الكتابات الأيديولوجية العربية المعاصرة وإشكالية الديمقراطية  

تكوين

كانت الدعوة إلى الالتزام قد انطلقت في الفكر العربي المعاصر بين منتصف الخمسينيات ومنتصف الستينيات مترافقة مع التحولات الاجتماعية والسياسية الكبرى وانبعاث الفكر القومي. وكان الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر قدوة كُتابنا الملتزمين، حتى أن السارترية كانت الطابع الأبرز الذي ميَّز الثقافة العربية في تلك المرحلة. فالأعمال الكاملة لسارتر تُرجمت في غير عاصمة عربية والدوريات الصادرة آنذاك جاءت مُفعمة بفكرهِ ومواقفهِ. وليس أدلُّ على ذلك مما جاء في العدد الأول من مجلة “الآداب” البيروتية واسعة الانتشار في الخمسينيات من أن “الأدب الذي تدعو إليه المجلة وتشجعهُ هو أدب الالتزام الذي يَنبعُ من المجتمع العربي ويصب فيه. والمجلة إذ تدعو إلى هذا الأدب الفعال تحمل رسالة قومية مُثلى”. لقد مَثل سارتر بمواقفه السياسية نموذجًا للوحدة بين الفكر والسلوك تطلع إليه الكاتب العربي بإعجاب وجعل منه رمزًا للفكر الفعال والمثقف الحقيقي. ولكن حتى يتحقق الالتزام لا بد من حرية الكاتب فيما يكتب وحرية القارئ فيما يقرأ. فالالتزام لا معنى له في غير مناخ الحرية الفكرية والسياسية والاجتماعية، وهذا ما لا يمكن تصوره خارج إطار الحرية القومية. هكذا تكون مسألة الالتزام قد طُرحت مع صعود الأيديولوجية القومية والاجتماعية، وها هي الآن تُطرح من جديد مع سقوط هذه الأيديولوجية. فإذا كان الالتزام سمة من سمات مرحلة النهوض القومي والاجتماعي العربي، فإن الاغتراب الفكري والروحي هو سمة المرحلة الراهنة، مرحلة الانهيارات العربية الكبرى.

لقد راهن المفكرون القوميون والاجتماعيون على انتصار اطروحاتهم الدوغمائية غير آبهين بالحقائق التاريخية للأمة العربية، ومن دون الالتفات إلى حاجات الإنسان العربي الحقيقية ورغباته الإنسانية، فكانت النتيجة هذه الغربة القاتلة وهذا الانفصام المُفجع بين الكُتَّاب والشعب وبين النخبة والناس. لقد ضحَّى هؤلاء بحريات الإنسان العربي وحقوقه على مذبح آرائهم وأفكارهم “الثورية” حتى إذا فوجئوا بانكساراتهم انقلبوا على هذا الإنسان بالعنف الفكري واستمر بعضهم على اطروحاته القديمة على رغم كل ما حصل. ففي ندوة “النظم العربية والديمقراطية” المُقامة في ليبيا عام 1985 يقول نديم البيطار: “مقياس نجاح التجربة الثورية ليس تحقيق المثل (…) بل إلغاء النظام القديم وتجاوزه. إن كانت التجربة الثورية قادرة على هذا، وجب اعتبارها ناجحة وفعالة على رغم كل ما قد يترتب عليها من عنف جماعي ومن قمع للحريات والحقوق (…) طالما أن النضال العربي الوجودي يرمي إلى إقامة دولة الوحدة… فإن هذا النضال يحتاج إلى ديكتاتورية وحدوية ثورية”. ويذهب البيطار إلى حد تحريم حرية الفكر والنقد والتعبير: “إن النقد الديمقراطي الشائع بيننا ينشغل عادة بالناحية الشكلية في الديمقراطية مثل حرية الفكر والتنظيم والتعبير عن الرأي المستقل… عندئذ يجب أن يُمارس العنف الثوري دون رحمة أو شفقة، دون تردد أو مهادنة ضد الاتجاهات التي تقول بهذا النقد “.

هذا النمط من الفكر الأيديولوجي جعل شريحة واسعة من مثقفي الستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينيات تُؤمن بإمكان تغيير الواقع العربي بدءا من أيديولوجيات فوقية دوغمائية أثبت تهافتها أن الأيديولوجية لن تكون في أفضل الحالات بديلا عن الواقع وأن “الديكتاتورية الثورية ” المزعومة ما هي إلا الدليل المأساوي على العقم في الفكر والممارسة. وبدل أن يعمد أيديولوجيو الشعارات الثورية والانقلابية إلى مراجعة شاملة للأسباب الحقيقية للإحباط الذي مُنيت به أيديولوجياتهم، خرجوا بتصورات خاطئة تعمقت مع الأزمات العربية المتلاحقة، فرأوا في الإنسان العربي بطلًا من أبطال التراجيديا الإغريقية يجري على غير هدى تتحكم به سلطة جائرة قمعية لا تُولي اهتمامًا لوجوده وكرامته وإنسانيته.

إقرأ أيضاً: القراءة الإيديولوجية للواقع العربي ومكر التاريخ

إن مراجعة سريعة لنماذج من كتابات جيل الكتاب الأيديولوجيين والقوميين المُحبط، تكشف لنا الأفق المسدود الذي يتحركون في متاهاته والعجز الذي يحاصرهم من كل الجهات دون أن تكون هناك بارقة أمل أو خلاص، فقد وصل (أدونيس) إلى درجة وصف الفكر العربي بالشبح والجبن والجاهلية: “هذا الشبح الذي نسميه الفكر العربي المعاصر، أتهمه وأنا جزء منه بأنه تابع وجبان مسحوق”. ويُصور (فيصل دراج) السلطة على أنها قوة اغتصاب وقهر للمواطن العربي: “إن مكان وزمان الهزيمة العربية تحددا ويتحددان يوميًا في شكل الحياة اليومية وفي الفراق القائم أبدًا بين السلطة السياسية والمواطن العربي الذي تمثلهُ هذه السلطة غصبًا واغتصابًا. ففي حياة يومية نسيجها القمع وعبقها العسف وأريجها الاستبداد يُهزم المواطن قبل الهزيمة”. ويعبر (حيدر حيدر) عن يأس بلغ قمة الذروة فيما خرج به من استنتاج: يدخل العرب في القرن العشرين في مستوى الفكر والممارسة السياسية، حقبة من حقب الانحطاط والظلامية لا أحد يعرف نهاية أفقها”. ويقدم (نزيه أبو نضال) صورة وحشية للمجتمع العربي إذ يقول، “مجتمعاتنا لا تعيش فقط ما قبل مرحلة البورجوازية، ولكنها لا تزال تعيش ظلمات العصور القديمة ووحشيتها. ففي معتقلاتنا استُبدلت أسود روما بالقطط المتوحشة والكلاب البوليسية، ونيران التتار تطورت إلى صعقات الكهرباء …” ويرثي (عبد الله العروي) حال المثقف العربي بقوله: “يعيش المثقف العربي اليوم حياة بائسة، فيما وراء نجاحاته المدنية لأن مجتمعه يعيش برتابة ما تحت التاريخ”. ولا يرى (برهان غليون) في المجتمع العربي غير صورة القمع عندما يقول: “الحل الوحيد المطروح لكل مشكلات المجتمع العربي هو القمع، قمع الأقلية للأكثرية (…) قمع الدولة الاقتصادي (…) قمع ثقافي”. ويتخطى (مطاع صفدي) كل حدود اليأس والمأساوية في رؤيته للواقع العربي فيقول، “الجماهير تُبدد الأمة والأمة تقمع الجماعة والبرنامج يشل المشروع، والميراث فوق الأكتاف يُنهك الهامات ويُذلها ويُرَكِعُها ويحولها جثة تحت سنابك الفاتحين الجدد، وهم الذين يستحضرون تراثًا ولا يحملون ميراثًا على أكتافهم”.

خلاصة وحيدة نخرج بها من هذه النماذج هي أنه لم يبق أمام كتابنا سوى نعي الأمة العربية ورثائها ودعوة الإنسان العربي إلى اليأس والقنوط فيما هو يكافح في مواجهة التحديات الراهنة بتسارعها وحدتها وفظاعتها.

هل هذا هو دور الكاتب العربي؟ هل هذا ما تنتظره منه الجماهير المهمشة والمستلبة؟ هل هذا ما يبحث عنه المثقف العربي الذي يتطلع من نافذة تطل على المستقبل وسط الظلام المحيط به من كل جانب؟

كُتَّاب الأيديولوجيات الثورية والقومية

إن المأزق الذي انتهى إليه كُتَّاب الأيديولوجيات الثورية والقومية كشف المنحى الفكري الخاطئ الذي انتهجه هؤلاء. فلقد أخطأوا مرتين: مرة لأنهم حاولوا فرض أطروحاتهم الثورية الدوغمائية على الواقع العربي، ولو على حساب حرية الإنسان العربي وحقه في النقد والرفض، ومرة أخرى لأنهم أصيبوا بالذعر والهلع إزاء فشل هذه الأطروحات فرأوا أن العلة كامنة في المجتمع العربي ذاته وليس في فكرهم المعصوم، فارتدوا عن هذا المجتمع ليصفوه بالرتابة والانحطاط والظلامية، وعن الفكر العربي ينعتونه بالجبن والجاهلية، لأنه لم يستجب لتنظيراتهم الدوغماتية.

هذه النتائج التشاؤمية التي حشر الكاتب الأيديولوجي نفسه فيها ما هي إلا إفرازات واقعية للمنطلقات الخاطئة التي أسس عليها نظامه الفكري. إن المجتمع العربي الراهن بكل ما يميزه من حالات تفكك في علاقاته الاجتماعية وأزمات سياسية حادة وتفاوتات طبقية مخيفة وبروز العصبيات الطائفية والعشائرية والقبلية وانهيار القيم التراثية التاريخية وانحسار الثقافة الابداعية التغييرية، ليس مبررا لإعفاء الكاتب العربي من دوره وتنصله من مهمة تغيير هذا الواقع والنضال من أجل مستقبل أفضل للإنسان العربي.

خطأ الكاتب الأيديولوجي العربي الأساسي هو أنه قدم أطروحاته الأيديولوجية والاجتماعية والقومية على الديمقراطية. لقد قبل بإرجاء قضية الديمقراطية إلى ما بعد تحقيق هذه الأطروحات، فكانت النتيجة ضياع الأهداف كلها التي ناضل من أجلها، لأنه لا انتصار لأي قضية خارج إطار الديمقراطية، فمن الديمقراطية يجب أن نبدأ وبها يجب أن ننتهي، وإلا كانت النتيجة تعاقبُ أنظمة الاستبداد المُقنعة بالأيديولوجيا والشعارات الوهمية. إن الحصار الفكري والاجتماعي والسياسي الذي وجد الكاتب العربي نفسه في ربقته جعله ييأس من التحول التاريخي البطيء ويؤمن بالتحول الثوري السريع فَعَوَّلَ على “الثورية ” و”الانقلابية ” حتى إذا استيقظ في النهاية على ما آلت إليه الانقلابات والثورات المزعومة اكتشف أنه كان يداوي الداء “بالداء” وأن التغيير الثوري الذي لَهَثَ وراءه كان سرابًا تبدد أمام الواقع.

ولكن الكاتب العربي إذ يتطلع إلى التغيير الديمقراطي يجد أمامه آفاقًا مظلمة من كل الجهات. فالجماهير التي يخاطبها جاهلة ومدجنة ولاهثة وراء اللقمة، والسلطة التي تواجهه استبدادية قمعية، والرأي العام الذي ينتظر منه الدعم لا وجود له في مجتمع مدني يتآكل تدريجيًا أمام السلطة. هل يعني هذا أنه لم يعد أمام الكاتب العربي سوى خطاب العنف يقذفه في وجه الأمة والمجتمع والتاريخ؟ هل يعني ذلك أنه وصل إلى حد اليأس من الديمقراطية أيضًا؟

مظاهر هذا المأزق الحقيقي نجدها عند كُتابنا، فبعضهم فضَّل العودة إلى التاريخ ليتقوقع في التراث، وبعضهم انغمس في العنف الأيديولوجي، قلة هي التي بدأت تترسم الطريق السليم إلى الخروج من المأزق، هي القلة الملتزمة بالديمقراطية فكرًا ونهجًا وسلوكًا، الديمقراطية بوصفها حلًا لكل إشكالات المجتمع العربي المزمنة، من مأزق التنمية المتعثرة إلى مأزق المجتمع المدني المتداعي، إلى أزمة الهُوية الفكرية والانتماء.

إن الكاتب العربي يجب أن يكون خط الدفاع الأمامي عن الديمقراطية، والمناضل المغامر في سبيل تجذيرها في البيئة العربية. إنها النافذة الوحيدة التي يستطيع الكاتب العربي أن يَطُلَّ منها على الجماهير، وبها وحدها يستطيع أن يُحقق سلطة فعلية في الأرض، وأن يتمتع بدور رائد في مجرى التطور الاجتماعي. لكن الديمقراطية التي ننادي بها وندعو إليها تتجاوز القوانين والتنظيمات لتطال البنية العميقة للفكر العربي، فتَخضع للعقل النقدي كل المحرمات التاريخية التي وقف صامتًا إزاءها حتى الآن. إن دورَ الكاتب العربي يجب أن يتخطى مسألة الصراع الشكلي مع السلطة في سبيل نزع الأغلال التي كبلت عقل الإنسان العربي وإرادته وإبداعه، فمعركته ليست فقط مع السلطة والتقاليد والأفكار القديمة، معركة الكاتب الحقيقية مع التاريخ بأكمله، إذا قُيض له أن ينتصر في هذه المعركة الحبلى بشتى أنواع المخاطر استطاع فيها أن يواجه كل التحديات والأخطار الراهنة، من خطر التفتت القومي إلى خطر التهميش الجماعي إلى خطر التخلف الحضاري بكل مظاهره العتيدة.

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete