تكوين
فكِّر في علم اللاهوت الطبيعيّ بوصفه: فاعلية ابتكار الحُجج الدالة على وجود الله، وهي حُجج، تَرِدُ تقريبًا، انطلاقًا من سِمَة أو اُخرى من سِمات كَوْننا. يُعَدُّ ريتشارد سوينبرنRichard Swinburne بلا شك، اللاهوتيّ الطبيعيّ الاستثنائيّ في وقتنا هذا، فقد أسفَرَت أعمالهُ -بالفعل- على مدار الثلاثين عامًا الماضية أو نحو ذلك، عن أقوى وأكمل وأرقى تطوير للَّاهوت الطبيعيّ شهده العالَم حتى الآن. وتبدأ إحدى حُججه من مُقدّمة تقول بوجود قوانين طبيعة وتحديدًا، قوانين طبيعة بسيطة. وفيما يرى سوينبرن فإنَّ وجود قوانين طبيعة بسيطة يكون أكثر احتمالًا بكثير بالنظر إلى فرضية وجود شخص مثل الله، مقارنةً بالقضية التي تقول بعدم وجود شخص مثل الله.
الآن أميلُ بِشدَّة إلى الاتفاق مع سوينبرن هنا، على الرغم من وجود تساؤلات. (على سبيل المثال: ألا يمكننا التوصلُ إلى شيء كاحتماليةٍ مُلائمة على وجود مثل هذه القوانين، بالنظر إلى فرضية عدم وجود شخصٍ مثل الله؟ وهل ينبغي لنا أن نأخذ في حسباننا عامِل وجود الله مع الاحتمالية السابقة؟ وإذا كان كذلك، كيف يُمكننا تقدير ذلك؟) لا أهدف إلى استكشاف هذه الأسئلة، على الرغم من أنَّ استدعاءها مُغرٍ. علاوةً على ذلك فإن مشروعي على عكس مشروع سوينبرن، ليس دفاعيًّا؛ لن أقترح حُجَّة تأليهيَّة هنا، بدلًا من ذلك، أريد أن أبدأ بالنظر في بعض الأسئلة المُتعلّقة بالقانون الطبيعيّ أو قوانين الطبيعة، هل هناك أسبابٌ جيدة للاعتقاد بوجود مثل هذه الأشياء؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما نوع هذه الأشياء؟ وكيف ترتبطُ بالحتمية Determinism؟ كيف ترتبطُ القوانينُ الطبيعية (إذا كانت موجودة من الأساس) بالله؟ وما هي أكثر الطرُق الواعِدة للتفكير في قوانين الطبيعة من منظورٍ مسيحيّ؟ سأحاجُّ بأنَّ أكثر ثلاثة طُرُق واعِدة للتفكير في قوانين الطبيعة هي:
- (1) فكرة أنَّ قوانين الطبيعة تعكسُ القُوى السببية Causal Powers التي لدى الكائنات التي صنعها الله
- (2) فكرة أنَّ قوانين الطبيعة أوامرُ إلَهيَّة، وهي جُزءٌ من طريقة الله لتوجيه الخليقة وتنظيمها
- (3) الفكرة التي تعود إلى ديل رازتشDel Ratzsch ، القائلة بأنَّ قوانين الطبيعة هي حالاتٌ ممكنة للحريةِ الإلَهيَّة Counterfactuals of divine freedom.
تتفقُ الفكرةُ الأولى -كما سأُحاج- اتفاقًا أفضل مع وجهة النظر القائلة بوجود أسبابٍ ثانَويَّةٍ بجانب التسبيبِ الإلَهيّ. أمَّا الثانيةُ والثالثة، فتتفقانِ اتفاقًا أفضل مع مذهب المناسبة Occasionalism، وهو وجهةُ النظر القائلة بأنَّ كل نشاطٍ سببيٍّ هو فاعليَّةٌ سببيّةٌ إلَهيَّة. وسأختتم بتقديم دعم مُقيَّد لمذهب المناسبة.
-
القانونُ الطبيعيُّ وطبيعته
أولًا، سأتطرَّقُ إلى سؤال طبيعة القوانين الطبيعية، أيُّ نوعٍ من الكائنات يكونه القانونُ الطبيعيّ، إذا كان هناك مثل هذه الأشياء بالفعل؟ سيكون قانون نيوتن للجاذبية وقوانينه الثلاثة للحركة، أمثلةً مُفترضة، وكذلك قوانين الحفاظ على الزخم والطاقة والزخم الزاوي. قوانين الطبيعة -عادةً- هي تعميمات كُليَّة، على الرغم من أنه ربما يوجد -أيضًا- بعض القوانين الطبيعية الاحتمالية.
ولكن بالطبع ليست كل عبارة كُليَّة قانونا: “كل الكتب على مكتبي تخُصني” و“كل الطيور في الساحة الخلفية هي عصافير” عباراتٌ كُليَّة في صورتها، ولكنها بالكاد قوانين. ربما نظنُّ أنَّ المشكلةَ هنا أنَّ هذه القضايا تُشير أساسًا إلى زمان أو مكان أو شخص مُعيَّن. ولكن ليست هذه هي المشكلةُ الحقيقية. وإليك بعض الأمثلة المهمة تاريخيًّا[2]:
- كل الكرات الصلبة من اليورانيوم المُخصَّب لها قُطر أقل من 1.6 كيلومتر.
و
- كل الكُرات الصلبة من الذهب لها قُطر أقل من 1.6 كيلومتر.
لا تُشير العبارةُ الأولى ولا الثانية إلى زمان أو مكان أو شخص مُعيَّن، ومع ذلك يميل المرء إلى الشكّ في أنَّ (2) تُمثّل قانونًا من قوانين الطبيعة. ولكن من المُرجَّح أكثر أن تُمنَح تلك المكانة إلى (1)[3]. لماذا؟ ما الذي يصنع الفارق؟ إنه شيء على النحو التالي: يودُّ المرء منَّا أن يقول إنه إذا كانت العبارة (2) صادقة، فإن ذلك لا يعدو أن يكون حادثًا عارِضًا – يُمكن بلا شك أن تكون هناك كُرة ذهب لها قُطر أكبر من 1.6 كيلومتر، وإذا اكتشفنا وجود واحدة (لنقل مثلًا، على القمر) لتقاتلت عليها جميع الدول المتحضرة. ولكن من غير الممكن أن تُوجد كُرة صلبة من اليورانيوم المُخصَّب يبلغ قُطرها 1.6 كيلومتر، إذ تبلغ الكتلة الحرجة لليورانيوم المُخصَّب حوالي 50 كيلوجرام فقط. المغزى _هو فيما يبدو- أنَّ قوانين الطبيعة ضرورية Necessary، بمعنى ما. إنَّه لَمِنَ الضروريّ أن تنجذبَ الأجسام إلى بعضها البعض بقوَّةٍ مُعيَّنة؛ من الضروريّ أن يُحفَظ الزخم في نظامٍ معزول، ليس من المُمكن أن تزيد الطاقة في نظامٍ مُغلَق، ولا أن يَصل جسمٌ ما إلى سُرعة تفوق سُرعة الضوء. لذا فإن خاصيةً أُخرى مهمة للغاية لقوانين الطبيعة (إذا كانت موجودة) هي أنَّها ضرورية.
- ضرورةُ القانون
2.1 الضرورة المُطلقة
هذه الضرورة رغم أنها ترفع من شأن القوانين الطبيعيّة، إلا أنها أيضًا -إذا جاز التعبير- نُقطةُ ضَعفِها. أوّلًا، ما نوع الضرورة التي نتحدَّث عنها هنا؟ حاجَّ بعضُ الفلاسفة، مثل سيدني شوميكر Sydney Shoemaker[4]، ومؤخرًا كريس سويرChris Swoyer [5]، إيفان فالِس Evan Fales [6]، ألكسندر بيرد Alexander Bird[7]، بأنَّ قوانين الطبيعة ضروريةٌ ضرورةً مطلقة Absolutely Necessary[8] أو ضروريةٌ بصرامة أو ضرورية بالمعنى المنطقي الواسع؛ ضرورية بالضرورة نفسها: أنَّ ’’العُزَّاب غير مُتزوجين‘‘ أو ’’أنَّ الأحمر لَون‘‘ أو أنَّ ’’5+7=12‘‘.
إقرأ أيضًا: نحو إعادة نظر جذرية في علاقة الإنسان بالإنسان وعلاقة الإنسان بالطبيعة
ولكن من البيّن أنَّ قوانين الطبيعة لا تندرج ضمن حقائق المنطق أو الرياضيات. بالطبع هناك عديدٌ من القضايا الضرورية ضرورةً مُطلَقةً، مما ليست ضمن حقائق المنطق أو الرياضيات: على سبيل المثال، أيُّ شيء أحمر يكون مُلوَّنًا، وليس هنالك إنسان هو عَدد أوَّلي. ولكن يبدو أنَّ قوانين الطبيعة ليست من ذلك النوع أو كذلك. الحقيقة -كما قيل لنا- أنَّ أي جِسمَين ينجذبان أحدهما إلى الآخر بقوَّة تتناسب طرديًا مع حاصل ضرب كتلتيهما وعكسيًا مع مُربع المسافة بينهما؛ هذا قانونٌ للطبيعة. ولكن لا يبدو أنَّه ضروريٌ ضرورةً مُطلَقةً. من المؤكَّد -فيما يبدو- أنَّ قوَّة الجذب هذه كان يُمكن أن تتناسب عكسيًّا مع قوَّة أُخرى لمسافة الجذب بينهما، وإذا أمكن ذلك، لاختلفت الأمور بلا شكّ، وهذا لا يعني استحالة ذلك قطعًا. ومن قوانين الطبيعةِ أيضًا -كما يُعتَقَد- أنَّ لا شيء يُمكن أن يُسافرَ بسُرعةٍ تتجاوز سُرعةَ الضوء. ولكن يبدو مُمكنًا بالتأكيد، بالمعنى الدقيق للإمكان، أن تتمكَّنَ جُسَيماتٌ أوَّليَّةٌ من نوعٍ ما (أو مركبة فضائية في هذه الحالة) من القيام بذلك. وحتى لو لم نتمكَّن –نحنُ البشر– من صُنع مركبة فضائية قادرة على ذلك، ألا يستطيع الله أن يفعل ذلك؟
بالطبع ربما توجد (أو هناك بالفعل) قضايا ضرورية ضرورةً مُطلَقةً من نوع الضرورة التي لا نستطيع كشفها بالتفكير فيها فحسب، ولكنَّ أفضل مُرشد لدينا في معرفة الضرورة هو الحدس، إذ نرى أنَّ بعض القضايا ضرورية، ونتعلَّم أن قضايا أُخرى كذلك من طريق إدراك أنها تنْتُج عن القضايا من النوع الأول. فإذا بدت قوانين الطبيعة عَرَضيَّة (أي ليست ضرورية ضرورةً مُطلَقةً)، فعلينا أن نفترض أنَّها عَرَضيَّة، في غياب حُجَّة قوية تُثبت ضرورتها (المُطلقة). وعلى حد عِلمي لا توجد حُجَّة مقبولة، ناهيك عن وجود حُجَّة قوية، تُثبت ضرورتها المُطلقة.
2.2 ضرورة عَرَضيَّة؟
يقترح دايفيد م. أرمسترونج David M. Armstrong[9] أنَّ قوانين الطبيعة ضرورية، ولكنّها ليست ضروريَّة ضرورةً مُطلّقةً:
افترض أنَّ “س ψ هي س φ” قانونٌ طبيعيّ، إذ أنَّ الكون ψوالكون φ كُليَّات. R علاقة مُعيَّنة، علاقة ضرورة عَرَضيَّة أو غير منطقية، تربط بين الكون ψوالكون φ. هذه الحالة الراهنة يمكن ترميزها على النحو التالي: ‘ض(φ,ψ)
يبدو ذلك مُتوافقًا تمامًا مع حدسنا عن قوانين الطبيعة. وبالفعل يبدو أنَّ هنالك ضرورة من نوع ما ترتبط بقوانين الطبيعة، لكن هذه القوانين لا تبدو ضرورية ضرورةً مُطلَقة. ولكن ما هي هذه العلاقة الضرورية العَرَضيَّة أو غير المنطقية؟ حتى الآن لم يُخبرنا أرمسترونج شيئًا على الإطلاق بشأن هذه العلاقة، باستثناء أنها عَرَضيَّة وليست منطقيَّة. حقا إنه قد أعطاها اسمًا: علاقة ضرورة عَرَضيَّة غير منطقيَّة. ولكن -على أي حال- يقول ديفيد لويسDavid Lewis : إنه ينبغي أن يكون لهذه العلاقة أكثر من ذلك الاسم، إذ حملها لاسم لا يجعلها جاهزة لتفسير قوانين الطبيعة فحسب، لا يُمكنها فعل ذلك ‘‘مثلما لا يجعل اسمُ «أرمسترونج» صاحبه يمتلك ذراعَيْن قويَّتَيْن، لأنَّهُ يُدعى بذلك الاسم فحسب.’’[10] ولكن ما الذي يزيد عن مجرد الاسم؟ إنَّ قوانين الطبيعة (إذا كانت هنالك أشياء كهذه)، إذًا ضروريةٌ بمعنى ما، ولكنها ليست ضرورية منطقيًّا بالمعنى الواسع. وهذه هي المشكلة: بأيّ معنىً تكون قوانين الطبيعة ضرورية؟ كيف يُفترض بنا أن نفهم ذلك؟ نحن نعرف الضرورة الصارِمة ونحبّها، ولكن ما هذه الضرورة غير الصارِمة؟[11] كيف يُفترض بنا تفسيرها؟ لم يُخبرنا أرمسترونج شيئًا حيال ذلك.
2.3 التصورات الهيوميَّة للقانون
إذا كان من الصعب علينا أن نُحدّد ماهيَّة الضرورة التي يتمتع بها القانون الطبيعيّ، فربما علينا أن نتبع ديفيد هيوم وديفيد لويس في رفضهم للفكرة برُمَّتها، أعني فكرة الضرورة لقوانين الطبيعة. هكذا فعل ديفيد لويس المُتأخّر، إذ رأى أنَّ قوانين الطبيعة هي -ببساطة- المبرهنات المشتركة داخل الأنظمة المُسلَّماتيَّة الصحيحة التي تتمتَّع بخليط من القوة والبساطة هو الأفضل من بين الأنظمة المُسلَّماتية الأُخرى. هناك بعض الأنظمة المُسلَّماتيَّة التي تتمتّع ببساطة شديدة، على سبيل المثال: نظام له المُسلَّمة 2+1=3 فقط. وبعض الأنظمة المُسلَّماتيَّة الأُخرى التي تتمتّع بقوَّة عظيمة، على سبيل المثال: نظام تكون فيه كلُّ قضيةٍ صادقةً مُسلَّمةً. النظام الأول يفتقر إلى القوة، أما الأخير فيفتقر إلى البساطة. والقوةُ والبساطةُ مُتنافستان بوضوح؛ إنَّ الحدَّ الأقصى من البساطة لنظامٍ مُسلَّماتيٍّ مثلًا، -النظام ذو المُسلَّمة 2+1=3 فقط – يجعله ضعيفًا، والحدُّ الأقصى من القوة لنظامٍ مُسلَّماتيٍّ – مثلًا، نظام كل قضية صادقة فيه هي مُبرهنة – لن يجعله بسيطًا. ليس لدينا استيعابٌ كافٍ لِما يبدو أنه أفضل الأنظمة المُسلَّماتيَّة لدى لويس[12]، ولكن من المفترض أنَّ أنظمةً كهذه ستُظهر قدرًا كبيرًا من البساطة، وقدرًا كبيرًا من القوَّة أيضًا. وليس ثمَّة ما يدعو إلى الاعتقاد بوجود نظام واحد فقط كهذا – ربما هناك عديدٌ من الأنظمة المماثلة التي لا أفضليَّة لأيٍّ منها على الآخر.
ثمَّة أكثر من مُشكلة في وجهة نظر القوانين الطبيعية هذه، ولكنّي أودُّ أن ألفتَ الانتباه إلى نتيجةٍ مثيرةٍ للاهتمام لهذه الطريقة في النظر للمسألة، نتيجة مفادها: أنَّ الحتمية Determinism(بالمعنى الواسع على الأقل) والحرية Freedom متوافقتان. وأنا هنا أُفكر في الحرية بالمعنى الليبرتاري Libertarian الكلاسيكي: يكون الشخص حُرًّا في تأديته لفِعلٍ ما، في زمنٍ مُعيَّن، إذا –وفقط إذا– امتلك القُدرة (أي كان في حدود قدرته) على أداء ذلك الفعل في ذلك الوقت، وأيضًا، إذا امتلك القُدرة على الامتناع عن أداء ذلك الفِعل في الوقت نفسه. إذا كنتُ حُرًّا الآن لأداء فِعلٍ ما، مثل رفع يدي اليُسرى، فأستطيع أن أرفع يدي اليُسرى الآن، كما أستطيع أيضًا الامتناع عن رفعها الآن. وحتى إذا رفعتُها بالفعل، فقد كان من المُمكن أن أمتنع لو أردت فعل ذلك.
إنَّ تعريف الحتمية الأكثر شيوعًا الآن يأتي على النحو التالي: لتكن حᵗ و حᵗ˚ هما الحالات الكاملة للكَون في الزمن زᵗ والزمن زᵗ˚ على التوالي، ولتكن ق دالَّة الوصل المنطقي لقوانين الطبيعة. من ثمَّ تلتزمُ الحتمية[13] بأنه: إذا كانت ق مع حᵗ فسيلزم حᵗ˚. وإذا أردنا قَوْلَها بلُغَةٍ عامّية: الحتمية قائمة إذا -وفقط إذًا- كانت حالة الكَوْن في أي لحظة زمانية سابقة مع قوانين الطبيعة، تستلزم حالة الكَوْن في أي لحظة زمانية أُخرى. ولكن افترض أنَّ قوانين الطبيعة تعتمد اعتمادًا جُزئيًّا على ما يَحدث: في الماضي أو الحاضر أو المُستقبل، كونه مسألةً واقعة خاصة. وافترض أنني في مناسبةٍ مُعيَّنة رفعتُ يدي اليُسرى (ربما كمُبادرة بالاعتراض على وجهة نظر لويس). بالنظر إلى ما تدَّعيه الحتمية، فإن قوانين الطبيعة مع حالة الكَوْن، لنقُل قبل 1000 عام (لنرمز إليها: ح 1000-) تستلزمُ رفعي ليَدي في هذه المناسبة وذلك الوقت، لكن لا يَنْتُج من ذلك أنَّه لم يكن بمقدوري -حينئذٍ- الامتناعَ عن رفع يَدي. إنَّ ماهيَّة القوانين تعتمد (من بين ما تعتمد عليه من أمور أُخرى) على ما أقوم بهِ. لقد رفعتُ يَدي في تلك المناسبة، والمُسلَّمات في أحد الأنظمة المُفضلة، بالإضافة إلى (ح 1000-)، تستلزم معًا، قيامي بذلك، إلا أنَّ هذه الواقعة لا تستلزم أنه لم يكن بمقدوري الامتناعَ عن رفع يَدي. وبالطبع إذا أمكن لي الامتناع عن رفعِ يدي في هذه المناسبة (في وجود ح 1000-)، لأصبحَتْ بعضُ القضايا، التي كانت قانونًا طبيعيًا، كاذبةً. ومن ثمَّ ما كان لها أن تكون قانونًا طبيعيًّا.
إذًا النقطة المهمة هنا أنَّه فيما يتعلَّق بهذه التصوُّرات الهيوميَّة الواسعة لقوانين الطبيعة، وهي في الأساس توصيف لِما يحدث بالفعل فحسب، تكون قوانين الطبيعة (أو يمكن أن تكون) ضمن قُدرتي، بمعنى أنّي لديَّ القُدرة على التصرُّف بطريقة من شأنها أن تجعل وَصلها المنطقي خاطئًا. عادةً ما نُفكّر في قوانين الطبيعة بوصفها خارج نطاق قُدرتنا، لكن في هذه التصوُّرات الهيومية ليس ذلك صحيحًا. إذا كُنا نمتلك حُريَّة ليبرتاريَّة بالفعل، فسيكون في وِسعنا أن نَخرق قوانين الطبيعة، أي أنَّ القوانين القائمة فعلًا هي من النوع الذي يسمح لي بأن أتصرَّف بطريقة تتعارض معها.
وهذا يُقدّم لنا سببًا جيدًا فيما أعتقد، لرفض التصوُّرات الهيوميَّة لقوانين الطبيعة. إذا كان هنالك أي قوانين للطبيعة، فإنه ليس في قُدرَتي، أو حتى قُدرتك، أن نتصرَّف بطريقة تفرض على القانون ألَّا يكون كذلك. وهذا بالتأكيد يرتبط بالضرورة الواضحة لهذه القوانين؛ الإقرارات الهيوميَّة تُسقِط الضرورة من حساباتها، ومن ثمَّ -كما أقول- لا يمكننا أن نُفكّر فيها بوصفها الإقرارات صحيحة لقوانين الطبيعة. وبالفِعل تُعَدُّ هذه الإقرارات الهيوميَّة صورًا من النزعة المضادة للواقعية Anti-realism تجاه قوانين الطبيعة. وتتمثَّل واحدة من الطرُق التي سيتَّخذها مُؤيد النزعة المضادة لواقعية القوانين، في قَوله صراحةً: “ليس هناك قوانين للطبيعة؛ لا توجد سِوى تعميمات شاملة (من نوع أو آخر) غير ضروريَّة”. ولكن ثمَّةَ طريقة أُخرى أيضًا، تكون وَفقها مؤيّدًا للنزعة المضادة للواقعية في القوانين، وهي أن تقول: هناك قوانين للطبيعة، أمَّا ماهيّتها فتعميمات شاملة من نوع مُعيَّن، غير ضرورية.[14]
2.4 لا-قابلية الانتهاك من قِبَل المخلوقات”Creaturely Inviolability”
القوانين الطبيعية إذًا تعميمات كُليَّة تتمتَّع بضرورةٍ من نوعٍ مُعيَّن، ولكن أيُّ نوع؟ ليست الضرورةُ المنطقية بمعناها الواسع، ولكن ما الأنواعُ الأخرى؟ ربما يُمكننا أن نُقارب هذا السؤال على النحو الآتي: أُطلِقَتْ مركبة (أبوللو11) في 16 يوليو عام 1969 من مركز كينيدي للفضاء، وهبطت على سطح القمر في 19 يوليو. استغرقَ ذلك الأمر 3 أيام كاملة و3 ساعات و49 دقيقة حتى تطير المركبة إلى القمر. لاحقًا، أطلَقَتْ ناسا مِسبار (الآفاق الجديدة) New Horizons بسرعة تصل إلى 58,000 كيلومتر في الساعة، ليصل من الأرض إلى القمر في غضون 8 ساعات و35 دقيقة فقط. ربما تُمكّننا الاختراعات التكنولوجية في المستقبل من تقليل هذه المُدَّة إلى ساعة واحدة أو حتى دقيقة، ولكن مهما تطوَّرت التكنولوجيا لدينا، فإننا لن نستطيع تقليل هذه المُدَّة لتُصبح ثانية واحدة. وذلك لأنَّ لا شيء يُمكنه أن يُسافر أسرع من الضوء؛ إنَّ سُرعة الضوء هي 299792.458 كيلومتر في الثانية والقمر يَبعُد عن الأرض مسافة 384472.282 كيلومتر. سُرعة الضوء هي نوع من الحدّ الأقصى للسُّرعة في المُستوى الكَوْني، إذ لا شيء يُمكنه تجاوزها. مهما تقدَّمت التكنولوجيا لدينا، فلن نستطيع صُنع مَركبة فضائية تُسافر بسُرعة تتجاوز سُرعة الضوء.
لا شيء يُمكنه أن يُسافر أسرع من الضوء، هذا قانونٌ طبيعيّ، ويمكننا أن نقول إنه غير قابل للانتهاك من قِبَل المخلوقات. ليس هناك مخلوق يُمكنه أن يتصرَّف بطريقةٍ ما لينتهك ذلك القانون (أو يُفقده قانونيّته)، لكنَّ الأمر نفسه يسري على قوانين الطبيعة الأُخرى؛ مهما بلغ بنا التقدّم التكنولوجيُّ مبلغًا، لن نستطيع أن نصنع آلة تخرق هذه القوانين أو بطريقةٍ أُخرى، تتصرَّف لتُكذِّب أيًّا من هذه القوانين. إذًا أيُّ نوع من الضرورة تتصف بها القوانين؟ المقاربة المبدئية ستكون على النحو التالي: إنَّ قوانين الطبيعة ضرورية بمعنى أنها تتمتَّع بـ حصانة من انتهاك المخلوقاتCreaturely Inviolable ، إذ لا يُمكن لمخلوق أن يُطوّر تكنولوجيا تُمكّنه من خرق قانون للطبيعة. بلا شكّ يستطيع الله أن يفعل ذلك [أي أن يتصرَّف بما يُخالف القانون]، أمَّا نحنُ فلا. فضرورةُ القانون إذًا هي مسألة تتعلَّق بكونه مُحصّنًا من انتهاك أيِّ مخلوقٍ له، وعلى أي حال، كَوْنه مُحصّنًا من انتهاك الانسان إياه.
3. الله والقوانين
لقد استغرقنا كثيرًا حتى نصل إلى وصفٍ مبدئي وعام لقوانين الطبيعة، ولكن ما علاقتها بالله؟ يبدو أنَّ هناك ثلاث احتمالات، ثلاث طرُق يمكن من طريقها أن يرتبط الله بقوانين الطبيعة (مُجددًا، على فرَض أنَّ بعضها موجود). وبغرَض التحديد، لنتناول مثالًا خاصًّا كقانون نيوتن للجاذبية (ولستُ مَعنيًّا بالنسبية العامة أو الخاصة أو بميكانيكا الكم هنا)، كيف يرتبط ذلك القانون بالله؟ الاحتمال الأول هو مذهبُ الأسباب الثانَويَّة Secondary Causalism: أنَّ قوانين الطبيعة تعكسُ القُوى السببية التي لدى الكائنات والتي صنعها الله. يخلق الله الأجسام الماديَّة على طبيعةٍ مُعيَّنة أو بقُوىً مُعيَّنة، ليكون لديها خاصية P وهي أن ينجذب أي اثنين منهما وأحدهما إلى الآخر، بالطريقة نفسها التي يُحدّدها لنا قانون نيوتن، أي يَبذُل الواحد منهما نوعًا مُعيَّنًا من القوَّة على الآخر، ويُحدد قانون نيوتن درجة وطبيعة هذه القوَّة. أما الاحتمالُ الثاني فسيكون مذهب الأوامر الإلَهيَّة Decretalism: يُعَدُّ قانون نيوتن مَرسومًا إلَهيًّاa divine decree ، أمرًا يُصدره الله ليُحدّد كيف ستتحرَّك الأشياءُ الماديَّة Material Objects في ظروف مُختلفة. أما الاحتمالُ الثالث فهو اقتراحٌ مُثيرٌ للاهتمام، قدَّمه ديل رازتش، ألا وهو: أنَّ القوانين الطبيعية حالاتٌ مُمكنة للحُريَّة الإلَهيَّة: فقانونُ نيوتن يُحدّد لنا كيف يتصرَّف الله، وكيف سوف يتصرَّف، أي كيف سيتعامل الله في ظروف مختلفة، مع الأشياء التي صنعها.[15] والآن دعونا نتناول هذه الاحتمالات الثلاثة بالترتيب.
3.1 مذهبُ الأسباب الثانَويَّة Secondary Causalism
يخلق الله أشياءً عَيْنيَّة Concrete Objects لديها قُوىً سببيَّة، أي قُدرة على التسبُّب في أنواع مُعيَّنة من السلوك. وِفقًا لهذه الرؤية، هناك نوعان من السببيّة: سببيَّةٌ أوَّليَّة يُمارسها الله وحده، وسببيَّةٌ ثانَويَّة تُمارسها بعض المخلوقات. خلق الله الأشياء العَيْنيَّة[16] وهو الذي يحفظ لها استمرارها في الوجود، ولكنها خُلِقت بطريقة تجعلها قادرة كذلك على المُشاركة في التسبيب Causation، ليس بوصفها آثارًا فقط، وإنما بوصفها أسبابًا كذلك. وهنا يجب علينا أن نضعَ تمييزين: فأوَّلًا، هناك مذهب الأسباب الثانَويَّة القَوي Strong Secondary Causalism، وهو المفهوم القائل إنَّ السَّببَ الثانَوي، نظرًا لأنَّ الله يحفظ له استمراريته وقُواه، يستطيع أن يُحدِث أثرًا بالاستقلال عن أي تدخُّلٍ إلَهي إضافيَ أو معونة إلَهيَّة إضافيَّة. وهناك أيضًا مذهب المُزامَنة Concurrentism، وهي الفكرة الأكثر شيوعًا، القائلة بأنَّ أيّ إجراء سَببي ثانَوي يجب أن يتضمَّن أيضًا موافقةً إلَهيَّةً بالتزامن معه أو –إذا جازَ التعبير– مُصادقة الله على ذلك الإجراء السببي الثانَوي المُحدَّد. وهذه المُصادقة بالتأكيد لا تعني عدم الاعتراض أو غياب النشاط المُضاد فقط، وإنما هي نشاط إيجابي من جانب الله. (يعتقد بيتر ف. إنواجن أنَّ مذهب المُزامنة ليس سِوى مُجاملاتٍ ميتافيزيقية فارغة لله).
ذلك هو التمييزُ الأوَّل، أمَّا الثاني فهو كالآتي: من ناحية ربما نعتقد أنَّ الأشياء المادية لديها تلك القُوى السببية بطبيعتها، ومن ثم فإنها لَخاصيةٌ جوهريَّة للجسم الماديّ أن يَبذُل هذه القُوة السببية. أي لا يمكنُ لجسمٍ ماديٍّ أن يُوجدَ من دون أن يَبذُل هذه القُوة، حتى الله ليس باستطاعته أن يخلق جسمًا ماديًّا لا يُمارس هذه القُوة. ومن ناحيةٍ أُخرى، ربما نعتقد أنَّ الأجسام الماديَّة تَبذُل تلك القُوى بالفِعل، ولكنَّ كونها كذلك ليس أمرًا جوهريًّا لطبيعتها، وكان بمقدور الله أن يخلق أجسامًا ماديَّة تنقُصها هذه الخاصيَّة.
يبدو أنَّ مذهبَ الأسباب الثانَويَّة هو سبيل الحس المشترك للتفكير في هذه المسألة. عادةً ما نعده أمرًا مُسلَّمًا به؛ أنَّ هنالك عديدٌ من الأشياء المخلوقة التي تستطيع أن تُسبّبَ تغييرات في غيرها من الأشياء المخلوقة. يمكنني أن أتسبّب في سقوط صفّ من الدومينو عن طريق ممارَستي للقليل من القُوى على قطعة الدومينو الأولى في الصَّف، ثم تتسبّب كل قطعة دومينو في سقوط القطعة التي تليها. ويمكنني أن أتسبَّب في دَحرَجة كُرة البلياردو بضَربها بعصى البلياردو، ويمكن لكُرة البلياردو هذه أن تضرب كُرةً أُخرى، فتتسبّب في تدحرج تلك الكُرة بعيدًا (هل تتسبّب كُرة البلياردو في تدحرُج الكُرة الأُخرى بعيدًا؟ أم أنَّ الحدث المُتمثّل في ضرب كُرة البلياردو للكُرة الأُخرى هو الذي يتسبَّب في حدث تدَحرُج الكُرة الأُخرى بعيدًا؟ الأولى تتعلَّق بسببيَّة الفاعل، والثانية تتعلَّق بسببيَّة الحدَث). لِهذه الطريقة في التفكير أيضًا أصولٌ تاريخية مُثيرةٌ للإعجاب، فقد طوَّرها توما الأكويني تطويرًا كامِلًا، وهو الذي -كعادته- اتَّبعَ أرسطو. ومع ذلك فهذه الطريقة في التفكير تكتنفها مشاكل وصعوبات.
لعلَّ الصعوبة الرئيسةَ هنا تكمُن في غموض فكرة التسبيب من المخلوقات. بالطبع يُمكننا أن نستخدم اصطلاحًا آخر: يُمكننا أن نتحدَّث عن القُوى أو المقدرة أو الجعل أو… ولكن هل يمكننا حقًا أن نفهمَ أيًّا من هذه التعبيرات حينما نتحدَّث عن المخلوقات؟ هل هنالك فكرة أو مفهوم واضح ومُتماسِك على نحو معقول، تشترك فيه هذه الألفاظ؟ يؤلِمني أن أتفقَ مع ديفيد هيوم، ولكن ألَيْسَ مُحقًّا هنا؟ نحنُ نرى كُرة البلياردو الأولى تندفع فتصطدم بالكُرة الثانية، فتندفع الأخيرةُ بعيدًا. وبالطبع لا نرى أو نَخْبُر أيَّ شيء من قبيل الاتصال السببي بين الكُرة الأولى والثانية أو حركة الكُرة الأولى والثانية أو الحدث المُكوَّن من اصطدام الكُرة الأولى أو اندفاع الكُرة الثانية بعيدًا. ما نراه فقط هو اندفاع الكُرة الأولى نحو الكُرة الثانية حتى تُصبح مُلتصقةً بها، ثم نسمع فرقعة قبل أن تندفع الكُرة الأُخرى بعيدًا. وعلاوةً على ذلك لا يبدو أن لدينا فكرة مُتماسكة عن ضرورة ارتباط حدَثَين. ما فكرة سببيَّة المخلوقات هذه؟
بالطبع يُمكننا قبول هذه الفكرة المعنيَّة -ببساطة- بوصفها ’’مفهومًا أوَّليًّا‘‘ Primitive رافِضينَ أن نُقدّم له تفسيرًا، ولكن بالطبع هذا لا يُساعد، إذا لم نتمكَّن من استيعاب فكرة التسبيب من المخلوقات تلك، فلن يكون مفيدًا عدها مفهومًا أوَّليًّا. بدلًا من ذلك يُمكننا أن نتَّبع كانط الذي أيقَظهُ هيوم من سُباته الدوغمائي، فحاجَّ بأنَّ السببية لا بُدَّ أن تكون نوعًا من الوسيط الشفَّاف أو العَدسة التي ننظر من خلالها إلى العالَم، نوعٌ من الأفكار التي نفرضها على العالَم، والتي لا يُظهرها العالَم كما هو في ذاته. ولكن، مُجددًا إنَّ هذا حقًّا لا يُساعد، إذا لم نتمكَّن من استيعاب ذلك المفهوم جيدًا، فلا جدوى من الزعم بأنه إسهامٌ من عندنا، ما نزال غير مُدركين لهذه الفكرة بعد.
3.2 مذهبُ الأوامر الإلَهيَّة Decretalism
مذهبُ الأوامر الإلَهيَّةِ هو الاحتمالُ الثاني. لعلَّ العلاقة التي بين الله وقوانين الطبيعة تتمثَّل في أنَّ الله يُصدر أمرًا Decreeإلى الأشياء –الأجسام الماديَّة مثلًا– يفرض عليها أن تتصرَّف وِفقًا لما تنُصُّ عليه القوانين، أي أنَّ الأجسام المادية -في واقع الأمر- لا تُمارس القُوى على بعضها البعض، ولا تُظهر فاعليةً سببيًة في واقع الأمر، وإنما أصدرَ الله أمرًا، قائلًا: فلتتصرَّف الأجسام الماديَّة كما لو أن هناك قُوة جاذبة بين أي جِسمَين، قُوة تتوافق طرديًّا مع حاصل ضرب كتلتيهما، وعكسيًّا مع مُربع المسافة بينهما. في وجهة النظر البديلة هذه لا وجود لأي قُوة حقيقيَّة بين أي جِسمَيْن، بتعبير آخر، لا يُمارِس أيًّا منهما قُواه على الآخر، وإنما يتصرَّفان كما لو أنهما كذلك. تلك الأجسام لا تمتلك أو تُمارس أي قُوى سببية في حقيقة الأمر، وإنما هي فقط تتصرَّف وَفقًا للمرسوم الإلَهيّ فحسب.
3.3 الحالات المُمكنة للحُريَّة الإلَهيَّة Counterfactuals of divine freedom
في هذه الاحتمالية الثالثة، القوانين الطبيعية هي (أو تُمثِّل) حالات ممكنة للحُريَّة الإلَهيَّة: إنها تُحدّد لنا كيف سوف يتصرَّف الله (بمحض مشيئته) مع الأشياء التي صنعها، في ظروف متعددة مختلفة. وما تقوله بصورةٍ عامة هو: في ظروفٍ مُعيَّنة C سيتسبَّب الله في الحالة الراهنة S. في هذا الاقتراح، كما في الاقتراح الثاني ليس للأشياء قُوىً سببيّة؛ إنها لا تُمارس القُوى على بعضها البعض أو بطريقةٍ أُخرى، لا تتصرَّف كونها أسبابًا فاعِلة. في ذلك الاقتراح كما في الاقتراح الثاني، كل فاعليَّة سببية هي فاعليَّة سببيَّة إلَهيَّة.
الاحتمال الثاني والثالث مرتبطان بطريقةٍ مُثيرةٍ للاهتمام، ففي كُلٍّ منهما، لا فعاليَّة سببيَّة سِوى الفاعليَّة الإلَهية. ولكن في مذهب الأوامر الإلَهيَّة، يبدو كما لو أنَّ الله يُصدِر أمرًا إلَهيًّا بفِعل سببي واحد، وإصدار ذلك الأمر يتسبَّب في كل شيء سيحدث في أي وقت. بينما الاقتراح الآخر الذي مفاده أنَّ القوانين حالات ممكنة للحرية الإلَهيَّة، يتكوَّن النشاط السببي الإلَهي من أفعال عديدة مُنتشرة عبر الزمن، ولكن مُجددًا في كِلا الاقتراحَين، كل النشاط السببي أو القُوى السببية إلَهي. وهذا يعني أنَّ الاقتراحين -كليهما- هما صورتان مُختلفتان لِما يُدعى طبقَ التقليد، مذهب المناسبة Occasionalism.
4 مذهبُ المُناسبة Occasionalism
إنَّ هذا المذهب هو وجهة النظر القائلة إنَّ القُوى السببية الوحيدة هي القُوى السببية الإلَهيَّة. يتسبّب الله في كل تغيُّر يحصُل، الله هو السبب الحقيقي الوحيد، غير أنه أحيانًا ما يكون هناك ارتباط بين أحداث مُعيَّنة وبين تسبيب الله لحدثٍ آخرَ، على سبيل المثال: هنالك ارتباطٌ مُستمر إلى حدٍّ ما بين إرادتي رفع ذراعي، وبين ارتفاع ذراعي. وذلك لأنَّ الله عادةً ما يتَّخذ من إرادتي لرفع ذراعي مُناسبةً للتسبُّب في ارتفاع ذراعي. ربما يعود مذهبُ المُناسبة إلى نيكولاس الأوتريكورتيّ Nicholas of Autrecourt (1300- توفى بعد 1350)، بَيْد أنَّه وللأسف، لم يحظَ بقبولٍ واسع لأفكاره: فقد أُحِرقَت أعمالُ نيكولاس ومُنِعَ من إلقاء المحاضرات.
ولكن هناك نيكولاس آخر، هو نيكولاس مالبرانش Nicholas Malebranche، يُعَدُّ أشهرَ مؤيّدٍ لمذهب المُناسبة في تُراثنا. وهو يصوغ مذهبه في المناسبة هكذا: ’’يوجد سبب حقيقي واحد فقط، لأنَّ هناك إلَهًا حقيقيًا واحدًا فقط؛ …جميع الأسباب الطبيعية ليستْ أسبابًا حقيقيَّة، وإنما أسباب ظرفيَّة فقط.‘‘[17] ويقول في موضعٍ آخر: ’’ولكن الأسباب الطبيعية ليست أسبابًا حقيقيَّة: إنها أسبابٌ ظرفيَّة لا تُمارس تأثيرها إلا من طريق قوَّة إرادة الله وفاعليَّتها‘‘[18]. في مذهب المناسبة إذًا، ليس هناك تسبيب من المخلوقات؛ ليس لدى المخلوقات قُوى تتسبَّب في حدوث أحداث أو تُغيّر أيَّ شيء آخر. كل القُوى السببية قُوى سببية إلَهيَّة.
إحدى مميزات مذهب المناسبة هي الجانب الآخر من المشكلة الرئيسة في مذهب الأسباب الثانَويَّة. ليس لدينا تصوُّر واضح عن التسبيب من المخلوقات، ولكنَّ هذه المشكلة لا تظهر مع السببية الإلَهيَّة. إنَّ السببية الإلَهيَّة -كما قد نفترض- تحصُل من طريق الأمر الإلَهي. يقول الله: ’’ليكن نور‘‘ فيُوجَد النور. يُريد الله أن يُوجِدَ النور أو أن يُوجِدَه في زمان ومكان مُعيَّنَيْن، فيُوجَد النور آنذاك وفي ذلك المكان. والصِّلَة بين إرادة الله أن يُوجِدَ النور وبين إيجاد النور، صِلَةٌ ضرورية بالمعنى المنطقي الواسع: إنه لمن الضروري وَفقًا لهذا المعنى، أنه إذا أرادَ الله أنَّ P، تحدث P. بقدر ما لدينا من فهم للضرورة (ونحن بالفعل، نفهم الضرورة)، لدينا فَهم للسببية حينما تكون السببيَّة الإلَهيَّة هي المعنيَّة في المسألة. وعدها نقطة لصالح مذهب المناسبة، وتُمثل في الحقيقة امتيازًا قويًّا لمذهب المناسبة.
5 أيَّهم الأفضل؟
هل ينبغي لنا إذًا أن نتقدّم بالتهنئة إلى مذهب المناسبة بوصفه مُبرهنًا؟ أو بما أن البراهين نادرة الحدوث في الفلسفة، بوصفه أفضل حالًا من مُنافسيه؟ بالكاد فقط. وذلك لأنَّ مذهب المناسبة ربما يُواجه صعوبات من نوع خاص. ففي النهاية لا أحد يستطيع إثبات أنَّ فئة من الفئات التي ليست عُضوًا من نفسها، ليست عُضوًا من نفسها، بإظهار أنها لا يُمكن أن تكون عُضوًا من نفسها. هل هناك صعوبات جادة في مذهب المناسبة؟ في حدود ما أعلم، أنه ليس مُعتقدًا رائجًا حاليًا: ما المشكلات التي يجدها الناسُ فيه؟ حسنًا، أوَّلُ شيء: أنَّ الفكرة القائلة إنَّ الجواهر المخلوقة غالِبًا ما تُسبّب أحداثًا وتغيُّراتٍ في العالَم، تبدو بدهية للحس المشترك فحسب، على سبيل المثال: أتَّجه نحو الثلاجة وأفتح بابها. هذه يقينًا حالة واضحة جدًا لكَوْني أتسبّب في حدوث شيءٍ يُسمَّى فتح باب الثلاجة. والآن لعلَّ كَوْن الفكرة من بدهيات الحِس المُشترك يُضفي عليها ميزةً مبدئيّة، أو يجعلها معقولةً مبدئيًّا لدينا، ولكنَّ امتيازًا كهذا غير كافٍ: إذا كانت فكرة التسبيب من المخلوقات غامضة تمامًا، فحقيقة أنَّها مؤيَّدة من الحِس المُشترك لا تُقدّم عَونًا كبيرًا.
5.1 مذهبُ المناسبة القَوي
ربما يظل هنالك شيء في مَعيَّة مذهب المناسبة يُمثّل اعتراضًا جادًا ضده، ضد صورة واحدة منه على الأقل. أستطيع أن أرى بسهولة كيف يُمكن عند لحظة مُعيَّنة t أن أعتَزِمَ على رفع يدي، وأنَّ الله هو الذي يرفع يدي بالفعل، وأنَّ عَزمي على رفع يدي هو المُناسَبَة التي يقوم فيها الله بفِعله، ولكن ماذا عن إرادتي لذلك أولًا وقبل أي شيء؟ ثمَّة تغيُّرٌ هنا، تغيُّر يحصُل في نَفسي، أي في ذاتي الخاصة. قبل اللحظة t، أنا لم أعتزم رفع يدي، بعد t عَزَمتُ على ذلك. هل يتسبّب الله في ذلك التغيُّر؟ في حدود ما أرى، أنَّ المشكلة لا تتعلَّق بموقف مُعيَّن بشأن علاقة العقل (أو النفس) بالجسد، لكن بغرض التحديد، ولأنَّ هذا الكتاب عن سوينبرن، سأفكّر في المشكلة بمنظور ثنائية الجوهر Substance Dualism. إنَّ نَفْسي جَوهر، لستُ جسدًا أو جِسمًا ماديًّا، ولكنني مُتَّصِل (بعناية وبشكل فريد) بجسمٍ ماديّ مُعيَّن، يُدعى: جَسَدي. وبالطبع تحدثُ فيَّ تغيُّرات، أو لعلَّها تحدثُ لي. إذا ضُرِبَ إصبعي بمطرقة؛ فسأشعر بالألم. (لعلَّني أقول شيئًا لنفسي أيضًا، ومن الحكمة أن أجعله لنفسي). إذا سألتَنْي: ماذا تناولتَ على الغداء؟ سأُفكّر لوهلة، ثم أُكوّن الاعتقاد بأنّني تناولتُ النقانق على الغداء. أُحاول تَذَكُّرَ اسم الشخص الذي كان يتحدَّثُ معي، ثم أتذكَّره فجأة. أجلس على حاسوبي، وأحاول البحث عن أفضل طريقة لطرح الفكرة التالية التي سأتحدث عنها.
هناك إذًا، تغيُّرات تطرأ عليَّ، أو تحدثُ في ذاتي. من المحتمل أن لهذه التغيُّرات أسباب، لكن ما هو سببها؟ وَفقًا لمذهب المُناسَبَة القوي، كُلُّ التسبيبِ تسبيبٌ إلَهيّ؛ الله إذًا، هو الذي يُحدِث هذه التغيُّرات. أُقرّر لا إراديًّا أن أُفكّرَ في طريق “إكسوم ريدج” الذي يقع على جبل تيتون، فأقوم بذلك في الحال؛ الله هو الذي يُسبّب ذلك القرار، ويُسبّب تفكيري في ذلك الطريق. أيُمكن أن يكون ذلك صحيحًا؟ إننا نُفكّر في اتّخاذنا للقرارات على النحو التالي: أنا أُحصي الأسباب الداعية إلى اتخاذ مسار مُعيَّن أو نقيضه، وأُفكّر في المسألة، ثم أُقرر اتخاذ واحد من المسارات. بخصوص مذهب المُناسَبَة القوي، حينما أُحصي الأسباب من أجل اتّخاذ القرار، ففي الحقيقة أنَّ الله هو الذي يُحصي هذه الأسباب، الله هو الذي يتسبَّب في جعلي أُمعِن النظر في ظرف مُعيَّن بوصفه سببًا يدعو إلى اتَّخاذ مسار أو فِعل مُعيَّن، الله هو الذي تسبَّب في جعل ذلك الظرف يتبادر إلى ذهني، والله هو الذي يتسبَّب في جعلي أتَّخِذ القرار الذي اتَّخذتُه بالفِعل.
من ثمَّ هل يكون هنالك أي معنى للقَوْل بأنني (أنا) مَن يتَّخِذ القرار؟ كيف يمكن أن أكون أنا مُتَّخِذ القرار، في حين أن الله هو الذي يتسبَّب في كل حالة من العملية برُمَّتها؟ هل هناك أي مُتَّسَع للفاعليَّة Agency، لِأن أُصبحَ فاعِلًاan Agent ؟ يبدو أنَّ الجواب هو لا. لا شيء هنا يُمثّل ما يُمكن أن نُفكِّر فيه بوصفه فاعِليَّتي، إنها فاعليَّة الله بالكامِل. كيف يُمكن التفكير بي بوصفي فاعِلًا في هذه الظروف؟ الآن سيبدو الماديون (وآخرون أحيانًا) راغبين في التخلّي عن مفهوم الفاعليَّة الإنسانية. ولكن من وجهة نظر مسيحية، هذه احتمالية غير واردة. إذا كان الله يتسبّب في أيَّما شيء أفعله، إذًا، فعندما أتَّخِذ قرارًا خاطئًا، كالتصرُّف بأنانيَّة مثلًا، فلستُ المسؤول عن ذلك القرار أو المُتسبّب فيه، بل الله. بالفعل لا أقوم بأي شيء يُمكن أن نُسمّيه، على نحو مفهوم، بـ ’’اتّخاذ‘‘ ذلك القرار: بالأحرى يتسبّب الله في حدوث حالة ذهنية مُعيَّنة في ذلك الوقت. فالنفترض أنّني وقعتُ في خطيئةٍ ما: كأن أُبدي مُلاحظة بغيضة وغير مُستساغة عن أحدهم، وسببي الرئيس لذلك هو حِقْدي على ذلك الشخص لِما حقّقه من نجاح أكاديمي. ما الذي يحدث في هذه المُناسَبَة؟ الله يتسبّب في حِقدي على نجاح هذا الشخص، والله أيضًا يتسبّب في إبدائي لتلك الملاحظة، وليس الحال أنَّ حِقْدي هو الذي يتسبَّب في إبداء تلك الملاحظة. إنَّ الرابط الوحيد بين حِقدي وإبدائي لتلك الملاحظة هو تَسَبُّبُ الله في كِليهما، يتسبّب الله في حدوثهما وَفق الترتيب نفسه الذي يَحدثان به. ويتسبّب فيهما لأسباب تخُصّه وحده.
إقرأ أيضًا: مذهب الشك في الفكر الفلسفي القديم والحديث (خمسة نماذج)
أحد الجوانب المهمة للمعتقد المسيحي يتمثَّل في أننا نحنُ البشر، موضوعات مُناسِبة للتقييم الأخلاقي، للثناء واللوم. والحقيقة المركزيَّة في المعتقَد المسيحي هي أننا نحنُ البشر أخطأنا، فاستجاب الله استجابةً عظيمة لذلك من طريق التجسُّد والكفَّارة. ولكن إذا صحَّ أنَّ الله يتسبَّب في كل فكرة من أفكاري، وكل ’’قرار‘‘ من ’’قراراتي‘‘، ومن ثمَّ، كل فِعْل من أفعالي، فكيف يُمكن أن أكون مُلامًا على هذه المُلاحظة البغيضة؟ بل كيف يُظَنُّ أنّي مسؤولٌ عنها؟ لم يكن لي أي دَخل في حدوثها أو في الحقد الذي نَتَجَتْ عنه. ومن ثمَّ ليستْ أفعالي وحالاتي الذهنية الموضوع الملائم للتقييم الأخلاقي. بتعبير أدق لستُ الموضوعَ الملائم للتقييم الأخلاقي. وليس الأمر –فقط– أنّني لم يكن بوِسْعي تجنُّب ذلك الفِعل أو تلك الحالة الذهنية؛ وإنما في واقع الأمر أنّني لا أفعل أي شيء على الإطلاق. لقد فعَلَ اللهُ كُلَّ ما حدث.
ما تزال هنالك صعوبة أُخرى تواجه مذهب المناسبة القوي: إنَّ الله كامل المحبَّة وكامل الخَيْر، ولكن إذا كان الله هو المُتسَبّب في كل ما يحدث، ويتسبَّب فيه بإرادته أن يحدث، أفلا يكونُ الله عِلَّة الشر إذًا؟ أفلا يكون هو-بالفِعل- عِلَّة ذلك الشر الحادِث كلّه؟ إذًا يستبعد المُعتَقدُ المسيحي مذهبَ المُناسَبَة القَوي، فوَفقَ المُعتقَد المسيحيّ، أنا موضوع ملائم للتقييم الأخلاقي، ولكن إذا كنتُ كذلك، فأنا مسؤول عن حالة الحِقد التي لديَّ، وأنا المسؤول عن هذه الملاحظة الحقيرة. ليس الله عِلَّة الشر الذي يحدث في العالَم، بل المخلوقات هي التي تتسبَّب في الشر.
5.2 ذاتي وعَزمي على الفعل
ولكن أليْسَ لدينا الآن مُشكلة؟ تكمن جاذبية مذهب المُناسَبَة في أنَّ السببية الإلَهيَّة، في اشتمالها على الضرورة المنطقيّة، فكرة واضحة وقابلة للفهم، ولكن التسبُّب من جانب المخلوقات ليس كذلك. على أي حال إذا رفضنا مذهبَ المُناسَبَة القوي، وتمسَّكنا بأن البشر أو ربما الأشخاص هم عِلَّة التغيُّرات –من قبيل القرارات أو العزم على فِعل ما– في أنفُسهم، بمعنى أنني أتسبَّب في حدث يؤدّي إلى اتّخاذي لقرارٍ مُعيَّن، أقول إذا قبلنا بذلك ألَسنا نعود إلى غموض مفهوم التسبيب من المخلوقات؟ حسنًا لعلَّنا نُواجه مفهومًا غامضًا هنا فعلًا، إلا أنه مفهومٌ غامض مختلف. إنَّ العلاقة التي بين ذاتي وقراري أو عزمي على الفِعل، حتى إذا فَكَّر فيها المرء تفكيرًا مُلائمًا كونها سببيَّة، إلا أنَّها تختلفُ كثيرًا عن العلاقة السببية التي بين ذاتي ورَفْع يدي. افترض أنّني أعتزمُ رفعَ يدي، إنَّ هذه العلاقة بيني وبين ذلك العزم، مُختلفةٌ للغاية عن أي عِلاقة سببيَّة (إن كان هناك مثل هذه العلاقة بالأساس) بيني وبين رفع يَدي، ربما أمكننا مُلاحظة ذلك الفرق إذا تطرّقنا إلى الحالة الإلَهيَّة. قلتُ إننا نستطيع فهم السببية الإلَهيَّة بوصفها ضرورية منطقيًّا بالمعنى الواسع فحسب: بالضرورة إذا أراد الله كذا وكذا، فإنَّ ما سيحدث هو كذا وكذا، ولكن ليس هناك شيء كهذا في حالة العلاقة بين الله وما يُريده في ذاته، الله يتسبَّب في إيجاد النور فقط بإرادته أن يكون هناك نور، لكنه لا يتسبَّب في أن تكون إرادته هي أن يُريد إيجاد النور. إنَّ سؤال العلاقة التي بين شخص وحالته الذهنية (مثل اتّخاذه للقرارات أو العزم على فِعل ما)، يختلف تمامًا عن سؤال الروابط السببية (الممكنة) التي بين الشخص والأحداث مثل رفع ذراعه. وبخصوص السؤال الأوَّل، نعرف أنَّ الناس بالفعل يتَّخذون قرارات، وبالفعل يُريدون أن تكون الأحوال الراهنة على هذه الحال أو تلك، ويعزمون على فِعل أمور مُعيَّنة، حتى لو لم نتمكَّن من شرح كيفيَّة قيامهم بذلك أو ما تنطوي عليه هذه الحالات، أو ما إذا كانت السببية تتدخَّل في حدوث هذه الحالات.
اعتراض، قُلتَ فيما سبق إنَّ غموض فكرة التسبيب من المخلوقات يُمثّل نقطة قوية لصالح مذهب المناسَبة، والآن تُخبرنا بأننا لا يلزم علينا سِوى قبول العلاقة التي بين الأشخاص وحالاتهم الذهنية حتى لو لم نتمكَّن من شرحها. فلِمَ لا نقول الشيء نفسه بخصوص التسبيب من المخلوقات؟ الرد: بسبب وجود بديل في حالة التسبيب من المخلوقات، يمكننا اختيار مذهب المناسَبة بدلًا منه. أمَّا في حالة العلاقة (أيّما كانت بالضبط) التي بين الشخص والقرارات، فليس هناك بديل. وتحديدًا، لا يُمكننا أن نقول بكيفية معقولة بأنَّ الله سبَّبها.
5.3 أهناك مشكلة في مذهب المُناسَبَة الضعيف؟
مذهبُ المُناسَبَة القوي إذًا قوي للغاية. لنُميّز الآن بين مذهب المُناسَبَة القوي ومذهب المُناسَبَة الضعيف. لن أُضيع كثيرًا من الوقت مُحاولًا تقديم تعريف جاد لمذهب المُناسَبَة الضعيف: فلنَقُل لأغراضنا الحالية، أنه وجهة النظر القائلة بوجود نوع وحيد من السببية (على فرَض أنها كذلك بالفعل) تمتلكه المخلوقات ينطوي على اتّخاذ القرارات، المشيئات، العَزْم على فِعلٍ ما. وَفقًا لمذهب المُناسَبَة الضعيف، أنا المُتسبّب (بهذا المعنى الخاص) في قراراتي وفي عَزمي على الفِعل، ولكن عندما أُريد فعل شيء –أن أرفع يدي على سبيل المثال– فإن الله هو الذي يتسبّب في رَفع يَدي.
ولكن ألَن يُواجه مذهب المُناسَبَة الضعيف إحدى الصعوبات التي واجهها نظيره القوي؟ أحد الاعتراضات على مذهب المُناسَبَة القوي أنه يجعل الله هو عِلَّة الشرِّ في العالَم؛ الله هو السبب الأوْحَد لقراراتي ومشيئتي الشريرة. من جِهة مذهب المُناسَبَة الضعيف هذا غير صحيح، ولكن ما يزال الله هو المُتسبّب في أيِّ شرٍّ يتأثَّر بهِ العالَم بواسطة قراراتي ومشيئتي. قرّرتُ السطو على مَصرف، وفي أثناء عملية السطو أُطْلِقُ النار على فرد من أفراد الأمن. لَم يتسبَّبْ الله في قراري بالسطو على المصرِف أو إطلاق النار على الأمن، ولكنه تسبّب في جميع التغيُّرات التي تحدث في أطرافي، بما في ذلك إطلاقي النار على الأمن، ويتسبّب أيضًا في إصابة فرد الأمن أو مَوْته، أيجعل ذلك من الله عِلَّةَ الشر؟
إنه ليسَ بسؤالٍ سَهل بداءةً، علينا أن نضعَ تمييزًا. أُسلِّم بأن الشر هو مسألة تتعلَّق بقيام شخص ما بفعل خاطئ، ولكن في سياق مذهب المناسبة الضعيف، فإنه يعني القيام بإرادة خاطئة أو العَزم على فِعل خاطئ. الله لا يتسبّب في أيٍّ من الإرادة أو العَزم على الفعل. وعلى أي حال بالإضافة إلى الشر، هنالك أيضًا أحوال ومواقف سيئة، مُعاناة أحدهم أو تعرُّضه للظُلم مثلًا. دعونا نُشير بطريقة غير لائقة إلى هذه الأحوال والمواقف بوصفها ’’السُّوء‘‘. أوَلَيسَ الله في مذهب المُناسَبَة الضعيف، هو المسؤول عن ذلك السُّوء؟ الله ليس عِلَّة الشر، ولكنه المسؤول عن السُّوء، ألَيْسَ هذا سيئًا بما فيه الكفاية؟
ربما يُمكننا مُقاربة هذه المسألة من طريق السؤال عمَّا يُقدّمه البديل الرئيس لمذهب المُناسَبَة، بالنظر إلى هذه المشكلة، ألا وهو مذهب الأسباب الثانَويَّة. هل يتقدَّم مذهب الأسباب الثانَويَّة بشيء أفضل في مسألة الشر؟ هنا ينبغي أن نُميّز بين حالَتين: السيناريو الذي نكون فيه –فقط– أشخاص فاعِلين غير ماديين نمتلك قُوى سببية، والسيناريو الذي نكون فيه كِليهما، أشخاصًا فاعِلين وجواهر (أو أجسام) ماديَّة تمتلك قُوى سببية. أولًا، ماذا عن الجواهر الماديَّة بوصفها أسبابًا؟ أُسلِّم بأن من الواضح أنَّ الجواهر الماديَّة ليست أشخاصًا فاعِلَة ولا يُمكنها أن تتصرَّف بحُريَّة. ومن ثمَّ فإنَّ كل ما تفعله إما عن طريق المُصادَفَة أو مُحدَّد بعِلَّة سابِقة عليها، ولكن من غير المعقول أن تتصرَّف الجواهر الماديَّة بمحض المُصادَفَة، كيف يُمكن لشيء أن يحدث بالمُصادَفَة، بالنظر إلى وجود الله؟ قد نعتقد أنَّ الله أصدر أمرًا قائلًا: ’’لتكُن A أو B، ولا يهمني أيَّهما سيحدث‘‘، ولكن بصفته عليمًا بكل شيء فلا بُدَّ أن يعرف أيٍّ منهما سيحدث إذا أصدر أمرًا كهذا. كيف سيختلفُ ذلك وبأي شكل عن الأمر بـ A فقط، أو B فقط؟ سيان.
إذًا فماذا لو كانت الجواهر المادية تسلُك وَفقًا لعِلَّة سابقة عليها؟ لنفترض E حادِثا مُعيَّنا، لعلَّ هناك سلسلة سببية تبدأ من الخَلْق وتنتهي عند E. إذا كان كذلك فعلاقة الله بـ E هي كالآتي: خلق الله مجموعة من الأشياء، لها تلك القُوى السببية، وحَفِظ لها (ولِما سيأتي بعدها) استمرارَ الوجود، عالِمًا بأنَّ E سوف يحدث في النهاية بوصفه نتيجة لخَلْقُه وعنايته. بطريقة غير مباشرة تسبّب الله في E، أي من طريق تفعيل سلسلة من التغيُّرات والعناية التي تمر بها الأشياء حتى تصل إلى E. افترض أنَّ E حادثٌ سيء. في مذهب المُناسَبَة: الله تسبَّب في حدوث E مباشرةً، أمَّا في السيناريو الحالي: الله تسبَّب في حدوث E بطريقة غير مُباشرة. هل هناك أي سبب جيّد للاعتقاد بأنَّ الله في الحالة الأولى يتحمَّل مسؤولية التسبُّب في الحادث السيءE بصورة أكبر مِمَّا في الحالة الثانية؟ لا أظن ذلك. إذًا فمذهب الأسباب الثانَويَّة لا يتقدَّم بما هو أفضل في هذه المسألة.
لننتقل إلى السيناريو الآخر، افترض أنَّ هناك أشخاصًا فاعِلين وأنَّهم باختيارهم تسبَّبوا بحادث ضمن سلسلة الأحداث المؤدّية لـE على سبيل المثال، عَزمتُ على طعن أحدهم. في مذهب الأسباب الثانَويَّة فإن عَزمي على الطَّعن يُسبّب (على نحو مُحتمل) أحداثًا مُعيَّنة في دماغي، وهي، بدورها حلقة تقع ضمن سلسلة الأحداث التي تنتهي بحادث الطعن. بخصوص مَن يعتنق مذهب المُناسَبَة (الضعيف)، يتَّخِذ الله من عَزمي على الفِعل مُناسَبةً كي يتسبَّب في الأحداث التي تقع في دماغي بالإضافة لحدث تسديد الطعنة. إنَّ نتائج عَزمي على الفِعل تحدث في كِلتا الحالتين. من المُحتمل أنَّ الله يُصادق على ذلك التخطيط ويضمنه كي يمنحنا حُريَّة ذات شأن كبير؛ فبعَزمي على الفِعل، أستطيع التسبُّبَ في أحداث ذات أهمية أخلاقيَّة، ومن ضمنها الأحداث التي تُجسد جُزءًا من الشر.
في كلٍّ من مَذهَبيّ الأسباب الثانَويَّة والمناسبة، يسمح لي الله بارتكاب أمر سيء. فمُعتنق مذهب المناسَبَة يتسبَّب الله تَسبُّبًا مُباشرًا في الأحداث التالية لَعزمي على الفِعل التي تنتهي بالطعن، ومُعتنِق مذهب الأسباب الثانَويَّة، تُسبّب إرادتي حدَثًا في دماغي، ثم يُنشئ الله العلاقات السببية التي تربط بين حادث الدماغ والأحداث اللاحقة من السلسلة التي تنتهي بالطعن، مُسبّبًا بذلك تلك الأحداث تسببًا غير مُباشر، بما في ذلك الطعن. أمَّا في مذهب المُناسَبَة، يُسبّبُ الله أحداثَ الدماغ مُباشرةً، أما وَفقَ الأسباب الثانَويَّة، أتسبّب أنا بتلك الأحداث، وليس الله هو المُتسبّب فيها (عِلمًا بأنَّ الله يحفظ وجودي ويُصادق على نشاطي السببي). ولكنَّ ذلك الاختلاف غير ذي صِلَة بالسؤال قَيْد النقاش، وهو السؤال بشأن ما إذا كان تَسَبُّب الله في الشر مُتعارِضًا بطريقةٍ ما مع كَوْنه كُليّ الخير؟ في كِلتا الحالتين يتسبَّب الله تسببًا مُباشرًا أو غير مُباشر في الشر. وكما جادلت بأنَّه من الصَّعب فهم كيف يكون الله مسؤولًا عن الشر إذا تسبَّب فيه بطريقة مُباشرة، مسؤوليةً أكبر مِمّا إذا تسبَّب فيه بطريقة غير مُباشرة، كذلك يكون صَعبًا رؤية كيف يُمكن أن يَكون تَسبُّبه في الشر بطريقة مُباشرة متعارضًا مع خَيريَّته تعارضًا أكبر مُقارنةً بما إذا تسبَّب فيه بطريقة غير مُباشرة. ومع ذلك عليَّ أن أعترف بأنَّ هناك نوعًا من الانجذاب الحدسي نحو فكرة أنَّ تَسَبُّب الله في الشر مُباشرةً يجعلهُ مُنخرطًا في الشر بصورة حميمية أكثر مِمَّا لو كان مُتسبّبًا فيه بطريقة غير مُباشرة.
6 الخاتمة
لنأخُذ الخُلاصة. مشكلة مذهب الأسباب الثانَويَّة تكمن في أننا لا نملك تصوُّرًا واضحًا لمفهوم التسبيب الذي تقوم بهِ المخلوقات؛ نفهم التسبيب الإلَهي، أمَّا التسبيب من المخلوقات، فأمر مشكوك فيه على أفضل تقدير. في مذهب المُناسَبَة بالطبع، ليس هناك تسبيب من المخلوقات، وإلى هذا الحد يتمتَّع مذهب المناسبة بميزة واضحة. وفي مذهب المُناسَبَة مع ذلك، تلك الفكرة الحدسيَّة بأنَّ تَسَبُّب الله في الشر مُباشرةً أكثر تعارضًا مع خيريّته، مقارنةً بكَوْنه مُتسبّبًا فيه بطريقة غير مُباشِرة. إنَّ هذين الافتراضين لا يقبلان المُفاضَلَةَ، لكن يبدو لي أنَّ مذهب المُناسَبَة يُعاني مشكلةً أصغر من مشكلة البديل الآخر. ولذا أقترحُ مذهبَ المُناسَبَة (الضعيف) بوصفه أفضل حل وَسَط.
المراجع:
[1] باحث مصري متخصص في الفلسفة التحليلية، مهتم بالميتافيزيقا والإبستمولوجيا وفلسفة الدين والعلم.
[2] van Fraassen, Bas. (1989). Laws and Symmetry. Oxford: Clarendon Press.
[3] تحرّيًا للدقَّة أكثر، إنَّ (1) هي نتيجة لقانون طبيعي، وليست هي بذاتها قانونًا طبيعيًا.
[4] Shoemaker, Sydney. (1980). “Causality and Properties,” in Peter van Inwagen (ed.), Time and Cause. Dordrecht: D. Reidel.
[5] Swoyer, Chris. (1982). “The Nature of Natural Laws,” Australian Journal of Philosophy, 60 (3): 203–23.
[6] Fales, Evan. (1990). Causation and Universals. London: Routledge.
[7] Bird, Alexander. (2005). “The Dispositionalist Conception of Law,” Foundations of Science, 10 (4): 353–70.
[8] لا يمكننا أن نُعطي تعريفًا للضرورة المُطلقة هنا- وإذا أمكننا، فسيكون بألفاظ مفاهيم أُخرى تحتاج بدورها إلى التفسير (الإمكانية، والاستحالة على سبيل المثال)، ولكننا لسنا في حاجة شديدة إلى ذلك التعريف، إذ نستطيع أن نفهم الفكرة من خلال الأمثلة.
[9] Armstrong, David. (1983). What is a Law of Nature? Cambridge: Cambridge University Press.
[10] Lewis, David. (1983). “New Work for a Theory of Universals,” Australasian Journal of Philosophy, 64 (4): 343–77.
[11] تجد أفضل مناقشة لهذه المشكلة عند فان فراسِن في المصدر المذكور له آنفًا
[12] إننا حتى لا نعرف ما إذا كانت القوة والبساطة متساويتين في الأهمية أم لا، ربما تكون القوّة أهم من البساطة أو العكس.
[13] van Inwagen, Peter. (1983). Essay on Free Will. Oxford: Oxford University Press.
[14] قارنها بالنزعة الاسمية:
- ليس هناك كُليَّات، بدلًا من ذلك هناك تسميات، أسماء.
- هناك كُليَّات، وهي تسميات، أسماء.
[15] Ratzsch, Del. (1987). “Nomo(theo)logical Necessity,” Faith and Philosophy, 4 (4): 383–402.
[16] باستثناء ذاته، بالطبع. وهناك أيضًا الأشياء المجرَّدة Abstract Objects مثل الأعداد، والقضايا، والصفات وما شابه؛ أنا أقبل تلك الأشياء بوصفها موجودات ضرورية ولكن باعتمادها على الله. وأنا غير مَعني بالأشياء المُجرَّدة في هذا السياق.
[17] The Search after Truth and Elucidations of the Search after Truth, trans. Lennon and Oscamp (1997: 448), cited in Lee (2014).
[18] Lennon, Thomas M. and Paul J. Oscamp. (trans.) (1997). The Search for Truth and Elucidations of the Search for Truth. Cambridge: Cambridge University Press.