تكوين

في عمق الكون الواسع، تتشابك الظواهر الطبيعية والحياة البشرية في شبكة معقدة من العلاقات والمعاني. يؤسس الكون خلفيةً لا نهائية لأحداث النصوص التي ترويها الحياة، إذ لا يكون النص كلمات مكتوبة فحسب، بل انعكاسا لحركة الكواكب، والنجوم التي تلمع، والروح البشرية التي تبحث عن ذاتها.

النص هو مرآة الكون، يعكس أسراره وأفكاره، ويحتوي على رموز لا تنتهِ من التأويلات. كل كلمة وكل جملة تحمل في طياتها تأثيرات كونية، تحاكي التوازن بين الفوضى والنظام، بين الوجود والعدم. بهذا الشكل يصبح النص حلقة وصل بين الإنسان والكون، ويجسد تجربة الوجود في صور لغوية تعبر عن المشاعر والتجارب والأفكار.

إن فهم النص بوصفه جزءًا من الكون يساعدنا على إدراكٍ أعمق للحياة، ويجعل من القراءة رحلة تتجاوز حدود الورق إلى عالم أوسع من التأمل والمعرفة. فالكون بكبره وسره، والنص بعمقه ورمزياته، يجتمعان لينشئا منظومة متكاملة تنير دروب الفهم والوعي.

﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾. [الرعد:3]

  1. مدّ الأرض: البنية البلاغية والدلالة الكونية

  • من الحيرة إلى الوعي

عندما يتمثل الكون بمشهد الأرض ممتدةً أمام ناظر الإنسان؛ تتوالد في الذهن أسئلة شتى، منها: “مَن مدّ الأرض”؟ ويسوّغُ هذا السؤالَ أمران على الأقلّ هما:

  1. انسدادُ أفق المعرفةِ لانعدام مصادرها العلمية اليقينية.
  2. الحاجة الإنسانيّةُ إلى جواب يصحُّ السكوتُ عنه.

فالأمر الأول يُحيلنا إلى ما أحدثته الثورات العلمية حتى يومنا هذا، فهي قد أحدثت تغييرات جذرية في فهمنا للكون. نحن نعلم الآن أن المادة تتكون من ذرات، وأن الكواكب تدور في مداراتها نتيجة قوانين فيزيائية صارمة. لكن هذه المعرفة تبقى عارية من المعنى. العلم الحديث قادر على الإجابة عن السؤال: كيف تعمل الأشياء، ولكنه لا يجيب عن: لماذا يعمل الكون وفقًا لهذه القوانين. السؤال الوجودي بشأن الغاية من الكون، وما وراءه، يبقى خارج حدود المنهج العلمي.

وفي هذا السياق يمكننا التحدث عن انسداد أفق المعرفة، وهي لحظة يواجه فيها الإنسان عجزًا في تفسير المعنى الأعمق لما يراه ويسمعه. العلم الحديث قد يتوقف عند الوصف، لكنه لا يستطع أن يجيب عن أسئلة وجودية تتعلق بالغاية أو المصدر وراء هذا الوجود. هنا تنفتح أبواب الفلسفة والدين، إذ لا يُمكن للمنهج التجريبي وحده أن يجيب عن أسئلة مثل :من أين جاءت القوانين التي تحكم هذا الكون؟ ولماذا هذه القوانين بالذات؟

إقرأ أيضًا: منهجية التعامل مع القرآن فيما قبل النص

يعود الفضل في تسليط الضوء على هذه الأسئلة الوجودية ـــــــ في السياق العربي على الأقلّ ـــــــ إلى القرآن الكريم الذي دعا إلى التأمل في الكون والطبيعة بوصفهما علامات على عظمة الخالق. في زمن التنزّل القرآني، كانت أسئلة مثل: “مَن خلق الكون؟” و”لماذا نحن هنا؟” تجد إجابات مباشرة في الخطاب القرآني. مثل: “هو الذي مدّ الأرض” جوابًا عن السؤال :”مَن مدّ الأرض”، وهذا السؤال لا ينبع من فراغ، بل كما سبق وأشرنا هناك دوافع تقتضيه في الحياة العربية وقتذاك .

  • فطرة السؤال الإنسانيّ

أما الأمر الثاني فهو يحيلنا إلى ترصّد طبيعة الإنسان الذي لا يكفّ عن الأسئلة، حتى تجاه ما يسمى البدهيات.

الإنسان بطبعه لا يكف عن السؤال، لأن السؤال جزء من وعيه، ومن طبيعته أن يبحث، أن يفتّش في المجهول، أن يحاول أن يفهم العالم من حوله ومن داخله. هذه “الحيرة الخلّاقة” هي ما يميّزه عن باقي الكائنات. فالسؤال ليس فقط طريقًا للمعرفة، وإنما هو دليل على أنّ الإنسان يدرك نقصه، ويعترف بجهله، ويسعى في الكمال، في المعنى، للطمأنينة. كلّما وجد جوابًا، لا يلبث أن يطرحه مجددًا من زاوية أعمق، لأنه:

  • إما لم يشبع تمامًا من الجواب الأول، أو
  • ظهر له أن الجواب يحمل في طياته أسئلة جديدة، أو
  • تطوّر وعيُه فتجاوز مرحلة ذاك الجواب.

كأنّ كل جواب هو عتبة لسؤالٍ جديد، لا نهاية له.

أما متى يهدأ طبعه؟ فثمة احتمالان:

  1. حين يقتنع أن السؤال أهم من الجواب، فيتصالح مع الحيرة، ويعيشها لا عن عجز، بل دليل حياة واستمرار.
  2. أو حين يجد الجواب الكليّ الذي يرضي كلّ جهات وجوده: العقل، والروح، والقلب. كثير من الناس يجدون هذا “الجواب الكليّ” في الإيمان، أو في الفن، أو في الحب، أو في الفناء في فكرة أو قضية.

لكن الصدق؟ قد لا يكون ثمة “جواب نهائي” يرضي الإنسان إرضاءً دائمًا. فطبيعته ديناميكية؛ لا تقف عند حد. لعل هذا القلق الوجودي هو ما يجعله يبدع، يتأمل، يبني حضارات، يكتب الشعر، يبحث في الذرة، يصعد إلى الفضاء.

  • الأرض بين الوحي والتخييل

وحين يعجز الحسّ والعقل القاصر عن الإتيان بجواب حاسم، يبقى السؤال معلَّقًا بين محاولات التفسير الماديّ، والحاجة الروحية إلى يقين تتكئ عليه النفس. وهنا تتدخل النصوص الإلهية، لا لتسدّ فراغًا معرفيًا فحسب، وإنما لتفتحَ أفقًا أوسع من المعرفة: أفق الإيمان المدعوم بالآيات الكونية، فالقرآن لا يكتف بالإخبار، وإنما يوجّه العقل لهذه الآيات الكونية للتأمل، كما في قوله تعالى:        (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ…)

هل كان الإنسان الجاهليّ منشغلًا بهذا الأمر فعلًا، أم أن القرآن الكريم يبادره بهذه القضية ليفتح أمام الذهن آفاقًا للمعرفة ترتقي به ويرتقي بها؟

تجلى وعي الشاعر الجاهلي بامتداد الأرض من طريق بناء تصويري بلاغي يتوسل تعدد المواضع، والصور الحركية، والانفتاح المكاني لتكوين فضاء شعري يتجاوز الإطار الحسي إلى الإيحاء الكوني. ففي شعر عنترة بن شداد، على سبيل المثال، نقرأ قوله(الكامل):

وتحلّ عبلةُ بالجواءِ وأهلُنا بالحَزنِ فالصّمانِ فالمتثلمِ[1]

إذ يؤدي تعداد أربعة مواضع متباعدة في بيت واحد إلى خلق مشهد مكاني متسع، تتبدى فيه الأرض وكأنها خريطة ممتدة بلا حد منظور. أما امرؤ القيس، فقد قدّم صورة حركية بالغة التأثير في قوله (الطويل):

مكرٍّ مفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معًا         كجلمودِ صخرٍ حطّهُ السيلُ من علِ[2]

وهي صورة تحتشد فيها الحركة والانطلاق والاندفاع في فضاء مفتوح، يُدرَك لا فقط بالرؤية، وإنما بالإيقاع الشعري أيضًا. ويتكرر هذا النمط في شعر لبيد بن ربيعة الذي يُراكم أسماء الأمكنة المتباعدة، كما في قوله (الكامل):

عفتِ الديارُ محلُّها فمقامُها        بمنًى تأبّدَ غَولُها فرِجامُها[3].

مما يكوّن بنية تصويرية تنفتح على أفق غير محدود.

كذلك نجد في شعر طرفة بن العبد إشارات إلى الرحلة في أرض متدرجة المعالم، كما في قوله:(الطويل):

ولستُ بحلّالِ التلاعِ مخافةً                ولكن متى يسترفِدِ القوم أرفِدِ[4]

إذ توحي لفظة “التلاع” (المنخفضات والمرتفعات) بحركة مستمرة في بيئة جغرافية واسعة لا تُحدّ بنقطة ثابتة. من طريق هذه التراكيب، لا يقدّم الشاعر الجاهلي الأرض بوصفها معطى جغرافيًا فحسب، وإنما بوصفها فضاءً شعريًا يتأسس عبر التكرار والحركة وتعدد المشاهد، مما يجعل من “مدّ الأرض” تجربة شعرية جمالية، لا محض إدراك حسي أو سؤال منطقي.

  • قراءة أسلوبية

﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ﴾ أسلوبٌ خبريّ في ظاهره، إلا أنه تعبيرٌ عن إرادة التعجيب والإدهاش، فهو يستنفر الخيال، ليتأمل الأرض كيف بُسطت ومدّت، فالتصوير البلاغي هنا يوظف الرؤية الحسية للتعبير عن قدرة الله تعالى بهدف التأثير والإقناع.

وما الابتداء بالضمير “هو” إلا لإرادة صرف ذهن المتلقّي باتجاه فاعل المد، ويوحي هنا بالتفرّد والاختصاص، ويعزز ذلك الإتيانُ بالاسم الموصول “الذي”، فهو يُشبه من الناحية الأسلوبية ما يُعرف بـ “أسلوب القصر”، أي حصر الفعل في الله وحده، مما يُكسب السياق هيبة وتعظيمًا.

الفعل “مدّ الأرض” في ذاته أمر عظيم لا يقدر عليه بشر، فلما ارتبط بالله عن طريق الاسم الموصول “الذي”، اكتسب هذا الفعل صفة الإعجاز والقدرة الإلهية، فيُقرأ في سياق التعظيم لا الوصف العادي. “مدّ الأرض” أيضًا يوحي بإمكان الحركة والسكنى والرحلة، مما يربط المعنى البلاغي بالمعنى الإنساني العملي.

  1. جعل الرواسي والأنهار

    • الرواسي علميًا وبلاغيًا

﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾

“الواو” بوصفها رابطة عاطفة، تؤدّي وظيفة مهمّة هنا، ليست فقط لمراكمة القدرات الإلهية أمام المتلقّي، وإنما لتربط صيرورة الأرض بوجودها؛ فـ “الجعل” يتضمّن التحويل والتصيير، أما “المدّ” يدلّ على الحدث الابتدائيّ. وأنّ “الواو” للربط جمعًا؛ يعني أن التلازم بين “المد” و”الجعل” هو تلازمٌ تقتضيه حاجة استراتيجيّة إلى الأرض الممدودة وتحولات الإنسان يستقرّ عليها.

  • أولًا: المجهول رواسي وأنهار.
  • ثانيًا: من كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين

الرواسي جمع راسية، وجذرها (ر س و) رسو، “المعنى المحوري ثبات الشيء بلزوم أسفله أو باطنه ما يمسكه بتمكن. كالعمود في الأرض والسِوَار في الذراع”[5]. وتسمى الجبال راسيات أو رواسي، وهي أكثر ما اشتهر بهذا الاسم، وقد وردت في الأشعار العربية قبل الإسلام، ما يعني أن العرب كانوا يرون في الجبال رمزًا للثبات ولا أدري إن كانوا يرون لها وظيفة التثبيت في الأرض، ولكن بلا ريب ليس هذا الإعجاب بالجبال لجهة ثباتها من دون وظيفة، فقد ورد في الأمثال الشعبية في البادية أن “الجبال أوتاد الأرض”، كما يمكننا فهم وظيفة الرواسي على أنها لتثبيت الأرض ومنعها من الميلان أو الاضطراب، وقد فهما العربي بوظيفةٍ في الأرض، فقال المهلهل (البسيط):

نعى النعاةُ كليبا لي فقلت لهم              مادت بنا الأرض أم مادت رواسيها[6]

كما يقول زهير بن أبي سلمى، معبرا عن رؤيته للجبال وتفوقها على الحوادث:

ألا، لا أرى على الحوادث باقيا            ولا خالدا، إلا الجبال الرواسيا[7]

تأسيسًا على ما يؤكده العلماء الجيولوجيون بخصوص وظيفة الجبال، ودورها المدهش في استقرار كوكب الأرض وتنظيم بيئته، يمكننا القول إنّ مدّ الأرض فعل ابتدائي لا يَعِدُ بشيء، وجعل الرواسي فيها إنما ينتقل بذاك الفعل الابتدائيّ إلى فعلٍ مؤاتٍ لاستمرار الأرض الممدودة ( جعل).

الرسوّ يقدم لنا الجبال ثابتة، ويقدم لنا الأرض ــــ بأثرٍ من هذه الرواسي ــــ ثابتة أيضًا. والسؤال الناشئ هنا : هل يجعل الجبال رواسي لتثبيت الجبال؟ أم لتثبيت الأرض؟

السياق كله من أجل إقناع الإنسان بقدرات الله، وكل هذه القدرات لجهة علاقتها بمصالح الإنسان في الكون، فدور الجبال (الرواسي) في استقرار الأرض وتنظيم المناخ ودعم التنوع البيولوجي، بات واضحًا بجلاء فيما يثبته العلم الحديث:

تشير الدراسات الجيولوجية إلى أن الجبال تكون نتيجة تصادم الصفائح التكتونية، مما يؤدي إلى رفع القشرة الأرضية وتكوين سلاسل جبلية، هذا الرفع يُسهم في استقرار القشرة الأرضية من طريق توزيع الضغوط الناتجة عن حركة الصفائح.

إقرأ أيضًا: النصّ القرآني في أفق التّأويل الحداثي: إشكاليات ومنطلقات

تُعدّ الجبال حواجز طبيعية تؤثر في حركة الرياح وتوزيع السحب، مما يُؤثر تأثيرًا مباشرًا في أنماط الأمطار والمناخ المحلي، على سبيل المثال، الجبال قد تُسبب هطول الأمطار على أحد جوانبها (الجانب المواجه للرياح) وتُقللها على الجانب الآخر (الجانب المحمي من الرياح).

كذلك الجبالُ موائل غنية بالتنوع البيولوجي، إذ تستضيف أنواعًا عديدة من النباتات والحيوانات، بعضها لا يوجد إلا في هذه البيئات الجبلية، تُسهم في الحفاظ على هذا التنوع من طريق توفير بيئات متنوعة تتراوح بين الغابات الكثيفة والمراعي والقمم الثلجية[8].

  • الأنهار علميًا وبلاغيًا

أما الأنهار فهي حاجةٌ حياتية، تعني الإنسان والحيوان والنبات، بل هي ضرورةُ الاستقرار الاجتماعي والحضاري، كما أنها سبب رئيس للغزوات والحروب، بخاصة في شبه جزيرة العرب، حيث لا أنهار، بل أودية تجري بقدرها[9] وغدران قليلة نسبيًا. وإذا كان “مدّ الأرض” يحيل إلى الإقرار بفاعل عظيم، فإنّ الجبال الرواسي بوظائفها، لا يمكن لأحد أن ينكر قدرات جاعلها، ولا يمكن تجاهل تأثيرها في نمط السلوك الحياتي الذي يدعو إلى التأمل. فهل كانت الأنهار باهرة ومدهشة لدرجة يتساءل المرء عن موجد هذه الأنهار ومسايل المياه بعامة وعن جاعلها أنهارًا أو مسايل مياه مختلفة أحجامها وأمداؤها؟

علميًا تعدّ الأنهار جزءًا من الدورة المائية الكبرى التي تبدأ بالتبخّر، ثم التكاثف فالهبوط على شكل أمطار أو ثلوج، وتعود إلى الأرض على هيئة جريان نهري. كثيرٌ من الأنهار تنبع من الجبال، حيث تتجمّع المياه من الثلوج الذائبة أو الأمطار.

تُعدّ الأنهار شرايين الحياة، فإلى جانب كونها مصدرًا للماء العذب، فهي تغذّي الزراعة، وتدعم التنوع البيولوجي، وتكون ملامح الأرض من طريق نحتها للوديان وتكوينها للدلتا والسواحل.

أما في البيئة العربية القديمة، فإن الأنهار بالمعنى المعروف كانت شبه غائبة، ويظهر بدلًا منها “الأودية الموسمية” و”الغدران”، التي تنشط في مواسم الأمطار، وتبقى مصدر دهشة واهتمام دائمين.

تمثل الأنهار في السياق القرآني صورة مقابلة للرواسي. فبينما تعبّر الرواسي عن الثبات والرسوخ، تعبّر الأنهار عن الانسياب والحركة، فكأنهما وجهان لتوازن كوني متكامل. وقد جاء ذكر الأنهار بعد الرواسي مباشرة في قوله تعالى:

﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا﴾

وهذا الترتيب البلاغي لا يُعنى العرض فحسب، وإنما يُظهر التلازم بين عنصري الاستقرار والحياة، فرسوّ الجبال يُهيئ الأرض للثبات، وتدفّق الأنهار يُعدّها للحياة والنماء.

تعبير “أنهارًا” بصيغة الجمع المنكّر يدل على التعدد والشمول والامتداد، ويضفي على المشهد معنى الخصوبة والتنوع. فالأنهار لا تحضر بوصفها عنصرًا مائيًّا فحسب، وإنما بوصفها حركة حياة تسري في جسد الأرض. هذا الجمع، بعد مفردة “رواسي”، يعطي بعدًا إيقاعيًا ومعنويًا، يجعل من الماء قرين الجبل، لا ضده؛ هما معًا يصنعان الحياة: واحد يثبت، والآخر ينساب.

جاء تصوير السيول والأنهار في الشعر الجاهلي بوصفها ظواهر مدهشة، تُثير مشاعر الفزع والانبهار، وتدفع لتأمل القوة التي تُحرك هذا الماء الجارف.

  • فهذا امرؤ القيس في أشهر بيت يُنزلُ فيه فرسَه منزلة الجلمود الذي يهوي من المكان العالي بأثر من السيل، ويصوّر هول السيل وقوته التي لا تُقاوَم (الطويل):

مِكرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدبِرٍ معًا …                   كجُلمودِ صخرٍ حَطَّهُ السَّيلُ من علِ[10]

  • كذلك تأبط شرًّا في وصفه لطريق وعرة (الطويل):

به من نِجاء الدلو[11] بيضٌ أقرّها           جُبارٌ، لصمّ الصخرِ فيه قراقرُ

وَمُرِّرنَ حَتّى كُنَّ لِلماءِ مُنتَهىً              وَغادَرَهُنَّ السَيلُ فيما يُغادِرُ[12]

بقايا مدمّرة

  • أما زهير بن أبي سلمى فيقول (الطويل):

فلما وردنَ الماء زُرقا جِمامُه               وَضَعْنَ عصيَّ الحاضر المتخيِّمِ[13]

البيت يصوّر مشهد الوصول إلى مورد ماء عذب أزرق، يعقبه قرار الاستقرار بعد طول ترحال، مستخدمًا كنايات وصور بديعة تعبّر عن الراحة بعد التعب، وتُجسد ذلك بدقة علمية في وصف صفاء الماء وانعكاس السماء عليه.

القرآن لا يورد هذه الظواهر الكونية بوصفها مشاهد معزولة أو مادية محضة، وإنما بوصفها علامات دالة، من شأنها أن توقظ في المتلقي السؤال:

من الذي جعل الأرض على هذا النحو؟ من الذي أرسى جبالها، وأجرى مياهها، وسوّى مناخها بهذا التناسق؟

إنها ليست مشاهدَ للدهشة الجمالية فحسب، وأنما بوابات للتفكر، ومسارات نحو التوحيد، والإقرار بالربوبية.

أما الشعر الجاهلي فإنه-وإن لم يُصرّح بالسؤال- فقد عرف الدهشة. لقد رأى في الجبال عظمةً وفي السيول قوة، لكنه توقّف عند الانبهار، دون أن يعبر صراحة إلى موجد هذه المشاهد. إنه يصف الأثر، ويعظّم الظاهرة، لكنه لا يطرح السؤال الوجودي. بينما القرآن يتخذ من المشهد نفسه نقطة انطلاق للتأمل في الفاعل، لا في الظاهرة وحدها.

  1. عندما تصنع اللغة وعينا بنواميس الكون

﴿ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾

تفيض هذه الآية الكريمة بحكمة بالغة، تشير إلى نظام محكم قائم على التوازن والازدواجية في الكون، وهو نظام يتجاوز حدود ظواهر الحياة النباتية، ليشمل الأرض بكل ما عليها من مظاهر الحياة والطبيعة.

حين نتوقف بسيطًا عند كلمة الثمرات، لنعطف شبه الجملة على ما وقعَ عليه الفعل “جعل” ونأخذ هذا الوقف علامةً فاصلة، يتجلى لنا المعنى بوضوح أكبر. فالوقف هنا لا يُغفل تنوع الثمرات التي أوجدها الله في الأرض، لكنه يرسم حدودًا معنوية تفصل بينها وبين الحديث عن الأزواج التي جعلها الله في فيها، أي في الأرض نفسها.

هذا الفصل اللفظي يدعم قراءة تتفق مع الواقع الطبيعي واللغوي، إذ إن الأزواج – المتمثلة في نظام الذكر والأنثى، أو أزواج الأضداد الفيزيائية والكيميائية – ليست حكراً على الثمرات فقط، وإنما هي سمة كونية شاملة تمتد لتشمل الأرض وما عليها من رواسٍ وأنهار، وكائنات حية بمختلف أشكالها. الازدواجية هنا ليست محض تكرار أو تناسخ، وإنما هي أساس استمرارية الحياة، وصراع أضداد يكفل التوازن والتناغم والاستمرار في الطبيعة.

إقرأ أيضًا: النص المؤسس والنص الحاجب

ويمكننا أن نرى في هذه الأزواج تجليات متقنة لقانون فيزيائي كوني؛ فكما توجد الثمرات بأزواجها في الأرض، هناك أيضًا الشحنة السالبة والموجبة التي تجعل من المادة حياةً، والليل والنهار اللذان ينسقان حركة الكون، وصولًا إلى قانون صراع الأضداد الذي يتحكم في حركة الوجود ذاته.

إن هذا الترتيب الدقيق في الكلام، والوقف المدروس، يحملنا على التأمل في حكمة الخالق التي عبر عنها الفعل الابتدائي “مدّ” الذي يؤسس بيئة للحياة، ثم يتلوه الفعل “جعل” الذي صنع فيها نظامًا ممنهجًا للتحولات، ومتكاملًا من الأزواج، مُظهراً قدرة إلهية تتسم بالخلق والتقدير والحكمة، تفتح للإنسان بابًا واسعًا للتفكر والتدبر.

تُفتتح هذه الجزئية من الآية بحرف الجر مِنْ، الذي يحمل في اللغة العربية أبعادًا دلالية متنوعة؛ فهو قد يكون:

  • تبعيضيًا: أي يفيد الانتقاء أو التجزئة، كأن الله تعالى اختار من بين كل الثمرات بعضها، ولم يجعل الأزواج في كل الثمرات بلا استثناء، أو يحيل إلى التعامل مع كل بوصفها أبعاضًا مختلفة.
  • بيانيًا: أي يفيد التخصيص والتوضيح، فـ “من كل الثمرات” تعني أن الأزواج هي جزء لا يتجزأ من طبيعة كل ثمرة.

هذا التباين في معنى “من” يؤثر تأثيرًا مباشرًا في فهم العلاقة بين الأزواج والثمرات، ويحدد هل الأزواج حصرًا داخل الثمرات أم أنها موجودة في الأرض عمومًا، التي تحتوي الثمرات مع غيرها.

ثم تأتي كلمة فيها، والـ “ـها” ضمير يعود على الأرض – المفردة المؤنثة التي سبقت – ما يدل أن الازدواج ليس فقط في الثمرات، وإنما في الأرض بوصفها بيئة شاملة للنظام البيئي بكل مكوناته. وهذا ينسجم مع الوقف البسيط عند كلمة “الثمرات”، الذي يفصل بين الحديث عن تنوع الثمرات، والحديث عن الأزواج في الأرض.

بذلك تتكامل معاني حروف الجر مع سياق الآية، لتكشف عن نظام محكم يقوم على التوازن والازدواجية، الذي لا يقتصر على عنصر واحد، وإنما يمتد عبر مظاهر الحياة والوجود بأكمله، من النبات إلى الحيوان، ومن القوى الفيزيائية إلى الظواهر الكونية الكبرى.

إن فهم هذه الحروف والتوقف عندها يفتح آفاقًا أوسع للتأمل، ويجعل من كل تفصيل في النص آية تتطلب التفكر العميق، في الكون ونظُمه المتكاملة.

  1. الإغشاء الإلهي :تدبير وتعاقب

﴿ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ﴾.

وتواصل الآية تقديم القدرات العلا في سياق الدعوة إلى التوحيد، بهدف الإعلاء من شأن الإنسان الذي يُرجى أن يهيمن على الكون بمعرفته، وذلك لن يتأتى بالتلقين، بل بإعمال الذهن في الكون وأحواله، ومما لا شك فيه، ليس من معنىً نهائيًا لهذا الإنسان ولا لهذا الكون، فمع كل فتح معرفي جديد، ينبغي أن يعيد الإنسان النظر بنفسه وتصوراته عنها، وكذلك ينبغي أن يعيد النظر بمعلوماته عن الكون ومقاصده.

من مطلع الآية ونحن أمام أفعالٍ لا يمكن لأيّ بشر أن ينجزها، فمدّ الأرض يحتاج إلى قدرة أكبر من الأرض وما عليها، وجعل الرواسي والأنهار ومن كل الثمرات، أيضًا يحتاج إلى قدرة أكبر منها مجتمعة، هذا لجهة تهيئة المكان للحياة، ويواصل مع ﴿ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ﴾ تقديم آليات توقيع الزمان، على مكاننا.

ويأتي الفعل يُغْشِي في هذه الآية في صورة مبنية للمعلوم، فالفاعل المقدر هو الله سبحانه وتعالى، متصلًا بالسياق العام للآيات التي تستعرض أفعال الخلق والتدبير الإلهية في الكون، ما يجعله فاعلًا لا يُصرَّح به لأنه معلوم بالضرورة من السياق ومهيمن عليه. فالآية ليست محض سرد لوصف طبيعي، وإنما بيانًا لفعل إلهيّ مستمر يتقن صنع الوجود.

فالله هو الفاعل الذي يُغشي، أي يغطي ويُلبِس الليلَ النهارَ، وقد نصّ التعبير على مفعولين اثنين:

  • الأول: اللَّيْلَ
  • الثاني: النَّهَارَ

ووقوع الفعل على مفعولين اثنين هنا ليس تفصيلًا نحويًا مجردًا، وإنما يحمل دلالة بلاغية وفكرية عميقة: فهو يُشير إلى تحكم تام وسيطرة مطلقة لله عز وجل على عنصري الزمان – الليل والنهار – لا كأنهما يتحركان عشوائيًا أو بطبيعتهما الذاتية، بل بوصفهما كائنين مسخَّرين، يُقلّب الله أحدهما على الآخر ضمن منظومة دقيقة تُظهر الخلق والحكمة معًا.

إن صياغة الفعل على هذا النحو تُقدّم فعل الله ليكون مصدرًا رئيسًا لتوقيع الزمان على الأرض، تمامًا كما قدّم فعل “مدّ” الأرض و”جعل” الرواسي والأنهار والثمرات لتوقيع المكان. ففي مقابل تسوية الأرض وتثبيتها، هناك تسوية الزمان وتعاقبه، وكلٌّ منهما ضروري لتهيئة البيئة الكونية للإنسان، الذي خُلق ليكون فاعلًا مدركًا، لا متلقّيًا سلبيًا.

ومن الناحية البلاغية، فإن ذكر المفعولين يفيد شمول الفعل، واتساع أثره، وكونه قصدًا إلهيًا موجَّهًا: فالله لا يُغشي شيئًا من الليل أو النهار، بل يُغشي أحدهما على الآخر كليًا، ليصوّر هذا التتابع الكوني الحي، الذي لا يُفهَم فقط بوصفه ظاهرة، بل يُدرَك بوصفه آية من آيات التدبير الرباني.

وتربويًا يُعلِّمنا هذا التركيب أن الكون خاضع لتقدير سابق، وأن كل ظاهرة فيه هي نتيجة فعل، لا صدفة. ومن ثم فإن كل تعاقب زمني يمر بالإنسان، وكل لحظة ليل أو نهار ينبغي أن تثير وعيه، وتُحفِّزه على ربط العلم بالحكمة والظاهرة بالغاية.

  1. التفكر: من الظاهرة إلى البصيرة

وهكذا وصلنا مع هذه الآية الكريمة إلى الموضع الذي نتساءل فيه عن تلك الأفعال الخارقة، وأثرها في رفع مستوى الإنسان بإزاء الكون  وبإزاء نفسه وبإزاء الفاعل القادر على كل هذا، فـ “المدّ” واقعًا على الأرض، و”الجعل” واقعًا على الجبال والأنهار وكل الثمرات، وفعل “الإغشاء” الواقع على الليل والنهار، فإنها ليست كل القدرات الإلهية، بل هي تحيل الذهن إلى ما يعني الإنسان  مباشرة، فالأرض ممدودة للإنسان، والرواسي لتثبيت الأرض للإنسان، والأنهار للإنسان، وكذلك الزمان للإنسان، فما المطلوب من الإنسان بعد معرفة الفاعل؟ ينتهي النص بـ ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾.

إن ختام هذه الآية لا يأتي على سبيل الإخبار البسيط عن وجود “آيات” في تلك الأفعال الكونية، بل يحمل دعوة ضمنية تتجاوز التأمل السطحي إلى بناء موقف معرفي وجودي. فـ “الآيات” ليست فقط دلائل على قدرة الله، وإنما هي رسائل متجددة تستدعي فعلًا ذهنيًا متصلًا: التفكر.

ليس كل من يرى الآيات يبصرها، وليس كل من يقرأها يفقه مغزاها. إن شرط الاهتداء الكامن في الآية مقصور على “قوم يتفكرون”؛ أي على أولئك الذين لا يكتفون بالمشاهدة، بل يستنطقون الظواهر، ويعيدون تفكيكها، ويربطون بينها وبين عللها وغايَاتها. فالفعل يتفكرون” صيغة مضارعة تدل على الاستمرارية، وعلى حيوية العقل في تفاعله مع العالم، وفي سعيه نحو المعنى.

هذه الصيغة توجّه الإنسان إلى أن الكون ليس مكانًا للسكن فحسب، بل نصًا مفتوحًا، يُقرأ ويُؤول ويُفهم، طبقًا استعداد المتلقي. فمن يكتفي بالظاهر، يُحرم الجوهر، أما من يتفكر فإنه يتحول من متلقٍّ ساكن إلى قارئ فعّال، ويصبح “القوم” الذي تنسب إليهم الآيات، هم الذين يستحقون أن تُفتح لهم مغاليق الوجود.

في ضوء ذلك، يمكن فهم التفكر بوصفه آليةً معرفية وروحية معًا:

  • معرفيًا، هو إعادة تكوين الإدراك البشري للعالم، لا بوسائل الحسّ فقط، وإنما عبر التأمل في العلاقة بين الخلق والغاية، بين القانون الكوني والقصْد الإلهي.
  • وروحيًا، هو جسرٌ إلى الإيمان، لا بالإكراه، بل بالإقناع، إذ يجعل الإنسان يختار الإيمان من موقع الفهم، لا من موقع التقليد.

في هذا السياق فإن “الآيات” هنا ليست منفصلة عن تجربة الإنسان، بل تمسّ حاجاته الحسية والعقلية والوجدانية. الأرض التي مُدّت له، والجبال التي ثُبتت بها حياته، والأنهار التي تجري لزرعه وشرابه، والثمرات التي يتغذى بها، والليل والنهار اللذان ينظمان زمنه وسعيه… ليست بيئة للعيش فحسب، وإنما هي مقامات للتأمل، ومراحل للتساؤل: من وراء هذا النظام؟ ولماذا جُعل بهذا الشكل؟ وماذا يُراد مني بعد أن علمت؟

من هنا لا يعود التفكر رفاهية ذهنية، بل يتحول إلى مسؤولية وجودية. والآية في ختامها، تضع معيارًا دقيقًا للانتقال من “الآيات” الكونية إلى “الآية” الإيمانية، فليست كل أرض ممدودة تثمر هداية، ولا كل نهر جارٍ يؤدي إلى التوحيد. إنما الذي يُثمر هو تدبّر القلوب وعمل العقول، في وحدة تأملية تدرك أن الكون ليس مكتفيًا بذاته، بل هو فيض عن حكمة، ومظهر لقدرة، ودعوة لفعل معرفي حرّ ومسؤول.

وهكذا فإن فعل “يتفكرون” في الآية، لا يطلب من الإنسان أن “يعلم” فقط، وإنما أن يُعيد النظر، أن يُراجع تصوّراته، وألا يستقر على ظاهر الأشياء، بل يقرأ ما تحتها وفيها وعبرها. إنها دعوة قرآنية لأن يعيش الإنسان عقله وإيمانه في انسجام، لا قطيعة، وأن يفهم الكون لا ليألفه فقط، وإنما ليُبصر فيه الطريق إلى الحقيقة الكبرى.

شكرًا لتأكيدك، وها أنا أقدّم الخاتمة التي تُلملم خيوط النص، وتجمع بين مستويات التأمل البلاغي والعلمي والوجودي، وتربط ذلك كلّه بمركزية الإنسان المتفكر في خطاب الوحي.

  1. خاتمة: من الآية إلى الإنسان

حين نتأمل هذه الآية الكريمة ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ…﴾ [الرعد: 3]، لا نجد أنفسنا أمام وصف طبيعي محايد، ولا أمام سجلٍّ لظواهر كونية خرساء، بل أمام خطاب مقصود، يرسم للإنسان خريطةً فكريةً وجودية، تؤسِّس رؤيته لنفسه، وللعالم، وللخالق.

تبدأ الآية بالفعل «مدَّ» الذي يوقظ فينا شعور الامتداد والاستقرار، وتمرّ عبر «جعل فيها رواسي» إيذانًا بتثبيت المكان، ثم «وأنهارًا» دلالة على انسياب الحياة، و«من كلّ الثمرات» إشارة إلى التنوع الخصب، ثم الازدواج، فالتعاقب الزمني في قوله ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ﴾، وكل ذلك يتهيّأ لتصل الآية إلى ذروتها الوجودية:

﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.

فالغاية ليست الإخبار عن الكون، بل إثارة الإنسان. ليست الغاية تراكم المعلومات، بل تحفيز الوعي. فالآية تريد من الإنسان أن ينتقل من مشاهدة الأرض إلى تفهّم معنى أن تُمدّ، ومن رؤية الجبل إلى إدراك من جعله راسيًا، ومن التأمل في النهر إلى التساؤل عن الذي أجراه، ومن الليل والنهار إلى الذي يوقعهما بدقة لا يختلّ معها ميزان الحياة.

لقد مهّد النص لحوار خفي بين الإنسان والكون، ليكون هذا الكون وسيلة لا غاية، وسؤالًا لا جوابًا مغلقًا، و”آية” لا صورة. فالجبال لا تُنظر بوصفها تضاريس، بل وظيفةً في “رواسي”، والأنهار ليست محض ماء، وإنما “سُبل حياة”، والثمار ليست غذاء فحسب، وإنما رمز للخصب والتنوع والازدواج، وكلها تنضوي في نظام متناسق لا يمكن أن يُنتِج نفسه ولا أن يُدير نفسه ذاتيًا بلا وُجهة.

في نهاية المطاف يتبدّى أن التفكر ليس توصية أخلاقية أو سمة تأملية فقط، وإنما هو العتبة الفاصلة بين الغفلة والهداية، بين الجمود والوعي، بين أن نعيش في كونٍ صامت، أو في كونٍ ناطق بآيات الخالق. فالتفكر هو ما يجعل من النص الكوني كتابًا مفتوحًا، ومن النص القرآني مفتاحًا لهذا الكتاب.

إن هذا التكامل بين “المدّ”، و”الجعل”، و”الإغشاء”، و”التفكر”، يرسم لنا خريطة كونية تربوية:

  • تبدأ بإدراك المشهد،
  • وتمرّ بتساؤلٍ عقلي،
  • وتنتهي بيقينٍ إيمانيٍّ حرّ، لا يُملى، بل يُستنبط.

فكل ما في الأرض والسماء هو مادة لهذا التفكر، لا لليأس، ولا للعجز، ولا للخضوع للعادة. ومن هنا، فإن هذه الآية ليست تأريخًا للخلق، بل بعثا دائما للوعي، وتذكيرا بأن معنى الوجود لا يُنال بالنظر فقط، وإنما بالتفكر العميق فيه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر والمراجع

_ القرآن الكريم

  1. Hoorn, C., Perrigo, A., & Antonelli, A. (2018). Mountains, Climate and Biodiversity. Wiley-VCH.
    هذا الكتاب يُقدّم تحليلًا شاملًا لدور الجبال في تشكيل المناخ ودعم التنوع البيولوجي عبر العصور.
  2. Marder, T., et al. (2023). Direct effects of mountain uplift and topography on biodiversity. Science.
    تُظهر هذه الدراسة العلاقة المباشرة بين رفع الجبال وتنوع الأنواع البيولوجية.
  3. United Nations Environment Programme (UNEP). Mountains: Crucial ecosystems for wildlife, humanity.
    يُبرز هذا التقرير أهمية الجبال كأنظمة بيئية حيوية للإنسان والحياة البرية.
  4. ابن أبي سلمى، زهير، ديوان زهير بن أبي سلمى، تحقيق علي حسن فاعور، دار الكتب العلمية، بيروت، 1988.
  5. امرؤ القيس، ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، ط5، القاهرة، 1990.
  6. تأبط شرًا، ثابت بن جابر، ديوان تأبط شرًا وأخباره، تحقيق علي ذو الفقار شاكر، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1984.
  7. جبل، محمد حسن، المعجم الاشتقاقي لألفاظ القرآن الكريم، مكتبة الآداب، القاهرة،2010.
  8. الخطيب التبريزي، شرح ديوان عنترة بن شداد، تقديم وفهرسة مجيد طراد، دار الكتاب العربي، بيروت، 1992.
  9. طرفة بن العبد، ديوان طرفة بن العبد شرح الأعلم الشمنتري، تحقيق درية الخطيب ولطفي الصقال، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، بيروت، 2000.
  10. لبيد بن ربيعة، شرح ديوان لبيد، تحقيق إحسان عباس، وزارة الإرشاد والأنباء، الكويت، 1962.
  11. مهران، محمد بيومي، دراسات في تاريخ العرب القديم، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ج.م.ع. د.ت.
  12. المهلهل، عدي بن ربيعة(ت.134ق.هـ.)، ديوان المهلهِل، شرح وتحقيق أنطوان محسن القوال، دار الجيل، بيروت، 1995.

 

[1] الخطيب التبريزي، شرح ديوان عنترة بن شداد ، تقديم وفهرسة مجيد طراد، دار الكتاب العربي، بيروت، 1992، ص.150

[2] امرؤ القيس، ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، ط5، القاهرة، 1990، ص19

[3] لبيد بن ربيعة، شرح ديوان لبيد، تحقيق إحسان عباس، وزارة الإرشاد والأنباء ، الكويت، 1962، ص297.

[4] طرفة بن العبد، ديوان طرفة بن العبد شرح الأعلم الشمنتري، تحقيق درية الخطيب ولطفي الصقال، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، بيروت، 2000، ص 42.

[5] حسن جبل، محمد، المعجم الاشتقاقي،

[6] المهلهل، عدي بن ربيعة(ت.134ق.هـ.)، ديوان المهلهِل، شرح وتحقيق أنطوان محسن القوال، دار الجيل، بيروت، 1995، ص.91.

[7] ابن أبي سلمى، زهير، ديوان زهير بن أبي سلمى، تحقيق علي حسن فاعور، دار الكتب العلمية ، بيروت، 1988،ص. 141.

[8] Hoorn, C., Perrigo, A., & Antonelli, A. (2018). Mountains, Climate and Biodiversity. Wiley-VCH.
هذا الكتاب يُقدّم تحليلًا شاملًا لدور الجبال في تشكيل المناخ ودعم التنوع البيولوجي عبر العصور.

Marder, T., et al. (2023). Direct effects of mountain uplift and topography on biodiversity. Science.
تُظهر هذه الدراسة العلاقة المباشرة بين رفع الجبال وتنوع الأنواع البيولوجية.

United Nations Environment Programme (UNEP). Mountains: Crucial ecosystems for wildlife, humanity.
يُبرز هذا التقرير أهمية الجبال كأنظمة بيئية حيوية للإنسان والحياة البرية.

[9] “وقد عوضت(شبه جزيرة العرب) عن الأنهار بشبكة من الأودية التي تجري فيها السيول غبّ المطر، وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن كثيرًا من أودية شبه الجزيرة العربية كانت أنهارًا في يوم ما، ويعتمدون في ذلك على أدلة منها “أولًا” وجود ترسبات في هذه الأودية من النوع الذي يتكون عادة في قيعان الأنهار، ومنها “ثانيًا” ما عثر عليه من عاديات وآثار سكن على حافة الأودية، ومنها “ثالثًا” ما جاء في كتابات القدامى من مؤرخي الأغارقة والرومان وجغرافييهم عن وجود أنهار في شبه الجزيرة العربية، فمثلا “هيرودوت” يحدثنا عن نهر أسماه “كورس”، زعم أنه يصب في البحر الأحمر، و”بطليموس” يذكر لنا نهرًا دعاه “لار” وزعم أنه نهر عظيم ينبع من منطقة نجران، ثم يسير باتجاه شمالي شرقي، مخترقًا بلاد العرب، حتى = = يصب في الخليج العربي، ويرى “مورتز” أنه وادي الدواسر يمس حافة الربع الخالي عند نقطة تبعد خمسين ميلا، من جنوب شرق السليل، وتمده بعض الأودية المتجهة من سلاسل جبال اليمن بمياه السيول”. مهران، محمد بيومي، دراسات في تاريخ العرب القديم، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ج.م.ع. د.ت. ص99

[10] امرؤ القيس، ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، ط5، القاهرة، 1990، ص.19.

[11] نِجاء الدلو: من نجوم الشتاء. بيضٌ: ماء. جُبارٌ: سيل عنيف. قراقر: صوت الماء على الصخور.

[12] تأبط شرا، ثابت بن جابر، ديوان تأبط شرا وأخباره، تحقيق علي ذو الفقار شاكر، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1984، ص.96.

[13] زهير بن أبي سلمى، الديوان، م.س. ص.105.

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete