المآرب السلطوية لطرح الدولة الإسلامية ومقتل فرج فودة

تكوين

بعد مرور أكثر من ثلاثة عقودٍ على مقتل فرج فودة على يد الجماعة الإسلامية تظل قضية قتله ثرية وذي معنى، وذلك لأن الفكر العربي الإسلامي قليل الحركة إذا كان يتحرك، وطرح الدولة الإسلامية الذي راح فرج فودة ضحية مقاومته لا زال مسيطرًا ويقدم نفسه في الصورة المتماهية مع الحكم الإلهي المعهودة، حيث يعد نفسه المخرج الإلهي الذي شرعه الله لأمته الإسلامية من كبوتها ونفقها المظلم، وكافة الطروح الأخرى ما هي غير اعتداء على الطرح الإلهي الذي يمثله.

وقد وجد الإسلاميين في تسعينيات القرن الماضي في طرح الدولة الإسلامية سببًا وجيها لوجودهم، خاصة في ظل التحول البترودولار الذي اجتاح المنطقة العربية، وكان توضيح فراغ مقترحهم للدولة الإسلامية، وفضح مآربهم السلطوية تهديد لوجودهم، إذ أنهم وضعوها حجة وسببًا لوجودهم. وهذا ما يجعل سبب قتل فرج فودة المرجح هو تعرية هذا المقترح، وتوضيح خوائه وعدم قابليته للتحقيق، ومن ثم عدم جدوى وجود هذه الجماعات.

خواء طرح الدولة الإسلامية من التنظير

قدم فرج فودة نقده لطرح الدولة الدينية (الإسلامية) في المناظرة الشهيرة التي عقدت في معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1992 بعنوان “مصر بين الدولة المدنية والدولة الدينية” التي كانت بين فريقين؛ ضم الأول: الشيخ محمد الغزالي، والدكتور محمد عمارة، والمستشار الهضيبي. وضم الفريق الثاني المفكر المصري فرج فودة، والدكتور أحمد محمد خلف الله.

وجاء نقد فودة لهذا الطرح عبر زاويتين هما قوام هذا الطرح وأساسه، في الزاوية الأولى قدم تعريف الدولة، ومهمتها، وخواء طرح الدولة الإسلامية من مقومات التنظير لقيام هذه الدولة. فقال في مناظرته: “الإسلام الدين في أعلى عليين أما الدولة فهي كيان سياسي، وكيان اقتصادي، وكيان اجتماعي، يلزمه برنامج تفصيلي يحدد أسلوب الحكم. النقطة الأولى التي أضعها أمام حضراتكم اليوم؛ هي أن من ينادون بالدولة الدينية لم يقدموا برنامجًا سياسيًا للحكم”، واستدل بعد ذلك على العديد من ردود المناظرين له في هذه المناظرة من خلال مقالات وحوارات صحفية لهم.

وأوضح فودة أن طرح الدولة الدينية والمقصود به في هذه المناظرة الدولة الإسلامية، لم يقدم مفهوم مغاير للدولة، أو مفهوم للدولة بالأساس؛ ككيان إداري يعمل على تسيير أمور الأفراد، أو اجتهد في البحث عن هذا المفهوم في التاريخ الإسلامي، ولكنه يكتفي بوصف الدولة القائمة بأنها غير إسلامية ولا تدين بالدين الإسلامي، ومن ثم فإنها غير مشروعة دينيًا، ومعتدية على شرع الله حسب ما ذكر الشيخ الغزالي في المناظرة. وأوضح أن طرح الدولة الإسلامية ما هو إلا طرح الدولة الحداثية بمسمياتٍ إسلامية تمكن هذا الفريق من تصفية أي منافسة سياسية له، بحجة أنه خارج نطاق المنافسة السياسية؛ إذ أنها بشرية وناقصة وطرحه إلهي كامل. وهذا ما فضحه فرج فودة في هذا الطرح بسؤاله عن مقومات هذه الدولة، وما قدمه المنادين بقيامها من نظريات ومنظومات لتنفيذها.

وسأل فودة عن نموذج لمثل هذه الدولة التي لا وجود لها إلا في أذهان المدافعين عنها، حيث يتم تقديمها في صورة طوباوية تجعلها حلًا لكافة الأزمات التي تعانيها المجتمعات العربية، السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والعلمية، والمعرفية، وتراه حالًا فوريًا شاملًا. وأضاف أن النماذج التي بين أيدينا لم تحقق مثل هذا؛ وهما الدولة الإيرانية ودولة النوميري في السودان، وهما يقبعان في طور العالم الثالث، ولم يحققا أي تقدم علمي، أو عسكري، أو اقتصادي، ولم يقدما نمطًا للحكم يمكن أن يوصف بالخصوصية الإسلامية. فعن أي دولة إسلامية يمكن أن نتحدث إذن؟ فهذا الطرح غير معروف وليس له وجود ملموس أو حتى تنظيري، وما هو غير وسيلة سياسية يعطيها هذا الفصيل لنفسه ليتفوق بها على غيره.

هدم الحجة التاريخية

وجاءت الزاوية الثانية من نقد فرج فودة لطرح الدولة الإسلامية من خلال التاريخ، فحجتهم عادة أن طرح الدولة الإسلامية هو الممثل للهوية والدين الإسلاميين، وهذا ما ظهر في قول محمد عمارة في المناظرة: “على مدى ثلاثة عشر قرنًا تحكم دولتنا بالشريعة الإسلامية، كيف تم الاختراق؟ كيف أصبحت هناك ثنائية في القانون؟ كيف زاحمت القوانين الغربي شريعتنا الإسلامية في مؤسسات الحقوق، ومؤسسات القضاء وفي مؤسسات التشريع، نحن نعلم جميعا أنه حتى عصر الخديوي إسماعيل لم تكن هناك علمانية، أو قضاء مدني بالمعنى الغربي”. ومن خلال التناقض الداخلي لهذه الرؤية التاريخية، التي تأخذ على الأمويين استيلائهم على الحكم بالسيف وانهاء الخلافة الراشدة، والانتقال إلى الملك والقيصيرة حسب التعبير العربي وحيدهم عن الشريعة الربانية. وفي الوقت نفسه الاستدلال بنجاح الشريعة الإسلامية على مدار ثلاثة عشر قرنًا، ويستدل في هذا بقول الشيخ محمد الغزالي في جريدة الوفد بتاريخ 2 فبراير عام 1989: “دولة الخلافة الراشدة قامت على شورى صحيحة أما دول الخلافة الأخرى طوال ثلاثة عشر قرنًا عدا ثلاثين عامًا فقد فقدت صفة الرشد وأصبحت خلافة فقط؛ لأن الشورى فيها غائبة أو مشوهة، وصاحب السلطة فيها يستطيع أن يفتئت على الشعب ويلغي إرادته”.

ويوضح فودة أنه من بين تسعين عامًا للدولة الأموية نجد عامين ونصف مشهود لهم بالحكم المُرضي، وهي الفترة التي حكم فيها عمر بن عبد العزيز. وبين ثلاثمائة عام من حكم الدولة العباسية تسعة أشهر فقط يتم الاستشهاد بهم، التي حكم فيهم الخليفة المهتدي العباسي، وهكذا صار التاريخ الإسلامي. فالاستشهاد للدولة الإسلامية لا يمثل واحدًا في المائة من الفترة التي يدعيها، بل إنه يقول بأن ال 99% البقية تشهد للدولة المدنية، وعزل الدين عن السياسية لم ارتكبه الخلفاء من جرائم باسم الدين، فلم يقتل آل بيت رسول الله إلا باسم الدين وحماية الأمة. والتاريخ الإسلامي ملئ باستغلال السلطة السياسية للدين، وذلك منذ أن رُفعت المصاحف على أسنة الرماح في معركة صفين بنصيحة عمر بن العاص، وانتبه المسلمون إلا ما يمكن أن يفعله القرآن ويعجز عنه السيف، ومنذ ذلك الحين وأصبح الدين أحد أسلحة السلطة التي تحكم من خلالها، وتصوغ من خلاله مشروعيتها. ويرى فرج فودة في الاستغلال السياسي للدين طاول التاريخ الإسلامي انتصارًا للدولة المدنية من داخل التاريخ الإسلامي، وهذا ما قصده بقوله 1 بالمائة من التاريخ الإسلامي يشهد للدولة الدينية، و99 بالمائة منه يشهد للدولة المدنية.

شاهد أيضاً: الشيخ المقتول..قصة مقتل السهروردي بأمر من صلاح الدين الأيوبي

ومن خلال نقد الحجة التاريخية بأدوات الطرح الإسلامي ومن خلاله، وعبر الأحداث التاريخية يهدم فرج فودة الركيزة الأساسية لطرح الدولة الإسلامية، أو الحجة التي يقدمها أصحاب هذا الطرح. ويثبت أن ما يقدمه أصحاب طرح الدولة الإسلامية هو تاريخ مُتخيل، ومنتقى، خالٍ من أي نزاعات سياسية، وحروب دموية على السلطة، تاريخ طوباوي يسوده العدل والرحمة، وكل القيم المعاصرة، وسلبها أصالتها ونسبها للتاريخ الإسلامي. ويعد بهذا هادمًا للجماعات الإسلامية، لإعلانها عن نفسها أنها تمثل العودة إلى السلف الصالح والخلافة العادلة التي سادت الأرض، وملأت الأرض هدى ونورًا وعدلًا، بعدما كانت مملوءة بالظلم والفجور، وإثبات زيف هذه الرؤية عن التاريخ يعني زيف مشروعهم وغايته؛ ومن ثم سقوط أحقيتهم في الوجود، لوضعهم العودة إلى هذه الرؤية سببًا لوجودهم.

لماذا قتل فرج فودة؟

نشرت جريدة النور الإسلامية في 3 يونيو عام 1992 بيانًا من ندوة علماء الأزهر يكفر فرج فودة ويدعو لجنة شؤون الأحزاب لعدم الموافقة على إنشاء الحزب الذي ينوي تأسيسه، وهو حزب المستقبل. واقتران الحكم بردة وكفر فرج فودة بمطالبة لجنة شؤون الأحزاب بإحباط مشروع حزبه السياسي يحمل دلالة على التهديد الذي مثله فرج فودة أكثر غيره بالنسبة للجماعات الإسلامية، وهو الوقوف أمام مشروعهم السياسي وتعريته من الغطاء الديني له. وقوة منطق فرج فودة الذي ظهر في مناظرته من خلال تفنيد مزاعم الجماعات الإسلامية، وأصحاب الدعوة للدولة الإسلامية تظهر في عجزهم عن الرد المنطقي والانتقال إلى التكفير والتهكم، وهذا ما ظهر في رد محمد عمارة الذي قال فيه ساخرًا: “ما تشتغل عليه انت ولا انت مش مسلم” وهو تهكم صريح يحمل اتهامًا واضحًا بالكفير. وتضح الصورة أكثر إذا عرفنا أن جريدة النور التي نشرت بيان الأزهر الذي حكم بردة فرج فودة، كان بينها وبين فودة قضية قذف بعد اتهامه بأنه يعرض أفلاما إباحية ويدير حفلات للجنس الجماعي في جمعية (تضامن المرأة العربية)، وكانت القضية في طريقها للخسارة، مما دفعهم إلى اللوز بأداتهم المعروفة ذات الفاعلية الكبرى على مر التاريخ، وهي التكفير.

وعن المرتد فإن المنظومة الفقهية تعرفه عادة بأنه رجع عن إسلامه طوعًا، وفي حال فرج فودة فإنه لم يعلن ذلك، وكل ما فعله هو مناظرة الداعين للدولة الإسلامية وتفريغ طرحهم من أي قدسية دينية، ولم ينكر معلوم من الدين بالضرورة، بل سعى لحفظ الدين عن مطامع السياسة. ولم ينكر فودة شيء من الإسلام كدين، وأصر على تعريف الدولة ككيان اجتماعي، اقتصادي، سياسي، وأمر الحكم السياسي لم يأتي بنصٍ قرآني، أو حتى سني، والشاهد على ذلك الصراعات الدامية التي دارت على الحكم بعد موت النبي (ص)، وقتل فيها صحابة صحابة أخرين، وقُتل فيها آل بيت النبي، وعزف الكثير من الفقهاء والعلماء عن الخوض في هذه المعارك والنقاشات، وهو ما يعني أنه كان من الأمور المختلف عليها. فحتى من داخل الأنساق الفقهية الإسلامية التقليدية، والأحداث التاريخية لا ينكر فودة معلوم من الدين بالضرورة، ولم يأت بما يفضي إلى الحكم عليه بالردة حسب النسق الفقهي.

لم يأت الحكم بردة فرج فودة إلا من رؤية تحتكر الدين داخلها، وترى في المسألة السياسية ركنًا من أركان الدين، وانكار فرج فودة له يعني الكفر البين، خاصة أنه وعلى الرغم من وجود كتابات عديدة لفرج فودة سبقت مناظرته الشهيرة إلا أن قتله جاء بعد هذه المناظرة. وهذا ما يعنى أن قتله جاء لفضح مقترح الدولة الإسلامية وتوضيح أنه فارغ من أي مضمون معرفي يصبح قابلًا للترجمة الواقعية، وما هو غير أداة سياسية تمكن هذا الفريق من الانتصار في المعارك السياسية، وتصفية الأخرين. ولصدق ما قدمه فودة لم يكن لهذه الجماعات ردًا غير قتله، وذلك لم مثله من خطر على هذه الجماعات. ومفهوم قتله في هذا الوقت لم مثله طرحه من حرب وجود للجماعات الإسلامية، فتهديده وجودهم من خلال توضيح خواء مقترحهم جعل قتله يقف مقابل وجودهم، وكانت لهم السيطرة والحضور القوي في هذه الأثناء، وكانت العمليات الإرهابية والقتل موجودة في ربوع مصر كلها.

وجاءت عملية اغتيال في الثامن من يونيو من العام نفسه بعد مناظرته على يد إثنين من أعضاء الجماعة الإسلامية، هما أشرف سعيد إبراهيم وعبد الشافي أحمد رمضان، وأثناء التحقيق أوضح عبد الشافي أن عملية الاغتيال جاءت بعد إصدار مفتي الجماعة الإسلامية الدكتور عمر عبد الرحمن بقتل المرتد فرج فودة. فعملية الإفتاء والتنفيذ جاءتا من الجماعة الإسلامية، وهي الراعية لمشروع الدولة الإسلامية، والمزاحمة للفصائل السياسية، وهذا ما يعطي عملية القتل والحكم بالردة أبعادًا مجاوزة للأبعاد الدينية وذات مضامين سياسية، خاصة أن فرج فودة كان في طريقه نحو إنشاء حزب سياسي تحت اسم “المستقبل”. ولم تخرج عملية الاغتيال عن عمليات التصفية السياسية، والجسدية، والمعنوية التي تعمل عليها الجماعات الإسلامية عادة، وهذا ما سعت إليه مع فرج فودة، خاصة أنه فضح مقترحهم أمام الجميع.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete