تكوين
القمع التكنولوجي
اقترن الوعد بالحرية وتحقيق الوفرة المادية بالتقدم التكنولوجي، فهو الشرط الأهم لبلوغ التطورات الاقتصادية والاجتماعية، وهو القادر على إحداث نقلة كمية وكيفية في حياة البشر. فالمعروف أن التكنولوجيا تُعبر عن أرقى تجليات العقلانية ودقة الفعل الإنساني، وقد نجحت بالفعل في تحقيق كثيرٍ من آمال البشر وتطلعاتهم في بلوغ عالم أفضل “فهي تقدم السبيل الواعد لتحسين الحياة في المستقبل”([1]).
لكن رغم ذلك يُمكن أن تُنذر التكنولوجيا بالخطر عندما تخضع لسلطة نظام جائر وغير عقلاني، وهذا ما يلفت إليه ماركيوز الانتباه عندما يُقرن بين التكنولوجيا المعاصرة والهيمنة، فالتكنولوجيا بوضعها الراهن أداة لثبيت دعائم السيطرة. فالعقلانية التكنولوجية
“لا تضع شرعية السيطرة موضع الاتهام، وإنما تحميها”([2]).
لكن ثمة سؤال يطرح نفسه: وهو أنه إذا كانت التكنولوجيا أداة لفرض السيطرة والهيمنة ووسيلة للتحكم في البشر؟ فلماذا لا يثور البشر عليها ويناضلوا من أجل التحرر منها؟ يُجيب ماركيوز عن هذا السؤال بأن التكنولوجيا حققت زيادة غير مسبوقة في الإنتاج والاستهلاك وبفضلها وصلت الحضارة المعاصرة إلى درجة من الوفرة والرفاهية ما كان لأحد أن يحلم بها من قبل، ومن الصعب على البشر التخلي عن كل هذه المنجزات
“فالتقدم التقني يخلق الرفاهية الكبرى وعالم السهولة والمتعة والراحة الذي لم يعد يظهر بوصفه امتيازًا خاصًا، بل بوصفه امتيازًا للجميع”([3]).
ويضيف ماركيوز لبعدي الوفرة والرفاهية بُعدًا آخرًا يكشف فيه عن سبب صعوبة تمرد البشر على التكنولوجيا، ويتجلى هذا البُعد في حِيَل التكنولوجيا نفسها في السيطرة. فالتكنولوجيا تغلف نفسها دائمًا بخطاب عقلاني يستعصي على النقد، وتظهر محاولة احتجاج الفرد عليها بوصفها محاولة غير عقلانية كُلية، طالما أن التكنولوجيا مرادفة “للراحة والفاعلية وتحقيق المنفعة الأقصى”([4]). يشير ماركيوز في هذا النص إلى أن التكنولوجيا قد غيرت من مفهوم العقلانية ودورها في المجتمع، وجعلت من العقلانية أيديولوجيا تستخدم لوأد كل محاولة لانتقاد التكنولوجيا، فبسبب التكنولوجيا “انتقلت العقلانية من عقلانية القوة النقدية إلى عقلانية الإذعان”([5]). فقد نجحت التكنولوجيا في تحويل العقلانية النقدية إلى عقلانية للتكيف والخضوع لمتطلبات الجهاز التقني، فيجد العقل راحته في ظل نظام يجعل منه وسيلة لبلوغ الدقة والموضوعية والأداء الفعال.
وننتقل مع ماركيوز من كشف زيف عقلانية الخطاب التقني إلى الشرح التفصيلي لخطورة التكنولوجيا على الإنسان وقمعها الفعلي لحريات الأفراد. فالفرد في ظل المجتمع التكنولوجي المُعاصر قد أصبح ترسًا صغيرًا في آلة الجهاز التقني الضخم، لا حُرية له ولا إرادة، وأختُزل وجوده في عمليات الاستهلاك لحاجات زائفة تخلقها التكنولوجيا وتروج لها عبر منظومة الدعاية والإعلان.
إن نزع الإرادة الحرة عن الإنسان يُحيلنا إلى مصطلح يستخدمه ماركيوز في كتابه الإنسان ذو البعد الواحد ليصف به الإنسان المعاصر، وهو مصطلح صنمية الإنسان، ويقصد به أن الإنسان قد أصبح بسبب خضوعه لعالم الأشياء، مثل الصنم لا روح له ولا عقل، ولا تنبع معايير تقييمه لذاته من سمو قدراته العقلية والوجدانية، بل أصبح يعرض نفسه دائمًا بوصفه سلعةً أو شيئًا يخضع لإدارة التقدم التكنولوجي وقوانين السوق
“فأداء الفرد يُحفزُ ويُقاس بواسطة معايير خارجة عنه، والفرد الكفؤ هو الذي يُترجم أداؤه إلى أفعال دقيقة وموضوعية يتطلبها الجهاز التقني”([6]).
يظهر في هذا النص تأثر ماركيوز الكبير بمصطلح صنمية السلعة، وهو المصطلح الذي صاغه ماركس في القرن التاسع عشر ليشير به إلى أن الإنسان الحديث أصبح يؤله السلع التي يصنعها، وينحني أمامها ويعزو إليها كل صفاته وإمكاناته، فهي القوى التي لا يستطيع الإنسان أن يعيش دونها، كما يظهر أيضًا رفض ماركيوز لأن يُعبَّر عن الكفاءة والفاعلية الإنسانيين من طريق الموضوعية المحضة والقابلية للقياس فقط، فلا يمكن من وجهة نظر ماركيوز، اختزال الإنسان في البعد الكمي وحده وإغفال ذاته وإنسانيته.
إقرأ أيضا: النقد الفلسفي للتكنولوجياجاك إلول نموذجا: الجزء الأول
على أية حال لم يعد أمام الغزو التكنولوجي مجالًا للحديث عن النزعة الفردية أو استقلال الذات. فخارج إطار الممارسات الاستهلاكية باتت التصورات الخاصة بالفردية والحرية من بقايا أحلام الحداثة الرومانسية التي أطاحت بها كل ممارسات التكنولوجيا الراهنة. وهذا ما يؤكده ماركيوز قائلا: “أن تحديد الذات واستقلال الفرد يؤكدان نفسهما فقط في حق المرء لأن يسابق بسيارته، أو في حقه لشراء بندقية”([7]).
لقد استبدلت التكنولوجيا المعاصرة بقيم التفرد والاستقلال قيم التماثل والتطابق، وأصبحت الجماعة الإنسانية أشبه بالحشد الذي يرفض وجود أي عنصر مُتفرد داخله. ويستعير ماركيوز من الفلسفات الوجودية مصطلح الحشد Crowed وهو مصطلح يُقصد به فقدان الذات الفردية وتخليها عن استقلالها وذوبانها في المجموع خوفًا من شعورها بالعزلة أو الوَحْدَة، فتسعى الذات في تحقيق شعورها بالأمان إلى الاندماج في الحشد. فالحشد طريقة فعالة لتوحيد أنماط السلوك والمعرفة “إنه بالفعل يُوحد، لكنه يُوحد الذوات الذرية التي تنفصل عن كل شيء يتجاوز مصالحها ودوافعها الأنانية، فالحشد هو الانحراف عن الفردية والتفرد”([8]).
ولإلغاء التفرد والتمرد دعمت التكنولوجيا المعاصرة سلوك الحشد وعززته تحت اسم المساواة. فبينما كان يُشير مصطلح المساواة إلى تكافؤ الفرص وإلغاء الامتيازات وعدم الاستئثار بالسلطة وتركيزها في يد أقلية على حساب الأغلبية، أصبح للمساواة الآن معنىً مختلفًا في المجتمعات المعاصرة، وهي المساواة في الاستهلاك. فجميع الطبقات يستهلكون المنتجات نفسها ويشاهدون الأفلام نفسها ويستمعون إلى الموسيقى نفسها.
لكن يكشف ماركيوز عن الوشائج الخفية التي تكمن خلف هذا النوع من المساواة، ويرى أنها ليست مساواة حقيقية، بل وسيلة مصطنعة لتعزيز مصالح الطبقات المسيطرة وإشباع نهم المنتجين إلى الربح. وهذا ما يبرزه ماركيوز قائلًا: “إذا كان العامل ورب عمله يشاهدان البرنامج التليفزيوني نفسه، وإذا كانت السكرتيرة ترتدي ثيابًا لا تقل أناقة عن ابنة مستخدمها، وإذا كان الزنجي يملك سيارة من طراز كاديلاك، فإن هذا التماثل لا يدل على زوال الطبقات، إنما يشير إلى العكس، إلى مدى إسهام الطبقات المسيطرة في تحديد الحاجات التي تضمن استمرار السيادة لها”([9]).
كان على التكنولوجيا لإنتاج هذا المجتمع المتماثل أن تُحدث تعديلًا جوهريًا في آليات السيطرة والتحكم، إذ أصبحت السيطرة غير علانية وغير سلطوية حتى لا يُتَمَرَّد عليها. فالإكراه الخارجي يُولد قدرًا من التمرد يُعيق عمل النسق التكنولوجي، أما الإجبار الداخلي فهو أكثر فاعلية في تحفيز الطاقات الإنسانية نحو العمل، وما يحتاجه البشر اليوم هو تعزيز الشعور بالحرية والاستقلال، وقد نجحت التكنولوجيا المعاصرة في توليد هذا الشعور لديهم “عندما غيرت من طبيعة السيطرة، وأصبح الحجاب التكنولوجي يُغطي على الحضور الفظ للمصالح الطبقية “([10]).
ولتكريس مزيدٍ من الهيمنة، عملت الطبقات المُسيطرة لتوظيف عديدٍ من العلوم الإنسانية توظيفًا أيديولوجيا، توظيفًا يهدف إلى صياغة متطلبات البشر واحتياجاتهم بما يتوافق مع مطالب النظام القائم، إذ “تجري ممارسة السيطرة بمساعدة العلوم الاجتماعية والسلوكية، وخاصة علم الاجتماع وعلم النفس وعلم العلاقات الإنسانية. فقد أصبحت هذه العلوم أداة ضرورية في أيدي القوى التي تمتلكها”([11]). يُنوه ماركيوز في هذا النص إلى تحول دور العلوم التحرري والثوري إلى أيديولوجيات مساعدة في عملية السيطرة، فعلى سبيل المثال، بدلًا من أن يكون لعلم النفس دورًا تحرريًا يُسهم في ترقية وعي الأفراد بوجودهم الخاص واحتياجاتهم الحقيقية، أصبح له دورًا مغايرًا يسعى من طريق إلى مأسسة الإنسان وتكيفه مع الجهاز التقني الضخم.
لقد نجحت التكنولوجيا في دمج الأفراد بالنظام وتوحدهم به، للدرجة التي أصبح معها استقرار النظام مرهونًا بدفاع الأفراد عنه. فثمة مصالح مشتركة بين الطرفين، الوفرة والرفاهية مقابل دعم النظام واستمراره، ولهذا فليس من المستغرب أن يتوارى الحديث عن فكرة تغيير راديكالي أو ثوري، إذ “أُبطِل العامل الثوري بواسطة السيطرة المُهندسة اجتماعيًا على الوعي، وبواسطة إشباع الاحتياجات التي تخلد عبودية المستهلكين”([12]).
وينتهي ماركيوز إلى رأي حاسم لا لبس فيه بخصوص سيطرة التكنولوجيا المعاصرة على الإنسان والمجتمع، وهو أنها أوصدت الأبواب في وجه كل فاعلية إنسانية وفي وجه كل مبادرة حرة تخرج عن الإطار المُحدد سلفًا من الإرادة التقنية التي لا تعبأ بشيء إلا باستمرار نسقها الخاص، دون الالتفات لأية غايات إنسانية. لذا لم يتردد ماركيوز في أن يُحمل التكنولوجيا المسئولية الرئيسة عن اغتراب الإنسان وتشيؤه في المجتمعات المعاصرة “فالتكنولوجيا هي الناقل الأكبر للتشيؤ الذي بلغ أكمل أشكاله وأنجعها”([13]).
إن نقد ماركيوز للتكنولوجيا وعدها السبب في تشيؤ الإنسان وتشويه وعيه وقمع حريته، مرتبط لديه بكونها أداة من أدوات نظام الهيمنة الذي تمثله الرأسمالية خير تمثيل. فهي وسيلته الأساسية في إعاقة عمليات التحرر الإنساني وفي تكريس السيطرة. والسؤال الآن: إذا كانت التكنولوجيا في رحاب الرأسمالية أداة من أدوات القمع والسيطرة، فهل ستنم عن نزوع عادل وإنساني حال تواجدها في ظل الأنظمة الأخرى كالاشتراكية مثلًا؟ يجيب ماركيوز عن هذا السؤال بالنفي ويرى أن الدول الاشتراكية في تعايشها التنافسي مع الغرب، ومحاولة اللحاق بالدول الرأسمالية المتقدمة، طورت التكنولوجيا نفسها، فهي في النظامين وسيلة للقمع والسيطرة “فالرأسمالية والاشتراكية لديهما الأساس التقني نفسه المَبني على السيطرة”([14]).
ويشير ماركيوز في موضع آخر إلى أن التكنولوجيا الاشتراكية وإن كانت لا تختلف عن التكنولوجيا الرأسمالية في بنيتها القمعية، إلا أن معدلات القمع والإرهاب ازدادت بفضل التكنولوجيا في الأنظمة الاشتراكية بسبب نظام المركزية وعدم استقلال الوحدات التابعة للمركز في اتخاذ القرارات، مما يُبدد أي مَلمح من ملامح الحرية والاستقلال الإداري والاقتصادي. وهذه الفكرة هي ما يؤكدها ماركيوز قائلًا: “إن الاشتراكية القومية هي مثالٌ واضح للطرق التي يعمل بها الاقتصاد لتحقيق مصالح القمع السلطوي والندرة المستمرة”([15]).
إن ما يرفضه ماركيوز هو خضوع التكنولوجيا للأنظمة الشمولية والاستبدادية، فهذا ما يجعل منها أداة غير محايدة في تكوين الواقع الإنساني، لكن لا يقصد ماركيوز أن التكنولوجيا في ذاتها غير محايدة “إنها يمكن أن ترقي النزعة السلطوية أو التحررية، ويمكن أن تُرقي الندرة أو الوفرة”([16]). ومن ثمَّ فإن نقد ماركيوز للتقنية ليس نقدًا لها في ذاتها، بقدر ما هو نقد للأنظمة التي انحرفت بها بعيدًا عن تحقيق غاياتها الإنسانية “فليس الخطأ خطأ التليفزيون أو السيارة أو التكنولوجيا عامة، إنه خطر الاستخدام البائس للتقدم التكنولوجي”([17]). ويؤكد ماركيوز المعنى نفسه في موضع آخر، عندما يتساءل “هل من الضروري أن نذكر أنها ليست التكنولوجيا، ولا الآلة هم محركو القمع؟ إنه حضور السادة أصحاب المصالح. وهل من الضروري أن نذكر أن العلم والتكنولوجيا هما المحركان الأعظم للتحرر؟ وأن استخدامهما القمعي هو الذي يجعلهما محركان للسيطرة”([18]).
اقتران التقدم التكنولوجي بالسيطرة والقمع، يدعونا إلى البحث عن سبل التحرر، فهل يكمن الحل في التخلي عن التكنولوجيا والعودة بالحضارة إلى الحياة ما قبل التكنولوجية؟ أم آن الأوان لإعادة توجيه دفة التكنولوجيا في الاتجاه الذي يُحقق الغايات الإنسانية العادلة، ويجعل منها وسيلة لبلوغ الحرية الحقيقية؟
- أولًا، فيما يتعلق بأطروحة العودة بالحضارة إلى الوراء، فهي من الأفكار المستبعدة لدى ماركيوز. وقد نَوَّهَ ماركيوز كثيرًا إلى وجود سوء فهم لأطروحاته في هذا الخصوص، إذ وُجِّهَ الاتهام إليه بأنه معادٍ للتكنولوجيا، وأنه يريد العودة بالحضارة إلى مرحلة يتلاشى فيها التقدم العلمي والتكنولوجي، لكن يدافع ماركيوز عن نفسه ضد هذه الاتهامات، ويؤكد أن مكتسبات التكنولوجيا سوف تكون الدافع الأول لإدارة عملية التحرر ونيل الحرية، إذ يقول:
“أتمنى عندما أتحدث عن رعب التكنولوجيا الرأسمالية، ألا يُفهم أنني أناصر عودة رومانسية لما قبل التكنولوجيا، بل أؤكد أن القوى المحررة للتكنولوجيا لن تكون حقيقية إن لم نتخلص من الرأسمالية”([19]).
يُنوه ماركيوز إلى أن الخُطوة الأولى للتحرر هي تحرير التكنولوجيا من هيمنة الرأسمالية وانتزاعها منها وتوجيهها لخدمة أغراض البشرية. وهنا يظهر الأثر الماركسي الكبير في ماركيوز، الذي يسير على خطى ماركس في القول بأن السبيل الوحيد لتحرير البروليتاريا هو الاستيلاء على أدوات الإنتاج الرأسمالية وتحطيم الدولة البرجوازية وإعادة توجيه عملية الإنتاج بما يحقق مصالح الطبقة العاملة.
- هناك طرح آخر يرفضه ماركيوز، وهو الحد من الرفاهية وتقليل مستوى المعيشة للضغط على الرأسماليين لتقليل أرباحهم وتقليص سيطرتهم على البشر. فهذه الفكرة وفق ما يرى لن تجد دعمًا جماهيريًا في مجتمع جعل من الوفرة والرفاهية أسمى غاياته، كذلك سوف يستغل الرأسماليون هذه الفكرة في فرض مزيدٍ من السيطرة بذريعة الحفاظ على مستوى المعيشة المرتفع ” فالنقاش الذي يجعل التحرر مشروطا بتقليل مستوى المعيشة لن يُجدي إلا في تبرير القمع واستمراريته”([20]).
- أما عن الطرح الثالث الذي يرفضه ماركيوز أيضًا، فهو الاعتقاد بقدرة الرأسمالية على تجديد نفسها وتعديل أوضاعها فيما يتعلق بتوزيع الثروات وتحقيق العدالة الاجتماعية بين مواطنيها. فهذا الطرح، من وجهة نظر ماركيوز، يُبقي على أنظمة القمع كما هي، ولن يجعلها تتوانى عن تحقيق أهدافها “فتجاوز الواقع لن يتم من طريق تحسين الوجود الحالي أو تطويره أو تكملته، فمثل هذه الأفكار تسعى في مصالحة الإنسان مع عالم العمل المغترب”([21]).
ليس الحل إذًا في تعديل المؤسسات أو تغييرها أو في حدوث إصلاحات جزئية أو في إعادة هيكلة بعض القطاعات، فعالم الحرية من وجهة نظر ماركيوز لا يُمكن بناؤه انطلاقًا من الأنظمة الموجودة، لأن بنية هذه الأنظمة وطريقتها في تلبية المتطلبات والإشباعات تعمل لإعادة إنتاج العبودية، لذا فإن هذه الحلول لا تتوافق مع توجهات ماركيوز الراديكالية والثورية الذي يريد مجتمعًا جديدًا تُجتث منه جذور الرأسمالية وآثامها “ويستطيع البشر إنجاز هذا التحرر عن طريق الممارسة الثورية وحدها”([22]). يظهر هنا أيضا تأثر ماركيوز الشديد بماركس، الذي يؤكد أن الثورات هي الوسيلة الأفضل للانتقال من العهد التاريخي للرأسمالية إلى عهد تاريخي جديد؛ العهد الألفي السعيد للشيوعية، فالثورات سوف تحسم في المقام الأخير الصراع بين الطبقتين المتعاديتين، وبفضلها سوف تتحقق الحرية والإخاء والمساواة “فالثورات هي التي تحرك التاريخ”([23]).
إن القضاء على الرأسمالية، لدى ماركيوز أشبه بفعل التحرر الشامل، إذ أصبحت ممارسات الرأسمالية أشبه بالنـازية، في أفعالها القمعية في الداخل والاستعمارية في الخارج، وفي تضييق الخناق على كل محاولة لتحرر البشر، وهذا ما يوضحه ماركيوز قائلا: “يُمارس النظام الرأسمالي الرعب الذي مارسته النازية، حيث المذابح الكبرى في فيتنام وأندونسيا والكونغو، والعداء ضد أي شيء يثور ضد الدول الاستعمارية”([24]).
لكن رغم العداء الشديد الذي يكنه ماركيوز للرأسمالية، إلا أنه يرى أن المنجزات المادية والعقلية التي تحققت بواسطة التكنولوجيا الرأسمالية كان لها فضلًا كبيرًا في القضاء على الندرة وسيكون لها دورًا هائلًا في تحرر البشر في كافة المستويات. ولهذا فالتحرر مُقترن لديه بالدفع بهذه التكنولوجيا قدما إلى الأمام، وليس في الحد منها، لأن “القاعدة التكنولوجية هي التي أوجدت إمكان تلبية الحاجات (…) والمطلوب هو إعادة بناء تلك القاعدة، أي العمل لتطويرها من أجل تحقيق غايات مختلفة”([25]). يظهر هنا أيضًا الأثر الماركسي في فلسفة ماركيوز، فقد أشار إنجلز في كتابه الاشتراكية الطوباوية والعلم إلى المعنى نفسه الذي يؤكده ماركيوز في نصه السابق، أي إلى الدور المهم الذي سوف تلعبه زيادة الإنتاج في عملية التحرر، وهو ما كان ليحدث من دون التقدم التقني. يقول إنجلز: “إن قوة التوسع في وسائل الإنتاج تحطم القيود التي كبلها بها نمط الإنتاج الرأسمالي، وتحريرها من هذه القيود هو الشرط الوحيد المطلوب من أجل تطوير القوى المنتجة تطورًا غير منقطع، ومتصاعدًا بسرعة متزايدة، ومن ثمَّ من أجل تنامي الإنتاج نفسه إلى ما حد له عمليًا”([26]).
أسهمت التكنولوجيا في تحقيق عديدٍ من الإنجازات ويكمن إنجازها الأعظم بجانب الوفرة والرفاهية والراحة في توفير المجهود العضلي والطاقة البدنية، وهنا يعهد ماركيوز للتقدم التكنولوجي بمهمة التحرير الغريزي. فالتكنولوجيا سوف تدخر المجهود العضلي والطاقة الليبيدية ليخرجا في شكل أنشطة حرة وممارسات لذية تُحقق الإشباعات الغريزية بعامة والجنسية بخاصة. وهكذا سوف يتوارى بفضل التقدم التكنولوجي مبدأ الواقع القمعي المحكوم بالعوز والضرورة الدائمين، وسيفسح المجال أمام مبدأ اللذة والتحرر الغريزي، حتى نصل إلى مبدأ واقع غير قمعي تسير فيه عملية الإنتاج والإشباع الغريزي يدًا بيد، ولا يَقمع فيه مبدأ الواقع مبدأ اللذة ويتسلط عليه. هذا النازع الجديد لإعادة توجيه طاقة العمل لإشباع الاحتياجات الغريزية هو ما يبرز ماركيوز فضل التقدم التكنولوجي فيه قائلا: “إن قوة الطاقة الغريزية المتوفرة بسبب العمل الآلي لن تخرج في شكل أنشطة غير لذية، لكنها ستتحول إلى طاقة إيروسية “([27]). إن ما يشدد عليه ماركيوز في هذا النص هو أن التقدم التكنولوجي سوف يكون الوسيلة للتحرر من الكبت الغريزي، وسوف يسعى الإنسان بفضله في تأسيس عالم الحرية في مقابل عالم الضرورة.
لكن ثمة سؤال يطرح نفسه: وهو ألن يُؤثر تفريغ الطاقة الجسدية في قنوات الأنشطة اللِّذِّية بالسلب على الإنسان نفسه، الذي قد يَهلك نتيجة لاستنزاف القدر الأعظم من طاقته في أعمال لا تدعم بقاءه المادي والعقلي؟ وألن يُؤثر هذا على تطور عمليات العمل وعلى شكل قوى الإنتاج وعلاقاته؟ يرى ماركيوز أنه إذا كانت التكنولوجيا الرأسمالية قد أدت إلى زيادة الكبت الغريزي لصالح العمل، فإن تكنولوجيا التحرر الإنساني ستحقق التوازن بين المطلبين: العمل والإشباع الغريزي. إنها لن تُلغي العمل، لكنها سوف تقلص وقت العمل المغترب وغير اللِّذِّي لصالح العمل اللِّذِّي. وسوف تقوم علوم وتكنولوجيا التحرر “بحساب الحد الأدنى من العمل الكافي لتلبية الحاجات الحيوية لجميع أعضاء المجتمع (…) من دون الإضرار بتراكم رأس المال الضروري لتطور المجتمع”([28]).
إن ما يُطالب به ماركيوز هو إلغاء العمل المُغترب الذي يمنع الأفراد من تحقيق إمكاناتهم واحتياجاتهم الإنسانية والحقيقية، لكننا لا ينبغي أن نتسرع وننسب إلى ماركيوز صيغة من صيغ الرفض المطلق للعمل، إنه ضد فكرة إلغاء العمل في ذاته، بل إن ما يريده هو تحول كيفي في نوعية العمل، تحول من العمل المُغترب إلى العمل اللِّذِّي الذي يُحقق الإشباع للإنسان، ليتحول العمل إلى لعب حر ووسيلة للمتعة والتعبير عن القدرات والملكات الإنسانية “أعتقد أنه لا يُمكن إلغاء العمل في ذاته. فبعض من التحكم والسيادة وتحويل الطبيعة من طريق العمل هو شيء حتمي، لكن سيكون العمل الجديد قريب جدا من اللعب”([29]).
راودت فكرة العمل الجذاب أو العمل الترفيهي كثيرًا من المفكرين الاشتراكيين الذين حاولوا أن يرسموا في مخططاتهم الطوباوية صورة براقة لما ينبغي أن يكون عليه العمل الإنساني، بعيدًا عن أشكال الاغتراب والاستغلال المعهودة في القرن التاسع عشر، وبعيدًا عن الفكرة الشائعة آنذاك بأن الإنسان لا يعمل إلا بدافع الخوف. فالإنسان إذا تُرك إلى نفسه سوف يكون كسولًا ومتراخيًا “والوسيلة الوحيدة لاقتياده إلى العمل هي الخوف من العقاب والمجاعة”([30]).
وقد قدم المُفكر الاشتراكي الفرنسي تشارلز فورييه تصورًا للعمل الذي يُحقق سعادة الإنسان ورضاه، ووضع معايير واضحة لبلوغ العمل الجذاب أو العمل المُبهج والممتع، وتتحدد بعض من هذه المعايير فيما يلي:([31]).
- يجب أن يحصل كل إنسان ـــرجلًا أو امرأةً أو طفلًاـــ على أجر ملائم لإسهامه في رأس المال والعمل والموهبة.
- يجب أن تُقسم أوقات العمل لثمان مرات يوميًا، لأن الإنسان لا يمكن أن يبقى متحمسًا لعمله لأكثر من ساعة ونصف أو ساعتين، وبعدها سوف يُصاب بالملل عند تأدية عمل زراعي أو صناعي.
- يجب تأدية الأعمال بواسطة مجموعة من الأصدقاء الذين يوجدون معًا.
- يجب أن تقدم الورش والحقول والحدائق للعامل إغراءات الأناقة والنظافة.
تُعد المعايير السابقة تعبيرًا عن رغبة فورييه في رسم ملامح صريحة وواضحة لما ينبغي أن يكون عليه العمل الجذاب، أما في حالة ماركيوز، فرغم تأثره بالتصورات الطوباوية لفورييه واحتفاؤه بها في كتابه الأيروس والحضارة، إلا أننا لا نجد لديه معاييرًا واضحة لتمييز العمل اللِّذِّي أو العمل الشبيه باللعب سوى أنه عمل غير مُغترب يُحقق الإشباع الليبيدي للإنسان، لكن ما هي طبيعة هذا العمل وكيفية أداؤه وطرق الاستمتاع به؟ فهذه الجوانب يكتنفها الغموض عند ماركيوز، ولا نجد لديه إجابات شافية عن أسئلتنا.
على أية حال إن تحول العمل إلى لعب ولأن يكون وسيلة من وسائل المرح والسعادة يرادف عند يوري زيلبيرشيد Uri Zilbersheid إلغاء العمل، إذ يرى زيلبيرشيد أن ماركيوز قد تأثر بفكرة إلغاء العمل لدى ماركس، فطالما أن العمل يتضمن الإنتاج النفعي أو الإنتاج الذي لا يُعد غاية في ذاته فهو عمل غير لِذِّي، في حين أن بلوغ الغايات الإيروسية هو المطلب الأساسي للعمل لدى ماركيوز، وهذا ما يبرزه زيلبيرشيد قائلًا: “إلغاء العمل وتحوله إلى لعب ووسيلة للإشباع اللِّذِّي هو هدف في ذاته لدى ماركيوز“([32]).
صحيح إن اللعب لدى ماركيوز هدف في ذاته، لأنه لا يخدم غرضًا آخر سوى الإشباع اللذي، لكن ينبغي بحكم الضرورة أن يسير اللعب بالتوازي مع العمل بمعناه المادي الذي يعد لدى ماركيوز “مجهودًا نشطًا للأنا يجلب من العالم الخارجي كل ما هو مطلوب لحفظ الذات”([33]). يقرن ماركيوز في هذا النص بين العمل والبقاء، فالصراع من أجل الوجود يحتم العمل، الذي يكفل للإنسان وجود المقومات الأساسية والضرورية لحفظ ذاته وبقائه.
إن العمل الذي يريده ماركيوز ليس غرضه تراكم رؤوس الأموال أو تحقيق الفوائد والأرباح، بل بلوغ اللذة والمتعة. وسوف يتحقق هذا الغرض بزيادة أوقات الفراغ المُخصصة للعب وليس بإلغاء العمل نفسه كما يدعي زيلبيرشيد. وإننا لا نجد في نصوص ماركيوز ما يدعم فكرة إلغاء العمل، بل نجده يتحدث عن تقليل وقت العمل “فاختزال يوم العمل هو المطلب الأول للحرية”([34]). فهدف ماركيوز هو الاستفادة من التقدم التكنولوجي لادخار طاقة العمل وتقليل وقت الكدح لزيادة أوقات الفراغ التي يسعى فيها الإنسان لإشباع رغباته وغرائزه الجسدية والجنسية التي كان محرومًا منها في ظل النظام الرأسمالي، وهذا ما سوف يتضح في حديثنا عن القمع الجنسي.
القمع الجنسي
أنتشر في ستينيات القرن الماضي مُصطلح الثورة الجنسية. ويُشير هذا المصطلح إلى التغير الجذري الذي حدث في نظرة المجتمع إلى الجنس، والمطالبة بتحرر الجنس من قيود الدين والعادات والأخلاق والدعوة إلى الحب الحر الذي يرفض اختزال الجنس في الزواج والزوجة الواحدة. وسادت الدعوة لتعددية العلاقات الجنسية، وقد أبرز ماركيوز هذا التغير الحادث في الرؤية الجديدة للجنس قائلًا: “تحررت الأخلاق الجنسية كثيرًا عما كانت عليه في القرن التاسع عشر”([35]).
كان هذا التحرر نتاجًا لكتابات مجموعة من علماء النفس والاجتماع والفلاسفة الذين مهدوا الطريق لاندلاع هذه الثورة. وتعد أفكار عالم النفس الألماني فلهلم رايش Welhelm Reich رائدة في هذا المجال، إذ ذهب إلى أن التحرر الجنسي سوف يُقلل من النوازع العدوانية لدى الأفراد، ويحد من الاضطرابات النفسية والعصبية “فمن دون فرض قيود اجتماعية على الجنس يسود الحب لا الحرب، وسوف يجذب هذا التحرر عددًا كبيرًا من الشباب”([36]).
ليست كتابات رايش وحدها هي التي مهدت الطريق أمام التحرر الجنسي، بل يرى ستيف جارليك Steve Garlick أن كتاب الأيروس والحضارة لماركيوز كان بمنزلة التنظير الأكثر أهمية للثورة الجنسية. فماركيوز من وجهة نظر جارليك هو الأب الرُوحي لهذه الثورة “كان ماركيوز بمكانة الشخصية الرائدة للثورة الجنسية التي كونت الثقافة الشعبية في أمريكا في ستينيات القرن الماضي”([37]).
ومن جانبنا نرى أن كتابات ماركيوز رغم تأييدها للأهداف التي دعت إليها الثورة الجنسية مثل: التحرر الغريزي والجنسي والتعددية الجنسية ورفض الأسرة المونغومية القائمة على الزوجة الواحدة، إلا أننا لا نجد في كتاباته ما يشير إلى احتفائه بهذا التحرر، بل يرى ماركيوز أن المضمون الحقيقي لهذه الثورة ليس ثوريًا ولا تحرريًا. فطالما أنها تعمل في ظل النظام القائم سوف تكون شكلًا بلا مضمون حقيقي، فهي لن تُحقق لذة ولا إشباعًا حقيقيًا، بل ستكون وسيلة لفرض مزيدٍ من القمع والسيطرة على الحياة الجنسية للأفراد، وهذا ما يؤكده ماركيوز عندما يقول:
“في الوقت الذي يتيح فيه المجتمع المعاصر مجالًا أوسع بكثير مما في الماضي لتلبية الغرائز الجنسية، إلا أن مبدأ اللذة يواجه من طريق هذه التلبية تقلصًا وانكماشًا، فالجنس في المجتمع الأحادي الجانب يصبح هو الأخر أحادي الجانب، وطاقة من الطاقات المستنفرة لحماية ذلك المجتمع”([38]).
إن ما يرفضه ماركيوز هو تحول الجنس إلى سلعة يطغي عليها طابع الممارسة التجارية الهادفة إلى تحقيق الربح والفائدة “فلا يُحقق المجتمع الصناعي درجة أكبر في الحرية الجنسية إلا بقدر ما تصبح لهذه الحرية قيمة بضاعية”([39]). يوضح ماركيوز في هذا النص الاقتران الكبير بين زيادة معدلات التحرر الجنسي وتحقيق مصالح السيطرة، فبقدر ما يُسهم هذا التحرر في زيادة رؤوس الأموال بقدر ما يتسامح النظام مع أشكال السلوك الجنسي المتنوعة، فلا يمكن أن يسمح نظام السيطرة بتحقيق إشباعات تتعارض مع مقتضيات السوق الرأسمالية، لذا فإننا “إذا أردنا إشباع الأهداف الجنسية دون صراع عتيد مع اقتصاد السوق، فيجب إشباعها داخل إطار التجارة والفائدة”([40]).
ويتفق بول برنيس Paul Breines مع ماركيوز على سيادة الطابع التجاري للجنس في المجتمعات المعاصرة، بل وتجريده من مضمونه العاطفي والإنساني، لكن يذهب بيرنيس إلى أبعد من ذلك عندما يرى أن التحرر الجنسي الذي أتت به الثورة الجنسية لم يكن نتاجًا لنضال طويل، فما هو إلا مؤامرة رأسمالية غرضها التحكم في الحياة الجنسية للبشر بما يحقق مصالح أصحاب رؤوس الأموال، من طريق إنتاج ذوات استهلاكية تتحول أجسادها ورغباتها إلى موضوعات تخضع للتكميم والقياس والتجريب لخدمة أغراض السوق “فالجنس يُدرس ويُلاحظُ ويُحلل ويُقاس ويُوضع له معايير”([41]). إن وضع معايير تحدد السمات التي ينبغي أن يكون عليها الجسد وسمات الممارسة الجنسية وبلوغ الأداء الأفضل، والترويج لذلك عبر وسائل الإعلام هو ما يفتح المجال أمام الانتشار المكثف لشركات صناعة مستحضرات التجميل وشركات الأدوية التي تعد بإنتاج منتجات طبية لها فاعلية جنسية أقوى، وكل هذا يصب في مصلحة أصحاب رؤوس الأموال.
إقرأ أيضا: الغزو الثقافي وسؤال الهُوية
على أية حال إن الجنس السلعة ليس هدفه بلوغ اللذة والمتعة التي تُشعر الإنسان بالإشباع الحقيقي، وليس هدفه القضاء على الاغتراب، بل هو أحد أشكال الاغتراب الذي لا تدرك فيه الذات موضوعها الجنسي إلا بوصفه وسيلة لتفريغ الطاقة الجنسية، في حين أن الإشباع الحقيقي لا يمكن إيجاده في الزائل والمؤقت والسطحي والضحل. فالجنس التجاري “مُعادل لإنكار الطاقة الإيروسية التي لا يمكن أن تتحرر في ظل الظروف غير الإنسانية للوفرة المبنية على الأرباح”([42]). يُشير هذا النص إلى دور الرأسمالية في إعاقة القدرات الحسية للإنسان، وشل قدراته العقلية، وتجريده من طابعه الإنساني، وإنهاكه في عملية الاستهلاك والمنافسة والصراع من أجل الوجود، وتحويله إلى كائن مُلحق بالآلة يعمل لخدمة أغراضها المحددة له، وأنسته شعوره بكينونته وجوهره الإنساني، واختزلت وجوده في البعد الاقتصادي فقط، لكن كي يحدث تحرر جنسي حقيقي فلا بُد من التحرر من سيطرة الرأسمالية وأصحاب المصالح، فالشرط الأول للتحرر الجنسي هو التحرر السياسي والاجتماعي، وكذلك لا يوجد تحرر سياسي دون تحرير مبدأ اللذة.
لقد غيرت الرأسمالية من طبيعة الجنس نفسه، فبدلًا من أن يُعبر عن الرغبة الإنسانية وعن العفوية والتلقائية، أصبحت مجالات الإشباع وقنواته يُحددها النظام الذي ليس للأفراد القدرة على التدخل فيه أو التحكم في آليات عمله، فتحول الجنس بذلك في المجتمعات الصناعية المعاصرة “من مبدأ حاكم للكائن الحي إلى وظيفة مؤقتة يحددها النظام”([43]). لقد فَرَّغت الرأسمالية الجنس من مضمونه الذي يُحقق المتعة والنشوة وحولته إلى أداء سريع منزوعًا منه المشاعر والأحاسيس.
على أية حال إن القمع الذي يتعرض له الجنس في المجتمعات المعاصرة هو امتداد للقمع الجنسي الذي فُرض منذ بواكير الحضارة الغربية، فالحضارة الغربية منذ أفلاطون والقمع الجنسي جزءٌ لا يتجزأ منها، حيث قمع المشاعر والشهوات والرغبات، فهي من سمات الإنسان المتهور الذي فقد السيطرة على نفسه والذي يُعد أقرب إلى الحيوانات التي تتصرف وفقًا لغريزتها، في حين أن الإنسان العاقل هو الذي يتصرف وفقًا لقوانين العقل. إن شهوة الجسد أو اللذة الجنسية هي ما رفضها أفلاطون في محاورة المائدة على لسان بوسانياس، وعدها لا ترتقي إلى مصاف الحب، وقد حَطَّ أفلاطون من قدرها قائلا: “إن الحُب الملازم لزهرة بانديموس هو الحب الذي تعرفه العامة، وتهيم به كالبهائم، لما فيه من شهوات دنيئة (…) فهم يعشقون الأبدان ولا يأبهون النفوس، ولا يعملون إلا لإطفاء نيران شهوات الجسد”([44]).
لكن ينتقد ماركيوز هذه التصورات الأفلاطونية التي حطت من شأن الشهوات والرغبات الحسية، ويرى أنها أورثنا عبئًا ثقيلًا أسفر عن التقليل من شأن الأيروس لصالح اللوغوس، حتى انتهى الأمر إلى سيادة حضارة مادية أحادية الجانب، حضارة تُمجد اللوغوس فقط، ولا تُعير أي اهتمام للوجدان والرغبات الإنسانية، ويرفض ماركيوز هذا التوجه قائلا: “منذ أفلاطون أُخضعت الشهوات والمشاعر وقُيدا، وعُدَّا معاديان للعقل، وساد تشويه لمبدأ اللذة بطريقة لا يمكن مقاومتها”([45]). تكمن خطورة النظرة الأفلاطونية في أنها لم تحط من شأن مبدأ اللذة لوجود تحديات خارجية تفرضها الضرورة أو الندرة، لكن ذهب أفلاطون إلى التشويه العمدي لمبدأ اللذة، فهو في ذاته من طبيعة منحطة ومتدنية ويجب إقصاؤه بعيدًا عن التكوين الفردي وعن العلاقات الاجتماعية.
وفي مقابل التصورات الأفلاطونية يلجأ ماركيوز إلى الأساطير، ويجد في أسطورتي أورفيوس· Orpheus ونرسيس ** Narcissus بديلًا يُمكن استلهامه في عصرنا الراهن. فالنظرة الأورفية والنرسيسية إلى العالم لا يُمكن أن تكتمل إلا من طريق الحب الجسدي والجمال اللذان يُوحدان كل ما في العالم في وَحْدَة واحدة “فالشعور الأورفي والنرسيسي بالعالم ينفي مبدأ الواقع وسموه، فالوجود يُعايش بوصفه إشباعًا يُوحِّدُ الإنسان والطبيعة ويحقق اكتمالهما دون عنف”([46]). إن دعوة ماركيوز لإحياء التراث الأورفي والنرسيسي ما هي إلا محاولة لرأب الصدع الذي أحدثه أفلاطون بين الأيروس واللوغوس، ورد الاعتداد للإيروس وأحياء لدوره في تحقيق الشعور بالانسجام مع العالم، وعدم التعامل معه بوصفه موضوعًا للسيطرة والتحكم من اللوغوس.
وقد كشف دوجلاس كيلنر Douglas Kellner عن القيمة الرمزية لأورفيوس ونرسيس في أعمال ماركيوز، فرأى أن أورفيوس يُشير إلى الأنشطة غير القمعية، فأغانيه وموسيقاه تُجسدُ قيم الهدوء والإشباع، فهو رمز للحضارة غير القمعية، أما نرسيس فيشير إلى الشعور الذي يُعانق الكون، ويعبر عن الترابط الذي لا يفصل الأنا عن العالم الخارجي، ورفض الانفصال عن الموضوع الليبيدي الذي يهدف إلى التحرر([47]). وسوف نرى لاحقًا كيف أن ماركيوز يُولي اهتمامًا كبيرًا للفنون الحقيقية في التحرر من القمع، وهذا ما سوف نوضحه في التحرر من القمع الثقافي.
المصادر والمراجع:
[1] – Morian R. Chertow, Daniel C. Esty (eds), Thinking Ecologically: The Next Generation of Environmental Policy: London, Yale University press, 1997, p: 163
[2] – هربرت ماركيوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة / جورج طرابيشي، بيروت، منشورات دار الآداب، 1971، صـ 191
[3] – Herbert Marcuse, Counterrevolution and Revolt, London, Beacon Press, 1972, p: 19
[4] – Herbert Marcuse, Technology, War and Fascism, London, Routledge, 1998, p: 48
[5] – loc- cit., p: 48
[6] – loc- cit., p: 48
[7] – Herbert Marcuse, an Essay on Liberation, Boston, Beacon Press, 1969, p:12
[8] – Herbert Marcuse, Technology, War and Fascism, p:53
[9] – هربرت ماركيوز، الإنسان ذو البعد الواحد، مصدر سبق ذكره، صـ 44
[10] – Herbert Marcuse, an Essay on Liberation, op.cit., p:12
[11] – هربرت ماركيوز، فلسفات النفي: دراسات في النظرية النقدية، مصدر سبق ذكره، صـ 254
[12] – Herbert Marcuse, an Essay on Liberation, op.cit., p:16
[13] – هربرت ماركيوز، الإنسان ذو البعد الواحد، مصدر سبق ذكره، صـ 193
[14] – Herbert Marcuse, Soviet Marxism: A Critical Analysis, London, Routledge & Kegan Paul, 1969, p: 185
[15] – Herbert Marcuse, Technology, War and Fascism, op.cit., p: 41
[16] – ibid., p: 41
[17] – Herbert Marcuse, The New Left and The 1960s: Collected Papers of Herbert Marcuse, Vol:3, Edited by: Douglas Kellener, London, Routledge, 2005, p:107
[18] – Herbert Marcuse, an Essay on Liberation, op.cit., p:12
[19] – Herbert Marcuse, Marxism, Revolution and Utopia: Collected Papers of Herbert Marcuse, Vol:6, London, Routledge, 2014, p:68
[20] – Herbert Marcuse, Eros and Civilization: A Philosophical In quiry Into Freud, op.cit., p:127
[21] – ibid., p:130
[22] – Herbert Marcuse, Karl Popper, Revolution or Reform: a Confrontation, Edited by: A. T. Ferguson, Chicago, New University Press, 1985, p:24
[23] – كارل ماركس، فردريك إنجلز، منتخبات في ثلاثة مجلدات، مجلد 3، الجزء الثاني، ترجمة/ الياس شاهين، موسكو، دار التقدم، 1981، صـ241
[24] – Herbert Marcuse, Counterrevolution and Revolt, op. cit., p:1
[25] – هربرت ماركيوز، الإنسان ذو البعد الواحد، مصدر سبق ذكره، صـ 244
[26] – فردريك إنجلز، الاشتراكية: الطوباوية والعلم، بيروت، دار الفارابي، 2013، صـ156
[27] – Herbert Marcuse, Philosophy, Psychoanalysis and Emacipation: Collected Papers of Herbert Marcuse, Vol:5, Edited by: Douglas Kellner, Clayton Pierce, London, Routledge, 2011, p:57
[28] – هربرت ماركيوز، الإنسان ذو البعد الواحد، مصدر سبق ذكره، صـ 244، 245
[29] – Herbert Marcuse, Marxism, Revolution and Utopia: Collected Papesr of Herbert Marcuse, Vol:6, op.cit., p:260
[30] – Jonathan Beecher, Richard Bienvenu (eds), The Utopian Vision of Charles Fourier: selected texts on Work, Love, and Passionate Attraction, Boston, Beacon Press, 1971, p: 273
[31] – ibid., pp: 274, 275
[32] – Uri Zilbersheid, ” The Idea of Abolition of Labor in Socialist Utopian Thought ” in Utopian Studies, Vol:13, no:1, 2002, pp:22-41
[33] – Herbert Marcuse, Eros and Civilization: A Philosophical In quiry Into Freud, op.cit., p:172
[34] – ibid., p:127
[35] – Herbert Marcuse, Five Lectures: Psychoanalysis, Politics, and Utopia, op.cit., p:13
[36] – Graham Heath, The Illusory Freedom:The Intellectual Origins and Social Consequences of Sexual Revolution, London, William Heinemann Medical Books Ltd, 1978, p:17
[37] – Steve Garlick, ” A New Sexual Revolution? Critical Theory, Pornography, and The Internet ” in Canadian Review of Sociology ” Vol:48, 2011, pp:221-237
[38] – هربرت ماركيوز، الإنسان ذو البعد الواحد، مصدر سبق ذكره، صـ 16
[39] – المصدر نفسه، صـ 110
[40] – Herbert Marcuse, Toward a Critical Theory of Society: Collected Papers of Herbert Marcuse, Vol:2, Edited by Douglas Kellner, London, Routledge, 2001, p:104
[41] – Paul Breines (ed), Critical Interruptions: New Left Perspectives on Herbert Marcuse,op. cit., p: 124
[42] – ibid., p:104
[43] – Douglas Kellner, Herbert Marcuse and The Crisis of Marxism, London, Macmillan, 1984, p:168
[44] – أفلاطون، مائدة أفلاطون: كلام في الحب، ترجمة / محمد لطفي جمعة، مؤسسة هنداوي، 2021، صـ 113
[45] – Herbert Marcuse, Eros and Civilization: A Philosophical In quiry Into Freud, op.cit., p:132
- * أورفيس في الأسطورة الإغريقية موسيقي وعازف على القيثارة، وكان من رقة وعذوبة موسيقاه تنقاد إلى أنغامه جميع الكائنات الحية، وكأنها واقعة تحت السحر، ويستطيع استئناس الوحوش الضارية في هذا العالم، والقوى المخيفة في العالم الآخر. نقلا عن
أحمد فؤاد الأهواني، فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، 1954، صـ 27
** أما نرسيس فهو الشاب الجميل الذي أُعجب بجمال نفسه وهو ينظر إلى صورته على صفحة المياه وعانق صورته فغرق
[46] – Herbert Marcuse, Eros and Civilization: A Philosophical In quiry Into Freud, op.cit., p:136
[47] – Douglas Kellner, Herbert Marcuse and The Crisis of Marxism, op.cit., p:176