن يهدم الفيلسوف المفاهيم المعرفية القائمة لثلاثية: 1- الإله. 2- الإنسان. 3- العالَم. بل لا بُدَّ له أن يعمل على بناء مفاهيم جديدة لتلك الثلاثية، لكي يكتمل نسقه الفلسفي من جهة، ويُساهم في بناءٍ كينونة جديدةٍ للأمة من جهة ثانية. بطريقة يلتئم فيها الجرح الذي يحدثه أثناء عملية الهدم، فيُطبّبه بتقديم رؤية جديدة للإله والإنسان والعالَم. فالفيلسوف طبيب ماهر، يفتح الجُرح (عملية الهدم) في المرة الأولى ليعرف أين يكمن الخلل الحضاري الذي أصاب الأمة، وفي المرة الثانية يُطبِّب الجُرح (عملية البناء) وذلك بتقديم رؤية حضارية جديدة، تُساهم مساهمة فاعلة في معالجة الخلل الحضاري، عبر تقديم رؤية معرفية جديدة أكثر تطوراً وتقدماً.
فالفيسلوف كما أطرحه بشكلٍ دائم لا يُركِّز على الأسباب القصوى التي يقوم عليها الوجود فحسب، بل لا بُدَّ له أن يُحدث إزاحة معرفية في مفاهيمها القائمة في العالَم، بحيث تُصبح رؤيته لهذه الأسباب حداً فاصلاً بين مرحلتين: مرحلة ما قبل رؤيته، ومرحلة ما بعدها. إذ لا يعني تركيز أو معرفة الفيلسوف بالأسباب القصوى أنه حال من فيلسوفٍ يتمثَّل للدَّرس الفلسفي كما يُدرَّس في الأكاديميات، إلى مُتفلسف يجترح مفاهيم جديدة لتلك الأسباب القصوى أو الوحدات الصغيرة. فتبصُّر قضية من القضايا أو مسألة من المسائل والتعرُّف على أصلها المبدئي قد ينسجم مع حسٍّ بحثي يلتزم بالبروتوكولات المدرسية التي تُعلّمها أقسام الفلسفة، بحيث يصعب التفريق بين دارس للفلسفة أو آخر؛ إذ تتشابه مقارباتهم وتتخذ الهيئة الأكاديمية ذاتها، فقائل يتحدث عن الأسباب الأصلية التي يقوم عليها معمار هذا العالَم، دون إحداث إزاحة معرفية جديدة في مفاهيميتها، وآخر يتحدث عن الأسباب الأصيلة التي تجعل من المعرفة صادقة وقابلة للتحقُّق، لكن دون تغيير في طبيعة تلك المعرفة. إذ يبقى الفيلسوف، والحال هذه، وفياً لنسقٍ مفاهيمي قائم، دون اجتراح جديد على المستوى المعرفي. وهذا بطبيعة الحال لا يعني عدم الاستفادة مما يقدمه، فتبصُّر فيسلوف أو باحث موسوعي بقضيةٍ ما كالفلسفة التي تقوم عليها اقتصادات العالَم أو أديان العالم، قد تُفيد في وضع الخطط والاسترتيجيات، وتجعل من الأمة قوية بسبب امتلاكها لتلك المعارف التي يصطلح عليها جُملة من الفلاسفة أو البحّاثة الموسوعيين. لكن ذلك لا يعني بحالٍ من الأحوال أن الفيلسوف يتفسلف انطلاقاً من صفته الاعتبارية كفيسلوف يمتلك شخصية مُبرَّزة في هذا العالَم؛ تهدم معارف وتبني مكانها معارف أخرى، بجرأة كبيرة لا مثيل لها. بل ما يقوم به الفيلسوف في هذا المقام محض تراكم معرفي ليس إلا[2]
كيف يعرف الانسان انه فيلسوف؟
الفيلسوف بما هو مولود ولادة قصوى على مستوى الوعي، فإنه يضطلع بمهمة إعادة تأويل العالَم، التي تستلزم وضع الأسس المعرفية لثُلاثية: 1- الإله. 2- الإنسان. 3- العالَم؛ على طاولة البحث، ومنحها مفاهيمية جديدة غير تلك التي كانت عليها قبل ولادته أو قبل وجوده في العالَم. فالفيلسوف هو أكبر هادم للأبنية المعرفية في العالَم وأكبر بنَّاء للأبنية ذاتها أيضاً. لذا فإنَّهُ أكثر مذموم –على الأغلب- طالما هو على قيد الحياة، وأكثر محمود –على الأغلب- بعد موته. مذموم لأنه يهدم معارف قارّة وثابتة في الأذهان والأعيان، ومعه يهدم المكوِّن الهُويَّاتي الذي يُشكِّل المرجعية الأقدس التي يحتكم إليها الناس في تعريف ذاتهم الكُليّة، أو بمعنى آخر هو الذي يهدم المعرفة التي تُشكِّل كينونة الأمة التي تكوَّنت على مدار أزمان طويلة. فكينونة الأمة التي أقرت الصيغة النهائية لثُلاثية: 1- الإله. 2- الإنسان. 3- العالَم؛ تتعرَّض لعملية هدم على يد الفيلسوف، وفي طريقه لهدمها فإنه يترك الناس حيارى وفي حالة اضطراب شديد، وفي فترة اضطرابهم هذه تحدث مُشادَّات ومشاحنات قد تؤدِّي إلى قتل الفيلسوف كما حدث مع سُقراط أو مطاردته كما حدث مع ديكارت أو حرق أوراقه كما حدث مع ابن رشد…إلخ. فالفيلسوف إذ يهدم معارف قارَّة وقائمة تُشكِّل مرجعيات كبرى في العالَم، فإنّه يُذمُّ من قبل الغالبية العظمى من الناس، إلى أن تبدأ أفكاره الجديدة أو معماره المعرفي الجديد الذي يُعيد فيه تأويل ثلاثية الإله والإنسان والعالم، بالانتشار شيئاً فشيئاً، إذ يبدأ الناس باكتشاف أهميته، فيتم إحياؤه من جديد حتى بعد مماته. فسُقراط تحوَّل بالتقادم إلى واحد من أعظم الفلاسفة في التاريخ الإنساني، وقد بدأ يظهر تأثيره الواضح عقب فترة قصيرة من موته، تحديداً عبر تلميذه الفذ أفلاطون. وديكارت الذي رُفضت فلسفته من غالبية جامعات أوروبا وهو على قيد الحياة، تحوَّل بالتقادم إلى رائد عصر التنوير بامتياز. وابن رشد الذي شهد اضطهاداً هائلاً وعاش محنة تدمير الكثير من مؤلفاته من قبل أبناء جلدته، سيتحوَّل إلى منارة في طريق نهضة أوروبا الحديثة.
اللاهوتي:
بإزاء عمل الفيلسوف، فإنَّ أحد الاهتمامات المركزية للاهوتي، بل الاهتمام المركزي الأهم بالنسبة للاهوتي هو تناول مسألة الإله بالبحث والدرس، مع ما يستلزمه هذا البحث والدَّرس من نشر وتعميم وترسيخ في الاجتماع السياسي. أي أن اللاهوتي يتقاطع مع الفيسلوف في مسألة مُناقشة الإله وتناول هذه المسألة بالبحث والدرس، لكن هذا التقاطع لا يعني بأيِّ حالٍ من الأحوال الالتقاء بينهما، لا سيما في النتائج المآلات. وإذا كان الفيسلوف يتجاوز موضوع القداسة التي يتمثلها اللاهوتي أثناء بحثه لمسألة اختصاصه، فإنَّ اللاهوتي يتناول موضوعه بكثير من التبجيل والقداسة. أي أنَّ بنيته الهووية تطغى أو تسبق سؤاله المعرفي، في حين أنَّ السؤال المعرفي يتقدم على البنية الهووية للفيلسوف، ما يجعل من نسقه أكثر سِعةً وحُريَّة وإبداعاً وإمكاناً أيضاً من نسق اللاهوتي المُغْلَق. فكلاهما؛ أعني الفيلسوف واللاهوتي، ينطلقان من المقدمة ذاتها، أو من مناقشة المسألة ذاتها، لكن الفيلسوف لا يعرف ما هي النتيجة التي يمكن أن يصل إليها بشكلٍ حاسم ومُسبق منذ البداية، في حين أن اللاهوتي يعرف ما هي النتيجة التي يصل إليها ابتداءً، فهي ليست قارَّة في العقل الجمعي فحسب، بل ولها طابع القداسة أيضاً، وما هو، نهاية المطاف، إلا ناطقٌ بها، ومُبجِّل لها أيضاً. لذا، يغلب على طرحه طابع الرَّطن والتبجيل لمسألة الإله كما هي قارَّة وثابتة، حتَّى وهو يستخدم لغة خطابية أعلى وأقوى وأكثر تماسكاً من لغة الخطاب الشعبي أو الخطاب الذي يتمثله العقل الشعبي في إقرار مسألة الإله. فاللغة التي استخدمها القديس أوغوسطينيوس في اعترافاته[3]، على سبيل المثال، وهو أحد أبرز اللاهوتيين في الأديان التوحيدية، هي لغة دينية صرفة، ما جعله قارَّاً في كينونة ثابتة، أكثر منه مُتحرِّكاً في نسق معرفي. فالرَّطانات التي ضمنها اعترافاته، وهي واحدة من أبرز الاعترافات الدينية في التاريخ، لم تخرج عن السائد حول مفهوم الإله لدى العامة، لكن بلغةٍ إنجيليةٍ لا يقوى على استحضارها إلا من كان على درجة من الوعي والإدراك الدِّيني، لكنه وعي وإدارك ثابت، غير مُتحرِّك، ومحسوم النتائج، أيضاً، منذ اللحظة الأولى، ولا معنى له على المستوى المعرفي. فالنقاش أو السجال الذي يُفتعَل حول مفهوم الإله، يتحرَّك في نسقٍ هَوَوَيٍّ ثابت بشكلٍ حاسم، ومنذ اللحظة الأولى. وشيء قريب من هذا حدث مع كل من: “أبي حامد الغزالي” في الثقافة الإسلامية، و”موسى بن ميمون” في الثقافة اليهودية. فالإطار المرجعي المستقبلي، أو الغاية القصوى التي يتبنَّى اللاهوتي نواظمها، هي غاية معروفة مسبقاً لدى اللاهوتي، فمنذ اللحظة الأولى لانطلاقته في تناول مسألة الإله يعرف إلى أن يصل، فهو يقرن حديثه بداية، بنوعٍ من القداسة التي يخاف أن يُدنِّس حُرمتها، لذا يكون حديثه محسوم النتائج ابتداءً، حتَّى وهو يستخدم لغة خطابية أعلى من لغة الخطاب اليومي التي يتداولها الناس في الحديث عن إلههم.
الفيلسوف واللاهوتي: اتصال/ انفصال
السؤال ما منشأ عدم الالتقاء والتوافق هذا بين اللاهوتي والفيلسوف، وفقاً للمقدمة السابقة؟
قبل الإجابة على هذا السؤال، ثمة سؤال مُلحٌّ في هذا المقام، وهو: هل من الواجب أو اللازم أن يتناول الفيلسوف بالبحث والدرس ثلاثية: 1- الإله. 2- الإنسان. 3- الإله؛ بشكلٍ دائم؟ أم إنَّ الأمر غير ذلك، أو أن المقام ينطوي على إمكانات معرفية أخرى؟
إنَّ النقاش الفلسفي حول ثلاثية: 1- الإله. 2- الإنسان. 3- العالَم، ينبغي أن لا ينتهي على الإطلاق، وذلك لعددٍ من الأسباب، أهمها:
أولاً: بصفتها، أي هذه الثلاثية، المونادات أو الوحدات الصغيرة التي ينبني عليها كل شيء في الوجود. إذ ليس من: 1- فكرة. 2- شخص. 3- شيء، في هذا الوجود، إلا ومتفرع عن هذه الثلاثية العريقة، لذا فالوصول إليها معرفياً نقطة مركزية في إحداث تغيِّر –سلباً و/ أو إيجابا- في نظرتنا للوجود.
ثانياً: حتى يبقى المجتمع في حالة عطاء معرفي دائم. فكل ما في المجتمع من: 1- أفكار. 2- أشخاص. 3- أشياء. صغيرة كانت أم كبيرة، داخلية أم خارجية، سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية أم ثقافية أم آيديولوجية أم نفسية؛ لها علاقة، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، بواحدة من مفاهيم: 1- الإله[4] أو 2- الإنسان أو 3- العالَم؛ كلها معاً أو واحد منها. لذا يبقى تحريك هذه الثلاثية، وتقاطعاتها مع ثلاثية: الأفكار والأشخاص والأشياء، شرطاً ضرورياً ومصيرياً، لإبقاء المجتمع في حالة من الحيوية المعرفية ابتداءً والحضارية لاحقاً. فالمجتمعات التي خاضت وتخوض وسوف تخوض نقاشات موسعة وذات مستويات متعددة من أنظمة الخطاب، من الخطاب العاميِّ إلى الخطاب الفلسفي، حول ثلاثية: 1- الإله. 2- الإنسان. 3- العالَم؛ وتعالقات هذه الثلاثية وتمظهراتها في ثلاثية: 1- الأفكار. 2- الأشخاص. 3- الأشياء، هي مجتمعات حيوية وفاعلة، ليس على المستوى المعرفي فحسب، بل والمستوى الحضاري أيضاً. والمجتمعات التي أغلقت باب النقاشات حول هذه الثلاثية المزدوجة، مع ما يستلزمه هذا الإغلاق من خَتْمٍ للمعارف وخَتْنٍ للعقول، يُصيبها العطب والمرض والتفسُّخ والموت، ليس على المستوى المعرفي فحسب، بل والحضاري أيضاً.
ويقيناً، أنَّ هذا النشاط المعرفي المتنوُّع والمتعدِّد الخطابات، ستضطلع به ذوات كثيرة وعديدة، أي أنَّه غير محصور بشخص الفيلسوف تحديداً، بل هو نشاط عام يُشارك به الإنسان على الإطلاق: من الطفل إلى كبير السن؛ ومن الرَّجُل إلى المرأة، ومن النجَّار إلى المُفكِّر، ومن الشَّاعر إلى الموسيقي، ومن المُمثِّل إلى النحَّات، ومن مُصمِّم الجرافيك إلى مهندس البرمجيات…إلخ. فالتشظيات الناتجة عن (اتصال/ انفصال) ثلاثية: 1- الإله. 2- الإنسان. 3- العالَم؛ في الاجتماع السياسي، تتطلب جهوداً هائلة ومتعددة لبلورة سياقاتها في ثلاثية: 1- الأفكار. و2- الأشخاص. و3- الأشياء؛ شريطة أن ينسجم هذا النشاط التفاعلي، بشكلٍ حاسم ومبدئي، مع القيم الإنسانية العليا، وهي: 1- الحق. و2- الخير. و3- الجَمَال. لما يترتب على عدم الانسجام بين النشاط المعرفي والقيم الإنسانية العليا، من اختلالات جوهرية، ستقود حتماً إلى آلام وعذابات كبرى. لذا، من الضروري انسجام هذا النشاط المعرفي مع منظومة القيمة هذه، لكي تتجنب البشرية ما خبرته من توحّش كبير، مُورس في كثير من الأحيان باسم العقل والنشاط المعرفي الإنساني[5]. لكن، ليس بالضرورة أن تنخرط هذه المجاميع البشرية الكبيرة في نقاش تأصيلي حول ثلاثية: 1- الإله. و2- الإنسان. و3- العالَم؛ كما هو الأمر بالنسبة إلى الفيلسوف تحديداً. لكن نقاشاتها وحواراتها وسجالاتها حول ما هو على تماس مع هذه الثلاثية، ضمن أي مستوى يأتي هذا التماس، تُثري، بلا شك، الحالتين: 1- المعرفية. و2- الحضارية للمجتمع الذي يتمثَّل أبناؤه هكذا حالة معرفية وحياتية متطورة ومتقدمة في التعامل مع أفكارهم وأشخاصهم وأشيائهم.
صفات الفيلسوف
إذاً، على هامش اشتغالات الفيلسوف المعرفية، تشتغل البقية. فالفيلسوف أساساً مَعنيٌّ بثلاثية: 1- الإله. و2- الإنسان. و3- العالَم، بصفتها، كما أسفلت، الوحدات الصغيرة أو المونادات التي ينبني عليها كل شيء في الوجود. وبرأيي أنَّ واجب الفيلسوف يقتضي الاشتغال الدَّائم على هذه الثلاثية، حتى تبقى هُويَّة الأمة ونواظمها الكُليَّة في حالة نشاط وعطاء، ما يمنحها صحَّة دائمة. وكُلَّما تعدَّدت الرؤى التي يشتغل عليها الفلاسفة ويجترحون أنساقها، لبسط مفاهيم أوسع وأرحب وأكثر تنوّعاً لعلاقة الإنسان بالإله من جهة والعالَم من جهة ثانية، كُلمَّا تجذرت تلك الرؤى بطريقة أعمق، وأصبحت الكينونة الجديدة أكثر قابلية للعيش الصحي الطويل، فالطبابات والمعالجات التي يُجريها الفلاسفة على المفاهيم المُؤَسِّسة، طبابات مستمرة ودائمة. وهذا بدوره سيُحفِّز الجميع على تطوير علاقتهم بلثلاثية: 1- الإله. و2- الإنسان. و3- العالَم؛ وتقاطعاتها مع ثلاثية: 1- الأفكار. و2- الأشخاص. و3- الأشياء؛ بشكلٍ دائم ومستمر، وليس للحظات عابرة وزائلة. ما يجعل المجال العام مُهيَّأً أكثر لتبنِّي رؤى فلسفية جديدة، والتعامل معها بروحٍ مرنةٍ وسلسة، دونما تعنتات واستحكامات تعاقبهم وتلاحقهم وتقضي على رؤاهم ومشاريعهم لمجرد اختلافها عمَّا هو قار وسائد في الاجتماع السياسي. فالنقاش الدَّائم والثري والمتنوع، الذي يُنتج سياقات معرفية مُتعدِّدة الخطابات، لا شكّ أنه سيدفع الحالة الفلسفية، طرَّاً، ناحية الأمام، ويجعلها مواكبة لأيِّ إضافة معرفية من جهة، ومستوعبة لأي تقدم حضاري من جهة ثانية.
لكن، مع الأسف البالغ، غالباً ما تختم المجتمعات البشرية مشاريعها المعرفية[6]، ومع مثل هذه الخاتميات، تُقفل الأبواب أمام أي اجتهادات جديدة وتختن عقول أبنائها؛ ما يُصعِّب المجال على أي اختراقات معرفية جديدة. لكن عادةً ما يأتي فيلسوف ويكسر هذه التراتب المميت، ويُعيد للأمة حيوتها بتقديم رؤية جديدة للإله والإنسان والعالَم، ما يُعرّضه لظلم شديد، بسبب انتهاكه لما هو قائم وأخذه طابع القداسة. لكن، التجربة التاريخية، أثبتت على الدَّوام، لكن مع الأسف بعد فوات الأوان، أنَّ الفيلسوف يكون على حقٍّ، فيُعاد له، يا للأسف، اعتباره في المستقبل، بعد أن يتم استيعاب ما قدَّمَهُ من رؤى وفلسفات في وقت سابق.
إذاً، يلتقي الفيلسوف مع اللاهوتي في النقطة الأولى أو في الخطوة الأولى، وهي تناول مسألة الإله وتمثلاتها في العالَم بالبحث والدَّرس، وهذه هي أَوُلَى خطوات المعرفة، لغاية الوصول إلى الحقيقة. لكن هذا الالتقاء ينتهي بمجرد بدئه، فيفترقان للأسباب التالية:
أولاً: قبل أن يبدأ اللاهوتي خطوته الأولى، فإنه يعرف أين سيضع خطوته الأخيرة على المستوى المعرفي. ليس لأنه خائف فحسب، كما أسلفت، بل لأنه يتمثَّل، أيضاً، روح الأمة وثوابتها القارَّة والثابتة والمقدسة على المستوى الثيولوجي. فهو لا يُداري، وهو يطرح هذه المسألة الحسَّاسة والفاصلة، خوفه الشخصي فحسب، بل خوف الأمة جمعاء. فأي زلل يُمكن يمكن أن يُفقد الأمة معناها وقيمتها الأنطولوجية، فتُصبح في العراء، لذا فإنه يبقى ضمن المُتعارف عليه، حتَّى وإنْ استخدم لغة للخطاب أعلى وأقوى من اللغة التي يتداولها الناس عادةً في تعاملهم مع ثوابتهم ومرجعياتهم الروحية. مقابل ذلك الفيلسوف يبدأ خطوته الأولى على المستوى المعرفي، لكنه لا يعرف النتيجة بشكلٍ مُسبق، لكن هذه اللامعرفة بيست عيباً تكوينياً في نسقه الفلسفي، بقدر ما هو مرونة معرفية كبيرة من جهة، بما يُؤهله لإبداع مساحات جديدة للمسألة التي يشتغل عليها من جهة ثانية.
ثانياً: يبدأ اللاهوتي رحلته في مناقسة مسألة الإله بلغةٍ ذات طابع قُدسي، ما يرتقي بخطابه إلى حدودٍ لا علاقة لها بالمعرفة. فخطابه يتعالى على المعرفة بالأحرى، ويتجاوزها، فالمعرفة الحقَّة تنطوي على حسٍّ نقدي قاسٍ ومؤلم ومُدنَّس، ومن الممكن أن يُطيح بالقداسة التي يتبناها اللاهوتي. لكنه يتجاوز هذه المحنة بتغليف كلامه وخطابه بغلاف قُدسي يحميه من الزلل ابتداءً. في حين أن رحلة الفيلسوف لا تبدأ بهذه اللازمة القُدسية القاسية، بل هو لا يعترف بها أصلاً، لأنها تُمثِّل عقبة كبيرة في وجه تقدُّم المعرفة ووصولها إلى نتائج صحيحة، تُساهم، بشكل فاعل وحاسم، في الكشف عن الحقيقة وبلورتها بوضوح أكثر.
ثالثاً: إله اللاهوتي إله قومي، في حين أن إله الفيسلوف إله عابر للقوميات. فالنقاش الذي يخوضه اللاهوتي حول إلهه يُبْقِيه، في العموم، ضمن إطار قومي وخاص بطبيعة الثقافة التي تحتوي ذلك الإله. فالصيغ اللغوية الجاهزة والناجزة، وذات الصفات التبجيلية التي يستحضرها اللاهوتي وهو يتمثَّل الإله في خطابه، تجعل منها إلهاً ذا كينونة ليست مختلفة عن ماهية كينونات الثقافات الأخرى فحسب، بل تمنحه صفات استثنائية لا يبنغي أن يحوزها أي إله آخر. في حين أن إله الفيلسوف يمكن أن يعبر إلى مُجمل الثقافات الإنسانية، إذا ما أخذ صيغته المُطْلَقة وحاول البحث عن مفاهيمية جديدة لها. فصيغ الكلام التي يبلور فيها الفيلسوف خطابه حول الإله يمكن أن يتجاوز بها الإله القومي الخاص بثقافته التي ينطلق منها، بما يجعل يتجاوز اللاهوتي ويُفارقه.
المراجع:
[1] صدرت الطبعة الأولى من كتابي (الإنسان الفيلسوف: عن أسئلة الأطفال وإجابات الحكماء) عن وزارة الثقافة الأردنية سنة 2021، وصدرت الطبعة الثانية منه عن دار ألكا في بلجيكا، وهي طبعة مُنقحَّة ومضبوطة أكثر.
[2] شرحتُ هذه النقطة بتفصيلٍ أكثر في كتابي (الإنسان الفيلسوف: عن أسئلة الأطفال وإجابات الحكماء) تحديداً في الفصل الثالث منه الموسوم بـ (الفيلسوف).
[3] يمكن العودة إلى كتاب (اعترافات القديس أوغستينيوس)، ترجمة إبراهيم الغربي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، القاهرة، تونس، ط2، 2015. وللكتاب أيضاً ترجمة أخرى، سبقت الترجمة المذكورة، كان قد أنجزها “يوحنا الحلو”، وصدرت عن دار المشرق في بيروت سنة 1962.
[4] قد تختلف التسمية وفقاً لطبيعة الثقافة التي يحتكم إليها شعب ما أو أمة ما، وقد يأخذ مفهوم الإله أو مرادفاته بُعداً زمانياً كما في الثقافات الأرضية، وقد يأخذ بعداً ميتافيزيقياً كما في الأديان التوحيدية.
[5] للمزيد حول هذه النقطة تحديداً، يمكن الرجوع إلى مقالة: (من عصر أنوار عقلي إلى عصر أنوار أخلاقي: عن الوعي الجمعي والضمير الفردي)، معاذ بني عامر، موقع تكوين، على الرَّابط التالي:
[6] وهذا ما نتج عنه تعاقب للحضارات، إذ لم يحدث في التاريخ كله أن استمرت حضارة واحدة في تسيُّد المشهد البشري، بل دائماً ما أخفقت المجتمعات، بعد أن تتعب وتدبّ فيه العلل والأمراض، ما يؤدِّي إلى تقهقر الحضارة التي تُغذيها أنساغ تلك المجتمعات، وهو ما يُفضي عادة إلى انتقال مركز الحضارة إلى مجتمع آخر، وهكذا دواليك.