“المحنة” أو “فقه الابتلاء”.. سرديات الإسلام السياسي التلفيقية

تكوين

منذ صعود تيارات الإسلام السياسي والقوى الأصولية على متن التاريخ، ثمّة متلازمة ترافق واقعهم العملي، وكذا خطابهم السياسي ومقولاتهم النظرية. هذه المتلازمة تتمثل في خطاب المحنة التاريخي وولادة العنف، الرمزي والمادي. يتسيد ذلك الخطاب أدبياتهم الأيدولوجية، ولا يفارق ذهنية الأفراد المنخرطين في تلك التنظيمات، بما فيها الجماعات السائلة. ويمثل الخطاب القائم على عناصر تجمع ما رمزي ومفارق بجانب رؤية انتقائية مبتسرة وتلفيقية للواقع، عملية معقدة تقع ضمن النطاق التربوي لصناعة شخصية مؤدلجة، تشعر بالتعالي كما لديها ممانعة تجاه محيطها الاجتماعي والمباشر، وتميل بشكل حاد إلى الجماعة بوصفها بديلاً عن الأسرة البيولوجية أو أي انتماء آخر، خارج الإطار الحاد والكتل الصلبة بحدوده وشيفراته الخاصة، السرية والمعلنة.

فعلى مدار عقود طويلة، لا تخلو سيرة وتاريخ التنظيمات الإسلاموية وأدبياتهم المؤسسة من مقولات ترتبط بالمظلومية والمحن التاريخية، إذ إن الاعتماد على تلك المقاربة وارتكازاتها، يوفر حماية تلقائية في حال حدوث أزمات تنظيمية أو سياسية، حيث يكون الفرد أو العنصر داخل الجماعة متوقعاً “المحنة” ضمن رؤيته الشمولية للذات والعالم، كما للذات والآخر، فموقعه في هذه الثنائيات باعتباره من “العصبة المؤمنة” بتعبير سيد قطب في كتابه: “معالم في الطريق”، يرغمه على الشعور بـ”الاستعلاء الإيماني” وحتما الصدام والعداء للمجتمع والحكومات والأنظمة في تصنيفاتهم بـ”الطاغوت” و”الوثن”. وذلك في استعادة قسرية لتاريخ الجماعة المؤمنة في بداياتها، وتاريخ النبوة، ومطابقتها مع مساره بحيث تضحى مقاومة “جاهلية القرن العشرين” كاشفة عن “الجيل القرآني” ومهامه المرحلية لتحقيق “حكومة الإسلام النقية”.

تشكيل تصورات وتمثلات ذهنية ترقى فيها حوادث الصدام بين الجماعات الأصولية والمجتمع أو الأنظمة، بأنه هو ذاته القمع الذي مارسه المشركون ضد الدعوة المحمدية ورسالة النبي محمد، وسيلة ليست تبريرية إنما صناعة استراتيجية تتجاوز تخطي الأزمات المؤقتة، وذلك لحساب بناء رؤية الجماعة بوصفها “جماعة ربانية”. وقد بشر حسن البنا المرشد المؤسس للجماعة الأم للإسلام السياسي، الإخوان المسلمين، أتباعه بأنهم سيمرون بمرحلة استضعاف وسيتعرضون لبطش ومقاومة إلى أن يصلوا لمرحلة “التمكين”.

رسائل إلينا

فيقول البنا في كتابه: “رسائل البنا” والذي يضم نحو 25 رسالة، منها رسالته: “بين الأمس واليوم”: “أحب أن أصارحكم أن دعوتكم لا زالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها ستلقى منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية”. ثم يمرر في رسالة أخرى بعنوان: “التعاليم”، أن المحنة حتمية وكذا العنف سيكون حتميا وأمرا واقعا شريطة استكمال وحدة الجماعة واصطفاف المؤمنين ووصولهم لـ”التمكين”، ويقول: “الإخوان المسلمون سيستخدمون القوة العملية، حيث لا يجدي غيرها، وحيث يثقون أنهم قد استكملوا عدة الإيمان والوحدة، وهم حين يستخدمون هذه القوة سيكونون شرفاء صرحاء، وسينذرون أولًا، وينتظرون بعد ذلك، ثم يقدمون في كرامة وعزة، ويحتملون كل نتائج موقفهم هذا بكل رضاء وارتياح”.

لا يراوغ البنا في مستوى خطابه المباشر بخصوص مبدأ العنف الذي يتولد من خلال خطاب المظلومية الحتمي، وتأهيل القوى المنخرطة في جماعتة لعبور المحنة بحيث تكون عتبة تصعد على أطرافها وتخومها طاقة تدميرية لمظاهر “الجاهلية” و”الشرك” وفق أدبياتهم”. فيقول: “وستدخلون بذلك ولا شك في دور التجربة والامتحان، فتسجنون وتعتقلون، وتنقلون وتشردون، وتصادر مصالحكم وتعطل أعمالكم وتفتش بيوتكم، وقد يطول بكم مدي هذا الامتحان : {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}. ولكن الله وعدكم من بعد ذلك كله نصرة المجاهدين ومثوبة العاملين المحسنين.. فهل أنتم مصرون على أن تكونوا أنصار الله؟”.

وفي إحدر رسائله يقول: “وإن قيل لكم أنتم دعاة ثورة، فقولوا نحن دعاة حق وسلام، نعتقده ونعتز به، فإن ثرتم علينا ووقفتم في طريق دعوتنا، فقد أذن الله أن ندفع عن أنفسنا، وكنتم الثائرين الظالمين”.

هنا يبدو واضحا الاستعانة بالتراث والسيرة النبوية لاعتبار أن دعوتهم السياسية تماثل الدعوة المحمدنية، ورسالتهم الإسلاموية تكاد تتطابق والرسالة المؤيدة بالوحي، وبالتالي يكون معارضتها تؤدي لتصنيف الآخر في خانة المروق وهذا الغرض متمثل في تكريس “الاستعلاء الإيماني” الذي ذكره سيد قطب بأن “الاستعلاء هو الحالة الدائمة التي ينبغي أن يكون عليها شعور المؤمن وتصوره وتقديره للأشياء والأحداث والقيم والأشخاص سواء، والاستعلاء مع ضعف القوة وقلة العدد وفقر المال كالاستعلاء مع القوة والكثرة والغنى على السواء”. ويردف: “الاستعلاء على قوى الأرض الحائدة عن منهج الإيمان. وعلى قيم الأرض التي لم تنبثق من أصل الإيمان. وعلى تقاليد الأرض التي لم يصغها الإيمان، وعلى قوانين الأرض التي لم يشرعها الإيمان، وعلى أوضاع الأرض التي لم ينشئها الإيمان”.

لكن ثمة نقطة لافتة رصدها المفكر المصري حسن حنفي، وهي أن تحليل شعارات الحركات الإسلامية المعاصرة كعلامات على أيديولوجياتها السياسية ومزاجها النفسي ينتهي إلى أنها شعارات سلبية أكثر منها إيجابية، تدل على قدر كبير من الغضب والرفض، والهروب إلى البديل، والبحث عن المنقذ، وهي أربعة شعارات: “الحاكمية لله”، “الإسلام هو البديل”، “الإسلام هو الحل”، “تطبيق الشريعة الإسلامية”. فالأولى “الحاكمية لله” تعني رفض حاكمية البشر التي اضطهدت الحركة الإسلامية سواء في الفترة الليبرالية التي استشهد فيها حسن البنا أو الفترة القومية التي استشهد فيها عبد القادر عودة وسيد قطب وغيرهم من أعضاء جماعة الجهاد مثل محمد عبد السلام فرج، وخالد الإسلامبولي وغيرهم، فالله حاكم لا يظلم، وهو أدرى بمصالح العباد، حكمه تطبيق إرادته، أوامره ونواهيه التي تجلت في الشريعة، وهو موقف صريح بنص القرآن في آيات ثلاث: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، وفي آية أخرى: هُمُ الْفَاسِقُونَ، وفي آية ثالثة: هُمُ الضَّالُّونَ. الحاكمية لله ضد الحاكمية لأهواء البشر ومصالح الطبقات، الحاكمية لله لا تخطئ في حين أن حاكمية البشر تخطئ وتصيب، فالشعار يتضمن رفضًا لكل نظم الحكم البشرية على كافة أنواعها؛ ليبرالية، وقومية، واشتراكية، وماركسية، وديمقراطية، وجمهورية، وملكية، وإماراتية، وسلطانية، ودولتية، وجماهيرية عظمى أو صغرى؛ فالشعار يعني الرفض والسلب، وإذا سئلت الجماعة ماذا تعني «الحاكمية لله» إيجابًا لَصعبت الإجابة؛ لأن الله لا يحكم بنفسه بل عن طريق شريعته، والشريعة يفهمها البشر ويستنبطونها من أصولها، ويطبقونها في الزمان والمكان طبقًا لمقتضيات التعزير، وفي حاجة إلى فروع تحول مبدأ الشورى إلى نظامٍ في الحكم، ومبدأ العدالة الاجتماعية إلى نظريةٍ في الاقتصاد، ومبدأ «حق الاختلاف» إلى نظريةٍ في التعددية السياسية، وعندما تصل الحركة الإسلامية إلى الحكم مثل السودان والطالبان وإيران فإنها تتحوَّل إلى نظامٍ تسلُّطيٍّ لا يفترق عن النظم السياسية العلمانية؛ فالتسلط بنية اجتماعية وموروث ثقافي غالب تعتمد عليه النظم السياسية وحركات المعارضة على السواء بما فيها الحركة الإسلامية.

 

والثاني “الإسلام هو البديل”، يتضمن أيضاً رفضاً هائلًا لكل البدائل المتاحة والتي تم تجربتها في حياة المسلمين في العصر الحاضر، الليبرالية أولًا ثم الاشتراكية والقومية والعربية ثانيًا، ربما الليبرالية قدمت بعض الإنجازات على مستوى حرية الفكر والتعبير والصحافة والحياة الحزبية والبرلمانية، وأثناءها اشتدت الحركة الوطنية، وقامت ثورة ١٩١٩ باسمها، ومع ذلك ساد الإقطاع والرأسمالية والتوجّه نحو الغرب، وكانت الأحزاب فاسدة، يضطهد بعضها بعضًا، والانتخابات مزورة، والبرلمان بأيدي الملك يحله متى يشاء، والدستور منحة منه، والإنجليز ما زالوا في البلاد، وفي عصرها وقعت معاهدة ١٩٣٦ ونكبة ١٩٤٨.

الخروج عن السرديات المألوفة

وبحسب ما يذكر في كتابه: “حصار الزمن: الحاضر (إشكالات)” في الجزء الأول، فإن تحليل شعارات بعض الإخوان التقليدية الأولى يجدها البعض أيضًا إنما تعبِّر عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مثل “الله زعيمنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا” وهو الهتاف الرئيسي للجماعة، “الله زعيمنا” تعني الضيق بزعامة البشر، فالكل متسلط قاهر، ظالم لا يبغي إلا سلطانه، ملكًا كان أم ضابطًا، من قريش أو من الجيش، مفوضًا من الله أو منتخبًا من الناس، فكلاهما تفويض زور، وانتخاب مزور؛ فزعامة الله أفضل من زعامة البشر، و”الرسول قدوتنا” تعني أن القدوة البشرية قد عزّت، وأن البشر جميعاً ناقصون، وأن الحكام ليسوا نماذج يُقتدى بهم؛ فالرسول هو القدوة في حياته وسنته، في أهله ومع أصحابه، في أقواله وأفعاله، و”القرآن دستورنا” تعني الضيق بدساتير البشر التي تُعبر عن إرادة الحكام؛ إذ تتغير الدساتير، وفي بنودها ما يعطي الحكام سلطة مطلقة وما يقيد حريات الناس؛ لذلك تقوم الهبات الشعبية لإلغاء الدستور أو على الأقل تعديل بعض بنوده، والقرآن دستور لا يظلم ولا يحابي ولا يتحيز لأحد، هو دستور إلهي يتجاوز الزمان والمكان والعصر، و”الجهاد سبيلنا” ضد الخضوع ومصالحة الأعداء والرضا بالذل وعقد معاهدات تضر بمصالح البلاد؛ فالجهاد أفضل طريق لنيل الحقوق، و”الشهادة في سبيل الله أسمى أمانينا” تعني حب الموت الكريم على الحياة الذليلة، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وشهداء المقاومة في جنوب لبنان وفي فلسطين قادرون على الصمود أمام أعتى الجيوش وأحدث الأسلحة بالأجساد البشرية والعربات المفخخة في العدو.

 

“تاريخ المحنة” إذا هو إحداث الأثر النفسي والمعنوي والأيدولوجي من خلال سردية تتبنى المظلومية. وبشكل عملي، يمكن أن نرجع إلى مؤسسة “قسم الإخوات” في جماعة الإخوان زينب الغزالي، والتي عمدت إلى صناعة رواية في كتابها: “أيام من حياتي”، تخلط فيه تجربتها بالسجن في ستينات القرن الماضي بتمثلاتها المتوهمة، لتجعل من تجربتها حالة مسرحية فيها مواجهة ندية بين “الدعوة الإسلامية” و”حكم الطاغوت”. فتروي أنها كانت داخل غرفة للاستجواب والرد على أسئلة المحقق، ويسألها عن علاقاتها بدول خارجية وإقليمية فتبدأ بالإجابة وتقول (نلاحظ أن إجابتها تتعمد التأكيد على أن الدعوة عالمية وأممية كما الإسلام جاء لكافة البشر”، فتقول: “إن لي في كثير من البلاد أصدقاء عرفوني عن طريق الدعوة الإسلامية، فحركتنا في الأرض هي لله سبحانه والله يسوق إلينا من يختار وجهته وطريقه”. وتتابع حديثها الذي تصر فيه على صناعة مشهد تبدو فيه مثل نبي يدعو الآخرين إلى الانعتاق من الجاهلية والكفر والشرك وإعلان الإيمان فتقول: “إن غايتنا أن ننشر دعوة الله وندعو للحكم بشرعه، وإني باسم الله أدعوكم أن تتخلوا عن جاهليتكم وتجددوا إسلامكم (…) لعل الله يخرجكم من إقفال الجاهلية إلى نور الإسلام. وبلغوا ذلك الرئيس جمهوريتكم لعله يتوب ويستغفر ويعود للإسلام ويخلع عن نفسه إطار الجاهلية”.

النزوع الأيديولوجي

النزوع الأيديولوجي في النظم والحركات الدينية بوجه عام والإسلام السياسي بوجه خاص بناء عوالم مذهبية ترتكز على الاستلهام الدائم لأحكام الدين، والاستدعاء المستمر لسيرة أشخاص أصبحوا قديسين معصومين تحتم على الجميع السير على نهجهم وخطاهم، وهى خطى تتولى النخبة الحاكمة تحديد مساراتها المقدسة بعد عشرات أو مئات السنين من رحيل أصحابها وفقا للأهداف السياسية المراد تحقيقها لفرض مزيد من الهيمنة على المجتمع الذي تمت أدلجة كل شيء فيه، فتبدو سطوة الأيديولوجيا مكونا أساسيًا من مكونات النظام السياسي والصراع مع الآخر. وقد يصل الأمر إلى السعي نحو الدمج بين الأيديولوجيا والأسطورة لتحقيق أكبر قدر ممكن من السيطرة والإخضاع، خاصة في تلك الأيديولوجيات التي ترتكز على أساس ديني وتحاول توظيف رموز دينية أحيطت بهالة مقدسة، فكم من حاكم أخذ أوامره من نبي جاءه في رؤية أو منام! ومن اللافت للنظر أن ثمة تشابه بين النسقين الأسطوري والأيدلوجي؛ فثمة قاسم مشترك يجمع بينهما، فالأسطورة: “رواية أفعال إله أو شبه إله، لتفسير علاقة الإنسان بالكون أو بنظام اجتماعي بذاته أو عُرف بعينه أو بيئة لها خصائص تنفرد بها”، كما يوضح الدكتور سامح محمد إسماعيل في كتابه: “أيدولوجيا الإسلام السياسي والشيوعية”، وذلك في إطار من القدسية الرامية إلى الخضوع لكل ما هو خارق، وبالتالي فإن”الحضور الكلّي” للأسطورة في المعرفة، أو “الدراسات البينية” التي تعني تردد موضوع واحد بين أكثر من حقل معرفي لا يضاهيه سوى الحضور الكلي للأيديولوجيا.

وتنطوي الأيديولوجيا في الإسلام السياسي على عدة اعتبارات تحاول إقحام كل شيء في الدين لرسم إطار مرجعي نهائي يسيّر كل التوجهات وفق نظرة ماضوية تسعى إلى رسم حياة البشر وفق معطيات محددة من بداية الخلق وحتى قيام الساعة، وترفض تماما قبول أي رأي مخالف، وهو الأمر الذي تجلى في الصراعات الدموية بين الفرقاء (الأمويين والعباسيين والشيعة والخوارج)، وبرز في قضايا فلسفية وصراعات فكرية دارت رحاها عبر عقود طويلة- كقضايا الحرية والجبرية وخلق القرآن- وهو ما قد يمثل في كثير من الأحيان نظرة شمولية تفرض الكثير من القيود، قد تحجب الانطلاق الفكري وتحدده بسنن الأولين التي يكتنفها الكثير من الغموض والالتباس والتناقض في أحيان كثيرة.

وصف زينب الغزالي لجمال عبد الناصر

استكمالا لمنطق المظلومية وتاريخ المحنة، تصف زينب الغزالي في كتابها الرئيس المصري جمال عبد الناصر بأنه “فرعون” وهو توصيف له دلالته القرآنية والدينية ويجعل عبد الناصر مثل فرعون الذي ورد ذكره في سورة القصص بالقرآن وكان طاغية مستبدا وهي السورة التي تحكي في النهاية أن “وعد الله” يتحقق للمؤمنين ضد الطغاة والمتسبدين. لذا، تصف عن عبد الناصر بأنه “مصدر كافة الشرور التي تنبعث منه في سلسلة لا تنقطع”.

تبدد زينب القيادية النسوية بجماعة الإخوان من خلال سرديتها وسائط التحقيق وتلغي مشروعيته، بينما تحاول من خلال آليات إنتاج المظلومية ومقاومة ما تصفه بالظلم والقهر أو القمع والتهميش لـ”الدعوة”، تحوير الصفة السياسية للصراع وربما جوانبها الأمنية، إلى جانب يقع داخل ثانية “كفر” و”إيمان”، أو الطاعة للإرادة الإلهية في مقابل الإذعان لـ”الطاغوت”. وحين يوجه لها المحقق سؤالا بشأن التآمر على نظام الحكم أو اغتيال عبد الناصر تجيب: “يا أستاذ! القضية أكبر من قتل عبدالناصر والاستيلاء على الحكم. قتل عبد الناصر أمر تافه لا يشغل المسلمين. القضية قضية الإسلام. الإسلام غير قائم (…) ونعمل على تربية نشء للإسلام”. فيجيبها المحقق وفق ما تذكر في كتابها: “أنت مجنونة! هذا الكلام خطير؛ ألا تعلمين أنك لو قتلت هنا الآن ودفنت ما علم بك أحد (…)؟” فتقول: “يفعل الله ما يشاء ويختار”. ويأمر بأن جلد “خمسمائة جلدة”. وهنا تحاول أن تؤكد على الاحتماء بالإيمان بقدراتها على الممانعة المتخيلة في مواجهة التحقيق والاستجواب والاعترف.

كتاب معالم في الطريق

في الفصل الافتتاحي لـ”معالم في الطريق”يؤكد أن “البشرية” إنما “تقف اليوم على حافة الهاوية .. لا بسبب التهديد بالفناء المعلق على رأسها (فهذا عرض للمرض وليس هو المرض .. لكن بسبب إفلاسها في عالم “القيم” التي يمكن أن تنمو الحياة الإنسانية في ظلالها نموا سليا وتترقی ترقيا صحيحا”. وهذا واضح “كل الوضوح في العالم الغربي، الذي لم يعد لديه مايعطيه للبشرية من “القيم”، وفق سيد قطب، بل الذي لم يعد لديه ما يقنع ضميره باستحقاقه للوجود، بعد ما انتهت “الديمقراطية” فيه إلى ما يشبه الإفلاس، حيث بدأت تستعير ببطء وتقتبس من أنظمة المعسكر الشرقی (أي الاتحاد السوفييتي سابقا) وبخاصة في الأنظمة الاقتصادية! تحت اسم الاشتراكية كذلك الحال في المعسكر الشرقي نفسه .. فالنظريات الجماعية، وفي مقدمتها الماركسية التي اجتذبت في أول عهدها عددا كبيرا في الشرق وفي الغرب نفسه- باعتبارها مذهب يحمل طابع العقيدة ، قد تراجعت هي الأخرى تراجعا واضحا من ناحية “الفكرة” حتى تكاد تنحصر الآن في “الدولة” وأنظمتها، التي تبعد بعدا كبيرا عن أصول المذهب”.

 

ونقطة الانطلاق في هذا الكتاب هي الحكم بإفلاس كل القوى القائمة، سواء الغرب الرأسمالي أو الشرق الاشتراكي. بالتالي فالمسلم ليس أمامه سوى دعوة الإخوان المسلمين واستعادة الإسلام للتاريخ. فوصف سيد قطب المجتمع بأنه قائم في “الجاهلية” والتي كانت أداة تكفير للحاكم والمحكوم بدون تمييز. وكان يقصد بتعبير الجاهلية أن المجتمع يعيش في اللحظة نفسها التي كانت عليها شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام. فمن الواجب أن تكون نظرة المسلم هذا المجتمع مماثلة لنظرة الرسول والصحابة إلى مجتمعهم. وطليعة اليوم أي الفئة المؤمنة أو “العصبة المؤمنة” كما أسماها يجب عليها أن تسترشد بهذه القدوة أي النبي في تحديد أسلوب عملها. وقد استخدم الرسول تكتيك المراوحة بين الانسحاب من المجتمع الذي يعيش فيه والاتصال به، وهو الذي اختار، على سبيل المثال، أن يهاجر من مكة إلى المدينة عندما وجد نفسه في موقف ضعيف، ليعود في النهاية فاتحا للمدينة التي هجرها قبل ذلك وقد أضحى قويا يملك جيشا. فيما ظلت “الجاهلية” نقطة الارتكاز التي اعتمد عليها سيد قطب لتحقيق أهدافه النظرية والعملية فأكد على ضرورة تنشئة “الجيل القرآني” الذي يكون عنده حالة من “العزلة الشعورية” تجاه المجتمع أي لا ينتمي للمجتمع أو الوطن بل ينتمي للدين والجماعة وعدم التماس ألأي هوية أخرى.

 

وفي الكتاب ذاته والذي تحول لمانيفستو إسلاموي يتم تعميمه على الكافة بتبايناتهم ودرجاتهم في مرجعيات التشدد والتكفير، طرح سيد قطب مفاهميه عن المجتمع الجاهلي الذي يقوم بتعطيل “الحكم بما أنزل الله” وذلك من خلال “حكم الطاغوت”، هذا الحكم الذي يتشكل من خلال المؤسسات المدنية وأجهزة الدولة التي تقوم بتطبيق القوانين والتشريعات الوضعية المخالفة لقواعد الله وقوانينه.

 

وقال: “إن المجتمع الجاهلي هو كل مجتمع غير المجتمع المسلم! وإذا أردنا التحديد الموضوعی، قلنا: إنه هو كل مجتمع لا يخلص عبوديته لله وحده..”. إذ إن هذه المجتمعات “اختزلت الحاجات الإنسانية إلى مثيلتها لدى الحيوان. تليها مختلف المجتمعات الوثنية وفيها تمارس الحاكمية العليا باسم ( الشعب)، أو باسم (الحزب) أو باسم كائن من كان. وتأتي بعدها المجتمعات المسيحية واليهودية. ويدخل في إطار المجتمع الجاهلى تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها مسلمة!. وهذه المجتمعات لا تدخل في هذا الإطار لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله، ولا لأنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله أيضا، ولكنها تدخل في هذا الإطار لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها. فهی -وإن لم تعتقد بألوهية أحد إلا الله – تعطى أخص خصائص الألوهية لغير الله، فتدين حاكميه غير الله، فتتلقى من هذه الحاكمية نظامها، وشرائعها، وقيمها، وموازينها، وعاداتها وتقاليدها .. وكل مقومات حياتها تقريبا”.

التدين العقلاني: من سلطة النص إلى أنسنة الخطاب

وبمجرد ترسيخ قطب مفهومی المجتمع الإسلامي والجاهلی، انتقل إلى تحديد العملية التي يمكن من خلالها تدمير الجاهلية وبناء الدولة الإسلامية على أنقاضها. وقد كتب صاحب “ظلال في القرآن” أنه يتطلب بعث الإسلام (وفق مفهومه الخاص السياسي والأيدولوجي تنظيميا وحركيا) عبر “ثورة حقيقية” بقيادة “طليعة الأمة” التي يجب أن يكون قدوتها ذلك “الجيل القرآني الفريد”، أي صحابة الرسول. ونظرا لأن هؤلاء الصحابة قد أخذوا زادهم الفكري من القرآن وحده، فقد كانوا قادرين بالتالي على بناء المجتمع الإسلامي المثالي في “عصره الذهبي، عصر الخلفاء الراشدين”. لكن “في اللحظة التي حول المسلمون فيها اهتمامهم إلى ثقافات الإمبراطور يتين البيزنطية والفارسية الساسانية”، أصيب فکرهم بالفساد” كما يقول سيد قطب.

ومن خلال هذه المقولات تكرس شعور المظلومية لدى الإخوان والتيار الإسلامي العام الذي انبثق كثير منه من قلب هذه الجماعة التي تأسست في نهاية عشرينات القرن الماضي وقد اعتبر نفسه في حالة مستمرة من “الجهاد” لتليغ الدعوة والسعي لبناء القوة ومواجهة الحكومات الكافرة ومقاومة طغيانها فضلا عن رفض المجتمع “الجاهلي” وتكفير أفراده طالما هم خارج تنظيم الإخوان الذي يمثل “الجماعة الربانية” و”العصبة المؤمنة”. وهنا أصبح هذا التيار في عداء مع الدولة والمجتمع. فيؤكد سيد قطب “القرآن لم يعد الآن كافيا وحده كدليل: لقد حان وقت السيف. إنه نظام الجاهلية  الذي يجب محاربته بنفس أسلوب محاربة الكفار”.

خطاب المظلومية

خطاب المظلومية برز كذلك في محطات تكشف عن إلحاح القوى الإسلاموية على معنى “الاستعلاء بالإيمان”، كما برز في منصة رابعة، وردد القيادي بالإخوان محمد البلتاجي: “أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين”. وسبق له أن قال: “لا أحد يستمع لكلام المنافقين الذين يقولون (علام نقتل أنفسنا). بل نقف بفضل الله أعظم مواقف التاريخ.. إخوانكم الذين استشهدوا اليوم أرسلوا لكم خطاباً يستبشرون بما ستصنعون من بعدهم”. فيخلط خطاب المظلومية وسردية المحنة بمشاعر الفداء والتضحية لبعث الرغبة في “الجهاد” وابتعاث مشاعر الفداء والتضحية لتوليد عنف يكتسب صفة القداسة ونيل “الشهادة”.

وبدا هذا المستوى من الخطاب الأخلاقي التبشيري على أساس ديني، في عدد من البلدان التي سجلت هزيمة مدوية للإسلام السياسي في مرحلة ما بعد “الربيع العربي”. ففي البلدان التي سقط فيها حكم الإخوان بعد الربيع العربي يكاد أن يكون مبدأ المظلومية والتعامل من منطلق ثقافة الضحية هو الثابت كما حدث مع حركة النهضة (فرع إخوان تونس) وكذلك الأمر مع حزب العدالة والتنمية بالمغرب. ومثلما كانت تعتبر الاصوات الأصولية والسلفية في مصر وصول محمد مرسي للحكم بأنه عملية”اختيار إلهي” يعبر عن “إرادة الله” والرئيس “مؤيد من الله” فإن الخروج عليه أو معارضته هي معارضة للإرادة الإلهية، هذا تحديدا وباختصار ما حصل في تجارب الحكم الإسلامي بالمنطقة. فالشيخ محمد حسين يعقوب وقف يهتف ويخطب بمواصفات الرئيس الذي اعتبره نموذجا للحاكم الصالح العادل فقال: “رئيسكم ملتحي.. رئيسكم يعتمر ويزور مسجد الرسول.. رئيسكم يصلي إماما.. رئيسكم يعطي دروسا… رئيسكم يتكلم بكتاب الله والسنة… ألا تكبرون”.. هذه الصفات الدينية للتعمية على أي نقد أو وضع سياسي واقتصادي صعب ومتعثر يعاني منه المواطنون الأمر الذي يجعل مرة أخرى معارضة الرئيس معضلة وأزمة في الدين وصداما مع الله وليست أزمة في السياسة أو صداما مع الرئيس حتى لو اتهم بالفساد أو سوء الإدارة والحكم.

راشد الغنوشي أعداء صعود الإسلام

وفي مفارقة أخرى نجد زعيم حركة النهضة الإسلامية بتونس راشد الغنوشي يهاجم في إحدى خطبه من وصفهم “أعداء صعود الإسلام” بعد الربيع العربي بتونس وهم برأيه “يتجهون إلى سياسة شمشون… وتدمير البلاد حتى تخرج (النهضة) من مواقع السلطة”.. وأكد أن “الأمة التي تعتصم بدينها وتسير على صراط مستقيم” ستكون قادرة على المقاومة وتعزيز خط “الجهاد” لمقاومة الفساد والاستبداد.

توظيف فكرة المظلومية بالدرجة التي جعلتها ترقى إلى أن تكون ضمن الأدبيات المؤسسة، وتتجاوز فكرة السلاح النظري التكتيكي المؤقت ضمن حوادث مرحلية عرضية، ساهم فيه سيد قطب من خلال ثالوثه الذي عرف بـ”فقه الابتلاء” و”فقه الثبات” و”فقه المحنة”. بل اعتبرها محطات تدشينية لعبور مرحلة “التمكين” سياسياً. وهي المحطات التي ستكون عتبة يقف على متنها “الجيل القرآني” أو الفئة المختارة بعناية ودقة مستخدماً في هذه الإشارة الآية القرآنية “وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين”. ويقول قطب في تفسيره الآية بكتابه: “في ظلال القرآن” “ثم يمضي السياق القرآني يكشف عن الحكمة الكامنة وراء الأحداث، في تربية الأمة المسلمة وتمحيصها وإعدادها لدورها الأعلى، ولتكون أداة من أدوات قدره في محق الكافرين، وستارا لقدرته في هلاك المكذبين”.

ويردف: ” والتمحيص درجة بعد الفرز والتمييز . التمحيص عملية تتم في داخل النفس، وفي مكنون الضمير.. إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية، وتسليط الضوء على هذه المكنونات. تمهيداً لإخراج الدخل والدغل والأوشاب، وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق، بلا غبش ولا ضباب.. وكثيراً ما يجهل الإنسان نفسه، ومخابئها ودروبها ومنحنياتها. وكثيراً ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها، وحقيقة ما استكن فيها من رواسب، لا تظهر إلا بمثير!”. ويؤكد قطب أنه “وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله -سبحانه- بمداولة الأيام بين الناس بين الشدة والرخاء، يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير: محك الأحداث والتجارب والمواقف العملية الواقعية.

ولقد يظن الإنسان في نفسه القدرة والشجاعة والتجرد والخلاص من الشح والحرص.. ثم إذا هو يكشف -على ضوء التجربة العملية، وفي مواجهة الأحداث الواقعية- إن في نفسه عقابيل لم تمحص. وأنه لم يتهيأ لمثل هذا المستوى من الضغوط! ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه، ليعاود المحاولة في سبكها من جديد، على مستوى الضغوط التي تقتضيها طبيعة هذه الدعوة، وعلى مستوى التكاليف التي تقتضيها هذه العقيدة! والله -سبحانه- كان يربي هذه الجماعة المختارة لقيادة البشرية، وكان يريد بها أمرا في هذه الأرض. فمحصها هذا التمحيص، الذي تكشفت عنه الأحداث في أحد، لترتفع إلى مستوى الدور المقدر لها، وليتحقق على يديها قدر الله الذي ناطه بها.. تحقيقاً لسنته في دمغ الباطل بالحق متى استعلن الحق، وخلص من الشوائب بالتمحيص.”.

وخطة قطب للعبور من الجاهلية للإنسان ذكرها في كتابه من خلال “إنسان يؤمن بهذه العقيدة الآتية له من ذلك المصدر الغيبي، الجارية بقدر الله وحده. وحين يؤمن هذا الإنسان الواحد بهذه العقيدة يبدأ وجود المجتمع الاسلامی (حكما) أن الانسان الواحد لن يستلقي هذه العقيدة وينطوي على نفسه.. إنه سينطلق بها.. هذه طبيعتها.. طبيعة الحركة الحية.. إن القوة العليا التي دفعت بها إلى هذا القلب ستمضي في طريقها قدما”.

المصادر:

أوليفيه روا: تجربة الإسلام السياسي، ترجمة نصير مروة، دار الساقي، بيروت، 1994.

-حسن البنا: الرسائل، المكتبة التوفيقية، القاهرة، 1984.

-حسن حنفي: حصار الزمن: الحاضر (إشكالات)”، ج1، مركز الكتاب للنشر، القاهرة، 2004.

-زينب الغزالي: أيام من حياتي، دار الشروق، القاهرة، 1982.

-سامح إسماعيل: أيديولوجيا الإسلام السياسي والشيوعية، دار الساقي، بيروت، 2010.

-سيد قطب: معالم في الطريق، ط6، دار الشروق، القاهرة، 1979.

Richard p. Mitchell: The Society of the Muslim Brothers, oxford university press, 1993.

 

 

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete