تكوين
- مقدمة
تتعلق مضامين اللغة الدينية وتعابيرها بمنطقة العلاقة بين الإنسان والله، سواء أكان لجهة تعبير الإنسان (الفردي والجمعي) عن الله وطبيعته وصفاته ومقاصده، أو لجهة توصيف ونقل اختبارات الاتصال بالله وتجارب استشعار حضوره، أو لجهة حقائق وتعليمات تلقاها الإنسان (أو ادعى تلقيها) من الله، مباشرة أو عبر وسيط، وبلغها للناس عن طريق توسيط لغة بشرية خاصة يمكنهم فهمها. هذا يعني أن اللغة الدينية تتميز بسمة خاصة تتفرد بها عن سائر مناطق التعبير، وهي أنها لغة عبور فوق المعتاد من الشأن اليومي، إلى مفارقات الاتصال بين المتناهي واللامتناهي، المحدود والمطلق، والمتحول والثابت، الزائل والأزلي.
هذا الأمر ولد تساؤلاً حول صلاحية أي تعبير إنساني عن الله أو العلاقة معه، أو حتى صلاحية اللغة البشرية في نقل مراد الله أو إمكانية أن تكون وسيلة لكلام الله والتعبير عن مقصده، بحكم أن اللغة التي يتداولها البشر، في كل وجوه استعمالها، هي نتاج بشري، أو إذا شئت حصيلة تراكمية للتجارب الإنسانية في يومياتها الجزئية وتفاعلاتها الاجتماعية لإنتاج طرق تواصل وإيصال للمعاني والأفكار والرغبات وتنظيم سائر وجوه الفعل الاجتماعي. إذا كانت اللغة كذلك، فإن وحوه التعبير الإنساني كافة قاصرة عن استيفاء معنى المنطقة الواقعة وراء التجارب الحياتية وقواعد الاتصال الإنساني وهي منطقة الميتافيزيقيا، وتحديداً الله الذي هو بحسب طبيعته التي يؤمن بها البشر فوق كل توصيف بشري، ومنزه عن كل محدودية وسيلان وتحول وفناء، وجامع بين الكمال المطلق من جميع الجهات والبساطة الممتنعة على التركيب.
تتأكد صلاحية هذا السؤال حين ندرك المفارقة بين حسية اللغة الاعتيادية ومحدودية المعقول فيها، وبين تعالي المعنى المُعَبِّر عن مشيئة الله والمصوِّر لكمال ذاته. ما يحعل اللغة الدينية لغة لا اعتيادية، بسبب لا اعتيادية التصورات الدينية التي لا تتسع لها التعابير الاعتيادية النابعة من تجاربنا المحسوسة، والتي أشار إليها شلايرماخر، حين أثار الأبعاد اللاعقلية للدين التي تتجاوز المجال الإدراكي للعقل، مُقترحا في كتابه “حول الدين”، أن “الدين لا ينبع من قدراتنا العقلية، ولكن من اختبارات الكائن المحدود في مواجهته لمحدوديته وهشاشة وجوده”[1]. ويصف إيمانويل كانط محدودية اللغة الاعتيادية، وقصورها في التعبير عن مجال ما وراء الحس بالقول: “نحن حين نستعمل لغة غير مرتبطة مباشرة بالتجارب الحسية، نكون نتعامل مع أفكار تخمينية (Speculative) ولا يمكن اعتبارها معرفة عقلية”[2]. فاللغة المتداولة بيننا، تؤدي وظيفتها بالكامل حين نستعملها للتعبير عن تجاربنا وتصوراتنا الحسية والاجتماعية، فذلك أساس تكوينها، أما حين ننقل التعبير إلى ميدان تعبير وراء التجربة الحسية والاجتماعية، كأن نتكلم عن كلام الله ووحيه وتجربة الاتصال به وحالة الاختبار الذاتي معه، فإن اللغة المتداولة لا تعود مؤهلة للقيام بهذه الوظيفة، بل لا بد من ابتكار نظام تعبير آخر في التلقي والإيصال والاتصال، وممارسة انتهاك لأساليب التعبير المألوفة.
فإذا كانت العربية مثلاً، وسيلة الاتصال المشترك اللغوي بين القرآن (كلام الله) ومتلقيه، والمرجع المحوري في الفهم والإفهام، فإن هذا يثير معضلة منطقية حول إمكانية تعبير اللامتناهي (الله) عن نفسه بتعابير متناهية، وبصور لغوية متناهية ذات منشأ ومرجع بشريين، وحول صلاحية اللغة البشرية في التعبير عن معان غيبية لا تتسع لها قوالبها، وأهَلِيَّة التعبير اللغوي في استحضار صور متعالية ما-ورائية ليست مندرجة ضمن التعابير اللغوية المحتملة.
لكن، ورغم قصور اللغة البشرية في استيفاء حقائق وصفات الله، فإن الله أو الكائن المتعالي عن كل تصور بشري، ظل حاضراً في كل الثقافات وظل التعبير عن حقيقته ومراده وتجربة العلاقة معه جزءاً أساسياً في أدبيات اللغات البشرية كافة. بل كانت الأدبيات الإلهية قبل عصر الحداثة محور الاجتماع الإنساني ونقطة ارتكاز رؤية الفرد للعالم والوجود، وهو أمر استمر عند بعض المجتمعات التي لم تختبر تحولات الحداثة وتستشعر أسئلتها المحرجة.
أي إذا كان الله فوق كل وصف، فالبشر لم يتوقفوا عن توصيفه، وإذا كان وراء المحدود والزائل فالبشر استمروا في توسيط معان بشرية وكمالات مستنبطة من تجاربهم في معرفة الله والإقتراب مع حقيقته. بل إن الوحي نفسه (أو ما ادعي أنه كذلك)، الذي هو مبادرة من الله في توصيل مراده إلى البشر، التزم بقواعد التعبير والتركيب اللغوي المتداول بين البشر، واستعان باللغة التي نشأت وتبلورت من فضاء التجربة الإنسانية اللامحدودة والزائلة والمتحولة[3]. ما جعل اللغة الدينية موضع مفارقة بسبب خروجها عن مجال التعبير الممكن لها، وبسبب ادعاءها حقائق قصر خزان معانيها عن استيفاء جوهرها وكنهها.
هذا حرك ما يمكن تسميته بإشكالية اللغة الدينية، وولد التفكير الجدي في حقيقة ودلالة وصلاحية ومعنى اللغة المتداولة في منطقة العلاقة بين الإنسان والله. وهو تفكر يتخذ بعداً فلسفياً لأنه ينحو من جهة باتجاه البحث المعرفي الذي يختبر طبيعة المعنى الديني وصحة الحقائق التي يلقيها القول الديني والادعاءات الآمرة التي يمليها، وينحو من جهة أخرى باتجاه البحث الأنطولوجي الذي يدرس ملائمة الصيغ اللغوية لحقيقة الذات الإلهية ودور التعابير الدينية في فهم الذات الإنسانية وإضاءة طبقاتها المعتمة والكشف عن فضاءات وجودها وتحققاتها الحاضرة والمستقبلية. نحن إذاً في صميم منطقة التفكر الفسلفي الذي يطل بنا على ماذا أعرف، وعلام أوجد وكيف أنوجد، وماذا آمل أو أتوقع.
إشكالية اللغة الدينية، تقع في منطقة التقاطع القلقة والمتوترة بين الفلسفة واللاهوت الديني. الفلسفة تسائل الحقيقة، تدقق في المعنى، تختبر الصلاحية، تكشف عن السلطة الكامنة في المعنى، تزيل سقوف حدودها لتكون لها الكلمة الأخيرة. أما اللاهوت فيستعين تارة بالعقل في إثبات ما هو فوق طاقته، بل يتحايل على العقل ويخضعه للوحي بحجة التوءمة بينهما، ويتحصن تارة أخرى بسرديات آسرة لها وقع القيامة من الموت في النفوس الغاقلة والتائهة. بهذا فإن اللغة الدينية هي من جهة لغة سلطان يتمسك بها اللاهوت أساساً لكل حقائقه الأزلية والمتعالية، وهي من حهة أخرى مصدر ريبة عند الفلسفة لأنها جاءت محملة بحقائق من خارج هيكلها ودائرة نشاطها، ما دفع الفلسفة إلى مسائلة سلطة حقائقها وادعاءتها، واختبار صلاحيتها في إنتاج المعنى. وهو جدل استمر منذ أن تكلم الله إلى البشر وكانت الكلمة وسيلته في تبليغ مراده إليهم، أو منذ أن نطق البشر بإسم الإله فصار بإمكان اللغة المتداولة التعبير عن الله والكشف عن طبيعته وحقائقه. بهذا صارت إشكالية اللغة الدينية إشكالية فلسفية ولاهوتية في آن، لكن لكل طرف منهما أدوات إثباته ومنطلق بديهياته ومسلماته.
بحثنا إذا واقع في منطقي التفكر الفلسفي واللاهوتي معاً، ويتمحور حول سؤالين أساسيين: أولهما: ما المقصود باللغة الدينية وكيف تختلف عن اللغة الاعتيادية، وهل هنالك نظام تعبير آخر استطاع عبور دائرة المحدود واليومي لينقل لنا عالم المتعالي واللامتناهي. ثانيهما: هل للعبارة الدينية معنى. وكيف يمكن التحقق من الادعاءات الدينية، والتثبت من صحة الحقائق التي تطرحها العبارة الدينية.
*******
- إشكالية اللغة الدينية في العصور الوسطى
لم تكن اللغة الدينية موضوع بحث مباشر في العصر الوسيط، سواء أكان في المجال الإسلامي أم المسيحي. فالمدار ليس في إمكانية التحقق من صوابية المعاني التي يلقيها القول الديني، بل في إثبات نسبة الكلام إلى الله، أي إثبات مصدر الكلام وتأكيد صدوره من جهة عليا تملك صلاحية إلقاء الحقائق وإملاء الأمر والتعلميات. فالمدار في الكلام ليس في معقوليته أو توافقه مع العقل أو تناغمه مع أجهزة الإدراك عند الإنسان، وإنما في سلطته وصدوره من جهة عليا إلى جهة دنيا، وفي حالتنا هذه صدوره من أعلى جهة في مراتب الوجود تملك على غيرها مديونية الطاعة وصلاحية إملاء الحقائق.
هذا يعني أن التفكير حينها لم يصل بعد إلى تفحص صلاحية الكلام وطبيعته، بل انحصر بتفحص صلاحية المتكلم. فإذا كان المتكلم هو االله، الذي يملك سلطة مطلقة في إملاء الحقائق، فإن البحث في صحة أو صلاحية أو صوابية معاني الكلام يصبح غير ذي جدوى أو غير ذي معنى. لذلك، انصب البحث على إثبات نسبة الكلام إلى الله بدل البحث في طبيعة اللغة الدينية. وهذا بنظر البيئة القروسيطة كاف في أن يكون للكلام معنى، وفي أن تكون حقائقه وتعاليمه صحيحة. فالله خالق المعنى والحقائق، والأشياء تكتسب شيئتها ومعناها بمجرد صدورها من واهب الصور وخالق العالم. لذلك اتجهت مباحث اللغة الدينية في المجال الإسلامي الوسيط إلى إثبات نسبة الكلام إلى الله، لا بطريق الإيجاب، أي الإثبات المباشر بنسبة الكلام إلى الله، بل بطريق السلب، عبر نفي إمكانية صدور كلام الوحي عن البشر، أي إثبات أنه كلام معجز لا يقدر البشر على الإتيان به.
هذا يعني أن البحث الديني في القرون الوسطى كان منصباً على إثبات صحة معاني الكتب المقدسة أو كتب الوحي لا لجهة قابلية هذه الحقائق للتثبت منها أو البرهان العقلي عليها، بل لجهة أنها صادرة عن سلطة عليا تملك سلطة إلقاء هذه الحقائق والمعاني، وتملك على غيرها حق القبول والتلقي الكامل لها. فالحقائق لا تملك حقيقيتها من ذاتها بل الله يهبها حقيقيتها، ومجرد صدورها منه يعني أنها حقائق ثابتة منجزة متقررة. لهذا كان أساس صحة الحقائق وصوابية المعاني هو الإيمان بصدورها عن الله، وليس لأنها بذاتها حقائق تحمل بداخلها قوة إثباتها، أو يملك البشر صلاحية أو قدرة التحقق منها. تكون صحة المعنى الديني حينها متفرعة من كونها صادرة عن جهة عليا لها صلاحية إنتاج المعاني والحقائق. لهذا كانت صحة الحقائق الدينية في القرون الوسطى من متفرعات الإيمان وليس من متفرعات التدقيق العقلي أو التحقيق العلمي. هي صحيحة للإيمان بأنها صادرة عن الله وكفى.
******
إذا كان كلام الله إلى البشر مثار جدل واسع، فإن كلام البشر ابتداءً عن الله يكون أكثر تعقيداً ومحل إِشكال كبير. بمعنى هل يمكن فهم الله بعقولنا ووعينا المنغمس في مجريات الحياة اليومية. هذا السؤال كان يجاب عنه بالنفي لأن الله متعال وفوق كل إدراك بشري، وفوق أي شيء حسي وعيني يطاله وعي الإنسان.
أما مشكلة صلاحية اللغة البشرية في الحديث عن الله، وفق الفهم التقليدي لله بأنه لا متناه وأزلي وغير مادي، فقد استقر الوعي على أن لغة التعبير البشرية عاجزة عن استيفاء حق الله، بمعنى عاجزة عن توليد مطابقة بين الوصف وبين الصفة، أو بين الصفة والموصوف، بين التعبير اللغوي عن الله وبين حقيقة الله. فكل ما نقوله عن الله هو بحجم أفهامنا البشرية ولا يمكنها استيفاء حقيقة الله بكامل كنهها.
التبسيط الإلهي
عقيدة البساطة الإلهية تعني أن الله ليس لديه خصائص عرضية، وهي الصفات التي يمكن لأي كائن أن يحملها من دون أن تدخل في أصل جوهره. وبالتالي فإذا لم يكن لله صفات عرضية، فلا يمكنه أن يكون بالطريقة التي ندركه بها تقليدياً. لأن الصفات مثل الخيرية هي صفات عرضية فينا. وإذا قبلنا مبدأ البساطة الإلهية فإن القول بأن الله خير يستتبع أن الخيرية والله ليس لديهما نفس التعريف. كذلك لو نسبنا صفة المحبة إلى الله فهذا يعني أننا ننسب إليه صفات عاطقية، وهي صفات عرضية لا تتناغم مع عقيدة البساطة الإلهية[4].
لهذا ساد التعبير عن الله بالسلب لا بالإيجاب، وهو مسلك دشنه الفيلسوف اليهودي ميمون، بالفصل بين إثبات وجود الله وإثبات صفاته. فوجوده يعبر عنه بالإيجاب أما صفاته فيعبر عنها بالسلب. وهو مقترج ينسجم مع الاعتقاد التوحيدي العام بأن الله بسيط ولا يمكن نسبة صفات عرضية إليه. بالتالي فإن العبارات عن الله يحب أن تكون سلبية. فقولنا مثلا بأنا لله يعيش يجب أن يؤخذ على أن “الله لا تنقصه الحياة” وقولنا أنه قوي يعني بأن قوة الله وراء أية قوة في العالم ولا تقارن بأية قوة أخرى في العالم[5]. هذا السلوك كان معمماً عند الأديان التوحيدية، ما حعل سلوك التعبير عن الله بالسلب ظل سائداً في المجال الإسلامي والمسيحي أيضاً. فالمسلمون استوحوا من الآية “ليس كمثله شيء” أنه لا يوجد فكرة أو مفهوم أو تصور يمكن أن يستوف حق الله.
الحديث عن الله بالسلب تجعل المعرفة بالله غير ممكنة، إذ طالما لا يمكن التعبير عن الله بأية صفة، أو يمكن إثبات صفات لله لكن لا يمكن تبيانها أو شرحها، فهذا يؤكد الإشكال بأن اللغة الدينية عاجزة عن استيفاء حقيقة الله، وبالتالي يكون الحديث عن الله لا معنى له وفاقد صلاحية التعبير عن الحقائق التي هي فوق الفهم البشري وفوق التعبير اللغوي. ولهذه الإشكالية تبعات خطيرة لجهة عبادة كائن لا نعرفه حق المعرفة.
ولهذا أكد المتصوفة أن معرفة الله ليست معرفة عقلية أو تصورية ولا تتحصل بالتعليم أو الاستدلال، ولا يعبر عنها بأية وسيلة من وسائل التواصل البشري، التي منها اللغة. معرفة الله تجربة اختبار ذاتية خالصة، هي تحسس حضور، حالة انجذاب وانخطاف، تحصل في حال تخلية الإنسان كلَّ معارفه وتعطيل حدوسه التي يستعملها للإتصال بمحيطه المباشر، للإفساح بالمجال لإطلاق حدوسات أخرى كامنة في الإنسان تؤمن له سبل الإتصال بالله واختبار حضوره ومعاينة ذاته. وهي اختبارات لا تستوعبها لغة ولا يمكن لقوالب اللغة أن تستوفي حقائقها ومعانيها. هي اختبار حدسي ويقيني لا يمكن ترجمته معرفة عقلية أو الإشارة إليه إشارات لغوية[6].
مقترح المتصوفة هذا يعمق إشكالية معرفة الله طالما أنها معرفة منحصرة في الدائرة الذاتية والذوق الخاص. ما يفتح الباب واسعاً على النسبية في معرفة الله، ويجعل حقيقة الذات الإلهية متعددة بتعدد أصحاب الذوق الخاص والتجرية الخاصة. فلا يمكننا التأكد أننا نتصل بكائن واحد هو الله، بل يكون لكل متصوف إلهه الخاص، بحكم الامتزاج الشديد بين الذات العارفة والكائن المعروف، الكاشف والمكشوف. هذا فضلا عن أن تجارب المتصوفة لم تستطع الخروج عن بيئتها الثقافية، وخصوصية مجالها الديني، بل كانت تجارب تذوق المتصوفة الروحي وكشفهم الحدسي منغمسة جميعها بأطر التصورات والمعارف الدنية التي نشأوا فيها، فكان نموذج الكشف الأعلى يحاكي نموذج الاعتقاد الديني السائد في بيئة المتصوف الدينية والإجتماعية. ما يعني أن التصوف نفسه لم يستطع اختراق القوالب الثقافية والأطر الدينية المتداولة في الوصول إلى الله، وبالتالي ظل التصوف أسير اللغة الدينية المتداولة ويتحرك داخل دوائر الصور والمعاني التي تولدها، رغم ابتكاره رمزيات وأدبيات خاصة به.
*******
- توما الأكويني والحمل التماثلي
حاول توما الأكويني عبر منهجه الحمل التماثلي (Analogous Predication) التخفيف من وقع مشكلة المعنى في اللغة الدينية بالقول أن الصفات التي تطلق على الله هي حقيقية وليست مجازية، وهي من نوع الصفات التي نختبرها نحن كبشر في تجاربنا اليومية والحياتية ولكنها ليست إياها بالكامل بل تشبهها في جانب وتختلف عنها في جانب. فالعبارات عن الله مشابهة للصفات البشرية التي نختربها بمعنى أنها ذاتها في جانب وغيرها في جانب آخر. فقولنا مثلاً أن الله خيِّر فإن هذا لا يعني خيرية الله بالمعنى الإنساني لكن الخيرية البشرية قد استعملت مرجعية لشرح خيرية الله. صحيح أنه يصح إطلاق عبارة الخيرية على الله مثلما يصح إطلاقها على البشر بنحو التعبير الحقيقي لا المجازي أو الرمزي، إلا أن ماصدق الخيرية في الساحة الإلهية تختلف عن ماصدقها في الساحة البشرية. أي أن الكلمة الواحدة، التي نسند بها صفة إلى شخص أو شيء ما، لها استعمال مختلف عندما تستعمل في المجال الديني، وخاصة حين تُسند إلى الله. فعندما نطبق كلمة “خير” مثلاً على كائن مخلوق وعلى الله، فإنها لا تستعمل بمعنى واحد، لأن خيرية الله ليست مطابقة لخيرية الكائنات البشرية، ولكنها ليست مختلفة عنها في المطلق. ما يعني اتصاف كل من الخالق والمخلوق بالخيرية لا يكون متساوياً أو مطابقاً أو متواطئاً بينهما، ولا يكون أيضاً مغايراً أو مشتركاً، ولكنه يكون تماثلياً أو تشكيكياً[7].
فالمفاهيم المتعلقة بالصافات هي معاني مشككة، أي تحمل درجات متفاوتة في القوة والضعف. بحيث يمكن أن يكون الحمل تنازليا، عندما نطبِّق صفة أو قيمة بشرية على كائنات دونية كالحيوانات مثلاً التي لا تملك نفس درجة ومستوى انطباقها على البشر، ويمكن أن يكون تصاعدياً، حين نطبق قيمة إنسانية ما على كائن أسمى ومتعال كالله، حيث تكون درجة انطباقها على الله أوسع وأشمل وأكمل وتكون في الإنسان أضيق ومحدودة[8].
فقد نستنتج في سلوك الكلاب مثلاً، التي هي كائنات غير بشرية، قيمةً معينة نُسميها في مستوى سلوكنا البشري الإخلاص، وهي قيمة لا تنطبق بنفس الدرجة والمستوى على الكلاب مثلما تنطبق على البشر، إلا أن هذا الطراز من السلوك لا نجد له صفة نطلقها عليه إلا الصفة التي تنطبق على سلوكنا نحن البشر وهي صفة الإخلاص، رغم ما بين الصفتين من تباعد واختلاف. فهنالك تشابه بعين الاختلاف واختلاف بعين التشابه، الأمر الذي قاد توما الأكويني إلى التكلم عن التشابه في استعمال العبارة نفسها لمضامين وسياقات مختلفة. وهذا هو الحمل النازل، الذي يحمل الصفة البشرية على مخلوقات أدنى كالحيوان[9].
وحين نطبق صفة بشرية ما على الله، فإن هذا الحمل يسمى تماثلاً صاعداً، وتكون الصورة فيها مقلوبة بالكامل. حيث ينطلق إدراكنا المباشر لمعاني الخيرية والحب والحكمة التي نطلقها على الله، من وعينا المباشر لهذه الصفات لجهة نسبتها إلينا ومعايشتنا واختبارنا لها في مجال تجربتنا البشرية المحدودة. في حين تكون حقيقة هذه الصفات في حق الله ظلالاً رفيعة وتقديرات بعيدة، ولا يمكننا أن ننسب إلى الله صفة من الصفات إلا بطريقة الحمل التماثلي. فعندما نقول إن الله خير، فإن قولنا يعني أن هنالك قيمة في هذا الكائن الكامل اللامحدود تعود إلى ما نسميه في مستوانا البشري خير. هذا يعني أن الحمل التماثلي ليس أداة لاكتشاف أو وسيلة لمعرفة الله ورسم لطبيعته اللامحدودة، بل هي مجرد طريقة لنسبة صفات إليه هي بالأساس صفات بشرية، ولكننا نجد وجوداً لها بنحو من الأنحاء في الساحة الإلهية، فنطلق تلك الصفات عليها من دون اشتراط أن تكون درجة الانطباق أو حتى طبيعة الصفة مطابقة بيننا وبين الله. وهذا ما يطلق عليه بالحمل المشكك، الذي يقف موقعا وسطا بين التواطؤ (Univocal) الذي يحمل معنى واحداً رغم تغير حالات استعماله، والاشتراك (Equivocal) الذي يحمل معنى مختلفاً في كل حالة استعمال مختلفة[10].
هذا يعني أن اللغة الدينية تنطلق في قواعد إنتاجها للكلام من نفس قواعد اللغة الاعتيادية. ربما لأنها اللغة الوحيدة المتوفرة بين أيدينا، مع اختلاف في درجة انطباق اللفظ على المعنى، حيث يكون في الكلام الاعتيادي مطابقاً للمعنى المراد قوله ومستوفياً لحقيقته، في حين يكون استعمال هذا الكلام في مجال الغيب، غير مستوف له ولا يعبر عنه بالكامل. فالاشتراك في اللغة على مستوى الدال، لا يجعل الكلام يتساوى على مستوى الدلالة للتباين الكبير في المدلول. وتكون العبارات عن الله، غير دالة بطريقة اعتيادية على ذات الله أو على مراده المتعالي. إذ كيف يمكن مثلاً أن نتكلم عن الله، الذي هو روح صافية، بعبارات تجسيد، كأن يكون له يد “يد الله فوق أيديهم” أو يكون له عين “تجري بأعيننا”، وكيف يمكن أن يكون لأمثال هذه العبارات أن يكون لها معنى على وجه الحقيقة، سوى القول أنها عبارات بشرية تستعمل للدلالة على معان وراء معانيها الحرفية أو الوضعية. وهذا ما يسمى بلغة التجسيد (anthropomorphism)، وهي اللغة التي تتكلم بعبارت بشرية عن أشياء ليست بشرية، كالتكلم عن يد الله أو عينه، أو التكلم عن الله بأنه غيور وغاضب ويمتلك حكمة وعلماً. وهي خصائص ذهنية وفيزيائية استُنتِجت من التجربة البشرية وتنطبق على الله بطريقة غير حرفية[11].
مشكلة “الحمل التماثلي” أنه لا يحل المعضلة المنطقية في حمل المعنى المتناهي المستقى من التجربة البشرية على الكائن اللامتناهي. فإذا كان الله يتميز بصورة كيفية على صعيد صفاته وصعيد وجوده عن كل كائن آخر فعلي أو ممكن، فإن الكلام عن القدرة الإلهية أو المعرفة الإلهية أو الحكمة الإلهية هو بالضرورة كلام عن صفات لا يمكن أن تكون مشتركة بين الله وكائنات أخرى. فالقدرة الإلهية هي قدرة لا متناهية وضرورية وغير متجسدة بينما القدرة البشرية هي قدرة متناهية وجائزة ومتجسدة. وبالتالي لا يوجد أساس للحمل التماثلي بينهما، لأن صفات الله تختلف عن صفاتنا بالكيف لا بالدرجة[12].
الطبيعة اللامتناهية والضرورية لوجود الله وصفاته، التي تُختصر في مفهوم التعالي الإلهي، تجعل الجوهر الإلهي خارج إطار المعرفة الإنسانية، وبالتالي تنفي إمكانية حمل نفس الصفة عليه وعلى كائن آخر غيره، لعدم العلم على وجود إشتراك في حقيقة تلك الصفة أو علم بطبيعة الاختلاف بين صفات الخالق وصفات المخلوق. فصحة الحمل التماثلي تتطلب معرفة مسبقة بكيفية اختلاف الصفات الإلهية عن الصفات الأخرى، ولا تكون المعرفة التماثلية ممكنة إلا في ظل معرفة غير تماثلية أيضاً. أي إن الحمل التماثلي يفترض مسبقا معرفة كاملة ومطابقة لصفات الله، التي نعرف من خلالها وجه التماثل ووجه الاختلاف عن صفاتنا، حتى يمكن الحكم بصحة الحمل التماثلي على الله وعدمه. ومع عدم إمكان تلك المعرفة، فإن الحمل التماثلي يكون غير ممكن وفاقداً لإمكانية التحقق من صحته وعدمه.
من ناحية ثانية، فإن الحمل التماثلي لا يشبع الرغبة المعرفية فينا في التعرف إلى خصوصية اللغة الدينية وطرائق تركيبها. فالحمل التماثلي يحاول معالجة وجوه استعمال الكلمة في ميدان خارج عن وجوه استعمالاتها المألوفة، ويعمل على تسويغ استعمال مماثل في الساحة الإلهية من دون أن يبين وجوه المعنى الجديد وسمات العالم الآخر الذي يُحمَل عليه ويحاول نقله إلينا أو كشفه لنا. بل إن الحمل التماثلي يتركنا أمام عالم مبهم وغائم ولا نستطيع الوثوق بالكامل بما يحمل إلينا من معان أو يطرح علينا من صور. فمثل هذا النوع من الحمل لا ينتج علماً حول الله[13]، لأن الكلمة في الساحة الإلهية تكون فاقدة لدلالاتها الواقعية والحقيقية، ويكون مفهومها في الساحة الإلهية عائماً وضبابياً، وهي لا تتعدى في ذلك عن كونها تلميحاً أو إشارة لمعنى لا ندرك حقيقته أو طبيعته أو مزاياه.
كما إنه فكرة الحمل التماثلي، لا تقدم أجوبة أو نماذج حلول حول منطق اللغة الدينية في تركيب العبارة أو بنية النص، بل يكتفى بتسويغ طرق استعمال الكلمات خارج ميدان وساحة دلالاتها الحقيقية، وهذا أقرب إلى البحث المعجمي أو القاموسي لوجوه استعمال الكلمة، منه إلى البحث السيميائي الذي يعنى بتراكيب الكلام وبنية النص، الذي تكون الجملة فيه هي وحدة الكلام وليس الكلمة المفردة[14].
*******
- إِشكالية اللغة الدينية في العصر الحديث
مع تحولات الاقتصاد والسياسة والتبصر الأدق في مجريات الكون والطبيعة، تحول الترتيب الوجودي من مركزية الله في كل مناحي الوجود إلى مركزية الإنسان. بات الإنسان منتجاً لمعناه، وإذا لم يكن منتجاً له، فلا بد أن يكون فيه قابلية لأن ينتج. وقابليته للإنتاج هو في إمكانية التحقق من صحته. فكل المعاني باتت تحت سلطة الإنسان، أي إمكانية أن تعقل أو تنتج عبر مقدمات بديهية تصدر من داخل الإنسان لا من خارجه. لم تعد المعرفة كشفاً عن حقائق بل باتت صناعة بشرية لحقائق، أي باتت المعرفة حقائق اصطناعية ينتجها ويملك قدرة التحقق من صوابها وصحتها عبر آدواته هو لا أدوات تصدر من غيره بمن فيهم الله.
هذا التحول ترك أثره على موضوع اللغة الدينية، وبدأت إرهاصاته الاولى مع ديفيد هيوم الذي ربط صحة أي ادعاء أو مقولة بدليلها الحسي، وإلا تكون غير ذات جدوى، ولهذا كانت اللغة الدينية عند دايفيد هيوم لا معنى لها لعدم إمكان التثبت منها، فهي : “لا تحتوي سوى على سوفسطائية وأوهام”[15].
أما إيمانويل كانط الذي رفض إلغاء الميتافيزيقيا أو نفيها، إلا أنه اعتبر أن ذلك خارج مقدرة الإنسان وطاقته في الإثبات أو النفي. فمثلما أن حقيقة الله لا يمكن إثباتها، كذلك لا يمكن نفيها. هو عالم لا نملك قدرة التحقق منه، وطالما هو كذلك فهو خارج مجال الإدراك الإنساني سلباً أم إيجاباً. فإذا كان الله موجوداً فلا يملك سلطة إلقاء الحقائق علينا، طالما أن القيمة الأخلاقية نابعة من صميمنا الداخلي، وإذا كان لله سلطة إملاء القول الإخلاقي فعبر سلطة الواجب المزروعة فينا لا عبر قوله المباشر إلينا[16].
نفي كَانت المعنى عن اللغة الدينية لا لجهة عدم إمكان التحقق من معانيها بل لجهة أن كل ما يتجاوز حدود التجرية البشرية هو خارج نطاق العقل البشري، فالميتافيزيقيا عالم لا يمكن للإنسان التحقق منه أو تثبيته أو إثباته. وبالتالي فإن لا معنى القضية الدينية نابع من أن عالم الماراء هو خارج نطاق الطاقة البشرية بأسرها، وكل حديث عنه هو حديث يتجاوز حدود مجال التعبير الإنساني وصلاحية التفكير البشري، ولا يندرج ضمن إمكان التحقق والإثبات العقلي. بالتالي فإن لا معنى القضية الدينية نابع لا من لا عقلانيتها أو عدم تجريبيتها، بل من تخطي التفكير الإنساني لحدوده وصدور قضايا وأحكام منه لا يملك سبيلا لمعرفته وتدبره، فهو بتعبير الفقهاء خارج عن دائرة التفكر الإنساني تخصصاً لا تخصيصاً.
حسية هيوم وحدود مجال العقل عند كانت ومادية فيورباخ، ولد اتجاهاً وضعياً ترشح عن جماعة فيينا، يقول بأن معنى أية قضية يكون في قابليتها للتثبيت أو التكذيب، ومع عدم قابليتها لذلك فلا معنى لها. وقد كان أبرز شخصيات هذا الإتجاه كارناب، وآير الذي ميز في كتابه “اللغة الحقيقة والمنطق” بين العبارات التحليلية والتركيبية. فالتحليلية هي التي معناها في قلب كلماتها من قبيل التعريفات والعبارات الرياضية، وهي عبارات صحيحة بذاتها. في حين أن التركيبية تحمل ادعاءات حول الحقيقة ومستنتجة من ملاحظات حول العالم وصحتها ليست ذاتية . ولكي نعرف هل لها معنى أم لا فقد طورت حلقة فيينا نظرية الثبت من المعنىVerifiability of meaning التي اشترطت في صحىة المعنى المعرفي للقضية أو العبارة أن يتم التثبت منها تجريبيا. ولما كانت الادعاءت عن الله وعبارت الأخلاق والتصوف نابعة من عالم وراء العالم الطبيعي، فهي جميعها غير قابلة للتثبت تحريبيا من صحتها أو خطئها. بناء عليه ذهب المناطقة الوضعيين وفي مقدمهم آير إلى أن العبارات الدينية والأخلاقية أيضاً لا معنى لها[17].
وقد تم تحدي نظرية التثبت الوضعية من قبل ألنزو تشيرش Alonzo church وربتشارد سوينبيرن Richard Swinburne لجهة أن معايير التثبت غير واضحة ولأن نظرية التثبت نفسها تحتاج إلى تثبت تجريبي، ومع عدم إمكان ذلك فإن النظرية تفقد مرجعيتها في التحقق من صحة القضايا والعبارات، هذا فضلا عن أن الكثير من العبارات الإنسانية لا تهدف إلى بيان حقائق أو وقائع بل هي تعبير إنساني عن ميول ورغبات وتمنيات وآمال وتوقعات وتجارب واختبارات ذاتية. وهي قضايا صحيحة بذاتها ولا تحتاج إلى اختبار تجريبي ليكون لها معنى، لأن صحة حقائقها في التعبير نفسه. وهي إشكالات جعلت حال الوضعية المنطقية حرجاً وبالتالي فقدت حاذبيتها وخرجت في النصف الثاني من القرن العشرين من التداول. لينتقل البحث معها من صحة معايير الصحة في الادعاءات الدينية، إلى البحث في طبيعة اللغة الدينية ومنطقها ورهاناتها الوجودية.
*******
- ما ورائية اللغة الدينية
انصب البحث اللاهوني والكلامي (والفلسفي أيضاً) علىى خصوصية كلام الله أو خصوصية الكلام عن الله، وعما إذا كان هنالك لغة خاصة للنص الديني (القرآني أو الانجيلي مثلاً)، وراء اللغة الاعتيادية أو اللغة المشتركة التي نُعبِّرُ بها عن مقاصدنا اليومية، تكون ذات منطق خاص وبنية تركيبية مختلفة للتعبير عن مراد الله وطريقاً لكشف الله عن ذاته أو مراده للبشر، تشكل بمجموعها مائزاً ذاتياً ومعرِفياً للنص الديني، يصح معها اعتبار نص أو قول ما كلاماً لله؟ وهل يوجد نظام آخر ثانوي وراء نظام اللغة الأولي التي صدر بها النص أو الخطاب الديني، يكون التعرف إليه مدخلا للكشف عن قواعد إنتاج هذا النص، وعن طبقة المعاني القابعة وراء المعنى الظاهر الذي تحيل إليه اللغة الأولى. بحيث لا يمكن فك رموز هذا النص أو الكشف عنها إلا بالتعرف إلى نظام تركيب خاص بالنص ومنطق إحالة أخرى تتماشى وتنسجم مع فكرة تعالي النص الديني وتتوافق مع طبيعة التجربة الدينية نفسها؟[18]
فالقول مثلاً بأن الخطاب القرآني صادر بلسان عربي مبين، لا يحجب وجود لغة ثانوية أو لغة ذات منطق خاص في إنتاج النص القرآني. لأن استعمال القرآن للسان العربي لجهة تداوله للمفردات المألوفة وتركيبه المتعارف للكلمات، لا يمنع وجود نظم آخر ذي منطق خاص يقف وراء الاستعمال المألوف للكلمات والتأليف المتعارف للجمل والعبارات، يكون قادراً على توليد معان ذات طبيعة متعالية ومفارقة، وعلى إثارة تصور بشري حول أمور الغيب تعجز قواعد الاستعمال المألوفة ومبادئ النظم المتواضع عليها عن تشكيلها أو إيصالها، لكونها – أي اللغة المتعارفة- ذات منشأ وجَرْيٍ حِسِّي.
ولو سلمنا مع الجرجاني بأن إعجاز القرآن ليس في معانيه فقط بل في نظمه وتراكيبه أيضاً[19]، ومع العالِم اللغوي سايبر بأن “اللغة ليست أداة ومحتوى فحسب بل هي القالب الذي تُفصَّل المعرفة على أساسه، والمنظم لتجربة الجماعة الذين يستعملونها”[20]، فإن عبارات وجمل القرآن ليست حاملاً مُكرَهاً وآلياً للمعنى والفكرة، بل هي مُعبِّر عن نمط تفكير ومنطق خاص في إنتاج المعنى. وإن النظم فيه ليس آلة لإيصال الفكر، بل هو ناظم للفكر نفسه ومتحكم في مساراته وضابط لتمظهراته. إذ ليس المهم في الشيء الذي يقال يُقال (أو ماذا قيل) بل كيف يقال بها، وما “تريد قوله لا يكون في القول فقط بل في الطريقة التي تقوله بها”[21].
وقد حاول الجرجاني إظهار خصوصية كلام الله من حلال النظم الداخلي فيه. فالكلام تجل لنمط تفكير وإنتاج خاص للمعنى عند المتكلم، وهو الذي يميز بين كلام وكلام، يقول الجرجاني: “لا يثبت إعجاز حتى تثبت مزايا تفوق علوم البشر، وتقصر قوى نظرتهم عنها، ومعلومات ليس في متن أفكارهم خواطرهم أن تفضي بهم إليها، وأن تطلعهم عليها. وذلك محال فيما كان علما باللغة، لأنه يؤدي إلى أن يحدث في دلائل اللغة ما لم يتواضع عليه أهل اللغة”[22]. عبارة الجرجاني الأخيرة بأن القرآن “يحدث في دلائل اللغة ما لم يتواضع عليه أهلها” يعني وجود لغة خاصة به تقف وراء نظمه الخاص، والتي لا بد من الكشف عنها وعدم الاكتفاء باللغة العادية للوصول إلى مراد الله الذي لا يظهر من المعنى اللفظي للقرآن بل من خلال معنى معناه، يقول الجرجاني: “فها هنا عبارة مختصرة وهي أن تقول المعنى ومعنى المعنى؛ تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ، والذي تصل إليه بغير واسطة، وبمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر”[23]. فالمعنى الأول هو ما يتبادر إلى الأذهان وفق الطرق المتعارفة للتعبير، أما الثاني فهو المعنى المُستنبط أو المُدرك بعد اكتشاف منطق خاص لإنتاج الكلام يذهب إلى ما هو أبعد من المعنى المألوف.
هذا يشير ولو إشارة بعيدة، إلى وجود لغة ثانوية أو عُلوية ذات منطق وقواعد تتفرد بهما بنية النص الديني، ويختص بهما انسياب المعنى وتدفقه داخل النص. ولا تكون تلك اللغة مُلغية للغة الأصلية، بل تكون الأولى بمثابة المادة الخام للثانية وفي موقع المعطى البديهي الذي تُتلقى فيه كافة إجراءاته وإحالاته باعتبارها ركيزة بناء للتكوين اللغوي الأعلى. وعليه فإن تعالي النص القرآني وخصوصيته ليستا فقط في المعنى المستقى منه أو في الصور البيانية التي جهد العرب في وضع قوانينها واكتشاف محتملاتها في النص القرآني، بل هي أيضاً في نظام لغة القرآن ومنطقها الذين يتحكمان في إنتاج النص القرآني نفسه ويحددان الطريقة التي يوصل الله بها معناه ومقصده، بل يرسم الكيفية التي ينتج أو يخلق الله فيها المعنى لنفسه ولغيره.
يكاد الجرجاني يكون مؤسس علوم اللغة الدينية من خلال إشاراته بلا اعتيادية اللغة وأن الكشف عنها يتطلب نظراً وتفكراً بما وراء اللغة اليومية التس نستعملها. بيد أن ربط الجرجاني النظم القرآني بالإعجاز، حال دون الكشف عن كامل مواصفات وخصائص هذا النظم، بحكم كونه فعلاً غيبياً صادراً عن جهة عليا لا سبيل إلى معرفتها. وهذا ما يثبر في عمل الجرجاني شبهة الدور، إذ لو كان النطم القرآني ممتنعاً على المعرفة فكيف عرف الجرجاني به وقرر أنه معجز، وإذا كان النظم مما يمكن معرفته والوقوف على حقائقه فلا يعود أمراً معجزاً لأن كل ما يمكن للإنسان معرفته يدخل ضمن مجال قدرته على إنتاج مثله.
وقد أشار محمد أركون إلى أن اللغة الدينية، عبارة عن صياغة خاصة لمجال نشاط خاص لم توضع اللغة الاعتيادية من الأساس للتعبير عنه أو استيعاب حقائقه وتوصيل معانيه. يقول أركون: “اللغة الدينية هي مجمل التظاهرات والصياغات المعبرة للروح الدينية (من حركات وكلام وشعائر ثم فيما بعد من كتابة)، التي تترجم الروح بواسطتها علاقتها بالمطلق الذي تعيشه وتخون هذه العلاقة أيضا”. فاللغة الدينية هي تعبير خاص عن مجال علائقي خاص يتمركز حول علاقة البشر بالمطلق. ويرى أركون أن لهذه اللغة خصوصية، لا يمكن الدخول عليها من قواعد ومبادئ اللغة الاعتيادية، بل هي مجال غير مكتشف إلى الآن، وما تزال “تنقصنا الألسنيات وعلم الدلالات الملائم (سيميوتيك) من أجل أن نحلل بدقة لغة كهذه. إن اللغة الدينية تدعونا لأن نقرأ ونعيش هذه العلاقة التي تتجاوزنا والتي تربط بين الأسطورة-المقدس-الخارق-للطبيعة-العجيب-المدهش-الغيب الخاص بالكائن المطلق”. وبناء على ذلك يستنتج أركون أن “للغة القرآنية سيميائيتها الخاصة على مستوى بنيتها الكلية، أو على مستوى مخاطبتها للوعي الكلي عن طريق القلب أو اللب والشعور من جهة أخرى، لكن الأهم من ذلك أنها تحول العالم إلى علامة دالة على المطلق، علامة كلية متجزئة إلى مجموعة من العلامات الفرعية (الآيات)، حيث تحيل اللغة القرآنية إلى بنية العالم تلك عن طريق خلق حالة من الإبهار في وعي المتلقي أمام معجزة الخلق التي تتجاوز الإنسان.”[24].
بناء على ذلك ينفي أركون إمكانية اختزال اللغة الدينية إلى مجرد لغة عادية كبقية اللغات، أي باعتبارها لغة توصيل أو لغة أدبية. بل يرى أن خصوصية اللغة الدينية تتجلى في تجاوزها للغة التوصيل، لأنه عندما “يصلّي شخص ما بلغة دينية معينة، سواء أكانت لغة القرآن أم التوراة أم الإنجيل أم أية لغة أخرى، فإنه لا يعبِّر بواسطة الكلمات التي يلفظها بقدر ما يعبِّر بواسطة الطقوس والشعائر التي تخلق مجموعة من الحقائق الدالة، والتي لا يمكن للدارس المحلل أن يتجاهلها إذا ما أراد أن يأخذ بعين الاعتبار كل مستويات الدلالة والمعنى الخاصة باللغة الدينية”. كل ذلك يستدعي بنظر أركون البحث عن “ألسنية جديدة خاصة باللغة الدينية ينبع من ذلك الإحساس بالحاجة إلى إعادة ترميم الثيولوجيا التي فقدت مكانتها نتيجة هذا التنازع على المشروعية من جهة، والاعتماد على منهج علم أصول الفقه التقليدي من جهة أخرى”. حيث كانت مشكلة الفكر الأصولي بنظر أركون، أنه يتصور أن بإمكانه فك شيفرة اللغة الدينية اعتماداً على علم النحو العربي وعلم المفردات والبلاغة وعلم المعنى، وهي، برأي أركون، “أدوات غير كافية على الإطلاق.”[25] وعدم كفايتها نابع من أنها تجعل من قواعد الكلام الاعتيادي ووسائل التعبير عند العرب، مرجعاً حصرياً في فهم وتفسير القرآن الذي يتناول عوالم غيبية ويؤسس لمناطق وعي لا يمكن للتعبير الاعتيادي استيفاء أوجهها ونقل حقائقها.
بداية التعرف إلى نص ديني ما، هي في التعرف إلى اللغة ألتي أُنتج فيها، والمنطق الذي يتحكم في تراكيبه ونظمه وصياغاته، وفي نظام العلاقة الخاص الذي جمع بين اللفظ والمعنى فيه. وهو المبحث الذي يعرفنا إلى مفارقات اللغة الدينية، ويظهر خصوصية النص الديني التي تميزه عن نصوص الشعر والعلم والأدب والرواية والنثر وغيرها.
كان هناك محاولات عدة في تفسير مفارقات اللغة الدينية وتصوير منطقها، سنذكر أهمها تباعاً.
**********
- رمزية اللغة الدينية
القول بأن اللغة الدينية لغة رمزية، طرح اشتهر به بول تيليش[26]، الذي ميز بين العلامة والرمز اللذين يشتركان في الإشارة إلى شيء ما وراء الذات، مع فارق أن العلامة تدل على ما يقال بالوضع الاعتباطي، في حين أن الرمز يشترط فيه “النية والقصد” ويشارك في المعنى الذي يشير إليه. فالعَلَم الوطني مثلا، يشارك في قوة وكرامة البلد الذي يمثله، ما يعني أن هنالك صلة باطنية بين الرمز والحقيقة المرموز إليها. كما أن الرموز ليست مؤسسة اعتباطاً، كما في العلامات المتعارف عليها، بل تنمو خارج الوعي الفردي والجماعي، ولديها دورة حياة خاصة بها ومسار ذاتي في نهوضها وانحدارها وموتها، وتفتح بداخلها “أبعاداً جديدة من روحنا ومستويات من الحقيقة كانت بدونها مغلقة علينا”[27].
ولما كان الاعتقاد أو الإيمان الديني، بحسب تيليش، هو حالة من الاهتمام المطلق، فلا يمكن لهذا الإيمان أن يعبر عن نفسه إلا بعبارات رمزية فقط، بحيث لا يكتفي التعبير الرمزي بالإشارة إلى ما وراء الذات المعبرة، بل يكون الرمز نفسه، بما يختزنه من دلالات عميقة وإثارات وجدانية، شريكاً حقيقياً للمرموز إليه، ما يعني أن لغة الإيمان، وبالتالي اللغة الدينية، هي لغة الرموز.
ويؤكد تيليش أننا حين نتكلم عن المطلق، لا يمكننا استعمال لغتنا البشرية حرفياً، أو بنحو تماثلي، لأن عباراتنا تستقى من تجربتنا البشرية المحدودة، ولا يمكن انطباقها بشكل لائق على الله. فتجربة الاختبار مع المطلق، هي استجابة لمعطيات وراء حسية وفوق أخلاقية، في حين أن اللغة المألوفة نتاج تاريخي لتفاعل الإنسان مع الطبيعة والمجتمع، ما يعني عجز هذه اللغة عن التعبير عن تجارب الغيب والماورائيات، ويعني أيضاً ضرورة وإلحاح الحاجة إلى ابتكار لغة أخرى موازية للغة المتداولة، تكون قادرة على تلبية التفاعلات الروحية وعلى خلق الصور المناسبة لها[28].
فالاتصال بالله ليس غرضه تحصيل معارف وامتثالات فقط، بل هنالك وظيفة وراء معرفية، لا يعبر عنها إلا بطريقة رمزية، لا تهدف إلى توليد تَمثُّلٍ أو إدراكٍ أو الإشارة إلى أشياء خارجية، بل تهدف كما يقول راندال، إلى أن تفعل فعلها الخاص والغريب، بأن “تحرك المشاعر وتدفع الناس للعمل والفعل، وتقوي التزام الناس العملي لما يعتقدون أنه حق، وتخلق بنية تضامنية تشد المجموعة بعضها إلى بعض عبر استجابة جماعية ومشتركة لرموزها، وتوصل قيم وتجارب الاحتكاك بالجانب الآخر من العالم الذي يمكن تسميته بالبديع المدهش”[29]. هذا الموقف، يقترب أيضاً من مقاربة رودلف أوتو للغة الدينية التي هي للتعبير عن العلاقة مع “الغامض المدهش” (Mysterium Tremendum)، الذي لا ندركه بعقولنا بل بأحاسيس روحية تثير فينا أحاسيس الرعشة ومشاعر النشوة، وهي تجارب صافية لا يمكن التعبير عنها بلغة اعتيادية، بل الطريق إلى إيصالها وتوصيلها هو الإشارة أو الرمز، يقول أوتو: “مع التجربة بالمقدس (Numnous) والوعي بالآخر الكلي (Wholly Other)، تهرب العبارات اللغوية، ويكون السبيل الوحيد هو في توظيف عبارات رمزية ذات طبيعة مفارقة ولامنطقية”[30].
السمة الرمزية للغة الدينية، يفترض ضرورة وجود نظام رمزي، أو بناء لغوي ذي طبيعة أسطورية مواز للغة الاعتيادية وغير مفارق لها، يشترك معها في كلماتها وعبارتها، لكنه يحيل إلى دلالات أخرى لا يحويها معجم اللغة، ولا يمكن الكشف عنها إلا باللغة الأسطورية الخاصة بكل مجتمع أو أمة[31]، حيث كشف الدرس الأنتربولوجي، أنه لا يوجد مجتمع بلا أساطير أو رموز تأسيسية، يتمثل من خلالها العالم ويُؤوله. فالرمز أو الترميز بعدٌ من أبعاد المتخيل الإنساني، وجزءٌ من تركيبة الفرد والجماعات النفسية، التي تتيح لنا، بعد الكشف عنها، فهم الآليات العميقة لكيفية اشتغال المجتمعات البشرية وحركيتها، واستيعاب حقيقة ثقافتها، التي هي ليست خزاناً من المعلومات والمعارف، بل نظام سيميائي، يشتغل بواسطة الرمز، لمد النصوص بالنماذج الشكلية لتركيب رؤيته وفهمه للعالم الظاهر والخفي[32].
وقد رأى بول ريكور، أن صورة الرمز، ورغم أنها منتزعة من العالم الحسي، فإنها تقوم على لغة شعرية لتتمكن من اختراق التاريخ وتجاوز خصوصية الظرف إلى عالم العموم والمطلق. وهو ما يجعل الرمز يقوم على بنية المعنى المزدوج، ففي داخل الرمز شيء لا دلالي، بقدر ما فيه شيء دلالي، أي أن “الرمز يجمع بين بعدين، أحدهما لغوي والآخر في مرتبة غير لغوية.. نحن نتحدث عن رموز مزدوجة المعنى أو رموز ذات معان أوائل ومعان ثوان…يرى مؤرخ الدين فيها (المعاني الثوان) وسطاً لتجليات المقدس و إشراقات القدسي”[33]. فنحن لا نرى في الرمز دلالته الأولية، بل دلالته الثانوية التي هي الوسيلة الجيدة للدنو من “فائض المعنى” أو “معنى المعنى”[34]. إذ إن الرمز، يقول ريكور، “يتردد على الخط الفاصل بين الحياة واللوغوس، ويتحقق في نقطة التجذر الأولى للخطاب في الحياة لأنه يولد حيث يتطابق القوة والشكل”[35]. إنه لغة الحياة العميقة الساعية للتمرد على رقابة اللغة اليومية، ومجال الروح التي تفيض بالمعنى حين تسعى لاختراق حجب الحس، وإقامة محطة اتصال وجسر عبور إلى اللامحدود. إنها لغة الخطاب الديني.
لغة الرمز، لا تعني، كما قد يتصور البعض، أنها تقتصر على ساحة التصوف والعرفان، بل هي، بحسب هذه الاتجاهات، مجال تواصلي آخر، ذو منطق مختلف، يكون فيه للكلمة معجم آخر غير المعجم التداولي، ويكون للتركيب أيضاً خصوصية ومرونة تمكنانه حتى من انتهاك قواعد التركيب والتأليف المتبعة في لغة مخصوصة. كل ذلك ليؤكد أن ميدان الاتصال والتواصل الديني، سواء أكان في الوحي أو في التسامي الروحي، ليس حدثا لغويا صرفاً، بل هو حدث ذو خصوصية وطبيعة خاصة لا يمكن للغة أن تحويه أو تختزن دلالاته أو تكشف حقائقه، بل تزيده اللغة الاعتيادية احتجاباً، ويزيده ظاهر عباراتها غموضاً وانكفاءً.
من هنا، فإن اللغة الرمزية، لا تتقيد بالواقع المحسوس أو الملموس، بل تتعداه إلى خلق صورٍ عاطفيةٍ وروحيةٍ وذهنيةٍ تُولِّد إستجابات إنسانية عميقة في العلاقة مع الحقيقة العليا (Ultimate Reality). لذلك لم يجد جون هيك، ضيراً من استعمال اللغة الرمزية للتعبير عن الحقائق الدينية، لأنها الوحيدة القادرة على نقل واقع متخيل أو مُتصوَّر يتعدى الواقع الحسي ولا يكتفي بنقل حقائقه بل يأتي قادر على إحداث مفاعيل نفسية وروحية خاصتين في المخاطب لا تتوفر في الخبر والنبأ العادي. فاللغة الرمزية لا تكتفي بنقل الحقائق فقط، بل تنقل معها التفاعلات والانعكاسات المطلوب إحداثها في الناس. إنها لغة قادرة على اختراق حدود الزمان والمكان، لتصبح أداة طيِّعَة في إطلاق كل إمكانات الروح في توقها الذي لا يشبع نحو اللامتناهي[36].
وقد تناول وحيد السعفي مفهومي “العجيب والغريب” في كتب تفسير القرآن، متخذاً من تفسير ابن كثير أنموذجاً، ليجد أن عالم العجيب والغريب ليس في نهاية الأمر شيئاً آخر غير تصوُّرٍ للمخلوقات والموجودات وإدراك للمحسوسات وتطلع إلى الغيب تأتي كلها مصوَّرة تصويراً فنياً في قصص مختلفة، منها الخيالي ومنها الميثي ومنها الديني، تساهم جميعاً بقسطها في تقديم الفكر ومظاهر تطوره ورسم ملامح المخيال وعناصره الفاعلة[37]. أي أن العجيب والغريب والخلاب في القرآن، لا يمكنه تقديم نفسه إلا بصيغ فنية ذي طبيعة رمزية، وداخل بنية تفكير أسطوري.
ويشير محمد أركون إلى الفضاء الأسطوري للنص الديني، القابع وراء قواعد اللغة العادية، والذي لا بد منه لتحقيق فاعلية النص. “فكل نص مغلف بأسرار ويخلق حوله أساطير . وبهذه الكيفية فإنه يخلق في الوقت ذاته طقوساً وإجراءات تبرمج قراءته من خلال جو سحري ساهمت في صياغته القراءات المتعاقبة، واشتراطات الحالات النفسية والروحية للقراء”[38].
ويشير الطباطبائي أيضاً، صاحب تفسير الميزان، إلى رمزية الكثير من المفردات والعبارات القرآنية، والتي لا يمكن فهمها بوسائل الكلام العربي الاعتيادي. يقول طباطبائي: “ومما يجب أن يعلم أن الحديث كمثل القرآن في اشتماله على المحكم والمتشابه، والكلام على الإشارة والرمز شائع فيه، ولا سيما في أمثال هذه الحقائق: من اللوح والقلم والحجب والسماء والبيت المعمور والبحر المسجور ، فمما يجب للباحث أن يبذل جهده في الحصول على القرائن”[39]. فوجوب “بذل الباحث جهده في الحصول على القرائن”، إشارة من الطباطبائي إلى وجوب البحث عن نظام دلالي آخر، قادر على الكشف عن معاني هذه المفردات وفهم حقائقها، بعد أن عجزت اللغة المألوفة عن فك ألغازها. وقوله “والكلام على الإشارة والرمز شائع فيه”، تلميح إلى أن اللغة التي أنتجت القرآن واستعارت مفرداته وركبت جمله، هي لغة رمزية، ذات منطق وقواعد إنتاج خاصة ، تفارق اللغة العادية رغم أنها كامنة في داخلها.
كذلك يشير بسام الجمل، في كتابه “مناسبة النزول”، إلى أننا نجد في أخبار أسباب نزول الآيات القرآنية ما يشير إلى اندراجها في باب المتخيل، الذي هو مبحث من مباحث الأنتربولوجيا الرمزية، والتي “موضوعها هو هذه المنطقة من اللغة التي نسميها الرمز وهو محل دلالات متعددة تعبر عن نفسها من خلال الأديان والميثولوجيا (علم الاساطير) والإدراك التخيلي للكون”.. ولهذه اللغة معقوليتها ومنطقها الداخلي، تتصل بعمل الذاكرة الجماعية لمجتمع ما، ولها علاقة بالأسطورة التي هي نظام رمزي له سمة الكلام الملفوظ أو المكتوب، الذي يرد أحيانا في شكل نظام سيميائي ثان قائم على نظام لغوي أول هو اللغة الطبيعية[40]. وفي هذا أيضاً التفاتة مهمة إلى ضرورة التعرف إلى الفضاء الميثي الذي لا ينحصر في كونه تمثلات سحرية للعالم، بل هو أيضاً نظام سيميائي وميتا-لغوي، يشكل واسطة لتركيب صور العالم الغامض، وطريقة للتعبير عنه.
تمثل المقاربة الرمزية-الأسطورية للغة الدينية، خطوة أكثر تقدماً وتطوراً من مقاربة الحمل التماثلي، لأنها لا تكتفي ببيان طريقة استعمال الكلمة خارج فضاء دلالتها المعجمية، بل تحيل دلالة الكلمة والجملة والعبارة والنص الديني بمجمله، إلى مخيال جمعي ذي تصور خاص للمعنى، وإلى نظام تركيبي خاص وفضاء دلالي مواز للدلالة اللغوية الاعتيادية، وهو البنية الاسطورية الكامنة داخل ثقافة كل مجتمع أو شعب أو أمة. وهي بنية لا تزاحم اللغة الاعتيادية في حركة توليدها للمعنى والتعبير عنه، بل هي نظام تركيبي خلفي وطبقة دلالية كامنة في كل استعمالات اللغة، تعكس مستويات المعنى المقصود وغير المقصود داخل العبارة والخطاب والنص، وتنقل عبر القول مكونات معنى لا يقصد المتكلم نقلها بوعي وقصد منه، بل تحركها بنيته الثقافية وتطلعاته فوق الحسية.
مشكلة هذه المقاربة، أن إحالة اللغة الدينية إلى الاستعمال الرمزي أو الأسطوري، يُفقد النص الديني خاصية المباشرية والوضوح فيه، ويثير شبهة تعطيل صفة “المبين” في النص القرآني، التي توحي دلالاتها الواضحة والمباشرة، باستناد القرآن، في عملية الفهم والإفهام، إلى لغة التواصل العادية عند العرب. إلا أن هذه المشكلة يمكن حلها، بالقول بوجود أنظمة متوازية أو متراصة، يحيل كل نظام فيه إلى فائض دلالي خاص به. فالمباشرية والبيانية في القرآن، لا تلغي وجود مستويات أخرى من المعنى، ولا يمكن الولوج فيها إلا بالكشف عن أنظمتها وقوانينها ومرتكزاتها، وهي عملية ما تزال في بداياتها الأولى، لأنها ما تزال تصارع لانتزاع الاعتراف بها. فنحن نتحدث عن طبقات لغوية تكون أرضيتها الخام اللغة الاعتيادية والمعنى المألوف والمتداول، وتكون طبقاتها العليا مستويات من التعبير والمعنى أكثر تعقيداً وكثافة وأشد تأثيراً، قادرة على الإحالة إلى عالم لا محسوس وغير اعتيادي، لا تكتفي بالإخبار السلبي (المحايد) عنه، بل قادرة على خلقه في الخيال والأحاسيس وخلق تفاعلات روحية وإنسانية حوله.
********
- لعبة اللغة الخاصة بالدين
ينطلق مقترح لعبة اللغة، وهي فكرة لويد فتغنشتاين (Ludwig Wittgenstein)، من أن كل دين عبارة عن شكل من أشكال الحياة الذي يحمل معه لعبته اللغوية الخاصة به[41]. وهذا يعني أمرين:
أولهما أن الأغراض الخاصة بالدين هي غير الأغراض الخاصة بفاعليات اجتماعية أخرى، كالعلم والأخلاق. ومن الضروري أن تختلف المعايير والبناءات والتعابير التي تجد تطبيقها ضمن إطار الممارسة الدينية عن غيرها الموجودة ضمن الممارسة الأخلاقية أو العلمية. فالعلم مثلاً يتخذ غرضاً أساسياً له هو تفسير الظواهر ما يحتم عليه الاهتمام بالقضايا التجريبية، بحكم أن هذا النوع من القضايا هو المجال الذي يحقق العلم من خلاله أغراضه، ويعمل على إيجاد الطرق القمينة بإيصاله إلى معرفة صدق هذه القضايا وإيجاد المنهج الذي يمكن على أساسه تنظيم التجربة والملاحظة على نحو يجعل منها مصدراً موثوقاً للمعرفة العلمية. فالمعايير التي نتوقع أن تخضع لها الممارسة العلمية مرتبطة بالضرورة بالغرض الأساسي لهذه الممارسة ولا تجد تطبيقها إلا ضمن إطار ممارسة من نوعها[42].
كون الدين بنظر أتباع الإيمانية الفتجنشتينية غير العلم، فإن الدين لا يعنى بالظواهر، وبالتالي لا يجوز أن نتوقع أن تكون الاعتقادات الدينية ذات طبيعة مماثلة لطبيعة الاعتقادات العلمية، ولا يمكن للمعايير التي تجد تطبيقها ضمن إطار الممارسة الدينية أن تقرر في مجال آخر ما يمكن قوله وما لا يمكن قوله، أو ما يمكن الاعتقاد به وما لا يمكن الاعتقاد به، أو ما هو معقول وما هو غير معقول. تماماً مثلما أن معايير العلم، وللسبب نفسه، لا يمكنها أن تكون أساساً لتقويم الاعتقادات الدينية. فلا توجد معايير من خارج الدين لتقويم النشاط الديني أو نقد الدين بما هو دين. بل لكل فاعلية اجتماعية لعبتها المعيارية واللغوية الخاصة بها[43].
من هنا، فإن لكل فاعلية اجتماعية “منطقها” الخاص، بمعنى أنها تشكل نظاما مفهومياً مغلقاً ولا تخضع بالتالي لأي معايير من خارجها. يقول بيتر ونش: “ليست معايير المنطق هبة مباشرة من الله، بل إنها تصدر عن طرق الحياة وأشكال الاجتماع الإنساني، ولا يمكن أن تفهم إلا من خلالها…العلم مثلاً شكل من هذه الأشكال والدين شكل آخر، ولكل منهما معايير خاصة به بالنسبة لما هو معقول وغير معقول. لذلك يمكن أن توصف أفعال معينة ضمن العلم أو الدين بأنها منطقية أو لا منطقية.. لكن لا يمكننا أن نقول إن الممارسة العلمية أو الممارسة الدينية في ذاتها منطقية أو لا منطقية”[44].
القول بوجود منطق خاص للمجال الديني هو بمثابة تأكيد على أن للدين بصفته “فاعلية اجتماعية”، أغراضاً خاصة به ومعايير ولغة تختص به.
ثانيهما أن لكل دين تجربته الخاصة به، وبالتالي يحمل لغة خاصة به. ما يعني أن الأديان لا تتوحد في نظام معانيها أو حقائقها. فالمبادئ المتداولة في المسيحية مثلاً، كالتجسد وابن الله والثالوث والفداء، هي معان مستنبطة من صميم الحياة المسيحية التي استندت إلى الإنجيل والتقليد المسيحي الأول في بلورة لغتها ونظام دلالتها. ولا يمكنُ لأي من هذه المبادئ أن ينفي أو يؤكد أي مبدأ داخل دين آخر، لأننا نتكلم عن مرجعيات معنى مختلفة وعن منطق استعمال وتداول مختلف عن الآخر. فالمسيحي والبوذي، مثلاً، شخصان ينتميان إلى شعبين مختلفين، ولكل منهما تقاليد وأشكال حياة ولغة مختلفة عن الآخر، ولكل منهما معان ومبادئ تستمد حقيقتها من أشكال الحياة الدينية الخاصة داخل كل دين، وبالتالي لا معنى لتعارضها أو تناقضها أو تنافسها طالما أن لكل من هذه الحقائق مرجعية وفضاء دلالياً مختلفاً عن الآخر[45].
هذا يدفعنا إلى استنتاج أن، المبادئ المقترحة في كل دين هي مختصة به فقط ، وتكتسب كل فكرة معناها من النظام الدلالي لدين معين ومن سياقاته التاريخية الخاصة، وتكون جزءاً من خطابه الخاص. لذلك لا يوجد دينان يوظفان نفس المبدأ، ولا يوجد دين ينفي بحقائقه حقائق الأديان الأخرى. فالمسيحية لا تقول إن الله ليس رحيما، والإسلام لا يقول أن إتمان ليس برهمان، لأن كل حقيقة تعيش داخل فضاء معرفي ونظام دلالي خاصين بها، ولا تملك صلاحية نفي أية حقيقة داخل فضاء معرفي ونظام دلالي آخرين[46].
رغم جاذبية هذه النظرية في حل معضلة التعارض بين حقائق الأديان، إلا أن و. أ. كريستيان (W. W. A. Christian) يُبين في كتابه “المعنى والحقيقة في الدين” أن هذا حل شكلي وظاهري فقط، وأن التناقض ما يزال حاصلاً بين هذه الحقائق على مستوى المضمون والواقع، مهما تعددت او تنوعت مرجعيات المعنى ولعبة اللغة بين الأديان. فالأجوبة التي تتداولها الأديان، تتعلق بأسئلة كونية تطال اهتمام كل البشر. ذلك أن كون ادعاءات الأديان، أجوبة عامة على أسئلة عامة، يجعل تعارض الحقائق بين الأديان مستقراً، ولا يمكن حله بفكرة لعبة اللغة أو النظام الدلالي الخاص أو التعريف الخاص، لأن هذه الحقائق تشير إلى وقائع وقضايا عامة، تتعدى الفضاء الخاص في كل دين. هناك لغة أعم، هي لغة الوجود والواقع، وهي لغة مشتركة لا يمكن تجاوزها، ويكون التناقض في الحكم عليها، تعارضاً حقيقياً ومستقراً[47].
وبالجملة فإن لعبة اللغة، تمثل أيضاً خطوة أكثر تقدماً ومرونة من المقترحين السابقين، لأنها تحيل اللغة الدينية، التي من ضمنها لغة الوحي، إلى الفضاء الثقافي الخاص بكل ملة دينية. فاللغة الدينية منتوج ثقافي خاص داخل المجتمع، له قوانينه الخاصة واستراتيجياته الخاصة في توليد المعنى والتعبير عنه. ورغم ذلك فإن هذه المقاربة لا تحل معضلة اللغة الدينية، إذ إن اللغة الدينية بحسب هذا المبنى هي نتاج الدين الجديد نفسه، في حين أن بحثنا يتعلق باللغة التي أنتجت هذا الدين، وشكَّلت فضاءه الروحي والثقافي. فلغة النص هنا تتقدم على النص بل تتقدم على الدين الجديد نفسه، الذي يمكن اعتباره نتاجاً من نتاجات تلك اللغة. في حين أن اللغة بحسب فكرة لعبة اللغة، هي ثمرة أو محصلة لاحقة ومتأخرة عن تشكل الدين وتجذره.
وقد أكد جون غايبل في كتابه “الإنجيل كنص أدبي” على أن النص الديني لاحق على الفضاء الديني المستمر والمتدفق في التاريخ، والذي يحمل معه قواعد تفكير وصياغات خاصة للمعنى الديني، تكون بمثابة اللغة العميقة المنتجة للنص الديني، والرحم المولدة للدين الجديد. يقول غايبل: “في الفهم المشهور فإن الإنجيل هو مصدر الدين. لكن حقائق التاريخ تقول العكس: الدين هو الذي خلق النصوص وليس العكس. كان هنالك دين لإسرائيل قبل أن يكون هنالك كتابات مقدسة. وكان هنالك كنيسة قبل أن يكون هنالك نصوص مسيحية مقدسة. صحيح أن هنالك من تأمل الإنجيل ثم أسس ملته الخاصة على هذا الأساس، ولكن هذا لم يحدث في الفراغ”[48]. فما نبحث عنه لا لعبة اللغة التي ينتجها الدين الجديد من داخله، بعد مراكمة تجاربه واختباراته وأرصدته، بل لعبة اللغة التي أخرجت هذا الدين الجديد إلى الوجود، أي لعبة اللغة الدينية السابقة، التي هي مزيج من التجارب وتقاطع سياقات دينية مختلفة فوق أرض الجزيرة العربية، التي شكلت بمجموعها، ليس الشرط التاريخي لانبثاق الدين الجديد، بل الأرضية الثقافية والمرجعية اللغوية لتشكل نصوصه المقدسة.
*******
-
مجازية اللغة الدينية
مقاربة مجازية اللغة الدينية، هي لبول ريكور، وتنطلق من القول بأن اللغة الدينية ليست بحاجة إلى أن تستند إلى لغة من خارج اللغة الاعتيادية أو من نظام لغوي مواز، أو كامن داخل اللغة اليومية، بل إن اللغة اليومية تمتلك بنفسها، مرونة وكفاءة كافيتين للتعبير عن معان ودلالات غير حسية وعلى توليد صور تشير إلى المتعالي من دون الجهد في تجاوز ما تبيحه اللغة من استعمالات وطرق تعبير.
وهذا يتحقق من خلال المجاز، الذي يتجاوز المعنى الحرفي، ويهب اللغة، في استراتيجيات تركيبها للالفاظ وتوليدها للمعنى، قدرة على الإشارة إلى المعاني والحقائق العلوية غير الحسية وغير النابعة من التجارب اليومية الحياتية، وعلى جلب مستويات جديدة من الحقيقة لا يمكن إدراكها أو تصورها أو حتى الإشارة إليها بالتعابير المباشرة[49].
فنحن هنا لا نتحدث عن نظام لغوي مواز للغة الاعتيادية، بل نتحدث عن نظام لغة واحد يتسع لكل مجالات التعبير والتصور، ويغطي عالمي الشهود والغيب، لأنه يملك في داخله مرونة وسعة وشمول كافيين للتعبير عن مجالات الاهتمام الإنساني كافة. ولعل هذا يحل معضلة الثنائية في التعبير، أو الحديث عن دائرتين متنافستين للكلام ونظم التعبير، فالنظم واحد وقواعد ومبادئ التعبير موحدة، وهي قادرة على خلق تصورات لعالم الغيب وعالم الحضور، مع فارق تقني وفني في التعبير عن كلا العالمين داخل النظام اللغوي الواحد، وهو الفارق بين تقنية الحقيقة والمجاز. فالفارق بينهما ليس مجرد فارق شكلي وتزييني يطرأ على الكلام بعد اكتماله، بل هو فارق في أغراض الكلام نفسه ووظائفه ودلالاته وحقيقة مدلولاته.
وينبه ريكور، إلى أن المجاز ليس مجرد طريقة لزخرفة الخطاب وتزيين الأحاديث، كما كان يصور في الفكر اليوناني (أو حتى البلاغة العربية). بل هو، أي المجاز، طريقة جديدة لإدخال معاني جديدة وغير مألوفة إلى اللغة، كما في اللغة الدينية المليئة بالاستعارة والمجاز. فوظيفة المجاز تتجلى في أنه صراع بين كلمتين، عندما يتم استعمالهما بطريقة لا تعكس معناهما الاعتيادي، يحدث صدمة عند القارئ، ويدفعه إلى البحث عن معنى جديد لتلك الكلمات يحيل إلى تجربة جديدة ومختلفة عن المعنى الحرفي. وهذا يشبه موقف أرسطو الذي رأى أن الشعر لا يصف الحقيقة بل يعيد إنتاجها ويسمح بانبثاق معنى جديد. فما تقدمه اللغة الدينية عبر المجاز، ليس أشياء أو حقائق، فهذه تتناولها التقنية العلمية، ولكن عالم الحياة والأشخاص والجمال والحب والمشاعر والقيم، وهذه حقائق تبقى غير معبر عنها ما لم تُقدَّم بصيغ وتراكيب مجازية[50].
نحن لدينا أفكار أكثر مما لدينا كلمات نعبر بها، كما يقول ريكور، ولا بد أن “نبسط دلالات الكلمات التي لدينا إلى ما يتخطى حدود الاستعمال اليومي ونختار أن نستعمل كلمة مجازية لكي ندخل السرور أو الفتنة إلى قلوب المستمعين”. فالاستعارة عند ريكور تمثل فائض المعنى الذي وظيفته انفتاح النص على عوالم جديدة وطرق جديدة للوجود في العالم، وهي لغة تتجه إلى المستقبل لتبشر بطريقة وجود في العالم لم تتح تجربتها بعد.
لهذا السبب، استطاعت اللغة الشعرية، كما اللغة الدينية، عن طريق المجاز، أن تلقي عن كاهلها بعض القيود المعجمية، وأن تتحرر من القيود النحوية والأسلوبية، بل تتحرر من كُلِّ من اللغة اليومية واللغة العلمية، ليصبح العالم الشعري أو الديني مشروع تدمير للعالم الذي نسلم به اعتيادياً ويومياً. فاللغة الشعرية، كما اللغة الدينية، وبوصفها قلباً للغة اليومية، لا تتجه للخارج بل تتجه إلى الداخل، لتنقل إلى اللغة طرق وجود وعيش جديدة في العالم. من هنا فإن المجاز عبارة عن استعمال مفردات قديمة تلتحم فيما بينها بعلاقات جديدة ومبتكرة، وهذا ما يحقق الغرابة ويخلق السحر ويُمكِّن المتكلم من نقل عالم مغاير للعالم الذي نألفه ونتحسسه. لذلك فإن مجازية اللغة الدينية، ليست لغرض تنميق الكلام، إنما تمثل تلك النوعية التي تنعش الفكر والتي يقوم بواسطتها بفصل صورة أو موضع متداول من سياقه المعتاد ليخلق منها أو منه شيئاً جديداً.
أشير هنا إلى وجود كلام مماثل للطباطبائي في تفسيره “الميزان” حول أسلوب القرآن في اعتماد المجاز والاستعارة. حيث اعتبر أن المعارف الدينية المتعالية هي معارف “مبهمة ومطالب دقيقة” لا يمكن أن يعبر عنها باللفظ الصريح، الذي ميدانه دائرة “الحسيات” و “الجسمانيات”، فيكون السبيل الوحيد لإيضاحها بإيرادها بأسلوب “القصص والأمثال والأمثلة الكثيرة”، ولما كان القول الواحد يضيق عن استيفاء حق هذه المعارف، فقد استلزم إيرادها بأكثر من مثال وأكثر من تعبير و”بتفريق المعاني الممثل لها إلى أمثال مختلفة وتقليبها في قوالب متنوعة حتى يفسر بعضها بعضا ويوضح بعضها أمر بعض”[51]. فأسلوب الأمثال، الذي لا يخلو من استعمال الاستعارة والتشبيه، قادر بحسب الطباطبائي على افتتاح عوالم أخرى، ما كان بإمكان الكلام العادي إثارته أو توصيله.
وقد كان استعمال المجاز في القرآن، محل اهتمام كبير عند المسلمين، ومدخلا للتعرف إلى خصوصيته التي تجعل كلامه يتميز عن كلام البشر. فنجد الباقلاني مثلا، في كتابة إعجاز القرآن، يقارن بين أسلوب القرآن في التشبيه والاستعارة والتمثيل من جهة وكلام كبار شعراء العرب من جهة أخرى، ليتستنتج إعجاز القرآن وألوهية مصدره[52]. وتجد الجرجاني يرى أن نظم القرآن “يحدثان بالاستعارة والكناية والتمثيل وسائر ضروب المجاز، وبهما يكون الإعجاز”[53]. إلا أن عناية العرب بمجاز القرآن لم تكن من الوجهة التي صوَّرها ريكور، التي هي لغرض التعرف إلى فائض المعنى الذي يحمل النص، والكشف عن العوالم الجديدة التي يفتتحها باستعماله المجازي للكلام، بل تركزت عناية العرب على براعة القرآن في التعبير عن المعنى، ما يعكس عناية العرب عموماً باللفظ على حساب المعنى، التي يمثلها قول الجاحظ وآخرين بأنه، “ليس الشأن في إيراد المعاني لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي، وإنما هو جودة في اللفظ وصفائه وحسنه وبهائه..”[54].
********
- اللغة والدينية والسلطة الاجتماعية
دينية النص الديني وقداسته نابعتان من سلطة الاجتماع. هذا ما يقوله كوفمان. أي أن دينية نص ما ترتكز على شيء من خارج النص، يجعل منه نصاً دينياً مهما كانت لغته وطبيعة الداخلية. هذا الشيء هو سلطة القبول الاجتماعي، ونظام الرقابة الخاص بالمجتمع، الذي يحيل نصاً ما نصاً مقدساً. وهذا يشبه إلى حد بعيد فكرة الإجماع عند المسلمين في ثبوت نص معين وتنزيله منزلة المقدس. يقول كوفمان: “ما يجعل عملاً أدبياً نصاً دينياً هو أنه يُقبل بنحو ملزم…وما يميز النص الديني هو أنه يُقبل ويتبنى بوصفه نصاً ذا سلطة من أية جهة ككنيسة أو جماعة.. والذي يجعل أغنية من الأغنيات نصاً مقدساً وليس نصاً أدبياً أو شعرياً هو أنه اعتبر مقدساً من قِبَل اليهود ثم من قِبَل المسيحيين… قبول النص الديني هو أن نفترض أن لديه شيئاً مُهِماً يقوله لنا.. فأن تقبل نصاً دينياً ليس يعني بالضرورة أن توافق على مضمونه الديني أو الأخلاقي ولكن أن توافق أنه سيكون له سلطة عليك في حياتك”[55].
ما يعطي للنص سمته الدينية، بنظر كوفمان إذاً، ليس نظمه وبنيته الداخلية، لكن منحُ ثقافةٍ ما الشرعيةَ له، وفي حال حصوله على هذه الشرعية فإنه يصبح بالنسبة للقارئ أسطورة. هذا يعني أن النص الديني لا يملك خصوصية خاصة في التعبير والصياغة، بل يبقى ضمن دائرة التعبير البشري والطريقة المعهودة في إيصال المعنى، مع خصوصية تتعلق برسالته ومحتواه، ولا يصبح نصاً دينياً إلا من خلال مؤسسة اجتماعية أو دينية وعبر قبول جماعي عام. بذلك لا يعود للغة الدينية خصوصية أو تمايز تقعيدي خاص، بل يتخذ موقعه عندما أتناوله من حيث هو نص ديني، وأتوقع منه أن يقدم لي إجابات عن أسئلة وجودية وحياتية كبرى، أو أن أتداوله من حيث هو نص ذو سلطة عليا تُلقي علي قولاً وتبلغني أمراً وجوديا.
ويبدو من كلام كوفمان، أن بنية النص أو استراتيجيات التعبير فيه لا تكفي لكي يكون النص دينياً، بل لا بد أن ينظر إليه باعتباره نصاً يحظى بالقبول والاعتراف العام، وتنصيبه صاحب سلطة للمعنى المتعلق بالحياة والوجود ومعاني الغيب. ولعل هذا يفسر سر التفاوت في تلقي نص ديني ما، بين من يؤمن به ويرضاه أن يكون مصدراً إلهياً، ومن لا يعترف به نصاً مقدساً، أو من يقصره على النص الأدبي أو الشعري أو التاريخي. فبدون القبول العام والنشوء التربوي على مرجعية نص ما وسلطته، لا يمكن لهذا النص أن يتخذ مكانته وحيزه القداسوي الخاص داخل المجتمع والأفراد. يقول برغسون في هذا المجال: “سئل رجل : لماذا لا يبكي عند سماع موعظة يبكي فيها كل الناس. فقال: لست من هذه الأبرشية.”[56]
هذا الجانب من قدسنة النص، يلفت النظر إلى المحددات الآتية من خارج النص، التي تجعل منه نصا دينيا ومقدساً، وهي القبول الجمعي الذي يشكل بذاته آلية لخلق القوة والمعنى الخاص في النص ومنحه وظيفة معينة. أي أن النص الديني من نتاج القصد الجمعي، الذي هو عبارة عن النحن التي تحلق فوقنا نحن الأفراد، والذي ينسب وظيفة للشيء ليست حاضرة في تكوينه الطبيعي[57]. إن الإقرار المتصل والقبول المتواصل على مدار حقب زمنية طويلة يمكن أن يخلق ويديما، كما يقول جون سييرل، واقع الحكومات والنقود والدولة واللغات وملكية الأملاك الخاصة والجامعات والأحزاب السياسية وآلاف المؤسسات الأخرى التي يبدو أنها لا تقل موضوعية من الناحية المعرفية عن الجيولوجيا ولا تقل رسوخاً عن دوام تكوُّن الصخور. ولكن مع انسحاب القبول الجمعي يمكن أن تنهار هذه المؤسسات فجأة كما شهدنا الانهيار المذهل للإمبراطورية السوفيتية في غضون شهور[58].
وعليه يمكن القول أن الفضاء الاجتماعي العام، في نظام قيمه وجهاز مراقبته، وإجرائيات ثوابه وعقابه، وسلطات الأمر فيه، يشكل مرجعية من خارج بنية النص نفسه، تسبغ عليه وظيفته الدينية ودوره القداسوي، الأمر الذي يجعل لبنية اللغة وطبيعة تراكيبها دوراً هامشياً في ذلك. يقول لوتمان: “الأدب مجموعة من النصوص المعترف بشرعيتها داخل ثقافة محددة. تشكل جزءاً من نظام الثقافة”[59]. لذلك مهما قيل عن استقلالية النص، فإنه يتشكل وينبني داخل فضاء ثقافي يُصَيِّرَهُ جزءاً من البنية الاجتماعية. فالثقافة هي التي تكرس النص وتعطيه شرعية دينية، لأن ما هو نص ديني في ثقافة ليس كذلك بالضرورة في ثقافة أخرى. وحتى في الثقافة الواحدة، نجد أن نصاً ما لا يكتسب شرعية في عصر معين، ولكنه يكتسب شرعية في عصر غير العصر الذي كُتِبَ فيه وعند قراء لم يُكتَب لأجلهم.
ظني، أن هذا الاتجاه لا يهدف إلى تهميش بنية النص وتركيبه وإيقاعه الداخلي، بل يهدف أن يشير إلى حقيقة كانت غائبة عن الوعي بحقيقة النص الديني، وهي حقيقة الاجتماع، ومؤسسات السلطة التي تمنح شرعية لنص وتسلخ شرعية عن نص آخر، ما يجعل للنص الديني، بالإضافة إلى وظيفته الدينية والروحية، وظيفة اجتماعية، تساهم في ترسيخ واقع ثقافي وسياسي وأيديلوجي معين، أو في الانقلاب عليه.
********
- اللغة الدينية نداء وجودي
ذهب البعض إلى القول أن اللغة الدينية ليست بالأساس لإلقاء الحقائق بل لتحقيق أهداف معينة. فاللغة تستعمل لما هو وراء عبارات الوقائع والحقائق، من قبيل التعبير عن المشاعر وإثارة أسئلة. أي هي لتخدم وظيفة معينة في الحياة الدينية. من قبيل كلمة وعد أو وعيد. العبارات الدينية تستوفي معناها باستعمالها لا بإلقائها حقائق وادعاءات. ولذلك قال فتشنغشتاين بأن معنى اللغة في استعمالها. وهذا ما قاله أوستن أيضاً الذي قال بأن اللغة الدينية ليست عقلية لكن تقوم بوظائف اجتماعية من قبيل القسم والعهد والبركة، وتسمية الأطفال. هي لغة لا تصف وضعية بل تسعى لجلب وضعية. وقد ذهب بريثوايت BraithWaite إلى أن اللغة الدينية لا تصف العالم ولكنها عبارات ‘أخلاقية ومعنوية” تصف مسلك المؤمنين تجاه العالم، أي إن اللغة الدينية دعوة ونداء لا من ادعاء حقائق[60].
اعتقد بريثوايت أن اللغة الدينية لها اهميتها لأنها تعرض طريقة حياة. فبدلا من أن اللغة الدينية تؤكد وحود الله، فإنها بمثابة اعتراف لما يشعره الإنسان ويعتقده. هذا يحعل اللغة الدينية تختلف عن اللغة التي نستعملها لوصف الموضوعات الفيزيائية لأنها تحتل لعبة لغة مختلفة، وبالتالي لا يمكن رفض اللغة الدينية واعتبارها خاطئة لأنها ليست تحريبية.
هذه الآراء جميعها، تذهب إلى القول أن اللغة الدينية ليست لغة كشف عن حقائق بل لغة اختبارات وجودية وتجارب معنى للحياة والعالم. وهو اتجاه اتخذ في الفلسفة والللاهوت منحى وجودي على أرضية فينومينولوجية، اعتبرت اللغة لا وسيلة تعبير بل مجال تحقق وجودي وفهم ذاتي للكينونة الإنسانية.
تجلى ذلك في مباحث غادامار الذي رأى أن اللغة أساس فهم الكينونة، واللغة ليست أداة تعبير بل مجال كينونة. أي إن اللغة لا نعبر من خلالها عن أفكارنا، بل هي فضاء لأصل الكينونة، بحكم أن الإنسان في حقيقته كائن لغوي، واللغة محال وجودـ نكتشف بها أنفسنا ونتعرف أو نصنع من خلالها كينونتنا.
هذا الاتجاه ظهر في مجال البحث الديني مع بولتمان الذي عبر في كتابه “المسيح والأسطورة” في العام 1941، ومن خلال منهجه الذي أسماه نزع الاسطرة، بالقول إن النصوص الدينية لا تقدم حقائق، وحقائقها غير واقعية، واللغة في أساسها أسطوربة. بالتالي فإن اللغة الدينية لا تقدم معلومات بل هي وسيط يواجهنا به الله لفتح إمكانية على فهم ذاتي جديد لكينونتنا ووجودنا. فالأساس في اللغة الدينية هو الإشارات الوجودية التي يواجهنا بها الله، وهنالك فرق بين اللغة التي تقدم معلومات خالصة وبين اللغة التي تقدم إشارات ولديها صلاحية الأمر بالطاعة. أي إن الله يواجه الإنسان بالكلمة، وباللغة التي تتكلم إلى الفهم الوجودي للذات. الله يلقي إلينا ما يريد لنعرف ذاتنا ونتعرف إلى خياراتنا الوجودية. إنه منطق الإعلان والبشارة، هو فعل تحيين للوعي. فعلينا بناء على ذلك رؤية اللغة في شهاداتها والاختبارات التي تقدمها لا في الحقائق التي تلقيها[61]. فالشهادة على صلب المسيح لا تهدف إلى تعريفنا يحقيقة أو حدث تاريخي حصل في زمن ما، بقدر ما هي دعوة إلى مشاركة وجودية في هذا الحدث، بحيث يكون إيماننا بصلب المسيح ليس في المعرفة والإقرار بأنه حصل في التاريخ، بل في المشاركة الدائمة بسلوك الصلب الذي مارسه واختبره المسيح.
وقد اقتفى أيبلينغ وفوخ (Ebling and Fuch) أثر بولتمان في تحليل الكلمة المعلنة من الله إلى الإنسان[62]. فركزا على اللغة بذاتها وجهة علاقتها بالواقع. فاعتبروا أن الوجود هو وجود بالكلمة وعبر الكلمة. فالأساس ليس في فهم اللغة ولكن في الفهم عبر اللغة أو الكلمة. هدف عالم الفهم ليس فهم اللغة لكن الفهم عبر اللغة. هذا يجعل من اللغة حدثاً تتحقق عبره ومن خلاله الأشياء، أي يجعل الواقع حدثاً لغوياً، فلا يعود التاريخ متحفاً للحقائق بل هو وقائع عبرت عن نفسها باللغة، ولا يعود سؤال الفهم: ماذا فهمنا من الحقائق، وكيف نشرح هذه الحقائق؟ بل يصبح: كيف تُعبِّر هذه الحقائق عن نفسها باللغة؟ وما هو هذا الذي يرغب بالوصول إلينا من التاريخ عبر اللغة والكلمة؟
******
- السمة التواصلية في اللغة الدينية
مهما قيل في لغة الوحي أو النص الديني، فإن هنالك سمة تواصلية في هذا الكلام، تعكس علاقة الإنسان بالله (وبالعكس)، تجعل نصاً معيناً نصاً دينياً. فليس كل نص نصاً دينياً ولو جعل كذلك في مرتبة الاجتماع والاعتبار، إلا إذا جاء في سياق التعبير عن تجربة العلاقة مع الله نفسه. كما أن العبرة ليست فقط في طبيعة التعبير أو تقنية الصياغة الحاصلة في النص، بل في الواقع التواصلي القائم بين الله والإنسان والذي يمر عبر وسائط متعددة، كالملاك جبريل والنبي والحواريين وغيرهم، في وصول كلام الله إلى البشر. ولذلك لا يمكن اعتبار دينية نص ما إلا حين نضعه في سياق تاريخ علاقة الله بالإنسان واتصاله به. فهنالك سياق خاص في علاقة الإنسان بالمتعالي، يأخذ أشكالا مختلفة في التعبير، وصوراً متعددة للمعنى، ما يعني أن النص الديني ليس مجرد حدث لغوي، بل هو حدث يجسد علاقة الله بالإنسان، وعلاقة الإنسان بالمطلق. إنه حدث تخاطبي وتواصلي يتوقع استجابة ورد فعل من المخاطبين والمتلقين.
تتبدى السمة التواصلية في النص الديني، لجهة أن الله، في حقائقه ومراده، ينكشف للبشر بالكلام، وأن الإنسان يتصل بالله عبر الكلام. أي أن الكلام المتقوم بالمتكلم والمستمع، هو المجال التواصلي المشترك بين الله والإنسان. ولعل هذا من أبرز سمات النص الديني الذي يفترق فيه عن غيره من النصوص. حيث لا يمكن تصنيف الكلام كلاماً دينياً، إلا حين يجيء في سياق قول الإنسان لله: تكلم حتى أعرفك، وقول الله للإنسان: هآنذا وهذه طريق نجاتك وخلاصك وهذه طريقي فاتبعها. بهذا المعنى فإن اللغة الدينية تجسد حضور الله في التاريخ، وتاريخ لغة الاتصال البشري بالله، التي اتخذت لنفسها حيزاً خاصاً وفضاء تركيبياً خاصاً داخل كل لغة.
هذا ما نلمسه في النص القرآني، الذي يصفه الفقيه أثناء عملية استنباطه للحكم الديني بـ “الخطاب”، وهو توصيف يوحي بتواصل قائم بين متكلم ومخاطَب. ولعل هذا ما يميز النص القرآني من غيره من النصوص الأخرى، هو أنه لا يلقي معارفه ويترك الخيار للمتلقين، بل يتوقع منهم استجابة ورد فعل معينين، ولا يعرض نفسه أمام القارئ بل يقيم معه حواراً ويدعوه إلى الدخول في عالمه. فنجد القرآن يُدين التلقي اللامبالي به، كما في الآية: “.. وقد آتيناك من لدنا ذكرا (قرآن) من أعرض عنه فإن يحمل يوم القيامة وزرا”(طه: 100)، والآية: “ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها..”(السجدة:22). ونجده يمدح الذين يتفاعلون معه، كما في الآية: “وإذا تليت عليهم آياتنا زادتهم إيمانا”(الأنفال:2). وهذه خاصية لا بد من مراعاتها في فهم طبيعة النص، حيث لا تكفي الإحالة إلى صياغته اللغوية ونظمه اللفظي، بل لا بد في فهم النظم اللغوي فيه من الإحالة إلى سياقه التاريخي ومجال حضوره الاجتماعي، فـ”كلام الله” لا يتقوم بنقل مراد الله فحسب، بل بخلق مجاله تواصله الخاص داخل فضاء الوجود الإنساني. ما يجعل اللغة التي يخاطبنا بها الله، حصيلة تاريخ العلاقة مع الله مبذ بدء الحياة، التي اتخذت أشكالاً وقواعد تعبير متعددة، وراكمت رصيداً من تجارب الحياة ومجمل الاختبارات مع الله.
******
- خاتمة
عالجنا في هذا البحث مسألة اللغة الدينية التي كانت منذ لحظة التفكر فيها محل جدل وإشكال. خاصة وأنها تعمد إلى تصوير الكائن البسيط بعبارات تركيب مصطنع، والجوهري بصفات عرضية، والإشارة إلى اللامحدود واللامتناهي بأدوات المحدود والمتناهي.
إنها ليست مشكلة اللغة الدينية فقط، بل مشكلة المعرفة الإنسانية نفسها، التي كانت اللغة وسيلة تعبيرها أو كانت اللغة فضاء نشاطها. هذه المعارف لا تملك التحقق من معارفها إلا في دائرة تجارب الإنسان اليومية والحياتية، وما وراء ذلك فتؤسسه على مفترض عقلي متخيل، وتعمد إلى تسخير فنون الاستدلال والإقناع لإثبات وجودها وتأكيد صحتها. لكنها لم تلتفت إلى أنها تبنى عالم غيبها من مادة حضورها وشهودها، وأنها كلما توغلت في حقائق الماوراء، كلما وقعت في مفارقات محرجة تصل إلى حد الجمع بين الشيء ونقيضه.
هذا المنحى ولد موجة تشكيك في أصل المعارف الدينية، والقول بأنها قضايا لا يمكن إثباتها Verified أو لا يمكن دحضها Falsified. ولما كانت كذلك فهي قضايا لا معنى لها. بيد أن هذا الإتجاه سرعان ما خفت وهجه، بعدما تبين أن الحقائق ليست فقط تجريبية، وأن القضايا والتعابير الإنسانية لا تنحصر بمنطقة الحقائق Facts أو الوقائع Realities بل تشمل ميول ورغبات وإملاءات واختبارات حياتية. فالمعرفة ليست فعل اكتشاف فقط بل هي أيضاً فعل صناعي وطريقة ابتكار، يتولد منها قضايا يكون الإنسان مرجع صحتها وخطئها.
مع تحرر الفلسفة والمعرفة عموماً من سطوة الوضعية، وإصرارها على التمايز عن العلوم التجريبية Empirical Sciences وعن مناهجها الحسية والرياضية، اتجه البحث حول اللغة الدينية من اختبار مدى صحتها وصلاحية ادعاءاتها، إلى البحث في طبيعتها وبنيتها وخصوصية مجالها الذي يمثل جانباً أساسياً في السلوك والإختيار الإنسانيين، وهو جانب لم تتوقف البشرية عن الإشارة إليه وتوصيفه ونقل تجاربها حوله، على الرغم من المفارقات والتناقضات التي تحويها أدبيات أديان العالم قاطبة.
تضافر البحث اللاهوتي- الفلسفي لإظهار اللغة الدينية لا بصفتها بيانات عن حقائق ووقائع بل بصفتها مجال اختبار إنساني يتعالى على التجارب الحياتية اليومية، أو قابع ورائها، ما يجعلها لا وسيلة تعبير بل فضاء تفكير، ومجال فهم ذاتي لاحتمالات الوجود وتحققاتها. فلا تعود العلاقة مع الله وفق هذا الفهم علاقة من أعلى إلى أدنى، محكومة بمديونية الطاعة، أو وجوب شكر المحسن، أو مستلزمات المنجزية والمعذرية بحسب أصوليي الفقه، بل علاقة اعتراف confession ورهانات وجود وفهم ذاتي للكينونة، وكشف مستمر عن طبقات الذات الشديدة الظلمة.
نتيجة لهذا، فقد تعددت مباحث اللغة الدينية، وهو تعدد غير متعارض، بل يظهر أبعاد الموضوع المتعددة، ويبين وجوهها. فالبحث في منطقة المفارقات يولد دوماً تأويلات متعددة وتفسيرات متباينة. وقد ركزت المقترحات المتعددة في التعرف إلى اللغة الدينية على حانبين أساسيين:
أولهما أن اللغة الدينية لا تحتلف عن اللغة الاعتيادية لجهة المفردات وقواعد النحو والتداول، لكتها تنشيء من مفردات اللغة الاعتيادية نظام استعمال آخر يتجلى في نظم الكلام نفسه، وفي المعاني التي يبتكرها بطريقة تتحاوز معنى الكلمة أو العبارة الأصلي. وهو نظام ظل حاضراً في كل أدبيات المجتمعات الإنسانية، وجزءً من خصوصيتها الثقافية والحضارية. ما يعني أن تجارب البشر لم تنحصر في صراع البقاء وفعل المواجهة مع الطبيعة ومظاهر الانتظام الاجتماعي، بل حرص الإنسان في سعيه الفردي والجمعي على استجلاء وإظهار البعد الوجودي اللاحسي الكامن فيه، والتعبير عنه بتعابير وصور متعددة، اتخذت في كل زمن لعبة لغة خاصة، فكانت أسطورية حيناً، ومجازية حيناً، وقانونية (شريعة) حيناً، وورمزية حيناً آخر. ما يعني أن اللغة الدينية وعلى الرغم من تعالي مضامينها، فإنها نتاج رهانات واختبارات إنسانية لم تتوقف، وجزء من احتمالات تحقق إنساني لامتناهية.
ثانيها: أن اللغة الدينية ليست مجال حقائق خالصة Pure Facts، من دون أن يعني ذلك نفي تضمن العبارات الدينية لحقائق معينة، ولكنها حقائق تدخل في صميم الاحتبار الإنساني وتجارب البشر الوجودية. فالدين ليس غرضه إلقاء حقائق بل خلق بواعث ودوافع وكشف الغطاء عن مجال يتعالى على اليومي رغم أنه حاضر فيه بقوة. هذا يعني أن اللغة الدينية ليست وسيلة معرفة بالله ومراده فحسب، بل هي أيضاً حقل اكتشاف للذات ولطبقاتها المعتمة، ومجال تعرف إلى رهانات الوجود الكلية. بالتالي فإن اللغة للدينية لا تعود شيئاً نتفكر فيه ونتأمله ونتعرف إليه، أو شيئاً ننتجه أو نستدعيه ونضمه إلى وجودنا، بل شيء واقعين فيه وقابعين في جوفه بحيث لا يمكننا التفكير إلا به وعبره.
الغموض السحري للتحارب الدينية، ومزيج الظهور والخفاء الوضوح والغموض في الحقائق الدينية بما فيها حقيقة الله، والإصرار المحير للإنسان في استدعاء اللامتناهي إلى عالمه المتناهي، والمفارقة المربكة للتعابير الدينية، يجعل الأقوال المتعددة في اللغة الدينية أشبه بمثَل مجموعة عميان أرادوا تعريف الفيل عبر اللمس، فاتخذ الفيل حقيقة مختلفة عند كل شخص. هذا لا يعني أن وصف كل شخص بات مناقضاً للآخر أو أن أحدهم على صواب لوحده وغيره على خطأ، بل يعني أننا في منطقة وجود إنساني ما يزال غموضها وسحرها، وشدة تركيبها وكثافة طبقاتها، تتحدى من جهة كل طاقة الكشف وملكة الوعي فينا، وتؤكد لنا من جهة أخرى الإمكانات اللامتناهية لوجوه التحقق الوجودي للإنسان.
المراجع
[1] Friedrich Schleiermacher, On Religion, Harper Torchbooks, New York 1958, pp. 27.
[2] إيمانويل كانط، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، مركز الإنماء القومي، ص. 381-384.
[3] هذه النقطة بالذات كانت لحطة افتراق فيورباخ عن هيغل. إذ اعتبر هيغل أن المظاهر البشرية والطبيعية في سيرها التاريخي الطويل ما هي سوى تجليات تدريحية للروح في تعرفها إلى ذاتها ووعيها بنفسها. أي إن ما يحصل في التاريخ هو نشاط علوي يتخذ تمظهرات وتجليات سفلية. فالمحدود بحسب هيغل ليس سوى اللامحدود نفسه في لحظات تجلياته التاريحية، وحين يتخذ حالات موضوعية في الطبيعة والواقع الإجتماعي فإن هذه الروح تعاني حالة اغتراب مؤقت عن ذاتها، سرعان ما تجرج منه بوعيها لذاتها في محالات الفن والدين والفلسفة. في حين ذهب فيورباخ إلى القول بأن المعاني العلوية ما هي سوى تجليات للاختبارات البشرية، وأن الكمالات التي تنسب إلى الله ليست سوى تصورات بشرية أطلقها الإنسان على نفسه ورغب في أن يحوز عليها. فالإنسان كان طوال حديثه عن الله يتحدث عن نفسه، وحين أخذ اللاهوت يفصل صفات الله عن الإنسان، بدأت حالة اغتراب الإنسان عن ذاته. سلوك فيبروباخ هذا، غيَّر مسار التفكير الفلسفي وحرره من سطوة اللاهوت الضمنية، وفتح باب البحث الأنترلولوجي للحقائق الدينية على مصراعيه. كان تحول فيورباخ بنظر ماركس ثورة هائلة في مسار البشرية جعل الثورة الفرنسية أمامها لعب أطفال. راجع: نادية النصراوي، فلسفة فيورباخ بين المادية والإنسانية، الرافدين، بيروت، 2016.
[4] Alston, William P. “Religious Language.” In The Oxford Handbook of Philosophy of Religion. Ed. William J. Wainwright. Oxford: Oxford University Press, 2005. pp. 220-244.
[5] Alston, William P. “Can We Speak Literally of God?” In Divine Nature and Human Language: Essays in Philosophical Theology. Ithaca: Cornell University Press, 1989b. See Also: Alston, William P. “Divine and Human Action.” In Divine Nature and Human Language: Essays in Philosophical Theology. Ithaca: Cornell University Press, 1989c.
[6] راجع: والتر ستايس ، التصوف والفلسفة، فصل: اللغة الصوفية، مكتبة مدبولي، القاهرة.
[7] Alston, William P. “Divine and Human Action.” In Divine Nature and Human Language: Essays in Philosophical Theology. Ithaca: Cornell University Press, 1989c. See Also: Aquinas, Saint Thomas. Summa Theologiae. Trans. by Fathers of the English Dominican Province. New York: Benziger Bros., 1948.
[8] A.C. Pegis, On the Truth of catholic Faith, chap. 28, Doublelady and Company, NewYork, 1955. Also see: John Hick, An Interpretation of Religion, Yale University Press, New Haven, pp. 247-249.
[9] Stephen Evans, Philosophy of Religion, Intervarsity press, England, pp. 154-157. See Also: John Hick, Philosophy of Religion, Prentice Hall, New York, pp. 76-77.
[10] عادل ضاهر، الفلسفة والمسألة الدينية، دار نلسن، توزيع دار الفرات، بيروت، 2008، ص. 169-175.
[11] David Stewart, Exploring the Philosophy of Religion, pp.274-275
[12] عادل ضاهر، الفلسفة والمسألة الدينية، ص. 170-180.
[13] المصدر نفسه.
[14] راجع بول ريكور، نظرية التأويل، ص. 31-34.
[15] Ayer, A. J. “The Principle of Verifiability.” In Mind. vol. 45, no. 178 (Apr 1936), pp. 199-203.
[16] راجع: إيمانويل كنط، نقد العقل العملي.
[17] Ayer, A. J. Language, Truth and Logic. 2nd ed. New York: Dover Publications: 1946. See Also:
Carnap, Rudolf. “Philosophy and Logical Syntax: Part I.” In 20th-Century Philosophy: The Analytic Tradition. Ed. Morris Weitz. New York: The Free Press, 1966. pp. 207-219.
[18] فكرة النظام الثانوي للغة النص الديني هنا، تشبه فكرة اللغات التي يتم ابتكارها من مادة اللغة العادية، ويتطلب فهمها كفاءة علمية إضافية إلى الكفاءة اللغوية. كلغة الهندسة الحديثة مثلا، التي تستعمل قواعد تركيب لغوي بالاستناد إلى قواعد اللغات المشتركة بين الناس، ورغم ذلك فإن المتلقي العادي والقارئ العادي لا يمتلك الكفاءة اللغوية الكافية لفهمها أو النطق بها، لأن هنالك لغة فوق اللغة المشتركة، تجعل عملية إنتاجها منحصرة بالمنخرطين والناشطين في هذا الحقل الخاص.
[19] يقول الجرجاني في كتابه أسرار البلاغة: “والألفاظ لا تفي حتى تؤلف ضربا خاصا من التأليف ويعمد بها إلى وجه دون وجه من التركيب والترتيب”.
[20] Richard Sapir, Culture Language and Personality, Uniersity of California Press, Berkley, 1949. pp. 7-12.
[21] دايفد جاسبر، مقدمة في الهرمنيوطيقا، ص. 30.
[22] الجرجاني عبد القاهر، دلائل الإعجاز، دار الكتاب العربي، بيروت، 1995.
[23] المصدر نفسه.
[24] محمد أركون، الفكر الإسلامي، نقد واجتهاد، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، 1998، ص. 93-95.
[25] محمد أركون، الفكر الإسلامي: قراءة علمية، ص. 187-192.
[26] راجع: Paul Tillich, Dynamics of Faith, Harper & Raw, New York, pp. 42., Also see: Also See: John Hick, Philosophy of Religion, 3rd Ed., Prentice hall, New Jersey 1983, pp.79-82.
[27] المصدر نفسه. راجع ايضا: ألكسي لوسيف، فلسلفة الاسطورة، ترجمة منذر حلوم، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، سوريا. ص. 157-168.
[28] E. Johnson, Religeous Symbolism, Harper and Raw, New York. Also see: Philosophy of Religion, John Hick, pp. 79-82.
[29] Ibid.
[30] Rudolf Otto, The Idea of the Holy, Oxford University Press, New York 1950, pp. 12-13. Also see: Exploring Philosophy of Religion, David Stewart, pp. 16-24.
[31] أشير هنا، إلى وجود علاقة عضوية بين الرمز والأسطورة، تجعل كلا منهما يتقوم بالآخر. فالأسطورة تقوم على الاستعمال الرمزي للكلام، والترميز يستند في استعماله إلى بنى أسطورية هي بمثابة نظام ترميز تحدد للرمز مرجعيته ومعناه وطرق استعماله وتركيبه مع الرموز الأخرى. فتكون الأسطورة بذلك مخزوناً ثقافياً وتمثلياً (Representitive) لعالم ماورائي مواز لعالمنا، والترميز يمثل نظام الاستعمال والتركيب اللفظي واللغوي داخل الأسطورة. فالأسطورة مضمون أناسي والترميز لغة الأسطورة المُعبِّرَة عن منطق التركيب الداخلي لرموز الأسطورة. ويكون الرمز وحدة لغوية تابعة لنظام الترميز وخاضعة له، ومفردة دالة تستمد من مضمون الأسطورة دلالاتها وإحالاتها. راجع: ألكسي لوسيف، فلسفة الأسطورة، ترجمة منذر حلوم، دار الحوار، اللاذقية، 2005،
[32] بسام الجمل، أسباب النزول، المركز الثقافي العربي، ص. 375-380.
[33] بول ريكور، نظرية التأويل، ص. 95-96.
[34] المصدر نفسه، ص. 95.
[35] المصدر نفسه. 102.
[36] John Hick, The Fifth Dimension, One World Press, Oxford, 1999, pp. 229-240.
[37] وحيد السعفي، العجيب الغريب في كتب تفسير القرآن، تبر الزمان، تونس، 2001، ص. 34.
[38] محمد أركون، الفكر الإسلامي: قراءة علمية، ص. 38-40.
[39] الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج.2، ص. 30.
[40] بسام الجمل، أسباب النزول، ص. 378-380.
[41] راجع: لودفيك فتغنشتاين، تحقيقات فلسفية، تقديم وترجمة وتعليق عبد الرزتق بنور، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2007، ص. 65-93، وراجع أيضاً: Stewart, Philosophy of Religion, pp. 90-93.
[42] عادل ضاهر، الفلسفة والمسألة الدينية، ص. 48-55.
[43] المصدر نفسه.
[44] المصدر نفسه .
[45] John Hick, Philosophy of Religion,Prentice Hall, New york, pp. 90-94.
[46] Ibid, pp. 107.
[47] راجع: Wilfred cantwell Smoth, The Meaning and End of Religion, Fortress Press, Minneapolis, , pp. 94-5.
[48] J. Gabel, C.Wheeler, A. York, The Bible as Literature, Oxford University Press, NewYork, 1996 pp.308-9.
[49] بول ريكور، نظرية التأويل، ص.84-94.
[50] المصدر نفسه.
[51] المصدر نفسه.
[52] راجع: الباقلاني، إعجاز القرآن.
[53] الجرجاني، دلائل الإعجاز، دار الكتاب العربي، بيروت.
[54] أبو هلال العسكري، كتاب الصناعتين: الكتابة والشعر، دار الكتب العلمية، بيروت، ص. 71-73. وراجع أيضاً: الجاحظ، كتاب الحيوان، مكتبة الهلال، بيروت، 1997، ج. 3، ص. 366. وراجع أيضاً: محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، ص. 78-82.
[55] Walter Kaufmann, Critique of Religion and Philosophy, Anchor Books, Garden City NewYork, pp.88-93.
[56] العبارة منقولة من كتاب: عبد الهادي عبد الرحمن، سلطة النص، المركز الثقافي العربي، بيروت، ص. 5.
[57] جون سيرل، العقل واللغة والمجتمع، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2006، ص. 165-200.
[58] المصدر نفسه.
[59] حسين خمري، نظرية النص، الدار العربية للعلوم بيروت، ص. 20-30. راجع أيضاً: . Edna Andrews, Cultural Semiotics in Language, University of Toronto Press, 2003, Toronto, pp.13-20 .
[60]M. Hesse, ‘Richard Bevan Braithwaite, 1900–1990’, PBA, 82 (1993), 367–80. See Also: D. H. Mellor, ‘Braithwaite, Richard Bevan (1900–1990)’, rev., Oxford Dictionary of National Biography, Oxford University Press, 2004
[61] Rudolf Bultmann, Jesus Christ and Mythology, 1941. See Also: Richard Palmer, Hermeneutics, Evanston, 1969, pp. 48-54.
[62] Ebeling, Word and God, Philadelphia, Fortress Press, 1967, pp. 49.