تكوين
مقدمة
بين الفلسفة والسلطة صدام وخصام دائمين، ونحن في حاجة إلى فهم طبيعة هذا الصدام وآلية عمله عسانا نستطيع احتوائه والتقليل من آثاره.
ولسنا نريد بالسلطة ذلك المعنى الضيق الذي يحيل الذهن إلى السلطة السياسية فحسب، وإنما نريد السلطة بأعم معانيها وأعمقها: السلطة السياسية والدينية وسلطة الثقافة وسلطة الرأي العام والإعلام وسلطة الجموع وسلطة رأس المال، بل حتى سلطة المعرفة الأكاديمية… والسلطة هنا هي كل نفوذ لا يقبل المراجعة أو التراجع، وهي كل قهر يُمارَس على الفعل والسلوك، وكل ما يحدد معاييرًا للتفكير والتعبير والعمل، ويضع قيودًا على حرية الفرد، وينصب عقوبات مادية أو معنوية على من يخالف هاتيك المعايير، حتى لو أن هذا المخالِف معه من المبررات والأدلة ما يدمغ به الآراء السائدة.
ومن ناحية أخرى فنحن لا نريد بالفلسفة هنا ذلك المعنى الذي يحصرها في قاعات الدرس وفي التخصصات الأكاديمية والدراسات والأبحاث التي لا تتجاوز أروقة المدارس والجامعات، كما لا تتجاوز الأوراق البحثية والتي كثيرًا ما لا يراد منها إلا الترقيات والوجاهة الاجتماعية، بل نريد بالفلسفة تلك التجربة الروحية والعقلية التي بمقتضاها يتخذ المرء موقفًا من كل قديم، ويُحس بالتناقض الجسيم يضرب بأطنابه في أنحاء عقله وضميره، فتبدأ تجربة الشك التي تأخذ في النمو والاختمار حتى تبلغ أقصاها، ثم يعود المرء ليبني يقينه الخاص على أسس جديدة، بطريقة يعيد بها بناء عناصر المعرفة والوجود والأخلاق والحياة في لوحة فسيفسائية بها من الاتساع في مداها والاتساق بين أجزائها، ما يفتح الطريق لفكر جديد وعصر جديد يستوعب ما يستجد في الحياة. الفلسفة التي نعنيها إذن هي تلك التجربة الروحية الناجمة عن رغبة عميقة في الصدق، والمضي المضني في سبيل الحق والحكمة والاستنارة والحرية مهما تكلف المرء من عناء البحث المتصل والنتائج التي تصدم فكره وشعوره.
الأساس العقلي والثقافي لنشأة السلطة
إذا كان جوهر السلطة هو التحكم، فإن هذا التحكم يعني القدرة على إحداث تغييرات في الواقع المحيط وفقًا لأهواء صاحب السلطة ورغباته. ومن أجل تحقيق هذا الغرض فهو في حاجة إلى التوَفُّر على جملة من العناصر العقلية تتسم بالثبات والارتفاع فوق النقد والمراجعة، إذ يستند إليها وينطلق منها في إحداث التغيير المنشود في الواقع، ومن ثم يستطيع أن يرى نفسه منعكسًا على صفحة الوجود، فيتأكد تحكمه وهيمنته وتتعزز ثقته ويتعاظم زهوه.
من أين تأتي هذه العناصر العقلية المتسمة بالثبات؟ إنها تأتي غالبًا من الثقافة، تلك التي على أساسها يُنَشّأ أفراد المجتمع وتتحدد رؤيتهم للعالم ولأنفسهم وللآخرين من حولهم، كما تتحدد طرائقهم في التفكير والتعبير وأساليبهم في العيش والسلوك، وتتكون معتقداتهم وطقوسهم…
على أن هذه العناصر التي تتألف منها الثقافة، والتي تتسم بالثبات، بل بالجمود أحيانًا؛ تكون ناشئة أول أمرها عن تفاعل ديناميكي بين الجماعة الإنسانية وبيئتها: تفرض البيئة على الجماعة التي تقطنها مجموعة من التحديات والضغوط والمشكلات، فتضطر هذه الجماعة إلى واحدة من اتجاهات ثلاثة: إما إلى الهلاك، أو إلى الفرار لبيئة أخرى أقل مخاطرة، أو أن تتكيف معها بمجموعة من الاستجابات. وفي هذه الحالة الثالثة يكون قد توطّن في بيئته هذه، وتكون الاستجابات معرفية وشعورية وسلوكية… أي أن الاستجابات تكون هي “الثقافة”.
إقرأ أيضًا: المنزلة البشريّة من منظور الوعي (بين الفلسفة والدّين)
بيد أن الثقافة حين يتقادم عليها العهد، وتختفي المشكلات القديمة التي نشأت الثقافة أساسًا لتكون حلولا ناجعة لها، تصبح هذه الثقافة محض معايير وآداب وعادات وتقاليد وأساليب عيش، وتتحول هذه الأمور كلها إلى فضائل في ذاتها، لا بما كانت تقوم به من أدوار في حل المشكلات، ومن ثم يرى أهل ثقافة ما أنفسهم أفضل الثقافات وأرقاها خُلقًا وأقومها سلوكًا وأكثرها معرفة ودراية.
من ناحية: ينشأ عن ذلك التعصب الذي يُعمي أفراد المجتمع عن نقائصهم وفضائل الآخرين، كما يدفع بهم إلى قمع أي محاولة يقوم بها أحد أفرادها للخروج على المألوف واستكشاف أي جديد. ومن ناحية أخرى فإن من طبيعة المجتمعات أن تدب فيها المشكلات بمرور الزمن، وهذه في حاجة إلى حلول جديدة، فإذا تقادمت الثقافة إلى حد بعيد فإنها تزداد تأكدًا وترسخًا وتكلسًا إذ تتغافل تمامًا، أو هي تغفل فعلًا وجود مشكلات حقيقية في حاجة إلى حلول، أي في حاجة إلى تطوير وتطويع الثقافة لاستيعابها. وهكذا تتفاقم المشكلات وتتعقد بلا حلول، وهذا نابع من أن أهل الثقافة يظنون أن عادات قومهم هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهي طبيعة الأمور (هي طبيعة وليست ثقافة في ظنهم)، وهي ما ينبغي لكل الناس وفي كل مكان وزمان أن يسيروا عليه، واختلاف الناس في العادات ليس اختلافًا في الثقافات، بل هو انحراف عن جادة الصواب!
إن تلك العناصر العقلية التي تتسم بالثبات (الثوابت)، والتي يقاس إليها ولا تقاس هي إلى غيرها، هذه الثوابت تمثل إطارًا يحوي الأفكار والخبرات والتجارب. والإطار هو الحدود التي تتألف من المفاهيم والبدهيات والمسلمات والتصورات الكبرى التي تُطوِّق العقل، والتي يُفكر العقل بها ولا يفكر فيها، كما أن الإنسان يرى بعينيه، ولكنه لا يرى عينيه ذاتيهما، اللهم إلا إذا وقف أمام المرآة، أو يُحس بحواسه الأشياء المختلفة، ولكنه لا يُحس حواسّه ذاتها.
ولهذا الإطار دور مزدوج: فهو من ناحية، يضفي على أشتات المعارف والتجارب المتناثرة ثباتًا وتماسكًا وانسجامًا ومعنى ودلالة ووحدة، ومن ناحية أخرى، هو ينقل هذه السمات جميعًا من اعتبارها المعرفي إلى اعتبار آخر اجتماعي؛ فتتوحد الرؤية بين أفراد المجتمع: هذا المجتمع قد يكون المجتمع العام… مجتمع الجمهور، أو قد يكون مجتمعًا علميًا خاصًا له قواعده الأكاديمية ومناهجه المرسومة.
ومم ثم تنسجم سلوك أفراده وتتماسك الروابط بينهم وتثبت أوضاعهم وتدوم. بيد أن هذا الإطار وإن كان له مثل هذه الفضائل، فإن له في المقابل رذائل جسيمة: فهو من ناحية يمثل سجنًا مقيمًا وحجابًا صفيقًا يعزل الإنسان عن الوجود، ويجعله أسيرًا خاضعًا لسلطان هذا الإطار المعرفي/الاجتماعي، وهو من ناحية أخرى يعزز السلطة بكل أشكالها وأوضاعها وأبعادها. وبالتدريج، وبالتطبيق العملي في مناحي الحياة المختلفة، ومن ثم بتأكده وترسخه، يبدأ الإطار في النزول من طابعه العام ليوظّف في الأغراض والمطامع الشخصية والفئوية والطبقية، وذلك بعدما تستقر أوجه السطلة في مواقعها المختلفة لأزمنة طويلة.
إن كل ثقافة جديدة تبدأ طامحة إلى المبادئ العامة والقوانين الكلية التي يهتدي بها البشر في تنظيم حياتهم، ولكنها أيضًا لها جوانب تطبيقية وتشريعية تحتاجها جماعة بعينها في ظروفها الخاصة، وهي تطبيقية لأنها تطبق تلك المبادئ والقوانين العامة في ظروفها وأحوالها الخاصة بما يحقق مصالحها. وبمرور الزمن تتحول هذه الجوانب التطبيقية إلى الأساس الذي تقوم عليه الجماعات، ما دامت هي الأقرب والأكثر مباشرة للوعي، وما دامت هي ما يحقق مصالح الناس العاجلة وما يلبي أغراضهم… ما دامت هي ما يمثل روح الجماعة وهويتها التي تحفظ كيانها وتماسكها، وذلك عبر: “قل ولا تقل”، “افعل ولا تفعل”، “اعتقد ولا تعتقد”، “اسلك ولا تسلك”. كل ذلك من دون الإشارة إلى المبادئ العامة والقوانين المسوّغة والمبررة التي بموجبها يعرف المرء لماذا عليه أن يسلك أو لا يسلك هذه السبيل أو تلك؟
إن المبادئ والقوانين هي المشترك الإنساني الذي تصبو إليه كل فلسفة وكل علم وكل دين وكل فن وكل ثقافة في مراحل تكوّنها قبل أن يطول العهد على ذلك كله ويتحول إلى آليات للتطبيق، قبل أن يتحول إلى سلطة وإلى أفعال واجبة النفاذ.
وقد أشرنا في المقدمة إلى أننا نريد بالسلطة هنا معناها الواسع العميق، الذي يتصل بطبيعة النفس الإنسانية التي جُبِلت على حب الغلبة وإنفاذ الأمر وإذعان الآخرين لها، بل إن هذه الطبائع لتستمد جذورها من أصول بيولوجية نجدها لدى الأحياء كلها: إنه صراع البقاء الذي تهذب في شكله دون مضمونه، فظهر عند الإنسان في صورة حكومات وبرلمانات ونظم سياسية واجتماعية وأخلاقية وقانونية… هي جميعًا تحاول تنظيم هذا الصراع. إنه تنظيم يبتدئ لصالح الحق والخير العام، ولكنه يتحول بمرور الزمن إلى تنظيم لصالح الأقوى والأغلب.
هذه السلطة دينها وديدنها المحافظة على استقرار الأوضاع ودوامها وتجميدها، أو إن تغيرت فإنها تتغير وفق إرادة السلطة ذاتها ورغباتها وأهوائها؛ حفاظًا على المكتسبات، وإمساكًا للأوضاع من الإفلات. وهذه سمات نجدها في السلطة السياسية كما في السلطة الدينية والعرف الاجتماعي والرأي العام وأصحاب المصالح ورؤوس الأموال، وكذلك في السلطة الأكاديمية، إذ إن الصراع دائمًا هو صراع بين الجمود والتطور.([1])
وهذا الجمود يطال شتى مناشط الإنسان: العلم والدين والأدب والفن، بل حتى الفلسفة ذاتها: إنه الزمان الرهيب المهيب الذي يُبلي ويفُل ويُنيم ويُميت في تدرج ونعومة. فها هو النشاط يبدأ جذوة مشتعلة وثورة فائرة واندفاعًا هائلا، فإذا به بمرور الزمن يخبو ويخمد ويهمد، وإذا هو رتيب وئيد، وإذا بسلطة تنشأ فوق هذا التراكم الذي خلفه زمن من النشاط، هذه السلطة تُعظم شأن مَن أحدثوا الثورة في الماضي وتُعلي ذكراهم وتمجد مأْتاهم وآثارهم، ثم ترى أنه ليس لأحد من العالمين أن يبلغ مبلغهم أو يشرئب برقبته ليطاولهم، ثم تتعقب وتتوعد مَن يحاول أن يأتي مأتاهم ويسير سيرتهم في التجديد والثورة والخروج على مألوف العادات والتقاليد، سواء العلمية أو الاجتماعية أو الدينية أو السياسية… ومثل هذه الفكرة قد أشار إليها الفيلسوف الإنجليزي الشهير “برتراند رسل” في بعض كتاباته، ففي كتابه “التربية والنظام الاجتماعي” كتب يقول:
“المواطنون كما تتصورهم الحكومات هم الأشخاص المعجبون بالنظام القائم، والذين هم على استعداد لإجهاد أنفسهم في سبيل الاحتفاظ بذلك النظام، وإنه لمن عجبٍ أنه بينما تستهدف الحكومات جميعًا إخراج رجال من هذا الطراز دون أي طرازٍ آخر، ترى أبطالها من رجال الماضي هم على وجه الدقة رجال من ذات الطراز الذي تحاول الحكومات أن تمنع ظهوره في الحاضر. فالأمريكيون يُمجدون جورج واشنطن وجفرسن، لكنهم يزجُّون في السجن كلَّ من شاطرهما في آرائهما السياسية، والإنجليز يمجدون “بوريقيا”، لكنهم كانوا ليعاملونها بالضبط كما عاملها الرومان، لو أنها ظهرت في الهند الحديثة، والأمم الغربية جميعًا تمجد المسيح، مع أنه لو عاش اليوم لكان – يقينًا – موضع ريبة من رجال البوليس السري في إنجلترا، ولامتنعت عليه الجنسية الأمريكية على أساس نفوره من حمل السلاح”.([2])
وهكذا نرى أن لتجليات السلطة المختلفة أساس عقلي ونفسي عميق، وكثيرًا ما تختلط الأمور على بعض المفكرين فيؤخذون بالظواهر ويُحجَبون عن عللها وأصولها البعيدة، والتي تتجلى في مظاهر أخرى؛ كأن يؤخذوا مثلًا بالصراع بين العلم والدين، أو بين الدين والفلسفة، أو بين العلم والفلسفة في بعض الأحيان، أو بين العلم الرسمي والعلم الثوري، أو بين الفلسفة والعلم من جانب والرأي العام من جانب آخر… وحقيقة الأمر أن جوهر هذه الصراعات كلها إنما يرتد في التحليل الأخير إلى صراع بين الفلسفة والسلطة.
الفلسفة بوصفها آلية لإذابة السلطة
إذا كان كثير من المفكرين والفلاسفة والعلماء والعامة قد رأى أن هناك دائمًا خصومة بين العلم والدين، وكذلك بين الفلسفة والدين، فإن هذه الخصومة في حقيقة الأمر إنما هي خصومة بين الفلسفة والسلطة. فلئن كان العلم في بعض اللحظات التاريخية يخاصم الدين، فإن هذه الخصومة تكون إبّان ثوارنه وفورانه وجدّته، لا سيما حين يتقاطع هذا الجديد الثوري من جانب العلم مع مواقف ورؤى استقرت واستمرت لأزمنة متطاولة في نفوس الجماهير وعقولها، وبالأخص حين يكون رجال الدين قد أوّلوا هذه الرؤى، ليلائموا بينها وبين النصوص الدينية، فتكون للفكرة سلطان أي سلطان. ويكون العلم في لحظات ثورانه هذا ذا نزوع فلسفي واضح.
فالفلسفة في النهاية ليست رؤية بعينها، ولا هي رأيًا أو فكرة أو نظرية أو مذهبا يُنتَهَى إليه، بل الفلسفة وجهة، اتجاه عكسي للفكر، اتجاه نحو الإطار، نحو الأسس؛([3]) ما دام هذا الإطار الذي يحوي الأفكار والرؤى ما عاد يتسع لما استجد من معطيات ومعلومات ووقائع. إذ يلقى هذا الجديد مقاومة ونفورًا وعدم انسجام مع المعطيات والمعلومات والرؤى القديمة التي استقرت واستمرت لأحقاب طويلة. إذّاك، يرتد الفكر على نفسه؛ فبدلًا من اتجاهه المعتاد إلى الخارج، إلى الوقائع، يحوّل اتجاهه إلى الداخل، إلى نفسه، وصولًا إلى الإطار الحاوي للأفكار، فاحصًا له ومسائلًا إياه عما يستند إليه من أدلة وبراهين؛ فإذا لم يجد عنده الجواب أو الحل، كان لزامًا عليه الحفر والتنقيب في هذا الإطار محاولًا النفاذ منه إلى أبعاد أخرى من الوجود والواقع والحياة، وهي محاولة تصبو إلى الفهم الأعمق والحفر الأبعد، حتى إذا ما أثبتت هذه المحاولات نجاحات في إدماج البيانات والمعطيات الجديدة مع الأخرى القديمة، ولكن في صورة كلية جديدة، فإنها تبدأ في نسْج إطارٍ جديد، لا يلبث أن يبدأ في الترسخ والتأكد ومن ثم تبدأ السلطة في نسج خيوطها حوله من جديد.([4])
إقرأ أيضًا: تحقيقٌ مع المتهمِ بقتلِ الفلسفة
وإذا ما استنتج بعضهم أن الخصومة إذن ليست بين العلم والدين، بل بين الفلسفة والدين، فإن المتأمل لحقيقة الدين وحقيقة الفلسفة ألفاهما متقاربين ومتشابكين أكثر بكثير مما يبدوان، فلقد نجد جوانب فلسفية في قلب الدين وجوانب دينية في قلب الفلسفة! وإن التجربة الدينية في أعمق معانيها لتنطوي على تجربة فلسفية والعكس. ولمن يعترض ظانًّا أن الفلسفة أقرب إلى الإلحاد في معظم أطوارها، فعليه أن يتذكر بأن مؤسسي الأديان المختلفة إنما كانوا قد تقلبّوا في تجربة الشك الفلسفي أول أمرهم، ثم ألحدوا في العقائد التي دانت بها مجتمعاتهم، ثم هم أخيرًا قد جاءوا بجديد ثوري، أو على الأقل فتحوا نوافذ لروح جديدة على أوضاع مستقرة، فأي فلسفة أعمق من تلك؟!
الأمر نفسه ينسحب على العلم ذاته، أي الصراعات التي تنشأ داخل العلم ذاته في بعض الأحيان، وليس فقط صراع العلم الظاهر مع كيان خارجي مثل الدين؛ فالعلم نفسه ما إن يطول عليه العهد حتى يجمد، وحتى يتحول إلى سلطة، وحتى يلتمس له أصحابه – في بعض الأحيان – مشروعية يستمدونها من الدين عبر ربط بعض نتائج العلم ببعض النصوص الدينية كلما واتتهم الفرصة. ثم تأتي الثورات العلمية ناسفة الإطار القديم، وتكون مثل هذه الثورات ذات طبيعة فلسفية في جوهرها، حتى لنجد أن أولئك العلماء الذي يقومون بثورات علمية يغلب على رؤاهم وكتاباتهم الطابع الفلسفي، وحتى لقد صنّف كثيرون منهم كتبًا ومقالات فلسفية، ولقد تعمقوا في الفلسفة وعظمّوا قدرها ومنهم من توسّع في دراستها.([5]) ثم يخلف من بعدهم خلف ينظرون إلى الفلسفة نظرة ازدراء، ويقمعون كل محاولة للمساس بالإطار الذي رسا واستقر، وذلك عبر السلطة الأكاديمية وسلطة الجماعة العلمية التي تصِم كل محاولة للخروج عن المألوف العلمي بأنها محاولات لا علمية، أو أنها من العلم الكاذب، ولعلها نوع من الدجل والشعوذة.([6])
هو الجمود الذي يتذرع بالدين إذن، هو المألوف والمعروف الذي يتحول إلى سلطة، هو ذلك الذي يقاوم الجديد ويجاهد الفلسفة أشد الجهاد وأعنفه، ما دامت الفلسفة خروجًا على الأطر ما إن يظهر فشلها في استيعاب التطور واحتواء الحق الذي تطمئن إليه النفوس الصادقة، وتُذعن لجلاله العقول الحرة المستنيرة. ألا نرى أن رجالات السياسة ورجالات الدين ورجالات العلم (الأكاديمي) وذوي الشأن في المجتمع لا يبغضون شيئًا كما يبغضون الفلسفة؟! ثم ألا نراهم جميعًا يتعللون لذلك بأنها هادمة للثوابت؟! إن هذه الثوابت هي التي يتكون منها “الإطار الثابت” الذي يُكسب معرفتهم ثباتًا ونفوسهم اطمئنانًا بأنهم لا يُضيعون أعمارهم سدى، وبأن رأيهم هو الصواب الذي ينبغي أن يُذعَن له.
الخصومة إذًا هي خصومة بين السلطة والفلسفة. السلطة بمعناها الواسع العميق الذي أسلفناه، والتي تتجلى في صور لا حصر لها: السلطة السياسية والدينية والأكاديمية والمجتمعية والرأي العام ورأس المال… والفلسفة بمعناها الواسع العميق الذي أسلفناه أيضًا، والتي تتمثل في البحث الخالص عن الحقيقة واستخلاصها من ركام الأوهام، واقتحام كل جديد ومجهول، والشجاعة في خوض مغامرة الوجود والتحليق خارج السرب والتفكير خارج الأطر الموضوعة. وبعبارة أخرى: الفلسفة بوصفها تجربة وفعلًا وبوصفها حالة عقلية ووجدانية تتسم بالرغبة العميقة في الصدق، كما تتسم بالثوران والفوارن والانفتاح على الوجود والاندفاع إليه والالتحام به، وليست محض تخصص أو دراسة أكاديمية جافة قوامها صفحات الكتب وقاعات الدرس وإعداد الرسائل والتقارير والأبحاث!
هي إذن خصومة بين السلطة والفلسفة أو بين الجمود والتطور أو بين القديم والجديد أو بين القيد والحرية أو بين المصالح والمطامع الشخصية أو الفئوية أو الطبقية من ناحية وبين الصالح العام من ناحية أخرى. ذلك أن الفلسفة قابعة في قلب كل نشاط إنساني في ابتداءاته وانبثاقاته وفي تحولاته وإبداعاته، والسلطة قابعة أيضًا في قلب كل نشاط إنساني ما إن يرسو ويستقر ويستوي على سوقه، لا سيما حينما يمارس هذا النشاط جماعة أو جماعات منظمة ممارسة مطّردة، وهي عادة ما تقوده إلى الخمول والأفول.
خاتمة
أهو الاتجاه نحو الفهم أم نحو الفعل؟ الأول هو طريق الحقيقة والفلسفة، أما الثاني فهو طريق القوة والسلطة. وتكمن المشكلة في أن الإنسان أو الإنسانية لم تستطع حتى اليوم تحقيق ذلك التوازن الدقيق العميق بين الفهم والفعل، بين الحقيقة والقوة؛ فلا خير في حقيقة لا توظف في تحقيق تغيير في العالم نحو الأفضل، كما لا خير في محاولات تغيير العالم بالقوة بلا انطلاق من فهم للحقيقة.
ومشكلة كثير من الفلاسفة أنهم لا يبرحون رؤوسهم، معرضين عن الواقع ومشكلاته غائصين في مشكلات الفكر، سالكين سبيل الحقيقة، ثم هم لا ينالون منها شيئًا؛ لأنهم يتيهون في فلواتها اللا متناهية.
ومشكلة السلطة أنها تدير ظهرها للحق والحقيقة، مولية وجهها شطر القوة والفعل فحسب، فيصير الأمر تدريجيًا إلى سد جميع المنافذ المطلة على الحقيقة، والتي تمدها بالقدرة والطاقة الناتجة عن الفهم والاهتداء بسنن الكون والوجود والواقع والتاريخ والحياة؛ وينتهي المطاف بها إلى تمجيد كل ما يأتي بنفع مادي عاجل، مثل التقنية والصناعة، والجوانب المادية والنفعية من العلم، والرجل… في مقابل تهميش، بل قهر كل ما لا يكون نفعه مباشرًا أو هو نفع آجل، مثل البيئة والفن والفلسفة، والإنسانيات والعلم النظري، والمرأة… ثم يكون الأفول هو خاتمة المطاف؛ لأنه من غير الممكن حلب البقرة دون تغذيتها، ولا هو ممكن “ارتداء سترة من الصوف قبل أن ينمو العشب ويغذو الضأن ليعطي الصوف”.([7])
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحواشي والمراجع:
[1]– هذه النقطة هي صدى لما كتبه العميد د. طه حسين في كتابه: من بعيد، وذلك في سياق حديثه عن العلم والدين والصراع الناشب بينهما. انظر: حسين، طه، من بعيد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر، 2014، ص224.
[2]– نقلًا عن: محمود، زكي نجيب، برتراند رسل، مؤسسة هنداوي، 2020، ص116.
[3]– هذه الرؤية لطبيعة التفكير الفلسفي إنما هي تعميم لما ذهب إليه برتراند رسل في كتابه: مقدمة للفلسفة الرياضية؛ فهو يذهب إلى أن الذي يميز الفلسفة الرياضية عن الرياضة العادية إنما هو الحالة الذهنية للباحث وليس الموضوع: إلى أين يتجه ذهن الباحث؟ أهو يتجه نحو التركيب والبناء، أم إلى التحليل وصولًا إلى الأسس والمبادئ، مفتشًا عما وراءها؟ انظر رسل، برتراند، مقدمة للفلسفة الرياضية، ترجمة محمد مرسي أحمد، مراجعة أحمد فؤاد الأهواني، مؤسسة سجل العرب، 1962م، ص11، ص12.
[4]– هذه الرؤية لطبيعة التفكير الفلسفي إنما هي تعميم لما ذهب إليه توماس كون في كتابه العمدة: بنية الثورات العلمية، الذي تناول فيه طبيعة العلم وتقدمه في التاريخ، سواء في صورته التراكمية أو صورته الثورية. انظر كون، توماس، بنية الثورات العلمية، ترجمة شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 168، ديسمبر 1992م.
[5]– مثل هؤلاء كوكبة من الفيزيائيين الأفذاذ الذين قاموا بالثورات العلمية أو عاصروها في مطلع القرن العشرين، مثل آلبرت أينشتين وماكس بلانك وهنري بوانكريه ونيلز بور وإرفين شرودنجر وماكس بورن وفيرنر هيزنبرج وبول ديراك وبرتراند رسل وعلي مصطفى مشرفة…
[6]– مثل هؤلاء كوكبة من الفيزيائيين الأفذاذ أيضًا، مثل ريتشارد فاينمان وستيفين هوكينج.. بالإضافة إلى عدد غفير من العلماء الذين هم أقل شهرة بطبيعة الحال ما داموا هم لم يضطلعوا بتثوير النظريات العلمية السائدة.
[7]– هذه العبارة هي مجاز استعرناه من: إليوت، ت. س، ملاحظات نحو تعريف الثقافة، ترجمة شكري عياد، مراجعة عثمان نويّة، المركز القومي للترجمة، سلسلة ميراث الترجمة، العدد 1623، القاهرة، مصر، سنة 2010م، ص133. وهي عبارة وإن كتبت في سياق آخر، فإنه ملائمة تمامًا لسياقنا هذا.