القراءةُ المعاصرةُ للقرآن الكريم: الخطوات التأسيسيةُ لمنهجِ إبراهيم بن نبي نموذجًا

تكوين

تمــهـــيــد:

تعدَّدت الدِّراسات بشأن القرآن الكريم واختلفتْ باختلاف التَّوجهات الفكرية لكلِّ الباحثين أو المشتغلين على هذا النصِّ بالتَّعبير المعاصر، وكذلك اختلاف زاويا النَّظر المنهجية في قراءة النصِّ الدِّيني، فلمْ يكن هذا وليد اليوم بقدْر ما هو نتاجُ هذا التَّفاعل الفكري في تاريخنا وثقافتنا الإسلامية، فمنذ بدْءِ التَّعامل مع القرآن الكريم بوصفه عِلْمًا مستقلًّا بذاته ظهر التَّباين والاختلاف، ونتجَ عن ذلك مجموعة من المدارس انقسمتْ داخل نفسها لتفرزَ لنا ما سمِّي بالتَّفسير المأثور والتفسير العقلي والإشاري والفقهي، في صورة واضحة تدلُّ على أنَّ النصَّ القرآني نصٌّ مولِّدٌ وغنيٌّ بإيحاءات ورموز وعِبر وقصص كثيرة جعلتْ منه منبعًا لاحتمالات كثيرةٍ على مستوى التفسير، والتأويل تصلُ في بعض الأحيان إلى حدِّ التَّناقض كما هو معروف في علم التّفسير. ولا يهمُّنا هنا البحث عن أحقَّية منهجٍ تفسيريٍّ من غيره وأيُّهم أقربُ إلى الصَّوابِ، كما هو حال من يزعم صوابية قراءته في مقابل خطأ القراءات الأخرى. ولكنْ ما نصبو إليه هو الإشارة إلى مركزية هذا النصِّ في توليد هذه التأويلات والأفهام المختلفة، على الرُّغم من تعدُّد المناهج وتنوُّع الأدوات والوسائل في مقاربة هذا النصِّ.

لقد كانت القيمةُ الرَّمزية للقرآن الكريم ومكانته المعرفية والوظيفية كما يسمِّيها أركون، مجالًا يتبيَّنُ عن طريقه قيمة هذا النصِّ بالنسبة للعقل المسلم قديمًا وحديثًا، إلى أنْ استحكمت الأيديولوجية السُّنِّيةُ فيما عُرف بأهل الأثر، وهكذا أصبحَ القرآن الكريم أسيرًا في يد الرِّوايات المنسوبة للنَّبيِّ محمد وأقوال الصَّحابة والتَّابعين، ليصير النَّص التَّأسيسي المتجلِّي في القرآن هامشيا. ويُعوَضُ بالمنتج الثَّقافي بوصفه ممثلًا التفاعل الإنساني مع الظاهرة الدينية. فحين نستجمع كل هذه العناصر تتكوَّنُ لدينا رؤيةٌ مفادها أنَّ التفاعل مع النَّص التّأسِيسي ولَّدَ نصوصًا موازية، وبما أنَّ هذا التفاعل انطلق من قاعدة مقدّسة، صارت التفاسير والشروح والتأويلات والاجتهادات، توازي النص المؤسِّس في امتلاكه للحقيقة المطلقة، ولو تأمَّلنا قليلًا لوجدْنا أنَّ هناك فاصلًا بين النَّص والقراءة، ومن ثمَّ صعوبةُ امتلاك الحقيقة المطلقة. إذ: “لا تطابق ممكن في الأصل بين القارئ والمقروء، إذ النَّص يحتملُ بذاته أكثر من قراءة. وأنَّه لا قراءة منزَّهة مجرَّدة. إذ كلُّ قراءة في نصٍّ ما، هي حَرْفٌ لألفاظه وإزاحة لمعانيه”[1]ونظرة إلى الواقع التاريخي تؤكِّدُ هذا المسار الذي أشرنا إليه سابقًا، حين أصبح الواقع السِّياسي الدِّيني يضيفُ إلى النصِّ القرآني، لا سيَّما في قضية السُّلطة أبعادًا تأويليةً لم تكن فيه وقت التنزيل كما أكَّد ذلك عبد الجواد ياسين[2].

وعلى الرَّغم من بروز تيَّارٍ عقلانيٍّ في تفسير القرآن الكريم حمل لواءه المعتزلة -المعتزلة وهم جماعة من الفلاسفة وعلماء الكلام المسلمين الذين ظهروا في القرون الهجرية الأولى- الذين تركزت أفكارهم في العقل والعدل، معتبرين العقل أداة يُفهمُ بها الدين، إلا أنَّ الواقع السياسي الإسلامي والفكري قد همشَ هذا التوجه العقلاني بسبب هذا الاستحكام على مفاصل الدَّولة حينها من التيار السنِّي، الذي جعل من أهمِّ ركائزه هذه الثلاثيةُ: الروايات والتأويل والتبرير والرجال[3]. وعلى الرغم من بعض ملامح التحرر الفكري الذي عرفهُ عصر المأمون، إلاّ أنَّ هذه الأمور ستعودُ إلى ما هو عليه مع مجيءِ الخليفة القادر لأنه سيقضي بتحريم نظرية المعتزلة واعتبارها خارجة عن القانون. وهذا يعيدنا إلى ما سمَّاهُ أركون بالمستحيل في التَّفكير فيه، وكان يقصدُ بذلك فكرة الوحي في الفكر الإسلامي. فالمكانة الأرثوذوكسية اللاهوتية للوحي كما نطقَ بها النبي وجُمعت فورًا أو لاحقًا في المصحف تحت الإشراف الرسمي للخليفة عثمان بن عفان لا يمكن أنْ يكون موضوعًا للدِّراسة أو مادَّة للتحرَّي النَّقدي[4].

في العصر الحديث ظهرتْ مجموعة من المحاولات حاولت كسِر سلطة الرِّواية من أجل أن تعيد إلى النصِّ القرآني أصالتهُ، وكان السَّبب في ذلك هو أنَّ المقارباتُ القرآنيةُ قديمًا وحديثًا اتَّخذت أشكالًا متعددة في قمع الكائن الإنساني عبر مستويات عديدة، كان أهمُّها حصرُ مجال فكره في ما تداولته ثقافة روائية شفهية اعتمدت في أصولها على الانتماء السِّياسي في الكثير من الأحيان، ومن جهة أخرى قمع كلِّ المحاولات التي تقفزُ على تأطيرِ الإنسان خارج النَّسق الرِّوائي تارة بالتنفير وخلق صراع وهميٍّ بين ما أسموْه جدلية العقل والنقل، وتارة أخرى قمعُهُ مستخدمين التَّصفية الجسدية والنَّفسية التي كان التاريخ شاهدًا على كثير من مشاهدها وفصولها، دون مراعاةٍ لحسٍّ إنساني ينبعثُ من قيم الدِّين بوصفه رسالةً تتجاوزُ الإكراه والتَّأطير القسْري. وبما أنَّ النَّبي مفعمٌ دائمًا بالوحي الإلهي فإن ما يقوله بوصفه إنسانًا يتمتَّعُ دائمًا بالضمانة الأنطولوجية وفق تعبير أركون[5]. هذه الثقافةُ الروائيةُ لم تنشأ من فراغ، بقدْر ما كانت تعبيرًا صريحًا عن الصِّراعِ السِّياسي وعن احتكار الحديث النَّبوي والسَّيطرة عليه. فمن المعروف أنَّ هذا الحديث كان يشرط مشروعية السَّلطة ويتحكَّم بها[6].

ظلَّت هذه المقاربة تنخر الجسم وتعمِّقُ الهوة بين النظرية والتطبيق إلى حدود بعيدة، لم يستطع العقل المتديَّنُ في أحيانٍ كثيرةٍ أنْ يخرج من نسقها المحكم في قبضته القسرية وليس في قوته الاقتراحية، إلى أنْ ظهرت اتِّجاهاتٌ أخرى تحاول وفق تصوُّرها للنص القرآني أنْ تؤطر العقل المتديَّن وفقًا لجدلية قرآنية متجاوزة لحدود الرواية في تصوُّرها، عبر عملية نقدية تستهدف عرض هذه الروايات الثقافية على مضامين القرآن وموازينه ليحدث التعارض، ومن ثمَّ الانتصار لمنطق القرآن في شموليته ووحدته.  ظهرتْ كتابات مجموعةٍ من الرُّواد في هذا المجال مثل جمال البنَّا وأبو القاسم الحاج حمد ومحمد شحرور وسامر إسلامبولي وأحمد صبحي منصور وكمال مصطفى مهدوي وسمير إبراهيم خليل حسن وغيرهم كثير[7]. والغايةُ الأساسية هنا هو الشعورُ بحاجة هذا التراث الفكري الإسلامي في شقِّه الرّوائي إلى تنقية وتمحيص ودراسة تميُّز فيه بين الصَّواب والخطأ، وبذلك يتحرَّرُ النصُّ المحوري من قيْد الحمولات الثَّقافية التي أنتجتْها الرُّواية بمختلف مستوياتها. ويمكن تلخيص هذا المنهج مع بعض الفوارق فيما جاءت به كلّ هذه الكتابات فيما أشارت إليه عائشة بنت الشاطئ في كتابها التفسير البياني للقرآن الكريم، وغيرها كذلك:

  • التَّناولُ الموضوعي لما يرادُ فهمهُ من كتاب الإسلام. هذه النقطة هي التي خصَّصَ لها باقر الصدر كتابًا بعنوان التفسيرُ الموضوعي في مقابل التفسير التّجزيئي الذي طبعَ الدّراسات القرآنية، ويعني بـ “الموضوعية هي التي تطرح موضوعا من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية وتتَّجهُ إلى درسهِ وتقييمهِ من زاوية قرآنية للخروج بنظرية قرآنية بصدده”.[8]
  • فهمُ دلالات الألفاظ وَفق الدلالة القرآنية عن طريق استقراء ما في القرآن الكريم من صيغ اللَّفظ، وتدبُّرِ سياقاتها الخاصَّةُ في الآية والسُّورة وفي القرآن كلِّهِ. هذه الإشكالية المنهجية في مدارسة النصِّ القرآني. هي ما سمَّاهُ أبو القاسم الحاج حمد بـ “التمييز بين التوظيف الإلهي للغة والتوظيف العربي” ص 53. ففهم مصطلحات القرآن يجب أنْ يكونَ فهْمًا موضوعيًا يتجاوزُ النظرةَ التجزيئية التي طبعَت التفسير بالمأثور، وذلك لا يتأتَّى إلا بالاحتكام إلى أسلوب القرآن نفسه على هديِ التتبع الدَّقيق بمعهود استعماله للألفاظ والأساليب داخل سياقاتها القرآنية.
  • الاحتكامُ إلى سياقِ النص في الكتاب المحكم ملتزمين ما يحملهُ نصًّا وروحًا. هذا ما يدعوه سامر إسلامبولي أن القرآن حجة بذاته على المعاجم والقواميس وغيرهم.
  • يؤكِّدُ سامر إسلامبولي أنَّ الخطاب القرءاني مُحْكم، وهذا يعني أنَّهُ إذا اختلف المبنى اختلف المعنى ضرورة. كما أنَّ مفهوم النَّصوص الشرعية كلُّها محْكم لا يوجد فيها تشابه، أمَّا أسلوب الرَّمز في القرءان لا يتعلَّق بنصوص التشريع والإيمان بالله، بل يتعلَّقُ بالقصص والأحلام، فلا يوجدُ أسباب نزول للتشريع وإنِّما يوجدُ مناسبات وظروف نزل فيها الحكمُ للتفعيل، ولا يوجدُ نَسْخ في المنظومة التشريعية القرءانية ولا يصحُّ فهم النصِّ على ظاهره أو الشَّائع بين الناس من معاني[9].
  • القراءةُ المعاصرة للقرآن الكريم: إبراهيم ابن نبي نموذجًا:

نجحت هذه المقاربات إلى حدٍّ كبير في توسيع الهوة بين ما هو نظري وتطبيقي في علم الحديث، وأخفقتْ حين لم تجبْ عن قضايا كثيرة مرتبطة بمجموعة من الأمور التفصيلية الخاصة بالنُّسك والرِّوايات التَّاريخية المؤسِّسة لتدوين القرآن ورواياته، وغيرُ ذلك مما تحدَّثنا عنه في مقالة نقدية خاصة بهذا التيار.

في هذا السياق يأتي المنهج المطروح للنِّقاش والدِّراسة والنَّقد. وهو عبارة عن مجموعة من الخطوات التأسيسية التي اقترحها “إبراهيم بن نبي”، في منتدى معراج القلم وخلَّفت ردود أفعال متباينة من طرف المتدخِّلين حينها سلبًا وإيجابًا. وبغضِّ النَّظر عن أصالة هذا المنهج وما حدث بخصوصه من صراعات فكرية بين أطراف مختلفة بحكمِ النَّتائج التي توصَّل إليها، يأتي نقدُنا هنا لهذه المداخل التَّأسيسية ونحن مبتعدون عن الخوض في هذا الصِّراع[10]. فإبراهيم بن نبي نفسه يؤكِّدُ أنَّ منهج الأستاذ سمير إبراهيم خليل حسن كان موجِّهًا له، فقد استفاد منه في كثير من الأحيان وطوّره. وهذا يدلُّ أيضًا على صرامة المنهج الفكري للدكتور سمير، والذي يستحقُّ منا كل التقدير والاحترام. لكن ما جعلني أيضًا أختارُ هذه الخطوات التي اقترحها ابن نبي، هو أنَّ أحد الكُتّاب استجمعها في مقالة سمَّاها: “أعصاب منهج ابن نبي”، وهو مقالُ قديمٌ حاول صاحبه وضع المنهج وتقريبه للأفهام بلُغة سهلة وميسرة. لذلك ارتبط منتدى معراج القلم بهذا المنهج وعليه كانت تدور مختلف النقاشات، بل كان ساحة فكرية جمعتْ أقلامًا من مختلف التَّوجهات العقدية والأيديولوجية.

لعلَّ القراءة المتقدَّمة لكثير من الأسلاف في تعاملهم مع القرآن الكريم، كانت دافعًا أساسيًا من أجل محاولة كثير من الباحثين وضع منهاج معيَّن، يضبطُ عن طريقه العملية التفسيرية في أبعادها المتكاملة والتي كانت ولا تزال محطَّ تجاذبات وتناقضات لكثير من الدَّارسين في الحقل الديني بعامةً. والخلطُ المعرفي الروائي أسهم في بلورة هذه الرؤى حين ضَيَّقَ على النصِّ القرآني بروايات وأشعار وآثار كان يقرأ القرآن داخلها دون محدِّداتٍ معرفية مضبوطة، ولعلَّ أهمَّ هذه المحدَّدات التي سوف تُسَيِّجُ النصَّ القرآني ما يلي: تفسير القرآن بالسنة وتفسيره بأسباب النزول وتفسيره بأقوال الصحابة والتابعين وتفسير القرآن بأقوال المجتهدين والفقهاء وتفسيره بالأخبار التاريخية والإسرائيلية[11].

كلُّ هذا السِّياق من التضارب في الآراء والأفكار بين محافظ على التراث السَّلفي بسلبياته الكثيرة ورافضٍ له جملةً وتفصيلًا، ظهرتْ بوادرُ قراءاتٍ جديدةٍ تحاولُ أنْ تخرج من النَّفق المظلم الذي أطَّرتهُ قواعد التفسير المأثورة عن السَّلف. كان لزامًا أنْ تخرُج حركة تفسيرية من ركام هذه الثَّقافة المحدِّدة للحركة الإنسانية، والمانعة من التَّجديد الفكري والنَّظر بعيْن الواقع في كثير من الأحيان. فظهرتْ هذه المدارس والمقاربات التَّفسيرية وعيًا منها بضرورة التَّجديد في المفاهيم والموروث الفكري في مقابل الإسقاط والتَّجزيء المخلِّ الذي عرفهُ هذا التُّراث، وشَكَّلَ القداسة التي نشأت فيه. لقد كان الجابري واعيًا بإشكالية التُّراث حينما سمَّى قراءتهُ له بالمعاصرة، فهي قراءةٌ لأنَّها تتجاوز مسألة البحث والدَّراسة لتعطي المقروء معنىً أو تأويلًا، كما أنَّها معاصرة لأنَّها تحرص على جعل المقروء معاصراً لنفسه على صعيد الإشكالية والمحتوى المعرفي والمضمون الإيديولوجي[12]. أمَّا عن معاصرة المقروء لنا فهي إضفاء المعقولية على المقروء، بتوظيفه في إغناء الذَّات وإعادة بنائها، فللأسف الشديد نجدُ أن التَّيار الفكري المعاصر الأكثرُ مقاربة لهذا المنتج التراثي هو التَّيار الفكري السَّلفي، الذي انشغل أكثر كما يقول الجابري من غيره بالتُّراث وإحيائه واستثماره في إطار قراءة أيديولوجية سافرةٌ أساسُها إسقاط صورة المستقبل المنشود، المستقبل الأيديولوجي على الماضي. ثمَّ البرهنةُ انطلاقًا من عملية الإسقاط هذه، على أنّ ما تمَّ في الماضي يمكنُ تحقيقهُ في المستقبل[13].

أحببتُ أن أطرح بين يديْ هذا الموضوع مقدمة، تحاولُ تأكيدَ أنَّ المعرفة لا تنشأ من فراغ كما يريدُ أنْ يصوِّرَ لنا البعضُ عن قصد، أو غير قصد بدعوى الجديد والتجديد، وإنما هو العملُ التراكميُّ أخذًا وعطاءً، قبضًا وبسْطًا، تبنيًّا ونقدًا. بيد أنَّ كل هذه المراحل تحرقُ في كثير من الأحيان على حين غفلة منَّا، عندما نريدُ أنْ ننسى أو نتناسى هذا البعد الإنساني التَّراكمي لنجعل من قراءة ما أو منهج ما أمرًا مفصولًا عن واقعه النَّفسي والتَّاريخي والاجتماعي. وهنا نأتي إلى منهج الأستاذ ابن نبي بوصفه تجليًّا واضحًّا من تجليَّات هذا التَّراكم المعرفي في القراءة القرآنية، وإن كانت لمْستُه الفكرية أكثرُ جدلًا من سابقيه من المناهج التي ارتبطت بنقد البنية الروائية في عمومها.

طرحَ ابن نبي منهجًا وصَفَهُ بالمتكامل وَفق شروطٍ وضوابطَ محدَّدة اعتبرها أمورًا ثابتةً لا تتحوَّل وإنْ تحوَّلت القراءة وتعدَّدت وجهات النظر، فكان لهذا المنهج السَّبقُ في الخروج من ركام النَّسق الثقافي الروائي بقضايا مصيرية في بنية الفكر الديني الإسلامي، خلَّفت ردود أفعال متباينة ومتناقضة، بين مشدود إلى المنهج بدرجة كبيرة وناقضٍ للبناء المتراكم غير المنتهي في ابن نبي أو غيره، بعبارات لا يمكن أنْ تنتمي إلى حقل العلم والدراسة والنقد. والخطير في هذا الأمر أنْ يصير الذوق دالًّا على المعرفة وعلى الحق، أو أنْ يصير كل جديد أو كل قراءة مبنية على أصول وضوابط جديدة دالةً على الباطل وكل معاني التنقيص والحط من الآخر، وبين هذا وذاك تضيعُ الحقيقة ويضيعُ الإنسان بين معسكرين أحدهما: لا يهمه إنتاج فكري بقدر ما يجعل من ابن نبي القاطرة إلى ضرب الاتجاه المناوئ له في أيديولوجيته الفكرية والثقافية، وآخرهما يحملُ سيفًا يقطعُ به دابرَ أيُّ محاولةٍ تريدُ أن تنأى بالنص القرآني عن تاريخيته إلى آفاقِ البحث والمعرفة.

أقول هذا وكُلي إيمان في أنَّ ما عرفهُ منتدى معراج القلم لسنوات عديدة كانت لا تخرج بحال على هذا الوضع المتردي إلا في حالات شاذة ونادرة، وكتابةُ مثل هذه الدراسة النقدية هي محاولةٌ من أجل الخروج من هذا النسق المغلق، إلى آفاق النقد الفكري والثقافي تخرجنا من هذه الثنائية المميتة للفكر والعلم على حدٍّ سواء. هذه العقليةُ هي ما سمَّاها أركون بالعقلية الدوغمائية وكان يقصدُ بها تلك العقلية التي تحتقر الحاضرَ باستمرار، لتُعلي من شأن الماضي[14].

إن قراءتي للمنهج عن طريقها استجماع أعصابه وركائزه ووضعِه تحت الرؤية النقدية والبحث الذي يروم التطوير، هو إغناءٌ لمنهج وخطوات تأسيسية مهمَّة في قراءة النصِّ الدِّيني، ولو جُمِعَ المنهج في كتاب وقُرِئَت مُخرجاته ومُدخلاته قراءة علمية لتطوِّر البحث في الدِّراسات القرآنية، ولو أنَّ البعضُ يحبُّ أن يظل رهينًا لقراءاته السّلفية حين يطلقُ على كلِّ قراءة معاصرة خارج النَّسق الروائي قراءة حداثية أو ماركسية أو عقلانية[15] حتى يُبخِّسَ منها، ويُشكك فيها وفي مصادرها حتَّى يضمنُ للقراءة السَّلفية التراثية الاستمرار. ولا غرو أنْ نجد من القواعد الثابتة في بنية الفكر السَّلفي اتباع السَّلف في الفهم والتَّفسير[16]. وهي مقولةٌ قديمةٌ ومعاصرةٌ تأخذُ أشكالًا مختلفةً وفق الزمان والمكان، كما أنَّها فكرة تتغذى أساسًا على أسطورة العود الأبدي كما يسميها ميرسيا إلياد[17]، أيْ إمكانية استرجاع الماضي بأحداثه وشخصياته كلَّما عجزَ الفكرُ عن أنْ يستجيبَ لمطالب الإنسان، وأنْ يصنع من نفسه بديلًا حضاريًا ينعمُ فيه الإنسان بالكرامة المفقودة والإنسانية الضائعة في عالم المادة الذي تغيب فيه نفخة الروح، وكلُّ ما من شأنه أن يعيد إلى الإنسان هويته المفقودة.

  • المنهجُ ثابتٌ أمْ متغيرٌ؟

يتسببُ طرحَ ابن نبي سؤال التَّغير والثَّبات في المنهج المقترح إشكالات فلسفية ومعرفية وجب الإشارة إليها، فسؤال ثبات المنهج لا يمكنُ أنْ يمرَّ عليه الباحث أو الناقد دون أنْ تستوقفه النتائج التي يرمي إليها عمقه الفكري، إنَّ طبيعة أيِّ منهج كيفما كانت منطلقاتهُ الفكرية هي طبيعة إنسانية، الهدفُ منها هو محاولةُ البحث عن قواعد ثابتة توصلنا إلى نتائج صارمة. تَخضعُ عملية التَّأويل والتَّفسير إلى نوع من الصَّرامة المنطقية التي يتميَّزُ بها العلم الطبيعي (رياضيات/ فيزياء). وهو إطار ضابطٌ يمنحُ النَّتائج طبيعةً منضبطةً أيضًا، بمعنى أنْ تكون غير متناقضة أو متباينة مع منطقها أو مع غيرها، وإلى هذا الحد فإنَّ المنهج ضروري في ضبط الفهم، شرط أنْ لا يتحوَّل المنهجُ أيضًا إلى فضاءٍ للتعتيم أو فضاءٍ لخلق أجواء من التوتر الفكري. فالمنهجُ هو نتيجةٌ منطقيةٌ لقراءاتٍ متعددةٍ يتداخلُ فيها العامل النفسي والتاريخي والاجتماعي والسِّياسي والثقافي وغير ذلك، فإذا كانت عملية القراءة هي عملية متغيرة بالضرورة بتغيُّر الزَّمان والمكان، فإنَّ ما ينتجُ عنها من منهج سيكونُ بالضرورة متغيِّرًا، وهذا هو التَّسلسلُ المنطقي لسُؤال الثَّبات أو التغيُّر في المنهج.

وبوصولنا إلى هذه النتيجة المنطقية وَفق رؤيتنا لها، نجدُ أنَّ وصف ابن نبي للمنهج بالثبات يخالفُ ما توصلنا إليه سابقًا حين يقول: “إنَّ هذا المنهج ينبغي أن يكون ثابتًا بطبيعته عكس القراءة التي هي قابلة للتغيير والتبديل…”. فوصف المنهج بالثبات وهو نتيجة منطقية لقراءة أو قراءات متعددة يعترف ابن نبي نفسه بأنَّها قابلةٌ للتغيير والتبديل، فيه كثيرٌ من التجاوز لما أسميناه بمقدِّمات منطقية. وقد بنى ابن نبي نتيجتهُ أيضًا على مقدِّمات تحتاج منا إلى كثير من التدبُّر والتأملِ. فقد قال أيضًا في شأن المنهج: “لا ينبغي أن يُبنى المنهج على أسس نفسية، بل لا بد أنْ ينبع من ضرورات عقلية منطقية…”. ويزيدُ تأكيدًا: “على أنَّ الغاية من تأسيس المنهج هو فسحُ المجال ليتكلم القرآن لا أن نتكلم في مكانه…”.

إن مثل هذا الكلام الذي يحاولُ أنْ ينأى بالإنسان عن أنْ يكونَ حاضرًا في العملية التفسيرية بدرجةٍ من الدرجات تحت مُسمَّى المنهج، لا مسوِّغ منطقي أو عقلي له أيضًا، فصانعُ المنهج لا بدَّ أنْ يصطبغَ فكرهُ بلون نفسيته ومجتمعه وثقافته، مهْما حاول أنْ ينأى بنفسه عن هذا أو ذاك، إذ الفكر الذي أنتجَ هذا المنهج لا بدَّ له أنْ يتكلَّم بلغة هذه النفسية، وإلا فالضَّرورات العقلية المنطقية هي مفاهيم مجردة لا بدَّ أنْ تمرَّ بقناة الإنسان لتأخذ شكلها النسبي والطبيعي.

والخطيرُ في الأمر أنْ يتحوَّل الإنسان نتيجةَ الضرورات المنطقية والعقلية إلى كائنٍ يجعلُ القرآن ينطقُ وحدهُ مبعِدًا تدخلهُ المباشرُ في العملية التفسيرية حين يقول: “على أنَّ الغاية من تأسيس المنهج هو فسح المجال ليتكلَّم القرآن لا أنْ نتكلم في مكانه…”. فهل القرآن يتكلمُ دون أنْ نتكلَّم؟ وكيف يتكلَّم دون أنْ نباشره عن طريق جدلية تفاعلية كيفما كان اتجاهها نحوه؟ وهل المنهج الذي هو عبارة عن أدوات معرفية قادرٌ على إنطاق القرآن دون أنْ نكون طرفًا في الموضوع بنفسيتنا وتاريخنا وثقافتنا؟

هذا جزءٌ من أزمة فكرية عميقة في الفكر الديني عمومًا، وهي من أسَّست للكهنوت الديني حين كانت تقولُ المؤسَّسة الدينية: الله يقول والرسول يقول، وتنأى بنفسها مبتعدةً عن الاتهام بدعوى المنهج أو الأصول أو الضوابط، فكانت هذه بوادر الأزمة الفكرية التي امتدت آثارها إلى عالمنا المعاصر، وتَشكَّلت أيضًا ملامح قراءة مستوعبة للنصِّ لا تجعلُ من القرآن فضاءً يدخلهُ كلَّ إنسان وَفق سقفهِ المعرفي ووَفق درجات استيعابه.

ظلَّ التّأويلُ موضوعًا إشكاليًّا منذ نشأة النصِّ الدِّيني، وعلى ذلك تأسَّستْ الهرمينوطيقا بوصفها فنًّا يقاربُ النصَّ الدِّيني، ولو أنَّ لفظ التَّأويل كان مثارَ خلافٍ بين الدَّارسين في الحقل الدِّيني، بين من يرى أنَّ التّأويل يحملُ دلالات التَّفسير كما عنوَن بذلك ابن جرير الطبري تفسيرهُ، أو هو صرفُ الدَّلالة الظَّاهرة إلى المجاز لوجود قرينة تفيدُ ذلك. ما يهمُّنا في هذا الشأن هو نظريةُ التّأويل أو الهرمونيطيقا بوصفها علمًا قائمًا بذاته كان نتاجًا للحركة اللُّوثرية. فمع دانهاور ابتدأ التفكير المنهجي والتقني عن الهرمونيطيقا وطرقِ تفسير وتأويل النصوص، وتم تطبيق قواعد التأويل على التُّراث العلمي أيضًا. لكنْ هذه الحرية الذاتوية كانت لها قيود وعوائق عمل عليها الرومانسيون (آست/ شليغل/ شلايرماخر) الذين فرضوا قواعد وقوانين صارمة في قراءة النُّصوص وتأويل محتوياتها ومضامينها.[18]

لم يتوقَّفْ التَّنظيرُ بخصوص التَّأويل عند من سبق ذِكرُهم، فلقدْ أسهبَ غادامير في الحديث عن التَّأريخ لأهمِّ مراحل تطوُّر نظرية الهرمونيطيقا حتى حدود العصر الذي عاشهُ، وهنا يذكرُ دلتاي ومشروع علمية العلوم الإنسانية، ومفهوم التَّجربة المعاشة الذي شكَّل القاعدة السَّيكولوجية لفنِّ التأويل عند دلتاي مع التَّمييز الفينومينولوجي بين العبارة والمعنى تحت تأثير النَّقد الذي وجهَّهُ هُسرل إلى النَّزعة السيكولوجية ونظريتها[19]. لعل ما ميَّزَ تأويلية غادامير هو قوله: “إن تأويليتي تنطلق من فكرة مفادها أنه يجب نزع الصفة المطلقة désabsolutiser  عن المثل الأعلى للمنهج. هذا المثل المستخرج من العلوم الصحيحة. هدفي هو نظام ما discipline لا بمعنى الفرع الخاص بالمعرفة. بل أقصد الموقف المتسم بالدقة والصرامة يشمل السيطرة على المنهج عبر تجاوزه” [20]. وبتعبيرٍ آخر في كتابه المنهج والحقيقة يقرُّ بذلك فقد “اعتبر أن المشكلة التي تطرحها العلوم الإنسانية هي أن المرء لا يدركُ بشكل صحيح طبيعتها إذا قاسها بمقياس معرفة متقدمة على نحو منتظم “[21].

لم يكن سؤال التأويل والهرمونيطيقا خاصًّا بالغرب المسيحي أو القراءة المسيحية للنصِّ الديني، فالثَّقافةُ الإسلاميةُ أيضًا قاربت الموضوع من زوايا نظر مختلفةٍ، كان التأويلُ فيها شيئًا مدنَّسًا وتحريفًا لمضامين النُّصوص الحقيقية، بل تجاوزَ الأمرُ ذلك حتى تأسست مدرسة الأثر في مقابل مدرسة العقل والتأويل. وتخاضُ معارك ضدَّ الثانية لاختلافها مع منهج السَّلف والصحابة والتابعين. ولقد أشار نصر حامد أبو زيد إلى بعض من هذه الأشياء في مقاربته لموضوع التَّأويل[22]. فعلى الرغم من أنَّ لفظ التأويل هو لفظٌ قرآني إلا أنَّ دلالتهُ عَرفت اختلافًا كبيرًا بين مختلف الطَّوائف[23]. وحينما انتقد أبو زيد بعض القراءات التي شبَّهها بالانطباعية نتيجةَ فتحها النصُّ إلى دلالات متعدِّدة، اقترح في المقابل طريقةً في التَّعامل مع النصوص التراثية عن طريق زاويتين: الأولى، زاوية التاريخ بالمعنى السّوسيولوجي. والزاوية الثانية، زاوية السِّياق الاجتماعي والثَّقافي الرَّاهن.[24]

وهنا أحبُّ أن أقول إن العلاقة مع القرآن وَفق تصوري لها لن تتأسس عن طريق تيار أو عن طريق منهجٍ بذاته مع ضرورة ذلك، وإنَّما العلاقة مع القرآن هي علاقةُ كلِّ فردٍ منَّا في جدليته مع هذا الكتاب، أخذًا وعطاءً وإيمانًا واطمئنانًا، فالحقُّ لن يُعرفَ إلا عن طريق التجربة الواقعية لكلٍّ منا في تعاطيه مع عمق هذا الكتاب، ولنْ تتحوَّل اجتهادات الآخرين أو مقارباتهم باسم القرآن إلى حقائق وجودية ونفسية تُؤطَّرُ بواسطتها. فما أثبتهُ التَّاريخُ هو بالفعل مركزية هذا النصِّ الدِّيني الذي كان ملهِماً لتاريخ الإسلام، كما كان موقِعًا لصراع الفرق والمذاهب والتوظيفات السياسية. “ونستطيعُ أنْ نقول هنا إنَّ المختلفين قد مارسوا مبدأ الاختلاف على أرضية الاتفاق. الاختلاف في صراعهم الأيديولوجي ومعطيات خطابهم السَّياسي والدنيوي. ولكن على أرضية اتفاق دينية الأصل. تعتمدُ في بنائها على النص الديني، وخصوصًا القرآني فيه”[25].

2- محاورُ المنهج ومشروع القراءة المستقبلية:

  • محاورُ المنهج:

وصلنا عن طريق تحرير النُّقطة السَّالفة إلى قضية تنسجم مع الطَّرحِ الذي تبنيناهُ في مقاربتنا لسؤال المنهج، وقد أفاد هذا التصوُّر أنَّ ما يُبنى على متغيِّر فهو متغيِّر بالضرورة، ونضيفُ هنا نقطةٌ أخرى بناءً على التصوِّر السَّابق لا تقلُّ أهمية عنه. وقد سمَّاها صاحبُ المنهج بـ “محاور المنهج ومشروع القراءة المستقبلية”. وقبل أنْ نخوض غمارَ هذه التجربة لا بُدَّ من الإشارة إلى بعض مضامين هذا المشروع ليتضَّحَ للقارئ معالم الرُّؤية بشكلٍ جيِّد.

يعدُّ ابن نبي أن القواعد الكبرى للمنهج المرسوم تتحرَّك ضمن دائرتين أو محورين كبيرين:

الأول، أنَّ منهج قراءة القرآن هو متضمِّنٌ في القرآن، ولا ينبغي بحال من الأحوال البحثُ عنهُ خارج هذا الإطار.

الثاني، ثباتُ المنهج وتغير القراءة بتغير أحوال الناس زمانًا ومكانًا. وذلك بالانطلاق من فرضيات سمَّاها القرآن وَفق طرحِه بالقلم Elimination لإثباتها أو دحضها.

فهذين المحورين الكبيرين اللذان تدور في فلكهما كلُّ القواعد المنشئة للمنهج، ولعلَّ النقطة الثانية قد أخذت حيِّزًا كبيرًا من البحث في معالجتنا الأولى لسؤال الثبات والتغير في المنهج، ولن نحتاج إلى أنْ نُعيد أو نكرر ما قد أثبتناه وَفق رؤيتنا للموضوع حينها، بسبب أنَّ المنهج هو نتيجة طبيعية لقراءات متعدِّدة متغيِّرة بتغيّر الإنسان زمانًا ومكانًا، وما سيُبنى على قاعدة متغيرة يكون متغيِّرًا بالضرورة، كما أنَّ منهج القلم المتحدث عنهُ في هذا السِّياق هو منهج أيديولوجي يَنظرُ إلى الأمور بمنظارٍ أحادي حيث يبتدئ بفرضية أحادية لا تستكملُ كُلَّ المتعلَّقات المرتبطة بها. فحين مثلا يفترضُ نظرية المفاهيم -التي يختلفُ معهُ فيها الكثيرون أو غيرها من المقترحات- فلا يمكنُ أن تصيرَ هذه الفرضيةُ حقيقةٌ موضوعيةٌ، إلا إذا استُكملت كلُّ عناصرها بحثًا وتقصيًّا. ولا يبدو أنَّ الباحث لديه كلُّ الإمكانات التي قد توصِله إلى الإحاطة بكلِّ شيء نظرًا للظِّروف المحيطة بنا من جهة، ولصعوبة العملية التي تحتاجُ منَّا إلى أعمال تراكمية تسهم فيها أجيالٌ متعاقبة من الباحثين والدَّارسين إلى حين استيفاء العملية حقّها، وهذا متعذِّرٌ على المدى القريب والمتوسِّطِ، ولذ فإنّ أي فرضية تبدأ من الجزئي لتسحبه على الكلِّ دون مباشرة كلِّ الجزئيات تبقى في إطار النظرية أو الفرضية التي تحتاج منا إلى كثير من التأني بحثًا وتنقيبًا وتقليبًا للأمر من كل مناحيه ووجوهه الممكنة، كما يحملُ هذا الأمرُ كثيرًا من المصادرات أو المغالطات المنطقية[26]. أقولُ هذا لأنَّ منهجَ القلمِ هو منهجٌ متغيِّرٌ وافتراضيٌّ، فما قد يراه ابن نبي حقيقة اليوم بسبب القصور المعرفي أو العلمي، يمكنُ أن يصبحَ أسطورة لا واقع ماديٍّ لها وَفقًا لمنهج من سيلوننا، إذًا ما سيبنى على منهجٍ افتراضيٍّ سيكونُ أيضًا افتراضيًا محدودًا بمحدودية النظرة زمانًا ومكانًا[27].

أما النقطةُ الأولى والمتعلقةُ بالبنية القرآنية، أيْ أنَّ المنهج لا يجبُ أنْ يكون من خارجه، فالأمرُ يحتاج منَّا إلى الوقوفِ المتأملِ كثيرًا والمركِّز على حيثيات هذه النقطة، وأنا إذ أوافقُ الأستاذ ابن نبي على طرحه البنيوي الذي يريدُ أنْ يخرجنا من شَرك القراءة الروائية المستحكمة في زمام النصِّ القرآني قديمًا وحديثًا لدى مختلف التوجهات الدينية. أجدُ نفسي في الوقت ذاتهِ مضطرًا لأنْ أخالفه فيما ذهب إليه بمنطقه نفسه، فلا شكَّ أنَّ القرآن وَفق المنهج نفسه فيه إشاراتٌ لما بُثَّ في الكون من سنن وقوانين صارمة تحت اسم الله تربو إليها معرفتنا باسم الرب، فهذا الكلام يجعل من القرآن وألفاظه المنبثة في ثنايا هذه الصحيفة تُفهم من خارج نسقهِ أو بنيتهِ اللفظيةِ على الأقل، فتصبحُ بنيتهُ الحقيقيةُ هي الكون وهي الموجودات وهذا هو نفسه ما يقوله ابن نبي: “الكلمات هي الموجودات و بتعبيرنا فهي كتلة طاقة و الكلام هو المعلومات information و كاتلوك هذه الكلمات فكلام الله ليس خطابا شفهيا ولا حوارا مباشرا بل هو كاتلوك المعلومات المبثوث في الكون…”. ولذا فالحديث عن البنية اللفظية لا يمكنُ أنْ يُستجلى من داخل النصِّ إلَّا بربطه بمحلِّه من الواقع الخارجي المادي في عالم الحيِّ والميِّت وَفق تعبير المنهج أيضًا.

  • مشروعُ القراءة المستقبلية:

هذا المشروع بُنِيَ على قاعدة تقول إنَّ حروف القرآن هي محْكماته وألفاظه الناشئة عن حروفه هي متشابهاته، التي تتجمعُ وفق آيات لتُنشِأ السّوَر Elements التي بتجمُّعها ينشأ القرآن، وقد بُنِيَ هذا الفهم أيضًا على قاعدة المشترك اللفظي التي يقول عنها صاحب المنهج بأنَّها: “لا أساس منطقيٍّ لها فهي تزعم أنَّ السياق هو من يضبط الدليل والمعنى ومع تعدُّد السياقات يمكننا ضبط معنى اللفظ… “. فكلُّ حرفٍ في القرآن وَفق هذا المشروع له دلالته ومفاهيمه التي يرتبطُ عن طريقها بغيره ارتباطًا سُنَنِيًّا وليس عبثيًّا.

والحقيقةُ أنَّ كلامًا بالصيغة التي طُرحت سابقًا بخصوص القراءة يجعلنا نتساءلُ: كيفَ يمكنُ أنْ يكون المشروعُ ثابتًا اعتمادًا على قاعدة يقولُ صاحبها أنَّها لا أساسَ منطقي لها؟ وكيف يمكنُ الجزمَ في أنَّ الحروف لها دلالتها الكونية وفي الوقت ذاته يقرُّ صاحبُ المشروعِ بأنَّهُ يجهلُ البنية اللَّفظيةُ للحروف في ارتباطها مع الكون؟ إنَّ البناء الافتراضي خطيرٌ جدًا إذا لم يكن لنا الجرأةُ على أن نُقِرَّ بصعوبة الأمر من الناحية المنهجية، فلفظُ المحكم في القرآن على الأقل بمكوناتهِ “ح ك م” لا يمكنُ الجزمُ في أنهُ هو الحروف “ح ر ف” خصوصًا أن مكوناتهُ لا تدل من قريب أو من بعيد على أنها الحروف الهجائية المعروفة لدينا، وهكذا فالبناء على هذه القاعدة بناء مستقبليٌّ ثابتٌ فيه كثيرٌ من التجاوز من وجهة نظري، لما أشرتُ إليه من خلل منهجي في قاعدة المشترك اللفظي والجهل بالبنية الكونية لبعض الحروف.

  • قواعدُ المنهج:

قلتُ سابقًا إنَّ القواعد المختارة لهذا المنهج لا تخرجُ عن محورين، أتيتُ على ذكرهما في المبحث السالف، وهي كما حدَّدها صاحبها لا تتجاوزُ في أبعادها خمس قواعد رئيسة:

ـ القرآنُ كلامُ الله الحي القيوم رسْمًا ولفظًا

 ـ للقرآن بنيةٌ داخليةٌ

ـ ألفاظُ القرآنِ حقٌ

 ـ ألفاظٌ القرآنِ مفاهيمٌ

 ـ السورةُ وحدةٌ موضوعيةٌ

وسنعرِّجُ على كلِّ واحدة من تلك القواعد محاولين أنْ نتأمَّل ما تحتويه في بنيتها من مآلاتٍ وتوجُّهاتٍ وَفق تصوُّرنا لطبيعتها، وسنبتدئُ بفحص ونقد كلِّ نقطة على حدى متجنبًا ما ذكرته سابقا.

  • القرآنُ كلام الله الحيِّ القيُّوم رسْمًا ولفظًا:

تعدُّ هذه النُّقطةُ مركزية في المنهج وقواعده، ولعلَّ ابن نبي كان سبَّاقًا في الدفاع عن أطروحته بشكلٍ أثار الكثير من ردود الفعل سلبًا وإيجابًا إلى زمان كتابة هذه السطور، ولعلَّ هذا الكلام الافتراضي عن منهج القلم لن يصبح حقيقة موضوعية، إلا إذا استوفى البحثُ شروطهُ الموضوعيةُ. فلا يزالُ في طور النظرية والنشأة وقاعدة كلِّية مثل هذه ستضعُ البحث كلُّه على المحكِّ الحقيقي، خصوصًا وأنَّ الكاتب يعترفُ بنفسه أنَّ البنية اللفظية مجهولة وأنَّ الاعتماد هو منصبٌّ على قاعدة لا أساس منطقيٍّ لها. فهل يمكنُ الوثوقُ في قاعدة مثل هذه مبنيةٌ على عدم استيفاء الشروط الموضوعية للبحث؟ وإذا كانت البنية اللفظية مجهولة فكيف نطمئن إلى أنَّ الرَّسم لا تدخُّلَ بشريٍّ فيه؟

وزيادًة على كلِّ ذلك فإنَّ النسخة المعتمدة في طرح ابن نبي دون النُّسخ الأخرى لا مسوِّغ منطقيٍّ لها، إذ أنَّ الفاصل الزَّمني بيننا وبين كتابة القرآن هو فاصل كبير، لا يمكننا الجزمُ في أنَّ الرّسم فيه هو رسْمٌ لا تدخُّلَ بشريٍّ فيه، وكلَّ ما وصلنا الآن هو مجموعة من النُّسخ المتفاوتة في الرَّسم والكتابة، وعليه فإنَّ البناء على نسخة دون غيرها مع إمكانية ذلك من الناحية العلمية هو بناءٌ روائيٌّ انتقائيٌّ، لا يَستجلي البنية القرآنية المرتبطة أساسًا بالكون وَفق المنهج، فما الذي يجعلُ من الرَّسم وحيًّا لا تدخُّلَ بشريٍّ فيه انطلاقا من بنية مجهولة؟ ولماذا لا تُعتمدُ نسخ أخرى إذا كان كلُّ القرآن وصلنا بالطريقة نفسها، ولا داعي لتفضيل نسخة على نسخة؟ وما هي آليات هذا التَّفضيل الكونية المرتبطة بالحقيقة الموضوعية للرَّسم؟ وغير ذلك من الأسئلة التي تجعل من هذه القاعدة قاعدة افتراضية، لا تسمو إلى الحقيقة الموضوعية، إلا إذا انجلتْ كثيرٌ من خبايا البنية اللفظية في القرآن وغير ذلك من الأمور المرتبطة بها.

  • للقرآن بنيةٌ داخليةٌ:

كنا قد أشرنا إلى بعض جوانب هذا السُّؤال إثرَ حديثنا عن مفهوم البنية الداخلية، وقلنا حينها إنَّ البنية الداخلية لا مسوِّغ لها ما دامت الصَّحيفةُ تستمدُّ صدْقها وموضوعيتها من خارجها، أيْ من الجانب الذي ترتبط به سُننيًّا وكونيًّا. وقد اعتمد ابن نبيٍّ في قاعدته هذه على ما أسماه بفواتح السِّوَر، هذه الفواتح يعدُّها دليلًا على دراسة البنية اللفظية القرآنية، وهي التي تسمحُ بربط بنية القرآن وبنية الكون في موجوداته المختلفة، وقد كان الاعتماد في هذه القاعدة على قول القرآن: “وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ”. فالسَّبعُ المثاني هي الحروف المقطّعة في أوائل السوَر طبقًا لطرح ابن نبي، ولا أدري حقيقة على ماذا اعتُمدَ في هذه القراءة لكي تصبح السَّبعُ المثانيَ هي أوائل بعض السوَر؟ هل بالبنية اللفظية أم بالمشترك اللفظي أم هما معًا؟ وما معنى السَّبع؟ هل هو العدد المعروف بيننا أم يعني شيئًا آخر طبقًا للبنية القرآنية؟ وما هي المثاني؟ هل هي المتكررة أم ماذا؟

إنَّ البناء على أنًّ الحروف المقطعة في فواتح السُّور كان سببهُ كما جاء في المنهج نفسه: “أنَّ الفواتح هي السبعُ المثاني لأنَّها من مضاعفات العدد سبعة في عددها وفي حروفها، فعددها 14 المـ ـ الر ـ المص ـ المر ـ كهيعص ـ طه ـ طسمـ طس ـ يس ـ ص ـ حمـ /حم ـ عسق ـ ق ـ ن. ولكنْ بالتأمُّل في هذه الفواتح نجدها قد تكرَّرت أكثر من أربع عشرة مرة، فـ (حم) وحدها تكررت ثمان مرات بدءًا من سورة فاطر انتهاء بالأحقاف. فهل يا ترى تكرارها عبثًا؟ ولماذا تكررت كل هذه المرات وتتابعت؟

وعليه فكلُّ ما قيل عن الفواتح سيبقى مجرَّد جهد إنساني، لا يعدو أنْ يكون قراءة بشرية تُضاف إلى غيرها، مع العلم بأنَّ القراءة نفسها تحملُ تناقضًا مع الرَّقم المشار إليه سابقًا، فلا يكفي أنْ تَحسبَ “حم” مرة واحدة، وتُغفل السَّبع الباقيات خصوصًا إذا أدركنا أنَّ اللفظ في القرآن غير زائد ولا عبث فيه.

  • ألفاظُ القرآن حق:

أمام الباحث خيارين اثنين:

الأول، إما أنْ يُمارس عملية البحث بأصولها وقواعدها، أيْ أنْ يَبحث في محل الخطاب، وكلَّما توصل إلى أمر ووجده مطابقًا لما يتحدث عنه النصُّ قال هذا حق.

الآخر، أو أنْ يَفترض جدلًا أنَّ كلَّ شيء حقيقة، ولو لم يُتوصَّل إلى شيء أو لم تسعفه الوقت والجهد في استيفاء كلَّ شيء، وحينها يبقى الأمر على أقلِّ تقديرٍ معلَّقًا إلى حين إثباته أو دحضه.

وأعتقد أنَّ المجال الأول كفيلٌ بصناعة الإنسان المؤمن الحقيقي، تبعًا لمنطلقاته العلمية ونتائجه العلمية، والذي يكون هذا هو حاله سيؤمن حتمًا ويخبت قلبه للحقيقة مهْما كان ثمنها: “وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ”. فعمليةُ الإيمان تكون تابعةً لما هو علمي صرف ولا تكفي فيها قواعد افتراضية بحجم ما نحن بصدده، لأن الافتراض لا يُنشئ إلا إنسانًا مترددًا في نتائجه أو شاكًّا في قدراته.

وبناءً على ذلك أرى أن هذه القاعدة تندرجُ تحت الخيار الآخر، الذي لا يمكن أنْ يكون بحال مؤسِّسًا للمعرفة الكلية، والقولُ إن ألفاظ القرآن حقٌّ يجب أنْ يكون واضحًا: على أيُّ أساسٍ تُوصِّلَ لهذه القاعدة؟ هل هو أساس تسليمي أم علمي؟ وإذا كان علميًا فهل استُوفيت كلُّ الألفاظ حتى نخرج بهذه النتيجة مثلًا؟ وما هي الألفاظ؟ هل هي الأسماء أم الأفعال أم الحروف؟ وعلى أيِّ حقيقةٍ موضوعيةٍ تدل الحروف مثلًا؟ وغير ذلك من الأسئلة الكثيرة التي تخطر في الذهن كلَّما أثيرت هذه القاعدة. وأنا هنا لا أنطلق من موقفٍ معادٍ للقرآن أو ما شابه ذلك، بقدر ما أحاول أن أحتكم بمنطق إلى المنهج المرسوم للدِّراسة وأطرحُ ما يمكن أنْ يشكِّل لي ولغيري لَبْسًا نظريًا أو ضبابية في الفهم.

 

  • ألفاظُ القرءان مفاهيم:

هذه واحدة من القواعد الإشكالية في بنية المنهج بعامة كما مرَّ معنا سابقًا، وتعتمدُ هذه القاعدة كما يقول صاحبها على منهج القلم: “في تحديد دليل الألفاظ بالمشترك اللفظي في فهمنا لسياق الجملة ويستفيد من التراكم المعرفي للأسلاف في تحديد معاني الألفاظ ويفترض مسبَّقًا معرفة دليل الألفاظ التي تحوم حول اللفظ المجهول الدلالة ويحاول أن يجد الرابط الذي يربط بين كل الآيات التي ورد فيها هذا اللفظ ومشتقاته ليخرج بمعنى شامل يجمعها…”. وقد مرَّ معنا سابقا أنَّ ابن نبي نفسه يصفُ العملية بأنَّها لا أساس منطقي لها بسبب صعوبة ذلك خصوصًا وجودُ ألفاظ واردة في القرآن مرة واحدة، كما أنَّها تعتمد على التراكم المعرفي في فهم دلالة الألفاظ، مما يثير أيضًا قضية اللغة الأعجمية وعربية القرآن بمفهوم المنهج، فقاعدةُ المفاهيم هي قاعدة افتراضية تُبنى على أسُس غيرُ منطقية، لا تَرقى إلى درجة الاطمئنان العلمي، ولهذا وُصفت أيضًا من صاحب المنهج بقوله: “هذه العملية غير منهجية و إنْ كانت مفيدة جدًّا و تحديدا في القرءان إذ في تفرع الجذور فيه هندسة خاصة أوضحتها فواتح السور و لكنْ تبقى المشكلة تامة في الألفاظ التي وردت مرَّة واحدة في القرءان. فهي إشارة منه أنَّ المشترك اللفظي ليس السبيل الأمثل وإن كان معينا في الارتقاء إلى فهم البنية اللفظية في القرءان. وإذا كان الأمر كذلك فلنْ يبقى أيُّ مسوغٍ لهذه القاعدة يجعلها قاعدة مطمئنة من أجل الوصول إلى بنية كونية ما دامت لا تستند إلى أمور مضبوطة ومنهجية، وإلا كيف يمكنُ تحديد الألفاظ بعيدًا عن أعجمية لغتنا؟ ألا يجعل هذا من العملية مجرَّد لعب بالألفاظ واللغة؟ لماذا نستنكر على الكهنوت الديني اعتماده على القواميس والمعاجم، ونلجأ نحن أيضًا بدرجة من الدرجات في تحديد اللفظ إليها، خصوصًا الألفاظ الواردة مرة واحدة في القرآن؟ ألا يعدُّ هذا ضربًا من التناقض في مفهوم البنية؟

  • السورةُ وحدة موضوعية:

قلنا سابقًا إنَّ السُّورة في مشروع ابن نبي تتأسس على قاعدة تقول إنَّ حروف القرآن هي مُحكماته و ألفاظه الناشئة عن حروفه هي متشابهاته، التي تتجمع وَفق آيات لتُنشأ السور Elements  التي بتجمعها ينشأُ القرآن، والشيء نفسه الذي قلناه سابقًا ينسحبُ إلى هذا الأمر لأن هذا المفهوم للسُّوَر بُني أساسًا على قاعدة غير منهجية وغير منضبطة كان المشترك اللفظي حاضرًا في بنائها، ناهيك عن إشكالية النُّسخ القرآنية التي سوف تبقى ملقيةً بظلالها ما لم نجب عن الأسئلة التي طرحناها في مكانها من الموضوع، فاختلاف النُّسخ القرآنية التي وصلتنا بدرجة واحدة من حيث الطريقة، وانتقاء واحدة أو مشروع دون مشروع آخر يجعلُ من هذه العملية غير مضبوطةٍ بقواعد، يمكنُ الاطمئنان إليها في عملية ثبات المنهج لاستحالة ذلك. فليس هناك شيءٌ ثابتٌ، وإنما هو السقف المعرفي الذي يحدِّدُ إمكانيات تعاملنا مع النُّصوص، فما هو ثابتٌ اليوم قد يصبحُ متجاوزًا غدًا عند توفر شروط وظروف أخرى.

خــاتــــــمـــة

كان القرآن الكريم ولا يزال نقطة التقاء بين مختلف الفرق والطَّوائف والمذاهب، وفي الوقت الذي تجتمعُ حوله كل هذه التوجُّهات الفكرية- بمختلف مشاربها وانتماءاتها الثَّقافية والسِّياسية- تختلفُ في مستويات الفهم والتَّأويل والتَّفسير، لم يكن هذا الأمرُ مقصورًا على عصر السَّلف وبداءة النَّشأةِ الأولى لعلوم التَّفسير، بل تعدَّاهُ إلى عالمنا المعاصر فقد ظهرت قراءات معاصرة تحاولُ تجاوز الأزمات البنيوية التي عاناها الحقل الديني، بخاصة علم التَّفسير. لم يكن هناك بُدٌّ من أنْ يستجمع بعض الباحثين -الَّذين أتينا على ذكر بعضهم في سياق مباحث هذا الجهد- الأخطاء المنهجية التي طبعت والتصقت بالنصِّ الأصلي. ولعلَّ أهمَّ معالم هذه الأزمة المنهجية، ذلك الخلط الصريح بين النصِّ القرآني وعملية التفسير. وقد أسهب في حلِّ هذه المعادلة الدكتور مصطفى بوهندي في كتاباته المختلفة خصوصًا “نحن والقرآن” و “التأثير المسيحي في تفسير القرآن”، حين فهمَ أنَّ أيَّ محاولة تفسيرية مهْما كانت مرتبة من يقوم بها ومهما حاول البعض أنْ يخرج بها عن حدود البشرية، فإنِّها ستبقى كذلك ما دام من يقوم بها لا يمكنُ أنْ يتجاوز سقفه المعرفي والبشري، ومن هنا نعزل بصفة نهائية النصَّ الأصلي عن المقاربات الملتصقة به خشية أنْ تتحوَّل هذه المحاولات إلى نصوصٍ أصليةٍ، كما سبق وأنْ نقلنا ذلك عن علي حرب، فالتفسير لا يمكنُ أنْ يصير قرآنًا، ما دام لا يصدر عن مشكاة إلهية، ولعلَّ هذه إحدى أكبر الأزمات في تاريخنا الثقافي حينما عُزلَ النصُّ الأصلي وعُوملت كلُّ الشُّروحات والتَّفاسير كونها نصوصًا موازية للنصِّ القرآني، ولذلك احتُكِرَ الحقُّ في التوجه التفسيري ومن ثمة الفكري أو المذهبي الطائفي.

إضافة إلى هذا المُعطى كانت ولا تزال الرِّواية إحدى الأمور الجوهرية في البناء النظري لعلم التفسير، والمطَّلعُ على قواعد التَّفسير سيجدُ نفسهُ أمامَ مجموعة من الرِّوايات سواء المرتبطة بأسباب النِّزول، أو تلك التي ارتبطت بأقوال النبيِّ أو الصَّحابة في تفسير آية أو سورة، والخطير في هذه البنية الفكرية كما أكَّدنا سابقا هو أنَّ النصَّ القرآني صار نصًّا وظيفيًا، عن طريق قراءته في سياقات روائية مختلفة تصلُ إلى حد التناقض، مع عدم مراعاة البنية الداخلية للنصِّ الأصلي. هذا الواقع أفرز لنا مدارس فكرية تنتمي إلى توجُّهات سياسية وطائفية ومذهبية، وصار لكلِّ مدرسةٍ رواياتها، وتعدَّدت بذلك مقاصد القرآن ومعانيه وشروحاته، ومن ثمة ظهر التَّفسير الأثري والعقلي والفقهي والإشاري واللُّغوي والبياني والنحوي، وصرنا أمام نماذج من التنوع والتعدُّد المذهبي والطائفي المتناقض، وضاعَ النصُّ القرآني بين كلِّ هذه المتناقضات.

وبوصولنا إلى العالم المعاصر انتهت محاولةُ تجاوز هذا الإخفاق بواسطة تجارب فردية لم ترْقَ إلى مستوى المذهب أو المدرسة. فظهرت محاولات كلًّا من محمد شحرور وسمير إبراهيم خليل حسن وأبو القاسم الحاج حمد ومصطفى كمال مهدوي وغيرهم كثير، وكلُّ ما تسعى فيه هذه القراءات المعاصرة، هو إخراج النص القرآني إلى أصالته، ومن ثمَّ تجاوز الأزمة الرِّوائية عن طريق تفعيل قواعد نقد المتن، وهي من القواعد المؤسِّسة في علم الحديث. من هنا يأتي منهج ابن نبي حتى يُضاف إلى سابقيه ويؤسِّس على هذا التّراكم في بنية القراءة المعاصرة، باستخدام ما أسماه بالخطوات التأسيسية للمنهج، هذه الخطوات التي تسعى في بناء نسق للقراءة يسعى في إنتاج المفاهيم وَفْقًا لبنية القرآن الدّاخلية، وإعادة قراءة مجموعة من الآيات والمفاهيم والسُّور قراءة تراعي هذه الخطوات. كلُّ هذه المعطيات جعلتْنا نقف مع هذه الخطوات التَّأسيسية وقفة نقدية نستخدمها من أجل تسليط الضَّوء على مكامن القوة والضعف في هذا المنهج، حتى لا يتحوَّل مثل سابقيه إلى صنمٍ ثقافي يُؤسِّس أيضًا إلى إعادة إنتاج التَّفسير بوصفه نصًّا أصليًّا. وقد حاولْنا قدْر المستطاع الإشارة إلى ما يمكنُ أنْ يعتري هذه القراءة المعاصرة من أزمات إذا لم تنتبه إلى خطورة فهم أن المنهج ثابتًا وليس متحوِّلًا.

 

قائمة المصادر والمراجع:

[1] – حرب، علي. (1993). النص والحقيقة II. نقد الحقيقة (ط1). بيروت. المركز الثقافي العربي. ص: 6.

[2] – ياسين، عبد الجواد. (2000). السلطة في الإسلام: العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ. (ط2). بيروت. المركز الثقافي العربي. ص: 201.

[3] – الورداني، صالح. (1996). أهل السنة شعب الله المختار. (ط1). مكتبة مدبولي الصغير. ص: 25 وما بعدها.

[4] – أركون، محمد. (2005). القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب. ترجمة هاشم صالح. (ط2). دار الطليعة للطباعة والنشر. ص: 12.

[5] – أركون، محمد. الفكر الإسلامي نقد واجتهاد. ترجمة هاشم صالح. المؤسسة الوطنية للكتاب. ص: 97.

[6] – المرجع نفسه. ص: 98.

[7] – انظر في هذا الصدد:

الكردي، إسماعيل. (2002). نحو تفعيل قواعد نقد متن الحديث: دراسة تطبيقية على أحاديث الصحيحين. (ط1). دار الأوائل. دمشق.

إسلامبولي، سامر، تحرير العقل من النقل.

مهدوي، مصطفى كمال. البيان بالقرآن. على الرابط التالي: http://www.libya-watanona.com/adab/mmehdawi/mm10046a.htm

الحاج حمد، أبو القاسم. (2004). جدل الغيب والطبيعة والإنسان العالمية الإسلامية الثانية. (ط1). بيروت. دار الهادي للطباعة والنشر.

منصور، أحمد صبحي، القرآن وكفى. ملف pdf. على الرابط التالي:

https://www.goodreads.com/ebooks/download/9374095

البنا، جمال. تجديد الإسلام وإعادة تأسيس منظومة المعرفة الإسلامية. كتب عربية. دون تاريخ نشر. ملف pdf. ص: 435.

شحرور، محمد. (2012). السنة الرسولية والسنة النبوية. (ط1). دار الساقي. لبنان.

شحرور، محمد. (2000). نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي. (ط1). الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع. دمشق. ص: 60 وما بعدها.

[8]– الصدر، محمد باقر. مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن.  الكويت. دار التوجيه الإسلامي. نشر إلكترونيا وأخرج فنيا برعاية شبكة الإمام الحسين للتراث والفكر الإسلامي. ملف pdf. ص: 17. وانظر كذلك: عائشة، عبد الرحمن. التفسير البياني للقرآن الكريم. (ط7). دار المعارف. ص: 10.

[9] – إسلامبولي، سامر. قواعد أصولية منهجية لدراسة القرآن. ملف word.

[10] – اتهم الأستاذ سمير إبراهيم خليل حسن الأستاذ إبراهيم ابن نبي بأنه ليس صاحب المنهج المقترح، وبأن ما كتبه ابن نبي حول الخطوات التأسيسية لقراءة القرآن الكريم هو سرقة علمية لكتاباته. وقد عرفت القضية صراعا حادا بين مختلف الأطراف الحاضرة حينذاك.  ينظر منهج الأستاذ سمير إبراهيم في كتابه: أنباء القرآن. (2011). (ط1). دار الساقي.

[11] – اللاحم، سليمان بن إبراهيم. (1999). منهج ابن كثير في التفسير. (ط1). دار المسلم للنشر والتوزيع. ص:179.

[12] – الجابري، محمد عابد. (1993). نحن والتراث: قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي. (ط6). المركز الثقافي العربي. ص: 11

[13] – المرجع نفسه. ص: 12

[14] – أركون، محمد. (1996). الفكر الإسلامي: قراءة علمية. ترجمة هاشم صالح. (ط2). مركز الإنماء القومي. ص: 7.

[15] – انظر مثلا:

عمارة، محمد. (1996). التفسير الماركسي للإسلام. (ط1). دار الشروق.

عمارة، محمد. (2009). معالم المنهج الإسلامي. (ط2). دار الشروق.

عائشة، عبد الرحمن. القرآن وقضايا الإنسان. دار المعارف. ص: 187.

التجيبي، سعد بن بجاد. (2013). موقف الاتجاه العقلاني الإسلامي من النص الشرعي. (ط2). ص: 23.

[16] – حلمي، مصطفى. (1996). قواعد المنهج السلفي في الفكر الإسلامي. (ط3). دار الدعوة. ص: 187.

[17] – انظر بهذا الصدد. إلياد مرسيا. (1987). أسطورة العود الأبدي. ترجمة نهاد خياطة. (ط1). دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر. دمشق.

[18] – الزين، محمد شوقي. (صيف 2004). مجلة التسامح. مدخل إلى تاريخ التأويل(الهرمونيطيقا) ملاحظات أولية حول الفكر التأويلي. ص:139

[19] – غادامير، هانس غيورغ. (2006). فلسفة التأويل: الأصول، المبادئ، الأهداف. ترجمة محمد شوقي الزين. الدار العربية للعلوم منشورات الاختلاف، المركز الثقافي العربي.

[20] – مجموعة من الكتاب. (2004). مسارات فلسفية. ترجمة محمد ميلاد. دار الحوار للنشر والتوزيع. ص: 166

[21] – غادامير، جورج هانز. (2007). الحقيقة والمنهج. الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية. (ط1). ترجمة حسن كاظم، وعلي حاكم صالح. راجعه عن الألمانية جورج كتورة. دار أويا للطباعة والنشر والتوزيع والتنمية الثقافية. ص:51.

[22] – أبو زيد، نصر، حامد. (1994). نقد الخطاب الديني. (ط2). مصر. ص: 140.

[23] – انظر ما كتبه بوهندي، مصطفى، التأثير المسيحي في تفسير القرآن، دار الطليعة، بيروت، ط1، 2004. ص: 28.

[24]نقد الخطاب الديني. ص: 142

[25] – عبد الرحمن، عبد الهادي. (1998). سلطة النص. سينا للنشر، ومؤسسة الانتشار العربي. ص:72.

[26] – تسمى هذه المغالطة بمغالطة التركيب والتقسيم، وهي الانتقال من خصائص الكل إلى خصائص أجزائه المكونة. انظر مثلا: عادل، مصطفى. (2007). المغالطات المنطقية. المجلس الأعلى للثقافة. ص: 207.

[27] – عرف عن كارل بوبر معيار القابلية للتكذيب بالنسبة للعلم، وكذلك رفضه لمنهج الاستقراء. انظر في هذا الصدد: الخولي، يمنى طريف. (1989). فلسفة كارل بوبر منهج العلم منطق العلم. الهيئة المصرية للكتاب. ص: 335.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete