تكوين

“العهد الذي بيننا وبينكم التفكير، فمن تركه فقد ضل”

في ظل التقنيات المعاصرة المرتبطة بالذكاء الاصطناعي والتطبيقات التي لا تكف عن إبهارنا من حين لآخر، بات موضوع موت الكاتب مطروحًا، فالآلة الآن تكتب لك ما تريد، وتفكر عنك، وتجمع الكتب والمراجع، وتحلل البيانات، وتعد الإحصائيات، وتقوم بالدراسات وغيرها، بل وأصبحت تؤلف كتبًا كاملة، ناهيك عن الترجمة التي تبدو وكأنها منطقتها الخاصة. ظاهريًا، يبدو الوضع مضللًا، وكأن نتيجة السباق بين الآلة والإنسان قد حسمت، ولم يعد هناك مجالًا للتكهنات. وإذا كان ذلك يبدو صحيحًا “نظريًا”، انطلاقا من استقراء الأوضاع الحالية، إلا أن التحليل الفلسفي العميق وحده القادر على كشف زيف هذا الاعتقاد، فالكتابة ليست مجرد كلمات مصفوفة وفق قواعد لغوية معروفة وجمل مضبوطة الشكل والبيان، وهذا ما يبرع فيه الذكاء الاصطناعي حقًا، وإنما الكتابة الحقيقية هي تجربة شخصية، هي حالة إنسانية لها انعكاسات ثقافية واجتماعية وسياسية، حالة حية متفاعلة مع واقعها ومتشابكة مع أحداثه.

هذه الحالة لا تتسم بالحضور الفعلي فقط، بل تمتلك أفقًا للفهم والتفكير وإضفاء المعنى، وهو أفق لا يمكن أن تمتلكه الآلة، لأنه يتبدى فقط حينما تتحاور الأرواح، وتتلاقى القلوب، وتتحاكى الأذهان. والآلة لا تملك قلبًا ولا روحًا، ولا تنضم إلينا في الأفق الإنساني المشترك، فهي تجيد الكتابة، ربما، ولكنها كتابة بكلمات كالحجر، صلبة ومتجهمة، كلمات يكون وقعها كالثلج يقشعر منه البدن. الكتابة الآلية ربما تخاطب العقل، لكنها لا تلمس القلب والوجدان، ولا تثير العواطف أو تحرك الشجون. لذا، سوف نحاول خلال هذا المقال تقديم تحليلات فلسفية لفعل الكتابة، وكيف أنها ليست مجرد إنتاج يتم أو ثمرة تُقطف، بل هي، بالأحرى، فعلًا للنمو.

1- الكتابة: هُوية الفعل وهُوية الفاعل

ما الكتابة؟ يتصور البعض أن الكتابة هي ما تجود به قرائحنا من فيض الكلمات، وهي جمل وفقرات، ولغة ينبغي أن تُفهم بشكل جيد لكي نستخدمها بشكل جيد أيضا. نعم، كل هذا يعبر عن الكتابة، ولكننا ما زلنا في مرحلة يمكن أن نطلق عليها “التكنيك”. فما هو الأعمق من التكنيك؟ أو ما الذي يكمن وراء التكنيك؟ فقد جمعنا الأوراق والأقلام، واتخذنا موضعًا للجلوس والكتابة، وأعددنا كل الطقوس، وهنا يبرز تساؤل: أين هي الكتابة؟ هل هي فعل جريان القلم على الأوراق؟ أم هي الأفكار التي تدور في أذهاننا تتحاور مع لغتنا الخاصة في عالم الفكر، لكي تستطيع أذهاننا جمع هذه الأفكار في كلمات تعبّر عن اللغة المستخدمة وتتبع نظامها النحوي والإملائي؟

يبدو أن الفكر هو أول مراحل الكتابة، تليه اللغة، ثم يحدث فعل الكتابة. فالأفكار تدور في أذهاننا، تغذيها الوقائع والأحداث والسياق الثقافي والاجتماعي وكذلك ثقافتنا ومعارفنا وتجاربنا الخاصة، وما يثيره ذلك كله بدواخلنا من مشاعر. وتتحاور أذهاننا مع أذهان الآخرين، فالفكر لا يكون وحيدًا أبدًا، بل في حالة حوار وتفاعل. و”لقد أدرك سقراط أن الحوار مع الآخر ليس مجرد تفاعل لفظي، بل هو ممارسة فكرية تكشف إمكانات من التأمل الذاتي والتساؤل لا تكون متاحة للعقل المنعزل؛ فالكلام ليس مجرد وسيلة تعبير، بل هو قوة تحرر الفكر من عماه الذاتي، ومن انغلاقه داخل تحيزاته وضيق أفقه، ليصبح التفكير في جوهره ممارسة مشتركة، تتجاوز حدود الفردية الصماء”.([2])  في هذا الحوار، تنعقد جلسة الفكر، وتتقدم الأفكار بوصفها وقائع وأحداث، ومن خلال تفاعلات معقدة بين الذات والآخر والمجتمع والشعور الباطني للفرد، والصلات الوجودية المشتركة التي تجمع البشر، تتشكل الأفكار كشراب سحري عصي على كشف مكوناته، إلا إنها تظهر وكأنها وصفة سهلة معتادة. هذا ما يفعله الكاتب الحقيقي ليكتب، فكيف للآلة أن تصنع تواشجًا حميمًا بين الذوات؟ وكيف للآلة أن تنتمي إلى الأفق الإنساني الذي يشملنا؟

إقرأ أيضا: الفلسفةُ: بوابةُ الحياةِ الواعيةِ، ومعبرُ الألمِ إلى المعنى

الإنسان له وجودان: وجود مادي Existence متعين بالجسد والمكان، ووجود “حضور” Presence، وشتان بين الوجودين؛ فـالحضور يعني وجود جوهر حيوي أو طاقة تُلامس الإنسان داخليًا. تأمل لو كانت أمامك باقتان من الأزهار، إحداهما قُطفت لتوها من حديقة منزلك، والأخرى صناعية، لكنها متقنة الصنع لدرجة لا يمكنك تخيلها، بحيث يبدو من المستحيل ظاهريًا التفرقة بينهما. هل تعتقد أن هناك صعوبة في التفرقة؟ أولئك الذين لا يرون إلا بأعينهم فقط هم مَن يعتقدون ذلك؛ لأن الزهور الطبيعية لديها حضور، وليس مجرد وجود مادي متعين فقط، الزهور الطبيعية تخاطب حضورك، وتلمس قلبك، وتداعب مشاعرك، أما الأخرى فهي على مرأى من العين فقط، جامدة، مقطوعة الأوصال، لا تتفاعل معك، ولا تثير أحاسيسك.

يحلّل الفينومينولوجي الفرنسي موريس مرلوبونتي Merleau-Ponty (1908-1961)، في كتابه “المرئي واللامرئي” (1964)،  كيف أن للجسد حضورًا يختلف عن الوجود المتعيّن، حيث يكون حدّ الجسد المادي هو الجلد، أما الجسد الحي (Lived Body – Corps Propre)، فهو حضور لا حدّ له. سعى مرلوبونتي من خلال كتابه “فينومينولوجيا الإدراك” (1945)، إلى تجاوز الظاهراتية الكلاسيكية نحو فهم أكثر عمقًا لموضوعات الإدراك، والجسد، والعالم، وذلك من خلال تفكيك ثنائية الذات والموضوع أو العقل والجسد التي هيمنت على الفلسفة. وقد قدم تحليلات معمقة حول تشابك الوعي مع العالم بطريقة تتجاوز هذه الثنائية وتتخطاها.

في هذا السياق، ميّز مرلوبونتي بين “المرئي”، وهو ما تدركه الحواس وما يحيط بنا في العالم من مرئيات، و”اللامرئي”، وهو لا يعني غيابًا للرؤية، بل هو يشكل الأساس الذي يجعل رؤيتنا تكتمل، إذ يعمل كخلفية تسهم في إدراك ما هو ظاهر.  اعتبر أن الجسد وسيط للإدراك والتجربة، وليس مجرد كيان مادي مستقل. ومن أبرز مفاهيمه في هذا الإطار مفهوم “اللُحمة” أو “النسيج” (Flesh/Chair)، الذي يمثل محاولة لفهم العلاقة بين الذات والعالم. فاللُحمة ليست مجرد بُعد مادي للجسد، وإنما هي الأساس المشترك الذي يجعلنا جزءًا من العالم، كما أن العالم جزءٌ منا.([3])

كذلك، يؤكد مارتن هيدجر Martin Heidegger(1889-1976)، على أن الجسد الإنساني ليس مجرد بُعد مادي كما يبدو وكما شاع في الفلسفة؛ بتأثير تصورات ديكارت في التمييز بين “العقل” و”الجسد”، وإنما يطرح هيدجر فكرة أن هناك جسدًا بيولوجيًا ملموسًا، ولكنه له بُعد آخر غير ملموس، هذا البعد متواشج مع الأشياء من حوله في العالم ومتفاعل معها. وبالتالي فإنه “يمكن اعتبار الموجود الإنساني كائنًا لا يمكن تشييئه، وإنما هو انفتاح دائم على العالم، وقدرة على إدراك ما يعترضه في هذا العالم. إن هذا الانفتاح هو ما يمَكِّن للموجود الإنساني من أن يُخرِج أيًّا من حقائق العالم، بما فيها نفسه، من طوايا التحجب إلى حالة الحضور”.([4])

وحالة الحضور هذه، رغم صعوبة البرهنة عليها، تظل الامتياز الإنساني الأصيل. وبناءً على ذلك، يتمتع الإنسان بقدرات فريدة تمكّنه من البقاء على تواصل مستمر مع محيطه، كما تتيح له الإدراك الدائم والتفاعل مع نتائج هذا الاتصال. من هذا المنطلق، يرى هيدجر أن فهم الكينونة الإنسانية ينبغي أن يسلك مسارات جديدة، تختلف عن تلك التي رسمتها الفلسفة الكلاسيكية والأنطولوجيا وعلم النفس. وعليه، يرفض هيدجر التعامل مع الإنسان بوصفه مجرد ذات أو وعي فردي، بل يراه كيانًا يتسم بإدراك خفي وقوى محتجبة. فالوجود الإنساني ليس كوجود الأشياء الأخرى، كما تصوره بعض النظريات النفسية، بل هو وجود يتسم بخصوصية وغموض. فالإنسان، بصفته “دازاين”، لا يوجد بالطريقة ذاتها التي توجد بها الكائنات الجامدة، بل يتجلى في شكل أكثر تعقيدًا وتفردًا.

يبرهن هيدجر على اختلاف وجود الإنسان في العالم مقارنة بوجود طاولة في غرفة؛ فالطاولة وغيرها من الأشياء موضوعة في متناول اليد بحيث يمكن الجلوس عليها أو تركها هكذا في الغرفة دونما استخدام… وكذلك الذكاء الاصطناعي الذي ينتمي إلى الأشياء؛ فهو يكون في حالة سبات حتى تستخدمه فينشط ويجيب عن تساؤلتك، وما إن تتركة حتى يعود إلى سباته… هو إذًا لا يتمتع بوجود مستقل، وإنما هو معتمد في وجوده على وجود إنسان يستدعيه ويستخدمه. أما الإنسان، فهو وإن كان موجودًا في العالم، إلا أنه ليس في متناول اليد، وإنما هو الذي يحقق وجوده، هو إمكانية مفتوحة نحو التحقق. كما أن فكرة المكان كفضاء نوجد فيه ونشغل حيزا منه مثل سائر الأشياء، إنما هي بعيدة عن الدقة، بل عن الصواب أيضًا.([5]) ويتضح لنا مما سبق أن الكتابة كـفعل وجودي، وحدها القادرة على خلق المعنى. لذا، يظهر لنا فرق أنطولوجي شاسع بين الإنسان والآلة، يؤكد استحالة تساوي وجود الآلة  بوجود الإنسان وحضوره.

2- الوجود يكتبنا أم نكتبه؟

والآن، وبعد أن قدمنا بعض الأدلة على الاختلاف الأنطولوجي بين الوجودين، علينا أن نطرح السؤال التالي: لماذا نكتب من الأساس؟ فهذه نقطة مؤثرة أخرى. الآلة تكتب عندما يُطلب منها ذلك، لكنها لا تفكر كما يفكر الإنسان، بل تستدعي المعلومات المخزنة لديها وتقوم بتحليلها لإنتاج الأفكار. لذلك، فإن عملية التفكير التي تقوم بها الآلة محددة ومبرمجة سلفًا، مما يجعلها تعتمد على البيانات المتاحة لها دون القدرة على الابتكار أو الإبداع كما يفعل الإنسان. أما نحن فنكتب حينما نفكر، ولكن أي نوع من التفكير ذلك الذي يمتاز به الإنسان دون غيره؟

يحلّل هيدجر خاصية التفكير عند الإنسان، ويقول، مُوجزًا، إن الإنسان يتميز بنوع فريد من التفكير، قائم على قدرته على تأمل الأمور من حوله تأملًا يمكّنه من الفهم والاستيعاب والتعامل بحكمة، ليعيش وفقًا لحكمة بالغة.

تفكيرنا ينمو بالمزيد من التفكير، وكذلك تنمو الكتابة بالمزيد من ممارسة الكتابة. فنحن لا نكتب لمجرد الوصول إلى نص نهائي والحصول على ثمرة يانعة، رغم أهمية ذلك، بل لأن الكتابة في ذاتها عملية نمو. فكلما كتبنا، نمونا، وكلما سرنا في طريق المعرفة، تطورنا. والفوز هنا لا يكمن فقط في قطف الثمرة، بل في الرحلة نفسها، حيث يكون التعلم الحقيقي نابعًا من السير في الطريق، بينما تمثل الثمرة مكافأة تحث على مواصلة المسير وتحقيق المزيد من النمو.

لكن في الوقت الحاضر، نجد أن التلميذ الذي كان في السابق يبحث ويجتهد لاكتساب المعرفة، يمكنه الآن الحصول عليها بسهولة بالغة، وقد يبدو هذا للوهلة الأولى تطورًا إيجابيًا، لكن عند التأمل العميق، ندرك أن التعلم لا يحدث عند الوصول إلى المعرفة، بل أثناء السعي نحوها؛ حيث تكون المعرفة خبرة شعورية وتحولًا للذات وتنقية وتنمية لها. فالمسار الذي يسلكه الإنسان لاكتساب المعارف والخبرات، بكل ما يحمله من تحديات وصعوبات، هو ما يسهم في بناء شخصيته ويصقل مهاراته. أما الوصول إلى محطة النهاية دون خوض الرحلة ذاتها، فهو أشبه بالتوقف عن البحث والبدء في طريق جديد دون اكتساب الخبرة الكافية للسير فيه.

إقرأ أيضا: التفاهة والهيمنة

الذكاء الاصطناعي يختصر الطريق، بل يلغيه، ليقدم لنا النتيجة مباشرة على طبق من ذهب لكن، هل يمكن للإنسان أن يتطور بهذه الطريقة؟ بالطبع لا، فالنتيجة التي يحصل عليها دون جهد خاص به لن تكون ذات قيمة حقيقية بالنسبة له. فالأمر أشبه برَجليْن في رحلة من بلد إلى بلد على ظهر سفينة، ولكن أحدها فُرض عليه عزلًا بغرفة مغلقة في عمق السفينة لم يبرحها إلّا لحظة الوصول، بينما كان الآخر منطلقًا على متن السفينة يعاين كل محطات الرحلة ويملأ وعيه وشعوره بآلاء الجمال من حوله. ألم يقل الحكماء قديمًا: “لا تعطني سمكة، ولكن علّمني الصيد”؟  ليست هذه الأقوال مجرد حكايات تُروى، بل هي خبرات إنسانية متوارثة، واستمرارها عبر الأجيال دليل على حكمتها العميقة. غير أن الإنسان المعاصر يبدو وكأنه قد تخلّى عن جوهر التعلم الحقيقي، مفضّلًا الحصول على الثمار قبل أوانها ومن دون مشقة، معتقدًا أنه بذلك قد فاز، لكنه في الواقع خسر كل شيء. فالإنسان يتميز “بالتفكير”، وهو أخص خصائصه، ومن يتخلّى عنه، فإنه يضلّ الطريق ويفقد إنسانيته.

3- المصير المحتوم: الكون يكتب نهايتنا

لطالما قيل إن “الحاجة أم الاختراع”، بمعنى أن الإنسان حينما يواجه حاجة ملحة، يضغط على عقله ليجد الحلول. لكن في زمننا الحالي، يبدو أن وفرة الخيارات باتت تعرقل التفكير بدلًا عن أن تمنحه مساحة للإبداع. أصبح الإنسان محاصرًا بسياسات اقتصادية تتحكم به وتديره، لا بهدف تحقيق رفاهيته، بل لضمان استمرار هذا “الأخطبوط” الذي المسمى اقتصادًا.

اليوم، يعمل الإنسان ثلاثة أرباع عمره ليحصل بالكاد على قوت يومه ويؤمن احتياجات عائلته، لينتهي به الأمر منهكًا وبائسًا. في ظل هذه الحياة القاسية، كيف يمكن لعقله أن يزدهر؟ أم أنه مجرد ترس في آلة ضخمة تتحكم بها سياسات اجتماعية واقتصادية تفرض عليه العمل فوق طاقته، غير عابئة بصحته أو سعادته؟

لقد وصل بنا الحال إلى هذا لأننا، شيئًا فشيئًا، تخلينا عن التفكير التأملي الذي يميزنا عن الآلة، وانشغلنا بتفكير محدود وموجّه نحو تحقيق أهداف محددة دون التوقف للتأمل في جوهر وجودنا. لقد صنعنا أدوات وابتكارات كان من المفترض أن تكون وسيلة لتسهيل حياتنا، لكنها تحوّلت إلى قيد يوجّه عقولنا ويحدّ من حريتنا الفكرية.

اليوم، أصبح نمط التفكير السائد هو التفكير التنفيذي أو الأداتي، وهو ذلك المرتبط بإنجاز المهام وتحقيق الأهداف الوظيفية أو الأكاديمية، مثل كتابة بحث أو تنفيذ عمل معين. لا شك أن هذا النوع من التفكير ضروري لاستمرارية الحياة وتنظيمها، لكنه ليس جوهر الوجود الإنساني. فالتفكير الحقيقي، الذي يجب أن تكون له الغَلَبة، هو التفكير التأملي الذي يسمح للإنسان بأن يتوقف، ويتساءل، ويفهم ذاته وعالمه بمعزل عن الإلحاح المستمر للإنجاز والإنتاج.

لقد أصبح الإنسان المعاصر، رغم وعيه وإدراكه، يعيش داخل دائرة مغلقة من المهام والواجبات، مسلوبًا من التأمل العميق الذي يمنحه معنى لحياته. إنه يدور بلا توقف معصوب العينين غير مدرك لمساره، ليسقي حرث المصالح التي لغيره وليست له. لكن المفارقة الكبرى أن الإنسان ليس معصوب العينين، بل هو من اختار أن يغض الطرف، أن يسير وفق إيقاع الحياة السريع دون أن يسأل نفسه: لماذا؟ وإلى أين؟

هذا الخضوع التدريجي للفكر الأداتي، الذي يقوم على التنفيذ والإنجاز فقط، يجعل البشرية تتراجع فكريًا، حتى وإن بدت متقدمة تقنيًا. إننا في واقع الأمر لا نتقدم بقدر ما نعود إلى بداياتنا الأولى، حينما كان الإنسان مدفوعًا بغرائزه وحاجاته المعيشية فقط، دون أن يمتلك رفاهية التفكير العميق والتأمل الفلسفي.

الآن يتراجع التفكير البشري شيئًا فشيئًا، ليحلّ محله تفكير الآلة. كلما تقدمنا في التقنية، ازداد اعتمادنا عليها، حتى أصبحت بديلاً عن وعينا. نلجأ إليها في كل شأن، فنفقد تدريجيًا قدرتنا على التفكير المستقل. وهكذا، نجد أنفسنا نتحول إلى أدوات داخل نظام أكبر، نساهم في تشغيله دون أن نفهم غايته الحقيقية.  لقد صنعنا التقنية لتكون وسيلة مساعدة لنا، أداة في متناول اليد كما عبر هيدجر، لكنها اليوم تُعيد تشكيل وعينا، تسيطر على إدراكنا، وتوجه طريقة تفكيرنا. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل لا يزال بإمكاننا استعادة وعينا الإنساني، أم أننا قد تجاوزنا نقطة اللاعودة؟

حينما ظهر “شات جي بي تي” ChatGPT ، انهالت الدراسات الإنسانية التي تحذر من خطورته على الوضع البشري الراهن، الذي يشهد تصاعدًا متسارعًا ولا يحتاج إلى محفز آخر يزيد من تعقيده. فقد تناولت العديد من الدراسات الإنسانية والاجتماعية التشوهات الفكرية التي قد يسببها الذكاء الاصطناعي. لقد حذّر العديد من الباحثين من أن الذكاء الاصطناعي قد يساهم في تشوهات فكرية، مثل الاعتماد المفرط على مصادر غير موثوقة، أو تراجع مهارات النقد والتحليل لدى الأفراد. كما أن تسارع التطور التكنولوجي لا يمنح الإنسان فرصة كافية لاستيعاب تأثيراته، بل يدفعه إلى مسايرته دون تفكير، مما قد يخلق فجوة بين تطور الأدوات وتراجع الوعي الإنساني.([6])

لذا، فإن علينا أن نتساءل: هل الذكاء الاصطناعي أداة للتمكين أم بوابة إلى عصر مظلم؟ لقد كرّم الله الإنسان بالعقل ومنحه القدرة على التفكير، مما مكّنه من التفوق على سائر الكائنات التي عاشت على سطح هذا الكوكب. عبر التاريخ، انتقل الإنسان من الحياة البدائية إلى الحضارة، ونجح بفضل عقله وقدرته على الإبداع في تحقيق الاستقرار الزراعي والأمني. تطوّرت قدراته الفكرية بقدر استخدامه لها، فكلما استخدم ملكة التفكير، زادت تطورًا ونموًا؛ فحقق قدرًا من النجاح والتعايش.

الكتابة تعبر عن أفكارنا الخاصة، فإذا لم تكن أفكارنا نابعة منا، فكيف يمكن لها أن تعبر عنا؟ وإذا قدّم لنا الذكاء الاصطناعي هذه الأفكار جاهزة، فعن من ستعبّر؟ ومن الذي سيتطور تفكيره؟ ومن الذي سيضمن بقاءه؟

في اعتقادنا، هذه إشكاليات معاصرة لم تعد تنحصر في أهمية الفكر والتفكير أو في نمو الوعي الذاتي فحسب، بل أصبحت تعكس مصير وجودنا جميعًا، والذي يبدو أنه يسير حتمًا نحو نهايته المحتومة.

 

المراجع

  1. إريك فروم، (1976)،الإنسان بين الجوهر والمظهر، ترجمة: سعد زهران، مراجعة وتقديم: لطفي فطيم، عالم المعرفة، العدد(140)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت.
  2. جان ماري أوزياس، (1983)،الفلسفة والتقنيات، ترجمة: عادل العوا، عويدات للنشر والطباعة، بيروت، لبنان.
  3. مارتن هيدجر، (1998)،الفلسفة في مواجهة العلم والتقنية، ترجمة: فاطمة الجيوشي، دراسات فكرية (44)، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، سوريا.
  4. موريس مرلوبونتي، (1987)،: المرئي واللامرئي، ترجمة : سعاد محمد خضر، دار الشؤون الثقافية العامة، العراق.
  5. يورغن هابرماس، (2002)، العلم والتقنية ك إيديولوجية، ترجمة: حسن صقر، منشورات الجمل، بيروت، لبنان.
  6. Callard, A. (2025). Open Socrates: The case for a philosophical life. W. W. Norton & Company.
  7. Crawford, K. (2021). The Atlas of AI: Power, Politics, and the Planetary Costs of Artificial Intelligence. Yale University Press.
  8. Floridi, L., et al. (2021). AI as a public service: Learning from Amsterdam and Helsinki. Philosophy & Technology, 34(2), 315-327. https://doi.org/10.1007/s13347-020-00435-2
  9. Harari, Y. N. (2018). 21 Lessons for the 21st Century. Jonathan Cape.
  10. Martin Heidegger, (2001), Medard Boss(Ed), Franz Mayr and Richard Askay(tro), Zollikon seminars: Protocols— Conversations—Letters, Northwestern University Press Evanston, Illinois.
  11. Zuboff, S. (2019). The Age of Surveillance Capitalism: The Fight for a Human Future at the New Frontier of Power. Public Affairs.

 

[1] كاتبة ومترجمة، حاصلة على درجة الدكتوراه، من كلية الآداب، قسم الفلسفة، بجامعة القاهرة.

[2]Callard, A. (2025). Open Socrates: The case for a philosophical life. W. W. Norton & Company, P23.

[3] انظر: موريس مرلوبونتي، (1987)،: المرئي واللامرئي، ترجمة : سعاد محمد خضر، دار الشؤون الثقافية العامة، العراق.

[4] Martin Heidegger, (2001), Medard Boss(Ed), Franz Mayr and Richard Askay(tro), Zollikon seminars: Protocols— Conversations—Letters, Northwestern University Press Evanston, Illinois, px.

[5] Ibid, p8.

[6] See, Harari, Y. N. (2018). 21 Lessons for the 21st Century. Jonathan Cape.

 

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete