تكوين
اهتم القرآن الكريم بالحديث عن المسيح عيسى بن مريم في العديد من الآيات. في بعض المواضع وصف المسيح بأنه كلمة الله، على سبيل المثال جاء في الآية رقم 45 من سورة آل عمران “إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ…”. كما جاء في الآية رقم 171 من سورة النساء “…إنَمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ…”. من المثير للدهشة أن المسيح كان الوحيد الذي أُطلق عليه هذا الوصف في القرآن. من المدهش أيضًا أن نفس التعبير -الكلمة- قد ورد بشكل صريح في افتتاحية إنجيل يوحنا “في البدء كان الكلمة. والكلمة كان عند الله. وكان الكلمة الله”.
يفتح البحث حول هذا التشابه اللفظي أفاقًا رحبة لفهم العديد من المسائل الجدلية في كل من الإسلام والمسيحية. خصوصًا إذا ما عرفنا أن الأصل اللغوي للفظة “الكلمة” الواردة في إنجيل يوحنا هي لفظة logos اليونانية القديمة، والتي نُسجت حولها العديد من التفسيرات والنظريات الفلسفية. حتى قيل إن: اللوجوس هو النقطة التي يلتقي فيها الإله (المطلق) مع الإنسان (النسبي) داخل التاريخ والزمان ليتواصل معه وأن هذه هي الإشكالية الأساسية التي تواجهها كل الأديان ويحلها كل دين بطريقة مختلفة، نابعة من رؤيته[1]. نُلقي الضوء في تلك السلسلة على مفهوم اللوجوس، وتطوره في الفلسفات اليونانية واليهودية والمسيحية، فضلًا عن الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام. لنرى كيف دخل هذا المفهوم في تشكيل السرديات الدينية الأكثر انتشارًا وتأثيرًا عبر التاريخ.
في الفلسفة اليونانية القديمة
عرف فلاسفة اليونان القدماء كلمة اللوجوس منذ فترة موغلة في القدم، وكان من الشائع استخدامها لغويًا للإشارة إلى معاني البيان والكلام والخطاب. على الصعيد المفاهيمي، وظفت كلمة اللوجوس بشكل مختلف في الأفكار الفلسفية اليونانية. يقول القمص عبد المسيح بسيط في دراسته “الكلمة اللوجوس عند فلاسفة اليونان”: اختلف معنى الكلمة -يقصد اللوجوس- عند الفلاسفة اليونانيين عن معنى الكلمة في العهد القديم والتقليد اليهودي جوهرياً، فهي عندهم مبدأ عام أو مجموعة من المبادئ والمثل أو المُثل.
في أواسط الألف الأول قبل الميلاد، نوقش مفهوم اللوجوس بشكل مفصل للمرة الأولى على يد الفيلسوف اليوناني هيراقليطس. ولد هيراقليطس في حدود سنة 530ق.م. وكان أول من قدم نظرية متكاملة عن اللوجوس. رأى هيراقليطس أن اللوجوس هو “مصدر المعقولية في الطبيعة، فإنه لا غرو أن يكون القانون الكوني الذي يحكمه مبدأ صراع الأضداد من أجل البقاء، وبذلك يكون اللوجوس هنا هو قانون انسجام المتناقضات الذي يحكم الصراعات عن طريق العدالة… فهو -أي اللوجوس- مبدأ التكرار المنظم للأحداث والترتيب في التغيير…”[2]. اعتقد هيراقليطس أن الوجود في حالة تغير دائم ناتج عن صراع الأضداد مع بعضها البعض. وفي هذا السياق اشتهرت عبارته “إنك لا تضع قدمك في نفس النهر مرتين”، وذلك لأن الماء في حالة سيولة مستمرة[3]. بحسب تلك النظرية كان للوجوس عند هيراقليطس صورتان، الأولى صورة روحية باطنية، وتظهر في القوة العاقلة التي تسيطر على الكون وتدبره وتسري في أجزائه. والثانية مادية مجسمة، وكانت النار هي الشكل الأمثل لتلك الصورة. بشكل عام، اقتربت تلك الفكرة -صراع الاضداد- إلى حد بعيد مع العديد من الأفكار المشابهة في الأديان الشرقية القديمة، مثل الفكر الديني المصري القديم، والديانة التاوية الصينية، والديانة الزرادشتية الفارسية.
بعد هيراقليطس، تم تناول مفهوم اللوجوس بشكل مغاير عند الفيلسوف بارمينيدس (540 ق.م – 480 ق.م) وهو من فلاسفة عصر ما قبل سقراط. رفض بارمينيدس أفكار هيراقليطس التي تعتمد على القول بأن التغير أصل كل شيء. فقال إن: الثبات هو أصل الوجود. وأن التغير عبارة عن وهم، لا وجود حقيقي له. وبناء على ذلك فاللوجوس يشير للجوهر الكامن في الثبات والسكون والاستقرار. مع سقراط (470ق.م- 399ق.م) تطور مفهوم اللوجوس ليأخذ شكلًا مثاليًا إلى حد بعيد، فنُظر إليه باعتباره الوحي الصادر عن الإله لتوجيه البشر. أما عند أفلاطون (427ق.م- 347ق.م) فقد تم اعتبار اللوجوس الوسيط الأنطولوجي بين العالم الحسي والعالم المعقول. كما وصف بأنه “اللغة المعبرة عن الفكر بواسطة الأسماء والأفعال…”[4].
في القرن الرابع قبل الميلادي، شهد مفهوم اللوجوس في الفلسفة اليونانية نقلة جديدة على يد أرسطو (384ق.م- 322ق.م) والفلاسفة الرواقيين. قال أرسطو إن: اللوجوس هو الإله الذي سماه بالمحرك الأول. واعتقد أن اللوجوس له دور مهم في صدور وانبثاق الطاقة التي صدرت عن الإله الثابت، والتي تتسبب في حركة الموجودات في مرحلة لاحقة. من جهتهم، تأثر الرواقيين كثيرًا بمفهوم اللوجوس الذي قال به هيراقليطس. ولكنهم صبغوه بأفكارهم المؤمنة بوحدة الوجود. ومن هنا، اعتقدوا أن اللوجوس ليس هو المصدر الذي منه تجيء الأشياء فحسب “بل هو أيضًا الجوهر الماثل في كل مكان، والذي صُنعت منه الأشياء كافة… فالله ليس هو المبدأ الخالق للعالم فحسب، بل هو العالم نفسه…”[5].
في الفكر اليهودي
على الأرجح، لم يعرف الفكر اليهودي المبكر مفهوم اللوجوس. كان التناخ -الاسم الذي يطلقه اليهود على العهد القديم- يقدم الحضور الإلهي بشكل مجسد في صورة الإله يهوه/ إلوهيم، والذي تم تقديمه كإله لشعب إسرائيل دونًا عن باقي الشعوب.
مع قيام الإسكندر الأكبر بغزو الشرق، وتمازج الأفكار الشرقية والغربية وقع الفكر اليهودي لتأثيرات الفلسفة اليونانية، وبدأت المعتقدات اليهودية في الميل -شيئًا فشيئًا- للمفاهيم الروحية، فقللت من نزعتها التجسيدية المادية. وعملت على انتاج مفاهيم تهتم بإبراز الأبعاد الروحية في الذات الإلهية. في هذا السياق، ظهر مفهوم “MEMRA الميمرا”، وبحسب الموسوعة اليهودية فإن الميمرا كانت المصطلح الذي اُستخدم بشكل خاص في الترجوم -هو الاسم الذي يُطلق على الترجمات الآرامية للكتاب المقدَّس في الفترة الواقعة بين أوائل القرن الثاني وأواخر القرن الخامس قبل الميلاد- كبديل لـ “الرب” عندما يجب تجنب التعبير المجسم. وظهر الميمرا باستمرار كمظهر من مظاهر القوة الإلهية، أو كرسول الله في مكان الله نفسه، وبالتالي كان تجلي الله. وأُعلن من خلاله عن القوة الإلهية أو كالممثل لله الذي يقوم بعمل الله، بل والمرادف لله نفسه. في هذا السياق، دخل الميمرا في العديد من قصص العهد القديم، فهو الذي عقد العهد من إبراهيم، وهو الذي كلم موسى وظهر له في العُليقة، وهو أيضًا الذي قاد شعب بني إسرائيل أثناء رحلة الهروب من المصريين.
رغم ذلك، من الصعب أن نقول إلى أي مدى تأثر المفهوم الحاخامي للميمرا في تلك الفترة، بالمصطلح اليوناني “لوجوس”، الذي يدل على الكلمة والعقل. لكن من المؤكد أن مفهوم الميمرا لعب دورًا مؤثرًا في التصور الذي وضعه فيلو السكندري عن اللوجوس في مرحلة لاحقة.
ولد فيلو السكندري بالإسكندرية في سنة 20ق.م. وكان من أغنياء الإسكندرية ومن العائلات ذات النفوذ والتأثير. كما كان سفيرًا لليهود في المفاوضات مع الإمبراطور كاليجولا، عندما أراد الأخير أن ينصب تمثالًا لنفسه داخل الهيكل المقدس بأورشليم. على الصعيد العلمي، كان فيلو مفكرًا وكاتبا بارزًا ولعب دورًا مهمًا في جمع الفلسفتين اليونانية واليهودية. وظهر ذلك بشكل واضح في تناوله لمفهوم اللوجوس. يلقي الفريد إدرشيم الضوء على نظرية اللوجوس عند فيلو السكندري في كتابه “حياة السيد المسيح والزمان الذي عاش فيه” فيقول إن: الفيلسوف اليهودي نظر إلى اللوجوس باعتباره الظل حينما يسقط نور الله على شيء، ولو كان هو النور فهو انعكاس لظهور نور الله. أو هو تعبير عن روحانية الله في مقابل أن العالم مكان سكناه المادي. فاللوغوس هو صورة الله، والتي عليها خلق الإنسان، وبالتعبير الأفلاطوني فهو النموذج الأولي أو النموذج الأصلي، وهو الأداة التي استخدمها الله في خلق كل شيء. وبالنسبة للعالم فاللوغوس هو وجوده الحقيقي وهو النموذج الأصلي الذي من خلاله خُلق كل شيء. بحسب فيلو فإن اللوغوس أيضًا هو الحلقة الوسيطة بين الله والعالم. وهو الوسيط القادر على التوحيد بين الجانبين. فهو الذي يعلن للإنسان ويترجم له إرادة الله وفكره. “وهو الوسط أو الوسيلة الذي به تعلن الألوهية للروح، وهو الذي يدعم الحياة الروحية، وهو يسكن الروح”.
شاهد أيضاً: كيف ساهم المسيحيون في النهضة العربية؟
جهود فيلو في تعريف اللوجوس أثمرت كثيرًا في تطوير الفكر اليهودي التقليدي، سواء في التقاليد الحاخامية الرسمية أو في فكر الكابالا الصوفي الباطني من جهة أخرى. نظر التراث الحاخامي إلى المشناه -التعاليم الشفوية- باعتبارها اللوجوس. أما تراث الكابالا فنظر إلى ذلك المفهوم بشكل أكثر روحانية وباطنية وصوفية. تحدث كتاب الزوهار -الذي يعني الإشراق أو الضياء- عن خلق العالم بواسطة الفيض. وفرق بين “عين سوف”، وهو المبدأ الأول، غير المحدود، وغير النهائي، والذي لا يمكن أن تدركه العقول البشرية، أو تحيط به، وبين الإله يهوه، رب الجنود الذي ورد اسمه والحديث عنه في التناخ، والذي هو أحد الفيوضات المنبثقة عن عين سوف.
في هذا السياق، عملت الكابالا على تصوير “المبدأ اللانهائي بوصفه يصير علة للتطور، وليس علة الخلق، تمثيلاً غير مباشر، أي عبر فيض السيفروت”. وبتلك الطريقة وجد اللوجوس طريقه للمعتقدات الباطنية اليهودية من خلال مشابهته للفيض الإلهي. من هنا يمكن القول إن: اللقاء بين الإنسان (النسبي) والإله (اللوجوس والمطلق) في الحالة اليهودية قد أخذ صورًا متعددة. بشكل عام، تقبل اليهود فكرة حلول الله في أحد الموجودات. مثل الماشيح أو التوراة أو التلمود، وأخيرًا في الشعب اليهودي نفسه[6]. مثل ذلك تقدمًا كبيرًا في الفكر اليهودي، وفتح الباب أمام التطور اللاحق الذي سيحدث في بدايات القرن الأول الميلادي بالتزامن مع ظهور يسوع المسيح، وإعلان المسيحيين عن مفهومهم الخاص للوجوس.
قائمة المراجع:
[1] عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ج1- ص410
[2] محمد بن أحمد، اللوجوس من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة المعاصرة “هيراقليطس -هيدغر انموذجين”، ص92
[3] علي سامي النشار، ومحمد علي أبو ريان، وعبده الراجحي، هيراقليطس: فيلسوف التغيير وأثره في الفكر الفلسفي، دار المعارف، القاهرة، 1969م، ص93
[4] محمد بن أحمد، اللوجوس من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة المعاصرة “هيراقليطس -هيدغر انموذجين”، ص142
[5] عثمان أمين، الفلسفة الرواقية، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1945م، ص132
[6] عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ج1- ص410