تكوين
تعدّدت تيّارات الفلسفة المعاصرة، وبلغ بعضها أوجه في التفكير العقيديّ المثمر، وترنّح البعض الآخر بين انتصارٍ تفكّريّ لدى النخب الثقافية التي جهدت لتبدع وتستقطب متابعين وتابعين لها، وبين انحدارٍ تراكميّ نتيجة النظريات المضادة والأحداث السياسية المتلاحقة. وكان الفكر الاشتراكيّ الماديّ والعلميّ حاضراً عبر ممثّليه، ولا سيّما الفيلسوف والثوريّ الألمانيّ كارل ماركس الذي أطلق فلسفةً ترمي إلى انتفاضةٍ في الأفكار وإلى تغيّر في العالم، متّصلَين في شكلٍ وثيقٍ بنضالات الطبقة العاملة. فهل كانت الماركسية مجرّد محطّةٍ تبثّ رؤيةً ماديةً لحركة التاريخ، أم أنها كانت ولا تزال فلسفةً سياسيةً أساسية “تحلم” بالمساواة بين الأفراد في المجتمع؟ وهل تمكنّت من الحفاظ على حالة الانبهار التي خلقتها في بداياتها وجعلتها تتألّق طويلاً؟ سوف نحاول الاجابة على هذا التساؤل من خلال عرض أبرز المحطّات المركزية في فلسفة ماركس، ثمّ العمل على إبراز بعض الأسماء الماركسية الكبيرة في الفكر العربيّ المعاصر.
أولاً: كارل ماركس Karl Marx (1818-1883)
- حياة كارل ماكس
مفكّر الشيوعية والاشتراكية الأبرز في العصر الحديث. ولد في ترير Trier في ألمانيا، وتوفّي في لندن. وجالت نظرياته في عوالم الفلسفة والتأريخ والنقد وعلم الاجتماع والاقتصاد السياسيّ، متسلّحاً بروحٍ ثوريةٍ إشتراكيةٍ إستثنائية.
كان لقاؤه بالفيلسوف وعالِم الاقتصاد السياسيّ الألماني إنجلز Friedrich Engels (1820-1895) العام 1844 بداية صداقةٍ بينهما وثّقاها في تعاونٍ فكريّ، هادفَين سويةً إلى خلق طبقةٍ إجتماعيةٍ لا تسمح باستغلال أحد. فوضعا كتباً عدّة، منها: “العائلة المقدّسة” (1844-1846)، و”بيان الحزب الشيوعيّ” (1848).
شكّلت قراءاته ثروةً ثقافيةً متميّزة، فاطّلع على كتابات الفلاسفة وعلماء الاقتصاد الانكليز: آدم سميث Adam Smith (1723-1790)، وديفيد ريكاردو David Ricardo (1772-1823)، وجيمس ميل James Mill (1773-1836). كما قرأ للاشتراكيين الفرنسيين، خصوصاً: سان سيمون Henri de Saint Simon (1760-1825)، وفورييه Charles Fourier (1772-1837)، وبرودون Pierre-Joseph Proudhon (1809-1965).
العام 1845، طردته السلطات الفرنسية، فالتجأ إلى بروكسل حيث انتسب وصديقه إنجلز إلى جمعيةٍ نضاليةٍ سرّية تناصر الثورة الشيوعية. والعام 1864، أسّس رابطة العمّال الدولية بهدف توحيد صفوف الحركة العمّالية في أوروبا، وترأّسها من العام 1866 وحتى العام 1872.
-
فلسفة كارل ماكس
إختار ماركس موضوع أطروحته للدكتوراه بحسب توجّهاته الفكرية، فكانت حول الذرّية L’atomisme في نظرية كلّ من الفيلسوفَين الاغريقيَين ديمقريطس Démocrite (460-370 ق.م.)، وأبيقورس Epicure (341-270 ق.م.)، الأمر الذي انعكس حكماً على فكره المنعقد على الماديّة الفلسفية. وقد اعتبر، وهو الناقد الدائم للاقتصاد السياسيّ، وتحديداً في “بيان الحزب الشيوعيّ” أنّ تاريخ كلّ مجتمع حتى يومنا هذا هو تاريخ الصراع الطبقي.
وقد أراد ماركس أن يضع الجدلية الهيجيلية على قدميْها، بمعنى أن يجعلها أكثر قرباً من الواقع، فكان أن قَلَبها رأساً على عقب، باعتبار أنّ المادة هي الأوّلية في رأيه، وهو شدّد، في شكلٍ خاص، على المادية الاجتماعية التي تكوّن الانسان وتبني شخصه وتدخل في عمق علاقاته الاجتماعية، في العائلة والعمل وسواهما من المجالات. إلى ذلك، إعتبر الجدلية منهجاً يسمح بتحليل العلاقات المتناقضة بين القوى الاجتماعية، خلال مرحلةٍ تاريخيةٍ معيّنة، وبالتالي إستنتاج الحركة التاريخية. فالفكر هو نتاج المادة، وليست المادة نتاج الفكر.
وفي دراسته حركة التاريخ ، إختصر التاريخ الانساني ضمن أربع مراحل: المجتمع البدائيّ، المجتمع العبوديّ (الروحانيّ)، النظام الاقطاعيّ، والنظام الرأسماليّ، مضيفاً أنّ كلّ مرحلة خلقت طبقةً جديدةً أو اختراعاً جديداً من شأنه أن يؤدّي إلى نهايتها وسقوطها، بسبب التناقضات الداخلية والصراعات الطبقية.
وكان لصراع الطبقات الحيّز الأكثر أهميةً في فلسفته. وفي هذا الاطار، تحدّث أولاً عن الأرستقراطية المالية (كالمصرفيين، وتجّار الأسهم، وأصحاب الأراضي والمناجم)، وحيث يكون مصدر الدخل الايجار والفوائد، وثانياً عن البرجوازية الصناعية (كرجال الأعمال وأصحاب المصانع)، حيث يتحدّد دخلهم من أرباح رأس المال، وثالثاً عن الطبقات العاملة (كالعمّال والفلاّحين)، ودخلهم تحديداً هو راتب قوّتهم العاملة. ويقوم تعارضٌ مستمرّ بين طبقات المجتمع التاريخية، ما يُعتبر محرّكاً أساسياً للتاريخ. ووحدها الطبقة العاملة، في رأي ماركس، هي القادرة فعلياً على تغيير المجتمع.
إستناداً إلى ما تقدّم، يمكن تحديد الاقتصاد الماركسيّ في اعتبار الانسان كائناً منتجاً، وفي أنّ كلّ قيمةٍ إقتصاديةٍ تتأتّى من العمل البشريّ. وبما أنّ الرأسماليّ يستولي على وسائل الانتاج، ينبغي إذاً تغيير النظام الرأسماليّ، واستبداله بنظامٍ إشتراكيّ.
ما هو مبدأ الماركسية؟
وفي الواقع، تسجّل العقيدة الماركسية ثلاث نقاط أساسية:
- المادية الجدلية التي طبّقت الجدلية الهيجيلية في شكلٍ معكوس، فحلّت كلمة “الانسان” محلّ كلمة “المطلق”، واستُبدل مفهوم “الوعي الالهي” بمفهوم “الوعي الانساني”.
- فلسفة التاريخ حيث تحكم التطوّر التاريخي (الاجتماعيّ والسياسيّ) قوانين إقتصادية، وتحديداً في الصراع بين الطبقات المستغِلّة Exploitantes وتلك المستغَلّة Exploitées .
- وأخيراً نظرية إقتصادية حاسمة تدّعي تفسير اللاعدالة في الاقتصاد الرأسماليّ (نظرية فائض القيمة La plus-value )، وإعلان المبادئ التي بموجبها سيدمّر المجتمع الرأسماليّ ذاته، خلال أزمة فائض الانتاج المصحوبة بإضرابٍ عام، ما يسمح بإقامة دولةٍ عمّالية (بروليتارية).
أما مسألة الدين، فكان لها وقعها “الصادم” عبر انتقاد الدين وإعلان الالحاد. فكيف يمكن قبول الدين، في رأي ماركس، وهو “أفيون الشعوب”، يخدّر آلام المظلومين، بسلب الانسان كرامته وحريته ومسؤوليته، ويعده بحياةٍ أبديةٍ مزدانةٍ بالعدالة والسلام، ويحرّضه على الخنوع؟!
هذه الفلسفة الماركسية التي عرضنا أبرز جوانبها في اختصار، رسمت صورة ماركس الباحث الذي لا يكلّ بل كان يمضي قُدُماً في استشعار وهن الأنظمة المعارضة لنظرياته، وفي نقد هذا الوهن وتوصيف خطورته، لا سيّما في كتابه “رأس المال” الذي جاء في ثلاثة مجلّدات (نُشر المجلّد الأول فقط وهو بعد على قيد الحياة، فيما تمّ نشر المجلّدَين الآخرَين بعد وفاته). وما جعل تأثيره كبيراً كان سعيه الحثيث وراء تكوين أساسٍ علميّ لسياسة الحركة العمّالية، إضافةً إلى الإضاءة على نقاط ضعف الرأسمالية، فتألّق في رسم النهج الايديولوجي للشيوعية، الذي اتّبعه لاحقاً الاتحاد السوفياتي، وفي دعوته إلى ثورةٍ بروليتاريةٍ ترمي إلى التحوّل للاشتراكية، ضمن قناعةٍ راسخةٍ بالحتمية التاريخية.
ثانياً: تأثير الماركسية في الفكر العربي المعاصر
كان لا بدّ للفكر الشيوعيّ الماركسيّ الرائج في العديد من الدول الغربية أن يجد له أرضاً خصبة في مشرقٍ عربيّ يغلب عليه تلوّن الآراء والنظريات والانتماءات.
- جورج حنّا (1891-1969)
كاتب وطبيب لبناني إعتقد بالاشتراكية العلمية المادية التاريخية التي نادى بها ماركس، والتي أشبعت نهمه، على حدّ تعبيره، “من حيث نظرتها العلمية والتطوّرية، وتقعيدها على قواعد مادية محسوسة، لا على قواعد يوتوبية طوباوية غامضة”(1) . وتوضّح لديه هذا التأثّر بالفكر الشيوعي بعد عودته من بعثةٍ ثقافيةٍ إلى الاتحاد السوفياتي (سابقاً)، العام 1947، حيث خطّ كتاباً عن انطباعاته تحت عنوان “أنا عائدٌ من موسكو”، وقال في ذلك: “كنت في كتابي موضوعياً، ذكرت فيه ما رأيته حسناً، وما رأيته غير حسن، فكان كتابي وزياراتي نقطة الانطلاق لتصنيفي شيوعياً.”(2)
كان حنّا إذاً إشتراكياً، ماركسياً، فكراً وعقيدةً، لكنه أعلن عدم انضمامه إلى الحزب الشيوعيّ لأنّ الحزبيّة تقتضي الانضباط والتقيّد بالنظاميّة الحزبية، وهو أمرٌ لا يتّفق مع مزاجه وطبيعته، على حدّ اعتباره. وقد قال الشاعر والأديب اللبناني د. ميشال سليمان (1933-2001) في هذا المجال: ” أجل، لم يكن جورج حنّا في يومٍ من الأيام حزبياً ملتزماً، ولكنّ مسيرته الطويلة في خطّ النضال الفكريّ والاجتماعيّ، كانت المثال النادر على نقاء الالتزام الفكريّ الواضح والتصرّف المسؤول…”(3)
إلى ذلك، وعلى خطّ الماركسية، إنتقد حنّا طقوس الدين، معتبراً الالحاد مذهباً كسائر المذاهب والمبادئ. فالفرق بين الايمان والالحاد، في رأيه، هو فرقٌ شكليّ، إذ أنّ “المؤمن يؤمن بقوةٍ فوق الطبيعة، وفوق إدراك العقل البشري، والملحد يؤمن بقوةٍ محسوسة ومنظورة يدركها العقل البشري، وبمقدور العقل البشري أن يتحكّم فيها.”(4)
وكان كتابه “المرأة جسد وروح” الصرخة الأولى في وجه المحاكم الروحية المسيحية والمحاكم الشرعية الاسلامية، كما كان من الأصوات الأولى التي نادت بقانونٍ للزواج المدنيّ الاختياريّ. وتركّز همّه، طوال مسيرته الفكرية، على الدفاع عن قيمة الانسان، وفي ذلك قال: ” لقد قضيت حياتي كلّها، وقد بلغت سنّ الشيخوخة، وأنا أنتظر تحقيق ما أحلم به، وهو أن أرى بعيني إنسانيةً حقيقيةً، ولا بأس من أن يتحقّق ما به كنت أحلم بعد غيابي عن الدنيا… فتعيش الأجيال القادمة عيشةً سعيدةً تليق بهذا الذي سُمّي الكائن الأعلى بين سائر الكائنات الحيّة.”(5)
- حسين مروّة (1910-1987)
مفكّر وباحث وفيلسوف لبنانيّ، مات اغتيالاً. يمكن توصيف تأثّره بالفكر المادي الماركسيّ، وتبنّيه اللينينية تحديداً في ما بعد، بالتأثّر الاستثنائي، لأنه ولد وتربّى ودرس في بيئةٍ دينية، ثمّ تعرّف على الماركسية من خلال قراءاته، وكانت لديه الجرأة لتبنّيها.
ففي طفولته، أخضعه والده الشيخ علي مروّة، أحد شيوخ جبل عامل (في جنوب لبنان)، لتربيةٍ صارمة طبعت شخصيّته، لا بل حياته كلّها، وشكّلت جزءاً من لاوعيه الذي كان مجدولاً على النهل من العلوم الدينية، والتوجّه نحو التعلّق بالأدب، في لبنان وفي النجف العراقية. ثمّ كانت مرحلة التعرّف على الماركسية بعد قراءته كتابيّ “بيان الحزب الشيوعي” و”الدولة والثورة” للينين Vladimir Lénine (1870-1924)، اللذَين كان لهما مفعولهما الحاسم في توجيه منهجيّة تفكّره في الفلسفة السياسية. وأصدر صحيفة “اليسار” التي تسبّبت بإبعاده عن العراق، فعاد إلى لبنان، وانتسب إلى الحزب الشيوعي العام 1951، وكان عضواً في مجلس تحرير مجلّة “النهج” الصادرة عن مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربيّ. كما كان قد جاهر كذلك بقراءته للمفكّر اللبنانيّ شبلي الشميّل (1850-1917)، وللمفكّر المصريّ إسماعيل مظهر (1891-1962)، والاثنان من ذوي الاتّجاه الماديّ. وكتب: بدأت أنحاز “إلى الفكر المادي. قرأت “أصل الأنواع”، وتابعت بعد هذا الخط من الفكر العديد من الكتب الصادرة في القاهرة، حين كانت مصنعاً هائلاً للفكر العربي.”(6)
من دراسة الشريعة الاسلامية إلى تبنّي اللينينية التي اعتبرها الماركسية بذاتها مطبّقةً “على الواقع الملموس تطبيقاً إبداعياً تميّز به لينين في عصر الثورة الاشتراكية العلمية المتحقّقة على الأرض بالفعل”(7) ، إعتُبر مروّة من أبرز مفكّري العرب النهضويين. وكانت معظم مؤلّفاته تعبّر عن رؤيته النهضوية، من “دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي” العام 1965، إلى “النزعات المادية في الفلسفة العربية والاسلامية” في جزئَين، العام 1978، و”دراسات في الاسلام (مع كتّاب آخرين) العام 1980… وقد علق في ذاكرة الكثيرين قوله إنه كان ينوي أن يكتب مذكّراته تحت عنوان “ولدتُ شيخاً وأموت طفلاً”، وهو ما أصدره عبّاس بيضون لاحقاً في كتابٍ تحت عنوان: “حسين مروّة، وُلدتُ شيخاً وأموت طفلاً”، عن دار الفارابي، بيروت.
- مهدي عامل (1936-1987)
مفكّر لبنانيّ ماركسيّ شيوعيّ، قضى اغتيالاً أيضاً كحسين مروّة. إسمه الحقيقي حسين عبد الله حمدان. كان يوقّع مقالاته في مجلّة “الطريق” تحت إسم “مهدي عامل”، فبات معروفاً بهذا الاسم.
رأى في الماركسية منهجاً يمكن اعتماده لتحليل ما يحدث في العالم العربيّ من نضالاتٍ وحركاتٍ تحرّرية، معتبراً أنه لا يمكن الفصل بين النظرية الثورية والممارسة الثورية. وكان بارعاً في الإفلات بذكاءٍ وتأنّ من جمود الماركسية السوفياتية، ليُطلق فكراً ماركسياً خلاّقاً وواقعياً، يحاول التماهي مع نهضة حزبه ونهضة الفكر العربيّ في شكلٍ عام. فلُقّب ب “غرامشي العرب” (نسبةً إلى الفيلسوف والمناضل الماركسيّ الايطاليّ أنطونيو غرامشي Antonio Gramsci (1891-1937) ).
وكان على يقينٍ بأنّ “عملية إنتاج النظرية الماركسية هي عملية مستمرّة لاستمرار الحركة الثورية نفسها، من حيث هي حركة تغيير للعالم، والانتقال به من الرأسمالية إلى الاشتراكية.”(8) فطريق الفكر الماركسيّ اللينينيّ هو طريق بلوغنا حالة تملّك واقعنا الاجتماعي التاريخي، في تراثه وفي حاضره. أضف أنّ الثورة البروليتارية هي الوحيدة التي تعتمد العلم أساساً مركزياً لمسارها التاريخيّ، ما يُبعدها عن خطر الانزلاق إلى المغامرة والانتهازية. ولا يصير الفكر، في رأيه، قوةً ماديةً فاعلة إلا عند تجسّده في الممارسة السياسية.
- سمير أمين (1931-2018)
مفكّر واقتصاديّ وأستاذ جامعيّ ماركسيّ مصريّ. ولد في القاهرة وتوفّي في باريس. ناضل طوال حياته من أجل تغيير العالم، فانصبّ اهتمامه على دعم حركات التحرّر الوطنيّ في المجتمعات الافريقية، ونضالات الشعوب المتواصلة جنوب شرق آسيا.
صحيح أنه انضمّ في باريس إلى الحزب الشيوعيّ الفرنسيّ (PCF )، إلاّ أنه ما لبث أن ابتعد عن الماركسية السوفياتية وعن برنامجها التنمويّ، ليطبّق مفهومه الخاص بالماركسية، داعياً إلى تأسيس أُمميةٍ تتجاوز القوى الماركسية، وتنفتح في الوقت ذاته على كافّة حركات المقاومة الشعبية بكافّة أشكالها وتشعّباتها.
وكان أمين أحد أبرز أعمدة “مدرسة التبعيّة” التي درست إقتصادياً وفي عمقٍ أسباب تخلّف دول العالم الثالث، وحلّلت إجتماعياً حالات الفقر وعدم الاستقرار السياسيّ في دول الجنوب، بسبب سيطرة دول الشمال عليها وعلى مقدّراتها. من هنا، رأى وجوب تجاوز النظام الرأسماليّ بصفته منظومة استغلال، كما وجوب اعتماد منهج التفكير الماركسيّ الماديّ، بهدف بلوغ نظامٍ أكثر عدالةً.
جنّد أمين قلمه ليعبّر عن أفكاره في الفلسفة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فشرح في كتابه “التراكم على الصعيد العالميّ” العام 1973، مفهوم “الريع الامبرياليّ” حيث تُثري موارد دول الأطراف دول المركز. واعتبر أننا في حاجةٍ إلى ماركس اليوم، ليس بتكرار ما قاله في وقته، بل بمواصلة منهجيّة تفكيره، ما يساعدنا على إيجاد إجاباتٍ ماركسيٍة للتحدّيات الحالية، وعلى مواجهة “الفيروس الليبيراليّ” الذي طالما قضى وما زال يقضي، على حدّ اعتباره، على آمال الشعوب ويقوّض نضالاتها. ودعا إلى تجديدٍ للماركسية، وإلى أنسنة العولمة، كما قام بمراجعةٍ نقديةٍ للفكر الماركسيّ. وسمّاه البعض “آخر الماركسيين العرب”، هو الذي تبنّى قول مهدي عامل: “ما دمنا نقاوم، فنحن أحرار”!!
- خالد بكداش (1914-1995)
سياسيّ وكاتب سوريّ، سليل عائلةٍ كرديةٍ معروفة. ولد في دمشق. إنتسب إلى الحزب الشيوعيّ العام 1930، وتمّ اعتقاله مرّتٍ عدّة. وقد حاول طوال حياته أن ينشر الفكر الشيوعيّ الماركسيّ الأمميّ، وأن يعيشه قولاً وفعلاً، عبر ما كتب وترجم (“الفاشستية عدوّة الشعوب” العام 1937، “التنظيم أساس النجاح” العام 1939، “عمر فاخوري: أديب الحرية والنور العام 1946 … ). وكان أوّل من ترجم كتاب “بيان الحزب الشيوعيّ” العام 1933. وفي العام 1935، إنتُخب عضواً في رئاسة المؤتمر السابع للأممية الشيوعية، حيث سمّاه ستالين Joseph Staline (1878-1953) “النسر العربيّ”.
أسّس، العام 1937، صحيفة “صوت الشعب”، كما أسّس كذلك الحزب الشيوعيّ السوريّ، وترأّسه حتى وفاته. وانتُخب العام 1954 ليكون أوّل برلمانيّ عربيّ شيوعيّ. ذهب إلى الاتحاد السوفياتي لدراسة الماركسية، والتحق بمعهد لينين في موسكو، ثمّ بجامعة طشقند. رفض حلّ الحزب في فترة حكم خروتشوف Nikita Khrushchev (1894-1971)، وأيضاً خلال مرحلة الوحدة بين مصر وسوريا. عُرف بنضاله في وجه الاستعمار الفرنسيّ في أواخر العشرينات، وقصد باريس العام 1936 بغية حشد الرأي العام التقدّميّ الفرنسيّ لدعم المطالب السورية، ولتأييد الوفد السوريّ الرسميّ الذي زارها يومذاك.
في مطلع الأربعينات، كان من بين الذين شكّلوا لجنةً لمكافحة الصهيونية في دمشق، وعمل في شكلٍ مستمرّ على تقوية اللُحمة بين الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية. ولأنه من أصولٍ كردية، إتّهم بالقومية عندما نجح في جذب عددٍ كبيرٍ من الشباب الأكراد إلى صفوف الحزب الشيوعيّ، وبثّ روح الماركسية في عقولهم وقلوبهم، وعندما جاهر بعروبته إلى جانب أصله الكرديّ، ووجه من الأكراد أنفسهم الذين اعتبروا أنه تنكّر لأصله، فردّ عليهم بقوله: كما فعل لينين حين أعلن أنه روسيّ قبل أن يكون شيوعياً، فأنا أقول إني كرديّ قبل أن أكون شيوعياً، ولكنني أفضّل الأممية. وكان بكداش من المتمسّكين بقوّةٍ بالنظريات الماركسية، وكان يرفض محاولات تجديد الفكر الماركسيّ أو تطويره. وهذا ما حاول التعبير عنه في غالبية مؤلّفاته التي نذكر منها: “حركة التحرّر الوطني والنضال في سبيل الاشتراكية”، “الاشتراكية والمساواة”، “الشيوعية والقومية”، “حزب العمّال والفلاّحين”. وتقديراً لنضالاته في نشر الفكر الماركسيّ اللينيني، فقد نال العديد من الأوسمة، منها “وسام لينين” و “وسام كارل ماركس” العام 1982. كما لقّب ب “عميد الشيوعيين العرب”.
ثالثاً: أحلام الماركسية المحبَطة ؟!
ككلّ تيّارٍ فكريّ سياسيّ إقتصاديّ، تعرّضت الماركسية للنقد والتقييم، تارةً في شكلٍ صارخٍ وحاسم كما لدى خصومها الرأسماليين، وطوراً في شكلٍ موضوعيّ وحازم لدى المفكّرين والباحثين المتعمّقين بالماركسية منذ انطلاقتها وإلى اليوم.
وكان المفكّر والناقد والفيلسوف السوريّ جورج طرابيشي (1939-2016)، الذي مرّ، في مساره الفكريّ، بمحطّات القومية والوجودية والماركسية، من أقدر من استطاع تقييم الماركسية، لا سيّما في يومنا الراهن، لأنه كان ذا خبرةٍ واسعةٍ جعلته قادراً على مناقشة الماركسيين. فقد أقرّ أنه تعلّق بالاشتراكية شاباً، بدون أن يقرأ فيها كما يجب، ثمّ ما لبث أن تعمّق في أسسها ومبادئها، فرأى أنّ الماركسيين يتشابهون في أقوالهم وفي دفاعهم عن معتقداتهم، فيستخدمون الأفكار ذاتها، في غيابٍ تامّ للموقف الشخصيّ المطلوب، ما يحوّل الماركسية إلى إيديولوجيا جامدة، الأمر الذي دفعه إلى الابتعاد عنها.
فالماركسية، في رأيه، تضع الماركسيّ في غرفةٍ مظلمة، وتعطيه مصباحاً ليتمكّن من الرؤية في العتمة، “وهي لا تسمح له إطلاقاً بمغادرة تلك الغرفة، وتجعله ينظر إلى المصباح الماركسيّ، ولكنه لا يعي تماماً أنّ الماركسية نفسها هي من أدخلته في تلك الغرفة المظلمة.”(9) وهذا أمر خطير يؤدّي إلى توصيف ماركس “بنبيّ الاشتراكية المادية”، فلا يجرؤ أحد على نقده، بل يؤمنون فقط بما كان يقوله. وبذلك يجرّدون أنفسهم من الحسّ النقديّ الملازم لكلّ مثقّف، ويجرّدون ماركس في الوقت ذاته من صفة المفكّر والفيلسوف الذي ينبغي أن يخضع كسواه من المفكّرين والفلاسفة للتقييم الفكريّ الموضوعيّ. ينبغي إذاً على المفكّر العربيّ أن ينعتق من أسر النصوص لأنه “إذا ما اعتقد أنّ الحقيقة موجودة في النصّ، فإنه بذلك يكون قد ألغى نفسه كمفكّر.”(10) لم ينكر طرابيشي أنّ الماركسية كانت من أقوى الايديولوجيات التي جذبت ملايين البشر في التاريخ الحديث والمعاصر. أمّا أن تصبح كالديانة، إمّا أن نقبل بها وإمّا أن نرفضها، بعيداً من النقد الهادف والسليم، فهذا أمر غير مقبول، وهنا تكمن خطورة الايديولوجيات.
خاتمة:
بدايةٌ متألّقة كُتبت بحبر ماركس الذي استقاه مباشرةً من قهر الطبقات العاملة، فلمع إسمه وفكره وراجت نظرته في الحياة والدين والاقتصاد والاجتماع… ولم يسلم من نقده حتى الفلاسفة الذين اتّهمهم بتحليلٍ نظريّ بحت للعالم وبطرقٍ مختلفة، فيما كان عليهم أن يُحدثوا فيه التغيير المطلوب، على حدّ اعتباره.
بدايةٌ لا شكّ سجّلها تاريخ الفكر، إلاّ أنّ أصداءها اليوم، وعلى رغم تمسّك بعض الفئات بالماركسية كما هي، أو كما يريدونها أن تكون، هي أصداءٌ تتلاشى شيئاً فشيئاً، تارةً بتهليل سقوط المعسكر الاشتراكيّ الماديّ وفرض الليبرالية ذاتها في العالم الغربيّ خصوصاً، وطوراً بتراكم كمّ من الاحباط لآمال شعوبٍ وأفراد خذلتهم الماركسية في عالمٍ لم تتحقّق فيه لا المساواة ولا العدالة كما حلم بهما ماركس.
بدايةٌ متألّقة.. وراهنٌ ينزف، ليس فقط على وقع بعض النظريات المتهاوية، بل كذلك بسبب اللاعدالة التي يرزح تحت ثقلها اليوم أبرياء ومظلومون لم يفلح ماركس في إنقاذهم لا خلال حياته ولا بعد رحيله، وسط الواقع المنعقد، في كافّة أقطار العالم، على أزماتٍ متوالدة !!
المراجع:
[1] – جورج حنّا، قبل المغيب، تجارب وذكريات من حياتي، دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ص. 483-484.
[2] – المرجع نفسه، ص. 389.
[3] – د. ميشال سليمان: “جورج حنّا: “مرحلة من تاريخ شعب في حياة رجل””، مجلّة الفكر الجديد، السنة الأولى، العدد 12، بيروت، آذار-نيسان، 1969، ص. 12.
[4] – جورج حنّا، قبل المغيب، مرجع مذكور، ص. 486.
]5] – جورج حنّا: “الفكر الجديد في خدمة الانسان الجديد”، مجلّة الفكر الجديد، السنة الأولى، العدد الأول، بيروت، نيسان، 1968، ص. 8.
[6] – حسين مروّة، “من النجف دخل حياتي ماركس”، مجلّة الطريق، العددان 1 و 2 ، 1984، ص. 172.
[7] – المرجع نفسه.
[8] – مهدي عامل، مقدّمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرّر الوطني، دار الفارابي، الطبعة السابعة، بيروت، لبنان، 2013، المقدّمة.
[9] – د. عمّار بوزيزه، “مطارحات في نقد الماركسية عند جورج طرابيشي”، مجلّة العلوم الانسانية، المركز الجامعي، الجزائر، المجلّد 4، العدد 5.
[10] – جورج طرابيشي، هرطقات 1: عن الديمقراطية والعَلمانية والحداثة والممانعة العربية، دار الساقي، بالاشتراك مع رابطة العقلانيين العرب، بيروت، لبنان، 2006، ص.122.