تكوين
ثمَّة علاقة تراتبية تراكمت عبر العصور طرفها الأول، استقر عند يقين وبداهة هي أنَّ أي مؤسسة في حاجة دوماً إلى الإصلاح والتطوير المُستدام، الذي يتسق مع متغيرات العصر ومحدداته والعلاقة مع الآخر، وهناك من يقاوم ذلك على خلفية الحفاظ على ثوابت وهُوية تحفظ قدر السلطة وهيبتها، الأمر الذي يبرر فعل المقاومة وكبح مفاعيله، وما بينهما يمكن ملاحظة درجة التحديث صعودًا وهبوطًا في أثناء الزمن.
يقينًا فإنَّ المؤسسات الدينية ليست خارج هذا المفهوم ودومًا تحتاج إلى صيرورة الإصلاح والتطوير، ومجابهة التحديات التي تفرضها الأوضاع الاجتماعية والسياسية دون الإخلال بالتوازن المطلوب بين الثوابت المقدسة وديمومة التجديد الحتمية.
تُمثل الكنيسة القبطية تاريخاً متصلاً في مسار طويل وشامل في تاريخ مصر، وكذا ما يتصل بمحيطها الحيوي ويرتبط يقينًا بكافة المؤثرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ضمن الدائرة الأوسع عالميًا، كون الكنيسة شأنها شأن أي مؤسسة دينية لا تتحرك في الفراغ، بل تتأثر وتؤثر في مجالها العام نظرًا لطبيعة علاقتها بالمؤسسات الأخرى والطبقات الفاعلة، وطبيعة مكونها الرئيس الذي يتأسس من طريق التفاعل مع السلطة الزمنية، وينتج طبقة فاعلة يٌضحي لها مساحة نحو التأثير في شكل وهيئة الكنيسة، خصوصا فيما يتصل بمنظومة المهام غير الدينية، والتي طالما كانت محل تنافس – صراع – بين طبقتين: رجال الدين “الإكليروس”، و”العلمانيين” غير رجال الدين، بيد أنَّه من اللافت والضروري، التدقيق في شكل وطبيعة وتمايز العنصر الأخير “العلمانيين“، وتباين طبيعتهم ونسق هيئتهم ومدى انخراطهم في التفاعل داخل الكنيسة باختلاف الزمن ومحدداته ونسقه الاجتماعي والسياسي والثقافي.
اقتصاد الدين وأثره
لا يمكن الحديث عن تلك الطبقة “الأراخنة” كبار الملاك ووجهاء القبط، والتي انخرطت عبر موجات الإصلاح منذ القرن التاسع عشر وحتى اللحظة الحالية وفق نسق واحد، ولا يمكن أيضًا الحديث عن تحديات فعل الإصلاح وحتميته داخل الكنيسة بمدى ثابت ومستقر في أثناء هذا الزمن الطويل لا سيما مع بروز تحديات جديدة، من ناحية التوسع في كنائس المهجر ودخول النمط الاقتصادي المُوَسِّع في الكنائس وتبني تلك الأديرة اقتصاديات متنوعة، ممّا يعني وفرة الأموال وحتمية تموضع إدارة حديثة ونظم محاسبية ومراقبة مالية متطورة، فضلاً عن تطور وتبدل حال النظرة للسلطة السياسية وعلاقتها بمكون الكنيسة وكيف ينبغي أن تدار سواء عبر وسيط “المجلس المِلِّي” كما حدث في الفترة التي سبقت ثورة يوليو 1952، أو بصيغة مباشرة وبتأويلات الزمن في عقود ما بعد الثورة، تِبعًا لاختلاف شكل الحكم، سواء في مرحلة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أو أنور السادات وكذلك مرحلة حسني مبارك، وكلًّا منهم تمايز عن الآخر في درجة تلك العلاقة وتحديد ماهيتها وكيفية سريانها، على النحو الذي يتماشى مع الظروف الاجتماعية والسياسية.
كما لا يُمكن فصل ذلك المسار الطويل من تجربة الإصلاح الممتدة منذ عقود طويلة مضت عن حالة الريبة والشك من هؤلاء الذين يدعون إلى التطوير والإصلاح من طريق مبررات الهُوية والمساس بالثوابت وفعل الارتباط بالتأثير الخارجي، فضلاً عن الارتياب الدائم من إحلال السلطة الدينية من طريق مفاعيل التشاركية في الإدارة وجعل الكنيسة ديموقراطية ومأسستها.
جدل العلاقة بين الإكليروس والعلمانيين
ربما بالنظر إلى الكنيسة من طريق زاوية واحدة، إكليروس رجال الدين يملكون السلطة وإرادة الحكم، وعلمانيون يقعون تحت تلك الإرادة، بواسطة مظلة القداسة، يمكن فهم العقبات التي جرت في أثناء تلك العقود أمام تنحية الدور المدني من نسق الإدارة الكنسية، وتعطيل منظومة المجلس المِلِّي عن هدفه الرئيس لسنوات طويلة، تكاد توازي الفترات التي نشط فيها، كما لا ينبغي أن نغفل أن فعل ذلك وقع أيضًا من طريق المتغيرات التي طرأت على طبقة كبار العلمانيين “المدنيين من غير رجال الدين“، في المرحلة التاريخية التي تلت ثورة الثالث والعشرين من تموز/يوليو العام 1952، والتي من طريقها باتت تلك الطبقة جزءاً رئيساً من ذهنية الدولة وتركيبتها، كما أنَّ عقد الأربعينيات ارتبط بقناعة هي أنَّ تيار الإصلاح القبطي لا يمكنه العمل بنجاح سوى من داخل المؤسسة الكنسية وتيار الرهبنة بالتحديد، وعزز ذلك التوجه فشل جماعة الأمة القبطية في محاولتها إجبار البابا يوساب على ترك الكرسي البابوي.
ربما تميزت تلك الفترة الخمسينيات وما تلاها من عقود بتدحرج ملف الإصلاح القبطي، داخل منظومة رجال الدين، وعبر بذلك نحو جيل الرهبان الجدد الذي آمن منذ البداية بكون الإصلاح لن يتأتى سوى من الداخل، داخل الكنيسة ورجال الدين وفقط وظل هكذا.
إذاً يمكننا الحديث عن تجربة الإصلاح القبطي والمجلس المِلِّي في فترتين زمنيتين محددتين: ما قبل ثورة يوليو وتجرية الحكم شبه البرلماني وما تلا تلك المرحلة، ومرحلة انحصار دائرة الحكم دخل سلطة واحدة مطلقة.
يمكننا القول إنَّ ما يُعزز ذلك الفصل بين مرحلتين تاريخيتين، هو أنّ المرحلة الأولى شهدت نمواً متصاعدا لطبقة كبار ملاك الأقباط “الأراخنة” في أجواء ليبرالية، وارتباطهم بمناصب حيوية في دولاب الدولة، مع وجود قناعة راسخة هي أنًّ رجال الدين “الإكليروس“، لا يستطيعون وحدهم إدارة تيار الإصلاح، رغم بروز اسم البابا كيرلس الرابع في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وذلك نحو دفع الكنيسة بوصفها مؤسسة إلى قلب عملية الإصلاح، غير أنَّ ذلك لم يُفض إلّا نحو تنافس فيما بينهما، الأمر الذي أنتج حضور المجلس المِلِّي، بغية ممارسة دور أكبر تكون له سلطة تنظيمية بمحاذاة سلطة رجل الدين.
ليس ثمَّة شك أنَّ هناك وقائع عديدة في العقود القليلة الماضية تقاطعت مع الجدل الدائر بشأن الكنيسة وما يعتريها من علامات استفهام عديدة، فيما يتصل بمساحة الدور الخاص بالإكليروس والدور المنوط بالعلمانيين، وكيف يلتقيان معاً في علاقة تصالحية وتكاملية من أجل تأمين الكنيسة الأرثوذكسية وتأميمها من أيّة تصدعات وأزمات هيكلية، خصوصا وأن هذا الدور تعرض للإزاحة منذ عصري البابا كيرلس السادس والبابا شنودة، إذ استقر في عقيدة البابا شنودة أن العلمانيين يزاحمون الإكليروس في إدارة شؤون الكنيسة.
المجلس المِلِّي: رؤية تاريخية
الكنيسة القبطية كنيسة محافظة إن لم تكن في الواقع أشد الكنائس تمسكاً بالتقاليد الكنسية، ولعل هذا يرجع إلى عدد من العوامل التاريخية والمذهبية فضلاً عن نظام الكنيسة كونها مؤسسة ما يعكس وبشدة هذا الطابع المحافظ، حيث التدرج الكهنوتي الذي يبدأ من أسفل وينتهي إلى أعلى سلطة في الكنيسة وهي سلطة البطريرك، الذي في النهاية ومن الناحية الواقعية، يحوز سلطة ذات طبيعة مطلقة، وقد استقر في تقاليد الكنيسة القبطية أنَّه ما إن يُتفق على تحديد شخصية المرشح إلى منصب البطريرك وينتهي حفل تنصيبه، تجتمع بين يديه السلطة الكلية على الكنيسة وهيئة الإكليروس وكذا، الرعية، وذلك في كل ما يتعلق بالشئون الرُوحية، وما يتصل بجميع المؤسسات المُلحقة بالكنيسة.
وتقوم سلطة البطريرك على ركيزتين: إحداهما رُوحية وتستند إلى أن جلوس البطريرك على كرسي مارمرقص الرسول تم بمشيئة إلهية، وركيزة ثانية زمنية، وتشتمل على مكون سياسي يُمثل حلقة الاتصال بين الدولة وجمهور الأقباط من ناحية، والدولة والبطريرك من ناحية أخرى[1].
كانت توطئة المجلس المِلِّي عام 1872 حين دعا الأنبا مرقس مطران البحيرة بصفته قائم مقام البطريرك، بعض من شعب الكنيسة من أجل المشاركة في إدارة شئونها وبدأ مع تنظيم ذلك بطريقة رسمية من طريق صدور الأمر العالي بتكوين المجلس المِلِّي لطائفة الأقباط الأرثوذكس.
وفى عام 1874 تكون أول مجلس ملي وانتخب بطرس باشا غالى وكيلاً له، فقد نصَّت لائحته على أن تكون رئاسته للبابا البطريرك، وبدأ المجلس في إداء مهامه في شهر شباط/فبراير من العام نفسه بعد أن اعتمد الخديوي إسماعيل تكوينه وأصدر قراره بذلك، وفى العام التالي 1875 اختار المجلس الأنبا كيرلس الخامس للبطريركية، والذى رأى في صلاحيات المجلس ما يُمثل اعتداءً على سلطاته بوصفه بابا وبطريرك فأتخذ قراره بحل المجلس، فلجأ الأخير إلى الدولة معترضاً على قرار البابا، وانتصرت الدولة للمجلس الذي تأسس برعايتها وصدر الأمر العالي بتكوين المجلس مرة أخرى، وأعيد انتخاب بطرس باشا غالى مرة أخرى وكيلاً له، لكن سرعان ما دب الخلاف مجدداً بين المجلس والبابا بشأن ماهية الاختصاصات والصلاحيات بين الطرفين، رغم أن المهام المنوط بها المجلس كان قد حُددت على النحو التالي[2]:
- النظر في كافة المصالح الداخلية للأقباط.
- حصر أوقاف الكنائس والأديرة والمدارس وجمع حججها ومستنداتها وتنظيم حسابات الإيراد والمنصرف وحفظ الأرصدة.
- إدارة المدارس والمطبعة ومساعدة الفقراء.
- حصر الكنائس وقساوستها والأديرة ورهبانها والأمتعة والسجلات الموجودة في هذه الجهات.
- النظر والفصل في منازعات الزواج والطلاق وما يتعلق بما يعرف الآن بالأحوال الشخصية للأقباط.
بيد أنَّ هذه اللائحة رُفضت من المطارنة والبابا البطريرك، وأصدروا بياناً بذلك أكدوا فيه أنَّ هذا المجلس يُعد مخالفة للأوامر والنصوص الرسولية.
البابا ولائحة تكوين المجلس المِلِّي عام 1883م
انتشر في ذلك الوقت الجمعيات الخيرية لرعاية الفقراء وأصحاب الدخول المنخفضة، وكذا تأسيس المدارس ونشر التعليم بين تلك الطبقات ما حدا بالأقباط إلى تأسيس جمعيات مشابهة، فكون بطرس غالي “الجمعية الخيرية القبطية” وكان من ضمن أهداف الجمعية فكرة بعث المجلس المِلِّي ودفعه نحو الإشراف على أوقاف الكنيسة وإدارة أموالها، لذلك سعى بطرس غالي لدى الدولة في إعادة تكوين المجلس المِلِّي مرة أخرى، وخوفاً من أن تقوم الكنيسة بتجميده، فإنّ الداعين إلى التطوير والتحديث استصدروا قانونًا يُحدد العلاقة بين البطريرك والمجلس المِلِّي، حتى لا يحدث تداخلًا في الاختصاصات ولتكون اللائحة مجرد قرار صادر بنفسه، ولكنها تصبح قانونًا له قوة النفاذ، وتطبيقاً لهذه الأفكار صدر قانون يحدد العلاقة بين الكنيسة والمجلس العمومي للأقباط الأرثوذكس، وهو الاسم الرسمي للمجلس المِلِّي، وصدر أمر عالٍ بتكوين: “مجلس عمومي لجميع الأقباط بالقطر المصري”، وأُعيد انتخاب بطرس غالي وكيلًا له في 14 أيّار /مايو 1883م[3].
كان هذا القانون هو محور المشاكل التي حدثت فيما بعد، وهو الذي فَجًّر الخلاف بين المجلس المِلِّي من ناحية والبابا من ناحية أخرى، لأنَّ اللائحة نصَّت على أن “يقوم بكافة المواد المعتاد نظرها بالبطريكخانة“، وأن يختص بحصر أوقاف الكنائس والأديرة والمدارس وجميع حججها ومستنداتها وتنظيم حسابات الإيراد والمنصرف وحفظ الأرصدة، وأن يكون من واجبه إدارة المدارس والمطبعة ومساعدة الفقراء وحصر الكنائس وقساوستها والأديرة ورهبانها والأمتعة والسجلات الموجودة في هذه الجهات، وذلك فضلًا عن عدِّه – المجلس المِلِّي– محكمة للأحوال الشخصية للأقباط تنظر في منازعات الزواج والطلاق وغيرها، وكانت هذه المادة هي بداءة الصراع بخصوص قضايا الأحوال الشخصية بين الإكليروس والعلمانيين في الكنيسة، ونصَّت اللائحة كذلك على أن يكون تكوين المجلس من اثنا عشر عضوًا يُكونون المجلس، واثنا عشر نائبًا يضافون إلى الأعضاء لتكوين الجمعية العمومية له، وينتخب الأعضاء والنواب 150 عضوًا ويكون البطريرك هو رئيس الاجتماع الانتخابي، كما تكون له رئاسة المجلس المِلِّي ذاته على أن يُنتخب وكيل للمجلس من أعضائه، يقوم مقام الرئيس عند غيابه ومدة العضوية والنيابة في المجلس خمس سنوات تُجدد بعدها الانتخابات، وقد رأى البابا – كيرلس الخامس- أن هذه اللائحة تعني إبعاده ورجال الكهنوت من إدارة الكنيسة، لذلك أعلن رفضه للائحة كما رفض المطارنة المجلس وأصدروا بيانًا يؤكدون فيه أنَّ المجلس المِلِّي مخالف للأوامر الإلهية والنصوص الرسولية[4].
وعندما ننظر في اللائحة السابقة نجد أنَّها تجعل من هذا المجلس برلماناً خاصاً للأقباط في مصر، يبحث في شئونهم ويدير ثرواتهم ويراعي مشاريعهم، مثل: مدارسهم ومستشفياتهم وجمعياتهم الخيرية ويعمل لإصلاح أحوالها، وقد يكون في البداءة من رجال الدين، ثم بعد ذلك يصبح برلمانًا علمانيا، أي مكون من رجال ليسوا من رجال الإكليروس، لأنَّ المجلس مخصص للإدارة وليس للنواحي الروحية التي تخص الكنيسة فقط، هذا من ناحية أمَّا من الناحية العملية فهؤلاء المنتخبون من أعضاء المجلس المِلِّي من العلمانيين، وهم من الشعب القبطي العادي، الذي مهما كان متدينًا، فإنه لا يفهم المسيحية كما يجب أو هكذا ينظر إليه رجال الدين[5].
وقد لاحظ أعضاء المجلس إهمال البابا لهم وعدم دعوتهم إلى الانعقاد، كما لاحظوا أيضًا أنَّ نصائحهم لا يُلتفت إليها، وما زاد من غضبهم على البابا هو ما نصَّت عليه المادة التاسعة من لائحة المجلس المِلِّي المختصة بحصر جميع الأوقاف الخيرية الموقوفة على الكنائس والأديرة والمدارس، والإشراف على من يُقبل فيها من الرهبان، وعند اطلاع المجلس الملى الميداني على واقع الأوقاف المملوكة للأديرة، وحالتها البائسة، قدم أعضاؤه انتقادات لسلوك رؤساء الأديرة، والطريقة التي يتصرفون بها في دخل هذه الأوقاف الضخمة الموقوفة عليها، وأنَّ هذه الأوقاف لا تُستغل أحسن استغلال.
البحث في موضوع الأوقاف القبطية أدَّى فيما بعد إلى مشاكل بين الكنيسة من ناحية والمجلس الملى من ناحية أخرى، وقد ظلَّت هذه الأوقاف سرًا لا يعرفه أحد إلا رؤساء الأديرة، حتى اكتشفها جرجس بك حنين صدفة، عندما كان مديرًا لمصلحة الأموال المقررة والتي كان يدخل في اختصاصها آنذاك تسجيل الملكية الزراعية والعقارية، ولما كان مسؤولًا كبيرًا في الوزارة، استغل وجوده وبحث واستخرج سجلا شمل أملاك جميع الأوقاف القبطية وتفصيلاتها، وقد اكتشفوا عددًا كبيرًا من العقارات المبنية في القاهرة وضواحيها وأراض واسعة خصبة في جميع مديريات الوجهين البحري والقبلي وكان أغلبها في محافظة أسيوط وظلت قيمتها مجهولة، ولكن بعد أن بحثها جرجس بك حنين قَدَّرَ قيمتها عام 1906 بمليون ونصف مليون من الجنيهات، وكانت هذه الأملاك الواسعة كلها تحت تصرف رؤساء الأديرة، الذين لم يكن يزيد عددهم على أصابع اليد الواحدة، وعندما حدث نقاش في هذه المواضيع الخطيرة التي تَمس الشعب القبطي ككل، فإنَّ البطريرك دافع عن الأديرة وأنهى البابا كيرلس الخامس هذا الخلاف بتجميد المجلس المِلِّي مرة أخرى عام 1891م[6].
إلى ذلك شهدت أروقة الكنيسة صراعات عديدة بين المجالس المِلِّية المتعاقبة والبطاركة المعاصرين لها في مرحلة ما قبل يوليو/تموز 1952، وكانت تنتهي في الغالب إلى القطيعة بين الطرفين دون نتيجة حاسمة، وذلك على خلفية أنَّ منازعة سلطة رجال الدين أمر لا يمكن قبوله غير أنَّ ذلك لم يستطع أن يُجمد محاولات البحث عن مسارات ومحاولات الإصلاح القبطي.
مدارس الأحد والمجلس المِلِّي
اهتمت جماعة مدارس الأحد بقضية المجلس المِلِّي، وكانت أحد أهم الموضوعات التي تناولتها المجلة، وقد كان لها منذ اللحظة الاولى موقفاً سلبياً من ناحية المبدأ، فهي ترى أنًّ المجلس يزاحم الإكليروس، بداعي أنَّ عمله يعد على عمل الشمامسة، والشموسية هي واحدة من درجات الإكليروس، لكنهم مضطرون إلى التعامل مع هذا الكيان بوصفه أحد الأنظمة المفروضة قانوناً على الكنيسة.
وقد حفلت مجلة مدارس الأحد بما يؤكد الموقف الرافض والمترصد للمجلس المِلِّي، ويأتي في افتتاحية المجلة عام 1950 ما يؤكد مبدأ “أنَّ من حق الشعب الذي انتخب أعضاء تلك المجالس أن يُناقشهم ويرى ماذا فعلوا وماذا أنتجوا”، وفي السياق ذاته تذهب سطور المجلة إلى أنَّ هؤلاء انتزعوا لأنفسهم حق إدارة الأمور الخطيرة داخل الكنيسة، وغالبيتهم يجهلون قوانين الكنيسة وعقائدها وتقاليدها وطقوسها، وفي موضع آخر تقول المجلة إنَّ المجلس المِلِّي بصورته الحالية ليس له أساس من تعاليم الكتاب المقدس أو قوانين الكنيسة وإنما هو وضع يستند إلى القوانين المدنية، هذه المدونات التي عبرت عنها جماعة مدارس الأحد من طريق أعدادها المنشورة قبل ثورة 23 يوليو 1952، استطاعت أن تترجمه عبر أبنائها بعدما أصبحوا قادة الكنيسة، مثال البابا شنودة الثالث 1971 -2012 وذلك بواسطة تفريغ الدور العلماني من مضمونه وتكريس كل الصلاحيات في يد الإكليروس وحدهم، وتحول العلمانيون إلى مجرد منفذين لرؤية الإكليروس وتوجهاته وقراراته، سواء في مجالس الكنائس أو في المجالس المِلِّية الفرعية.
أمَّا المجلس المِلِّي العام فقد مر بمرحلتين في العصر الحديث الذي شهد دخول شباب مدارس الأحد في دائرة القيادة، منذ لحظة اختيارهم ضمن سكرتارية البابا كيرلس السادس ثم أساقفه عمومين حيث جُمدَ المجلس في عصر الرئيس جمال عبد الناصر من البابا كيرلس السادس، ثم وبحنكة ومهارة سياسية وإدارية أعيد تكوين المجلس المِلِّي في عهد البابا شنودة الثالث ليبدو الشكل مكتملاً، وساعد على ذلك عدة عوامل أهمها: المناخ المُحتقن طائفياً والذي دفع الأقباط إلى الالتفاف حول الكنيسة مُمثلة في قيادتها، والانفتاح الاعلامي وسيطرته على ذهنية المتلقي وحرص البطريرك على إعادة إصدار مجلة الكرازة، التي تحولت في إصدارها الثاني إلى ما يشبه الجريدة الرسمية للكنيسة، مع اهتمام البطريرك شنودة الثالث باستمرار اجتماعه الأسبوعي يومي الجمعة والأربعاء.
وفرت جملة العوامل السابقة التي تسير في اتجاه رؤية شباب مدارس الأحد، عدم شرعية المجلس المِلِّي كنسياً، وتبقى أمامه عقبة اللائحة، وقد جاء المخرج عبر ترتيب قائمة تضم من ترى القيادة فيهم أهلاً للثقة والولاء، ودفعهم للترشيح وتقديمهم إلى الناخبين والإيعاز لهم من فوق منابر الكنائس أنَّ هؤلاء هم أبناء البابا وعلى كل من يحبه ولا يريد المجيء بمن يعارضه أن ينتخبهم، وتنتهي التوجيهات بأنّ “ابن الطاعة تحل عليه البركة”، ذلك رغم إعلان البابا شنودة الثالث في أكثر من تصريح أنَّه لا علاقة له بأي قوائم.
تأتي علاقة العلمانيين بالإكليروس في إدارة شئون الكنيسة المصرية من طريق المجلس المِلِّي، عبر تلك الخبرة التراكمية السلبية التي صاحبت نشأة المجلس المِلِّي وعمله منذ البدايات، إذ وصل إلى نقطة المواجهة والصدام مع قادة الكنيسة، دون الوصول إلى شكل متكامل للتعاون والشراكة، وذلك رغم التعديلات التي أدخلت أكثر من مرة في لائحة المجلس المِلِّي، فإنَّ قضية المشاركة الواسعة للجماهير القبطية في إدارة شئون الكنيسة لم يُتح لها أن تعرف مسار الحل حتى اللحظة.
نحو ذلك قد يكون من الضروري وضع تلك المقاربة التي بيَّنها كمال زاخر في كتابه “قراءة في واقعنا الكنسي حين كتب: “في سياق ضبط المصطلحات نتوقف أمام التقسيم الذي لا تعرفه الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، لكنَّه اقتحمها واستقر بين جنباتها بعد أن تسلل إليها مع المحاولات المبكرة للصحوة، ويسعى البعض في تأكيده ليبني عليه ما يراه دعمًا له، وهو تعبير علمانيون/إكليروس، الذي يخلق ثنائية لا محل لها في كنيسة شعب الله[7]“.
التيار العلماني بين البابا شنودة والبابا تواضروس الثاني
مثلما كان المجلس المِلِّي في منتصف القرن التاسع عشر استجابة إلى تطور تاريخي وسياسي وثقافي طال المجتمع المصري، كان بزوغ التيار العلماني في أثناء عام 2006، استجابة لحراك سياسي وتفاعل مجتمعي امتد نحو أركان المجتمع المصري في تلك اللحظة من طريق مؤتمرات التيار العلماني التي انتظمت تباعاً، وبدأت في مخاطبة البطريرك البابا شنودة الثالث والمجمع المقدس مع كل دورة للمجتمعين، بهدف المشاركة في إدارة الكنيسة ووضع تصور للتحديث في نقاط محددة كان من أبرزها المجلس المِلِّي.
غير أنَّ البابا شنودة الذي كَرَّسَ تجربته في تموضع المجلس المِلِّي من طريق أهل الثقة وعبر رسمهم شمامسة أولى درجات السلم الكهنوتي، فيما عدهُ الأنبا غريغوريوس خصماً من استقلالية أعضاء المجلس المِلِّي، لم يكن مرتاحاً لمسار المؤتمر العلماني القبطي في دورات انعقاده حتى نهاية عام 2010 ومواكبة ذلك مع أحداث يناير من عام 2011، وانتهاء المُدة القانونية للمجلس المِلِّي، ووفاة البطريرك البابا شنودة مع شهر مارس/آذار من العام ٢٠١٢ وحتى اللحظة يظل المجلس المِلِّي مُعطلاً، رغم بعض الإجراءات والتصريحات التي تدعم فكرة مأسسة عمل الكنيسة بنظم الإدارة الحديثة، ومن بينها قرار إنشاء الكنيسة للمعهد القبطي للتدبير الكنسي والتنمية عام 2015 بالتجمع الخامس، وإسناده إلى متخصصين أكاديميين، والذي يهدف إلى تحديث الإدارة الكنسية وفقاً لقواعد الإدارة وعلومها المتطورة، وتدريب الكوادر من الإكليروس والشباب، بوصفها خطوة جادة في الأرض للانتقال بإدارة الكنيسة من الفرد إلى المؤسسة.
تصور التيار العلماني لإشكاليات الكنيسة
لما كانت المشاركة الشعبية في إدارة الكنيسة واحدة من المعالم المستقرة في تقليد الكنيسة كونها كنيسة الشعب، ومن منطلق توزيع المهام ليتفرغ الإكليروس للرعاية وخدمة الكلمة، في حين توكل الأمور الإدارية والمالية للعلمانيين فتنجح الكنيسة في كليهما، كان من الضروري البحث عن آلية ملائمة يتحقق من طريقها ذلك، وتكون قادرة على أن تَفُضَّ الاشتباك غير المبرر بين الطرفين، لتعيدهما إلى مفهوم التكامل وفق فلسفة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ومن هنا جاء اهتمام التيار العلماني ببحث هذا الأمر ومحاولة وضع تصور قانوني معاصر، في إطار الضوابط الآبائية الصحيحة، وهو ما توصل إليه في المؤتمر الثاني [ 26ـ/27 أبريل 2007 ]، وفيه تجد معالجة للمُسمى الذى لم يعد له معنىً في ظل المجتمع المدني والدولة المدنية بعد انحسار مفهوم “الملة”، وعالج أيضاً مساوئ طريقة تكوين المجلس عبر انتخابات لا تُعبر عن إرادة شعب الكنيسة، ولذك بدأ بتكوين مجالس الكنائس والتي من طريق ممثلين عنها يتكون مجلس الإيبارشية، ومن مجموع مجالس الإيبارشيات ينتخب المجلس العام المركزي، ويُحدد صلاحياته ودوره بكيفية تضمن تحقيق أفضل النتائج في إدارة الشق المدني الكنسي بالتعاون مع الكهنة والأسقف والبابا بحسب مستوى المجلس، وذلك بواسطة مشروع قانون صيغ في عدد من المواد التي تُنظم عمل الكنيسة في شئونها الإدارية والمالية، من بين ذلك كان خطابهم المُوجه إلى البطريركية عام 2007 مع أعمال المؤتمر العلماني الثاني تحت عنوان: “منظومة تشريعية كنسية”، جاء فيها: “نحن مجموعة من أبناء الكنيسة العلمانيين اجتمعنا في حلقة نقاشية تناولت الشأن الكنسي بكل ما يعتريه من إشكاليات تضافرت عوامل عديدة على وجودها وتفاقمها، ورأينا أنَّ تركها بغير تحليل ودراسة سوف يُؤدى إلى مزيد من التفاقم المُنتج لأثار ليست في صالح الكنيسة الكيان والشعب والمؤسسة، في عالم مُتغير لا تصلح معه الأساليب التقليدية في مواجهة تلك الإشكاليات وحلها، وكان اجتماعنا تحت مسمى مؤتمر العلمانيين، قد عُقد في دورتين كانت الأولى في 14 و 15 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2006، بعنوان: رؤية علمانية في الإشكاليات الكنسية، وقدمنا أوراقه البحثية وتوصياته إلى قداستك عبر نيافة الأنبا موسى أسقف الشباب، وكانت الأخرى في 26و27 أبريل/نيسان 2007، وجاءت تفعيلاً لتوصيات الدورة الأولى إيماناً منَّا بالتكامل بين العلمانيين الإكليروس، وسعياً في أن يكون عملنا إيجابياً وموضوعياً، حرصنا على أن تكون محاور اللقاء مُحددة في مشروعات قوانين تتناول آليتين من آليات الكنيسة ذات التأثير المباشر في ضبط الحركة داخلها وهما: (1) المحاكمات الكنسية ( 2) المجلس الملى ( 3 )، إضافة إلى محور يتناول تحليلاً للدور القبطي في العمل الأهلي العام في إطار تفعيل ثقافة المواطنة ومبدؤها[8].
وفي ختام هذا البحث يتضح أنَّ المجلس المِلِّي كون ملمحًا مهمًّا في تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وتراثها، إذ مارس المجلس المِلِّي تجربة لافتة في مسيرة الإصلاح التي عرفتها الكنيسة عبر عقود طويلة مضت، وهي تجربة قدمت مسارًا حداثيًا نحو جعل الكنيسة ديموقراطية ومأسستها من طريق الشئون الإدارية والمالية للكنيسة التي تعاظمت بصورة كبيرة منذ التوسع في إنشاء كنائس المهجر وتحول الأديرة إلى الأنماط الإنتاجية، الأمر الذي يُعزز من ضرورة خروج تصور متطور للمجلس المِلِّي، يستطيع أن يواكب كافة المتغيرات، ويتعامل معها من طريق علاقة تكاملية لا تبتغي التنافس مع الدور الروحي للإكليروس ولا مساحات عمله الديني، بل تهدف في الأساس إلى بعث الديمومة والحيوية في المؤسسة الكنسية.
المراجع:
[1] أبوسيف يوسف، الأقباط والقومية العربية، مكتبة الأسرة، القاهرة، ٢٠٠٦، ص 138.
[2] طارق البشري: المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية، دار الشروق، القاهرة ٢٠٠٤، ص ص ٤٦٢ / ٤٧٠.
[3] نجلاء عبد الجواد: المجلس المِلِّي اختصاصاته وأعماله (ص ص 1-51)، مجلة كلية الآداب جامعة بنها، ع13، ج2، 2005، ص ٢.
[4] سليمان شفيق: قصة الصراع بين العلمانيين الإكليروس، مجلة وطني، ع٢١ آذار/مارس ٢٠١٢.
[5] صلاح عيسى: حكايات من دفتر الوطن، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998، ص 192.
[6] نجلاء عبد الجواد: مرجع سابق، ص ص 5-6.
[7] كمال زاخر، قراءة في واقعنا الكنسي، شهادة ورؤية، القاهرة، 2015 ص ١٥٦.
[8] أوراق المؤتمر العلماني القبطي، 26/27 نيسان (أبريل)، القاهرة، 2007. نسخة غير منشورة.