القراءة الإيديولوجية للواقع العربي ومكر التاريخ

 

منذ نهايات القرن التاسع عشر  إلى بدايات هذا القرن، كان الانسان العربي ضحية دائمة لأوهام إيديولوجية مزّقت المجتمع العربي وأغرقته في الانقسامات والنزاعات والمآسي .

باسم هذه الأوهام تشتّت شمل العرب ، وياسمها نهضت وسقطت عشرات الانقلابات ، وقامت وفشلت مشاريع التوحيد القسرية ،وأزهقت وتزهق الحريات وانتهكت وتنتهك الحرمات وغيبت وتغيب حقوق الانسان . باسمها ومن اجلها احبطت التنمية وساد التخلف وارتهنت الامة . أما منشأ هذه الاوهام واصلها فيكمنان في قراءتنا لواقعنا وتاريخنا ، فقد قرأناهما ” قراءة  إيديولوجية ” . اخضعناهما لاحكامها المبسطة المرسومة ، رأينا فيهما كل تصوّراتنا ومخططاتنا الجاهزة والمفصّلة سلفاً . سحبنا عليهما كل مقولاتنا ومنظوراتنا ، وحولناهما الى “حقل اختبار” مادته دماء الناس واحلامهم ومستقبل اطفالهم .

القراءات الإيديولوجية للقومية العربية

أليس هذا ما حصل في القراءات الإيديولوجية للقومية العربية ، إذ رأت أن العرب إنما كانوا دائماً ” أمة واحدة ” تفتّت وتجزّأت وانها الآن في طريقها إلى الإلتئام من جديد، أو انها تنتظر ساعة انكفاء “الاستعمار والصهيونية ” وتراجع المعوقات الخارجية لاسترجاع هويتها الممزّقة ودولتها المفقودة ؟ أليس هذا ما يمكن استنتاجه من كتابات وأدلوجات القوميين العرب الذين نظروا إلى التناقضات والاختلافات بين الأقطار العربية على أنها طارئة أو مستجدة أو عابرة ومدسوسة من الأعداء ، ما برّر مغامرات التوحيد القومية التي داست في طريقها حقوق الانسان العربي ونالت من كرامته ومن أمانيه الوطنية ؟

ولو راجعنا الاسانيد التي بنيت عليها مقولة القومية العربية لوجدنا أنها إفتراضية أو وجدانية أو عاطفية رومانسية لا يدعمها العقل ولا يبررها المنطق ،فالقول إن القومية العربية ” قدر محبب ” يتطلّب التضحية والمعاناة والايمان ، أو إنها ” وعي على وجود وحقيقة غابت عن الأذهان بسبب الإنشغال الخاطىء بالقضايا المحلية البحتة ” أو إنها ” جوهر الأمة وقواها الكامنة في مجهود جبّار لتأكيد ذاتها ” لا يعني في النهاية سوى طروح إيديولوجية جدلية لا تستند إلى قاعدة منطقية ولا تصمد أمام المساءلة العقلانية ، إذ يبدو العقل وكأنه يدور في حلقة مفرغة ريثما يستعان به لتبرير هذه الطروح وتسويغها ، فتضيع أسس القومية العربية وتتبدد بين اللغة والتاريخ والارض والاقتصاد والدين ، حيث يتعرّض للشك كل عنصر من هذه العناصر ليستقر الوجود القومي على اللغة والتاريخ أو على اللغة والتاريخ والدين ، أو على اللغة وحدها ، ثم يعاد التشكيك من جديد فيسقط عنصر ويرتفع آخر من دون أن نصل إلى حسم للموضوع يضع حدّاً لتساؤلات العقل ويخفف من وطأة شكوكه . وإذ تنساق الايديولوجيا  القومية إلى التوفيق بين القومية والاشتراكية فتفترض التلازم بين الاشتراكية والوحدة العربية،حيث الاشتراكية لا يمكن تصوّرها بدون الوحدة ، والوحدة لا يعقل قيامها بدون الاشتركية ، تحار الايديولوجيا القومية أيهما قبل الوحدة أو الاشتراكية .

وتتصادم الايديولوجيات القومية وتتعارض بين اعتبار الثورة الفلسطينية طليعة لحرب تحرير شعبية يجب أن تنتهي بتصفية الوجود الامبريالي في المنطقة وقاعدته إسرائيل ، حيث يصبح ممكناً تحقيق الوحدة العربية ، وبين اعتماد الاسلوب الانقلابي ، ولو على حساب الديمقراطية في سبيل ” تحويل جذري عام وشامل للوجود العربي باسم فلسفة حياة جديدة تحرر وتوجه إمكانيات العقل العربي في مواجهة العالم الحديث ” وبين القول ب ” فكرة موجهة واحدة ، عقيدة كبرى ،ايديولوجية صلبة تشكل الاساس الضا بط للتيار القومي ،بين أن تكون الوحدة العربية حتمية تاريخية مطابقة لحركة التاريخ وسيرورته أو أن تكون تجربة حية تدرك بالتضحية والمعاناة ،بين أن تأتي الوحدة بعد تصفية الامبريالية والرجعية او أن تكون الوحدة مقدمة للتقدم والتحرر والعدل الاجتماعي ، بين ان نبدأ ببناء الاشتراكية وتحرير فلسطين لنصل إلى الوحدة أو أن نبدأ بالوحدة لنصل إلى الإثنين معاً . وسط كل هذه الغابة من التصوّرات والافتراضات يصحو الانسان العربي على اوهام كمن يفيق من حلم مزعج ليدرك أن أشواقه ومخاوفه وآلامه ربما كانت مجانية وأنه كان ضحية لاوهام القراءة الايديولوجية للواقع العربي ، فلا شيء يثبت أن العرب كانوا فعلاً دولة واحدة او انهم سيصبحون كذلك يوماً ما ، والاصح ان الكيانات القطرية هي الحقائق المؤكدة حتى الآن وأن ليس ما ينبىء بحتمية الوحدة ، وأن كل العناصر التي تدّعي الايديولوجيا القومية انها مكونات الأمة العربية  الواحدة لا أساس عقلانياً لها ثابتاً ومؤكداً. أما الترابط المزعوم بين الثورة الفلسطينية والديمقراطية والاشتراكية ، فليس من حاجة الى تبيان وهمه وتهافته وضلاله .

إمكانات التحديث في الواقع العربيّ

إذا كانت هذه حصيلة الأدلجة القومية ،فإن حصيلة الأدلجة الإشتراكية كانت أكثر حرجاً ، إذ بدا على مدى قرن كامل من التبشير بالاشتراكية أن منظّري المجتمع الاشتراكي العربي والتحوّل التاريخي نحو الاشتراكية بقيادة الطبقة العاملة كانوا ” باعة أحلام” زينوها للفقراء والمسحوقين بكل زخارف الايديولوجيا وتمويهاتها ، وما حصل في الواقع كان المزيد من تمركز الثروة العربية واتساع طوابير الفقراء والمهمشين والجياع .

أما الأدلجة الاشتراكية فقد صوّرت العالم العربي وكأنه عشية الإنقلاب التاريخي نحو الاشتراكية بناء على تصوّرات إيديولوجية رفعت إلى مرتبة القوانين التاريخية الحتمية .

الرأسمالية العربية تتقدّم والانقسام الاجتماعي والطبقي يتجه نحو الحدّة والتأزم والامبريالية العالمية هي الاخرى في مأزق أمام “زحف ” الاشتراكية المظفّر . إذن كل شيء مؤات لتحوّل المجتمع العربي إلى الإشتراكية . هذا ما يقوله ” التحليل العلمي الملموس ” و ” الفكر ا لعلمي” الذي لا يخطىء . ويسعى بعض المنظّرين لأن يكون أكثر” واقعية وعلمية ” فيذهب إلى القول ب “الأسلوب الآسيوي للإنتاج ” الذي لا يحتّم ” المرحلة الرأسمالية ” للانتقال إلى مرحلة الاشتراكية ، من أجل الشروع في ” الثورة الاشتراكية ” فوراً دون تجشّم شرور المرحلة الرأسمالية  . مع كل هذه الطروح الواهمة عاشت الجماهير العربية عقوداً طويلة على أمل  “الحرية” و” الخبز” و” الكفاية الاجتماعية”، فيما المجتمع العربي يندهور بوتائر متسارعة نحو هاويةلا قرار لها دون أن يفلح قادة ” الفكر العلمي ” وايديولوجيو ” الطبقة العاملة ” ورواد ” التحليل العلمي الملموس ” في وقف تعاظم نسب الجوع والبطالة والأمية .

أما الليبرالية العربية فقد كانت الاكثر استسلاماً لأوهام الايديولوجيا والأكثر غرقافي  تصوراتهاً وشعاراتها، إذ راهن الليبراليون العرب منذاواسط القرن التاسع عشر على تقدّم نموذج الليبرالية الغربية واستنباته في الأرض العربية ،ورأوا أن المجتمع العربي يمكن بل يجب أن يستوعب كل قيم الحداثة ، وكل مقوّمات المجتمع المدني من العلمانية إلى الديمقراطية الى المواطنية . ولكن ماذا كانت النتيجة بعد قرابة قرابة قرنين من الادلجة الليبرالية ؟ تراجع وانكفاء إلى ما قبل ” النهضة ” وفشل ذريع لعملية التوفيق التي قادها النهضويون . ولم تزل الأفكار الليبراليية إلى الآن تدور في فلك التوفيق والتلفيق ، حتى أن كاتباً معاصراً لم يجد ما يمكن أن يخرج مشروع النهضة العربية من مأزقه سوى “ردم الهوة ” أو “إقامة جسر” بين الحداثة والتراث . ما يعني من جهة الاعتراف بعدم قبول اطروحات الليبرالية وادلوجاتها في البيئة العربية حتى الآن . ومن جهة اخرى العجز عن قراءة الواقع العربي قراءة عقلانية وصياغة مشروع نهضة عربية جديد . فهل صحيح ان فصل الدين عن الدولة أمر ممكن في المجتمع العربي ؟ وهل صحيح أن الشورى تعادل الديمقراطية أو هي صورة معدّلة عنها ؟ وهل صحيح أيضاً أن العلمانية هي السبيل الوحيد امام المجتمع العربي كي يتجاوز حالة الفوات والتقهقر؟

الحقيقة ان الواقع العربي لم ينظر إليه في كل هذه الحالات إلا من خلال أوهام إيديولوجية تعتبر أنه بالإمكان سحب النموذج الغربي على الواقع العربي دون أن نجهد أنفسنا باستقراء خصوصيات هذا الواقع وفرديته التي يجب أن نتعاطى معها من داخلها قبل كل شيء كي لا تتعرّض للسطو والتحريف والتفسيرات الخاطئة . من هنا يجب أن نقرأ الواقع العربي كما هو،ان نبحث عما يمكن أن يطوّره تطوراً طبيعياً وليس بعملية قيصرية قد تؤدي إلى ولادة شوهاء أو موت المولود الموعود . وتتفوّق الايديولوجيا الأصولية الراهنة في طرحها وتسويغها للأوهام على كل الايديولوجيات . فمن وهم الإحياء إلى وهم القطيعة الإبستمولوجية بين الحضارات ،الى وهم ستاتيكية المجتمع العربي وسكونيته وسرمدية عاداته وتقاليده ، إلى وهم تأليه وتأبيد مرحلة من مراحل التاريخ العربي ، تغرق الاصولية المجتمع في الصراع والصراخ والدم ، ومرة اخرى يكون الانسان العربي ضحية اوهام الايديولوجيا ورهاناتها على تحوّلات غير ممكنة وغير واقعية .

ألا يكفي كل هذا الفشل والخراب الذي قادت إليه اوهام الايديولوجيا في بنية المجتمع العربي لمراجعة هذه الاوهام واسقاطها ودراسة هذا المجتمع بعيداً عن التصورات الايديولوجية ، بأن نعمد إلى طرح الاشكاليات التاريخية طرحاً واقعياً وعقلانياً ، من إشكالية الحرية إلى إشكالية القومية إلى إشكالية العدل الاجتماعي إلى إشكالية التقدم والعصرنة ؟ وليس من الضروري ان نخرج بنتائج مطابقة لأي إيديولوجية جاهزة . فكما بزغت القومية والديمقراطية والاشتراكية والعلمانية من رحم حركة التاريخ الغربي ، قد ينجلي تاريخنا عن إمكانيات كبرى وعظيمة . ولكن علينا قبل ذلك كله أن نعيد قراءته . ففي صفحاته المجهولة دروس وعبر لم نبال بها ولم نتوقّف امامها وقد يكون فيها ما نخطط على أساسه مستقبلاً جديداً لنا .

 

 

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete