تكوين
ليس في القرآن ولا ممارسات النبي (ص) ما يمنع المرأة أو يعيقها عن التفكير العقلاني و لا النقد أو المناقشة و طرح التساؤلات و المراجعات، بل ضمنت لها النصوص المؤسسة و الممارسات النبوية أن تفكر وتدلي برأيها ووضع القرآن نصوصاً لتحرير المرأة وتناقش و تراجع و تنتقد بلا قيود أو حدود ، فلا فرق بينها و بين الرجل ” بعضكم من بعض”.. وفي التصور الإسلامي السليم تبقى المرأة مخلوقا كامل الأهلية ، وليست مجرد كائن هش مهمش مستسلم لما يراد فرضه عليه من الآخرين.
كيف ساهم الإسلام في تحرير المرأة؟
و القرآن الكريم عبر سوره وآياته الكريمات حكى لنا عن سيدات نابهات عاقلات ربما توارى ظهورهن خلف سحابات الفكر الذكوري الذي لم ير للمرأة شيئا و لا شأنا كما هو موصوف به حالها في الجاهلية و قبل ظهور الإسلام ، و هو التعبير نفسه الذي استخدمه عمر بن الخطاب حين قال : ” كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئاً، فلما جاء الإسلام وذكرهن الله رأين لهن بذلك علينا حقاً”.
كذلك قدمت لنا كتب التاريخ و التراجم و الطبقات نماذج حية وخالدة للمرأة الواعية و المثقفة و الناقدة و المشاركة للرجال في الفكر و الإبداع و المتفوقة عليهم في بعض الأحيان..
في هذا المقال نتوقف مع ثلاثة فقط من صاحبات العقل الواعي و الناقد في تراثنا العربي و الإسلامي ، و نتأمل كيف كانت طبيعة العقل لديهم و منهجهم في التفكير وكيف كان أثرهم و تأثيرهم في حياة مجتمعاتهم التي عاشوا فيها وتركوا عليها بصماتهم الواضحة.
قصة خولة بنت ثعلبه سورة المجادلة
لا نبالغ حين نقول أن هذه المرأة صاحبة فضل مادي و معنوي أصيل و ممتد على سائر المسلمين نساءً و رجالا ، حيث كانت سببا في تشريع حكم جديد من شأنه أن يحفظ البيوت من التفكك و الانهيار على أيدي الرجال المتسرعين و المتهورين الذين تصدر عنهم أقوال غير منضبطة لا فائدة منها و لا طائل من ورائها إلا خراب عش الزوجية.
إنها امرأة لها قصة ذائعة وشهيرة ومسجلة في مفتتح سورة كريمة من سور القرآن وهي سورة (المجادلة ) نسبة إلى النقاش و المجادلة التي دارت بين هذه السيدة و بين النبي (ص)، و كثيرون لا يعلمون أن عقل هذه المرأة الناقد و المتسائل و الشاك هو بطل القصة التي انتهت بتشريع يضمن للأسرة تماسكها و للبيوت و أبنائها سلامتها من التشتت و الضياع.
تقول لنا كتب التفسير و الحديث و التراجم أنه في يوم من الأيام جاءت خولة بنت ثعلبة وهي سيدة من سادة البلاغة والجمال، عالية النسب، إلى النبي (ص) في بيته مشتكية زوجها أوس بن الصامت الذي صار كبيرا نافد الصبر سريع الغضب، وكان قد حدث بينها وبينه خلاف شديد أحدث حالة من الغضب والهيجان بين الطرفين اللذين تمسك كل منهما برأيه، وعلا صوتهما وكاد الزوج يضرب زوجته، و بينما الموقف في قمة اشتعاله انفعل الزوج وفقد السيطرة على نفسه و أعصابه و قال لزوجته قولا كان يقال في الجاهلية: “أنت عليّ كظهر أمي”، وهو قسم معروف من أيام الجاهلية، يعني أنها محرمة عليه كأمه فلا يلمسها ولا يقترب منها كزوجة.
و هنا رأت خولة أن الأمر يستلزم زيارة خاصة للنبي تعرض فيها عليه تفاصيل ما حدث كي يحكم في القضية بحكمه و بما يوافق شرع الله.
و في حوارها مع الرسول (ص) ، قصت خولة عليه ما حدث ، فقال لها رسول الله: (ما عندي في أمرك شيء) و (ما أراك إلا قد حرمت عليه) ، و النبي هنا قد أجابها بما هو معهود عندهم من أن الظهار يوجب حكما بفرقة مؤبدة بين الزوجين ، فرقة ما بعدها رجعة!
المدهش أن خولة لم تستسلم ولم تقتنع في قرارة نفسها بأن القصة قد انتهت عند هذا الحد ، فظلت تحاور النبي (ص) وتراجعه مشيرة إلى أن زوجها لم يرد بقوله ذلك طلاقًا ولا فراقًا، فأجابها رسول الله ثانية و ثالثة : (ما أراك إلا قد حرمت عليه)..
و تحكي لنا الروايات ، أن خولة لم تيأس و استمرت تناقش الرسول و كشف نقاشها هذا عن عقلية شديدة الوعي و الذكاء حين رفضت التسليم للواقع و الإذعان لحكم الظهار كما هو متعارف عليه من أيام الجاهلية و شككت في سريانه على حالتها مع زوجها ، وكأنها كانت تستشعر أنه من الطبيعي أن يكون للإسلام رأي آخر في المسألة..
إقرأ أيضاً: هل ظلم الإسلام المرأة؟
الشاهد أن خولة انتقلت إلى الجانب العاطفي والإنساني، محاولة إقناع النبي بإيجاد مخرج للمأزق ، كما استدعت الجانب المادي و الاقتصادي بمنتهى الذكاء و البراعة و البلاغة حين قالت يا رسول الله ” إني وحيدة، ليس لي أهل سواه.. وإن لي صبية صغارًا، إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا ” ، فلا يجد لها رسول الله جوابًا إلا أن يقول لها: (لا أراك إلا قد حرمت)، فلما لم تجد لها جوابًا عند رسول الله، التجأت إلى الله قائلة: اللهم أنزل على لسان نبيك ما يقضي لي في أمري، فلم تكد تنتهي من دعائها، حتى أنزل الله على نبيه قوله تعالى في صدر سورة المجادلة:” قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير”.. و تبعتها آية أخرى تبطل تماما و إلى الأبد حكم الظهار الجاهلي المفضي إلى إنهاء رابطة الزوجية “الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور”.. ومن بعد الآيتين ، آية ثالثة مبينة لأحكام الظهار الجديدة في الإسلام ، تفتح بابا لمن يقع في مثل هذا الخطأ و توجد له مخرجا، وتدرجت في فرض سبيل العلاج من عتق الرقبة إلى صيام شهرين متتابعين إلى إطعام ستين مسكينا حسب مقدرة الزوج المادية و الصحية.. ومع الوقت اختفت عادة الظهار و ألفاظه الموروثة من أيام الجاهلية ولم يعد لها وجود في المجتمع الجديد.
تمر الأيام والسنوات ، و تلتقي خولة هذه بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، فتستوقفه لتوجه له تلك الكلمات القوية و الجريئة : “يا عمر، عهدتك وأنت تسمى عميراً في سوق عكاظ ترعى الصبيان بعصاك، فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر ثم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن أيقن بالموت خشي الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب”.. قالت هذا و عمر واقف أمامها، يسمع كلامها في إمعان وقد أحنى رأسه مصغيا إليها ، وقد كان برفقته أحد مرافقيه وهو جارود العبدي الذي قال لها في غضب: “قد أكثرت أيتها المرأة العجوز على أمير المؤمنين” وهنا يتدخل عمر قائلا: “دعها، أما تعرفها؟ هذه خولة التي سمع الله قولها من فوق سبع سموات وعمر أحق والله أن يسمع لها”.
هند بنت عتبة:
واحدة من أعقل عقلاء النساء، عرفها الناس من وقائع السيرة النبوية كزوجة لأبي سفيان بن حرب ومعادية و مبغضة للإسلام ودعوته كأشد ما تكون العداوة والبغضاء.
سارت الأمور و جرت مياه كثيرة في النهر ، و دخلت هند و من قبلها زوجها أبو سفيان في دين الله.. و منذ اللحظات الأولى لهذا الدخول تكشف لنا هند عن شخصية جديرة بالاحترام و التقدير.. شخصية تجعلنا نزيح ولو قليلا الصورة التقليدية المرسومة في أذهاننا للمرأة في الجاهلية كوسيلة للهو و المجون و العبث. مع هند نحن أمام شخصية مستقلة ، و عقلية نقدية قادرة على المحاورة و إثارة التساؤلات ومراجعة مضامين ما يعرض عليها من كلام ، حتى ولو كان المتكلم هو رسول الله نفسه.
تروى لنا كتب التاريخ و السير و التراجم أن هند بنت عتبة لما أسلمت ودخلت مع النساء لتبايع رسول الله (ص) ، دار بينها وبينه حوار يكشف عن ندية وعدم تسليم دون قناعة و جرأة في النقاش و الأخذ و الرد غير متوقعة من امرأة على باب نبي و قائد منتصر لتوه.
كانت بنود “بيعة النساء” ” أن لا يشركن بالله شيئا، ولا يسرقن، ولا يزنين، ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان.. ، ولا يعصين النبي في معروف “.
وشرعت النساء، وفيهن هند، في المبايعة، وقال النبي : “تبايعنني على ألا تشركن بِاللهِ شيئا”.
فقالت هند: والله إنك لتأخذ علينا ما لا تأخذه من الرجال. وكان النبي (ص) قد بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد.
و هكذا مع أول بند من بنود البيعة، تسجل هند نقدها و اعتراضها على التمييز الحادث بين بيعة الرجال التي كانت على النطق بالشهادتين و النصرة بالجهاد ، وبين بيعة النساء التي تجاوزت ما هو أكثر من ذلك.
و الحقيقة أن النبي لم يعقب على اعتراضها ، ربما احترم منها وضوح موقفها و استقلال شخصيتها.
ثم واصل النبي بنود البيعة: “ولا تسرقن”.
فردت هند: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني، ويكفي بني، فهل علي من حرج إذا أخذت من ماله بغير علمه؟
– فأجاب النبي: “خذي أنت وبنوك ما يكفيك بالمعروف.
و هنا نلاحظ تقدير هند لقيمة الصدق، فتصارح النبي بما تفعله في مال أبي سفيان الحريص حتى تكفي حاجتها هي و أولادها، و أرادت بذلك أن تكون صادقة مع الله منذ البداية .
لكن النبي عندما أكمل شروط البيعة قال لهند: “ولا تزنين”..
هنا يتحرك العقل النقدي المتسائل بداخل هند ن فتقول : يا رسول الله، وهل تزني الحرة؟.. لقد كنا نستحي من ذلك في الجاهلية فكيف في الإسلام!
وعندما قال النبي لهند: “ولا تقتلن أولادكم”.
ردت هند بغضب مكتوم : قد ربيناهم صغارا، وقتلتهم كبارا.
في هذا الرد هجوم واضح على النبي (ص) و اتهام مباشر له كقائد بالقتل : هل تركت لنا ولدا إلا قتلته يوم بدر؟! أنت قتلت آباءهم يوم بدر، وتوصينا الآن بأولادهم. ؟! رد حاد من امرأة ما زالت مجروحة بسبب قتل عائلتها يوم بدر، و لم يندمل جرحها بعد، في نفس الوقت الذي تبدو فيه قوية لم تفقد جبروتها في إعلان رأيها دون تردد أو خوف.
و الروايات تذكر أن النبي (ص) لم ينفعل عليها ، بل تبسم ، وكان بجانبه عمر بن الخطاب الذي ضحك حتى استلقى على قفاه.
ثم واصل النبي بنود البيعة فقال: “ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن”.
فقالت هند: والله إن إتيان البهتان لقبيح.
وختم النبي بيعته بشرط أخير: “وَلا تعصينني في معروف”.
فقالت هند: والله ما جلسنا هنا وفي أنفسنا أن نعصيك في معروف.
تأمل منطقها العقلاني في الرد ، ولاحظ أيضا أنها لم تترك بندا إلا و علقت عليه برد أو جواب من عندها ، و كأنها امرأة غير قابلة للاستسلام أو الكسر و ليس من السهل أن ينطق لسانها كلمة ( نعم) دون أن تناقش و تطمئن و تقتنع.
و لا يفوتنا هنا أن نذكر أن هند لم تستجب أول الأمر لزوجها أبي سفيان الذي أعلن إسلامه بعد فتح مكة ، و دعا المكيين إلى الإسلام، قائلاً لهم إن محمداً جاء بما لا قبل لهم به، اتهمته هند بالخرف والجنون و حرضت قومها على قتله ، لكنها في اليوم التالي أعلنت إسلامها بقرار شخصي و بشكل مستقل ، وفسرت تغيير موقفها بتلك الكلمات المعبرة: “لم أرَ الله يُعبد فى البيت الحرام كما رأيت المسلمين يعبدونه بالأمس ، والله إن باتوا إلا مصلين قياماً وركوعاً وسجوداً. ”
إقرأ أيضاً: المرأة في سياق خطبة الوداع: حقوق أم انتهاكات؟
و من المواقف التي تجلت فيها عقلانية هند المبدعة وحكمتها في معالجة الأمور، ما رواه ابن عساكر في تاريخه من أن هند كانت شديدة الغيرة على زوجها أبي سفيان، و قد وظفت ملكتها الشعرية في هذا الجانب، فعندما وصلها أن أبا سفيان في إحدى أسفاره، قد اشترى جارية، تألمت منه، وكتبت إليه بيتين من الشعر تعاتبه فيه وتوبخه أشد التوبيخ:
يا قليل الوفاء ما كان فيما كان منا إليك ما ترعانا
كيف يبقى لك الجديد من الناس إذا كنت تطرح الخلقانا
تأثر أبو سفيان بكلمات هند التي صادفت موقعا في قلبه و عقله ، و غير خطته العاطفية و أمر ببيع الجارية.
و من الروايات التي تبين مدى عقل عنها و بصيرتها النافذة ، أنه حين بلغها نعي يزيد بن أبي سفيان، قال لها بعض المعزين :”إنا لنرجو أن يكون معاوية خلفا ليزيد”. فقالت: “مثل معاوية لا يكون خلفا لأحد، فو الله لو جمعت العرب من أقطارها ثم رمي به فيها لخرج من أي أعراضها شاء”.
وقيل لها ذات يوم ، و معاوية ما يزال صغيرا بين يديها : “إن عاش معاوية ساد قومه”. فقالت: ” ثكلتُه إن لم يسد إلا قومه”.. وصدق حدس هند وأصبح معاوية ابنها فيما بعد أول ملوك الإسلام و أحد دهاة العرب الأربعة.
و فيما بعد يقابل معاوية رعاية أمه وحنانها عليه و نصحها الدائم له صغيرا وكبيرا ، يقابل كل هذا بالحب والفخر والإعجاب، فيعتز بانتسابه إليها قائلا: ” أنا ابن هند”.
قصة سكينة بنت الحسين
اختلف الرواة في اسمها و المرجح أنه آمنة، ولكنهم اتفقوا على أن سكينة هو لقب لقبت به ، وذلك لما تميزت به من هدوء و وقار و صفاء نفس منذ صغرها..
و يبدو من سيرتها أنها كانت ظريفة خفيفة الظل تحب الفكاهة والمزاح ، و هذا الملمح من شخصيتها كان باديا و سهل الملتمس من كل من حولها أو حتى سمع عنها ، و ربما عقد البعض مقارنات بين شخصيتها و شخصية أختها فاطمة بنت الحسين .. قيل لها ذات مرة : يا سكينة، أختك ناسكة وأنت مزاحة؟ فأجابت بطبيعتها المرحة و الذكية : إنكم سميتموها باسم جدتها المؤمنة، وسميتموني باسم جدتي التي لم تدرك الإسلام.
وهي هنا تشير إلى أن أختها قد سميت باسم جدتها فاطمة الزهراء، أما هي فقد سميت باسم آمنة جدتها أم النبي (ص).
تكاد المصادر تجمع على أنها سيدة سيدات عصرها ، وأجملهن وأرقاهن صفاتا وأخلاقا ، وكان منزلها كعبة الأدباء والعلماء .. ويمكننا القول أنها كانت صاحبة السبق و الريادة في عقد ما يسمى الآن بالصالونات الثقافية.
و قد حازت درجة الأستاذية في علوم اللغة والأدب والشعر .. فكانت عالمة أديبة و كانت بمثابة سيدة الناقدين في عصرها .. وكان الشعراء يفدون إلى مجلسها يلقى كل منهم أفضل ما أبدعه وأرقى ما جادت به قريحته ملتمساً القبول لديها كي يحظى بشهادة من تلك الناقدة الجليلة.
تحكي لنا الروايات أنه قد اجتمع عندها ذات مرة جرير والفرزدق وكثير وجميل فاستمعت إلى أشعارهم وأصغوا إلى تحليلها ونقدها وهي توضح لهم الإيجابيات والمثالب.. ثم أثابت كلاً منهم بألف دينار جزاء ما قدموا من فن وإبداع.
و دخل عليها الشعراء ذات يوم لتفاضل بينهم من وراء حجاب، فصارت تهزأ بهذا وتسخر من ذاك، ثم طربت لجميل حين قال:
يقولون جاهدْ يا جميل بغزوة وأي جهاد غيرهن أريد
لكل حديث بينهن بشاشة وكل قتيل عندهن شهيد
و قد فطنت السيدة سكينة للمعنى فأجابته “جعلت حديثنا بشاشة وقتلانا شهداء”.
و قد تساءلت الدكتورة سعاد المانع في كتابها ( المرأة و نقد الشعر في بدايات النقد العربي) : أما كان لسكينة اهتمام بنقد الشعر خارج نطاق شعر الغزل أم أنه كان لها نقد أدبي في نواح أخرى ولكن الرواة لم يحفظوه لنا؟
و السؤال سبق وأن أثارته بشكل آخر الباحثة الكبيرة الدكتورة عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطيء) في كتابها عن السيدة سكينة التي لاحظت أن الرواة لم يثبتوا لها إلا أبياتا معدودات من الشعر في رثاء أبيها و زوجها، و في محاولة تفسير ذلك افترضت بنت الشاطيء أن هناك موقفا عند الرواة جعلتهم لم يهتموا بحفظ أدب النساء ، و تعمدوا قصر المجال الفني للمرأة العربية على الرثاء، و نادرا ما يعترفون بها شاعرة غير راثية ، فعلوا ذلك مع الخنساء و مع عشرات غيرها من الشاعرات.
و إذا كان التاريخ الأدبي قد أسقط شعر و إبداع سكينة في غير الرثاء، فإنه – و لحسن الحظ – أثبت لها مكانتها كرائدة للنقد الأدبي ، سلم الشعراء و الأدباء بقيمتها و مكانتها و أقروا لها بالسيطرة الأدبية على عصرها كناقدة متمكنة من قراءة الإبداعات و تحليلها و الحكم عليها، و مناقشة أصحابها مناقشة علمية جعلت الكل يقر لها بالفضل وقوة الحجة وسعة الاطلاع.
شعر عن السيدة سكينة
يروى أنها وقفت على عروة بن أذينة – وكان من أعيان العلماء وكبار الصالحين وله أشعار رائقة- فقالت له: أنت القاتل:
إذا وجدت أوار الحب في كبدي
أقبلت نحو سقاء الماء أبتـرد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره
فمن لنار على الأحشاء تتقـد
فقال لها: نعم، فقالت: وأنت القائل:
قالت و أبثثتها سري فـبـحـت بـه
قد كنت عندي تحب الستر فاستتـر
ألست تبصر من حولي؟ فقلت لهـا
غطى هواك وما ألقى على بصري
فقال: نعم، فالتفتت إلى جوار كن حولها وقالت: “هن حرائر إن كان خرج هذا من قلب سليم قط “.. و سكينة هنا تريد أن تقول أن عروة قد برع و تألق في تصوير مشاعر الحب فلابد أنه عاش تجربة عاطفية حقيقية لامست أعماق قلبه.. و هذا يقطع من ناحية أخرى برهافة حس سكينة التي جعلتها تربط ما بين الإبداع الشعري الجيد و تجربة الشاعر في الحياة.
و كان لعروة المذكور أخ اسمه بكر فمات فرثاه عروة بأبيات حزينة ختمها بقوله:
وأي العيش يصلح بعد بكر؟
فلما سمعت سكينة هذا الشعر قالت: ومن هو بكر هذا؟ فوصف لها، فقالت: أهو ذلك الأسيد ( تصغير الأسود) الذي كان يمر بنا؟ قالوا: نعم، قالت: لقد طاب بعده كل شيء حتى الخبز والزيت.
و الحقيقة أن تعليق عائشة هنا لا علاقة له بالنقد الأدبي، بل يمكن استقباله على أنه نوع من الدعابة ، كالعادة المعروفة حين يتم تحويل الموقف الشعري من زاوية الرؤية الجادة إلى زاوية رؤية تلوح فيها الطرافة والهزل.. و ربما قصدت سكينة أن تقول هذه هي الدنيا لا تتوقف على موت أحد أو حياته.
و قد أثيرت بعض الشكوك بشأن جدارة سكينة بنت الحسين كناقدة أدبية في زمانها، فمثلا ذهب الدكتور زكي مبارك إلى أنها لم تحظ بتلك المكانة الأدبية الرفيعة ولم يقر لها الشعراء بالسيطرة الأدبية إلا خضوعا لجبروت جمالها و هيبة شرفها و نسبها المتصل بالنبي الكريم.. وقد فندت بنت الشاطيء هذا الرأي وقطعت بعدم صحته، مؤكدة أن أمراء الشعر أقروا لها بالجدارة “لعلو كعبها في فن القول و حساسيتها المرهفة في ذوق الشعر و إدراكها البصير لمواطن التأثير و دوافع القول و أسرار البلاغة والبيان”.
مصادر ومراجع:
– جامع البيان عن تأويل آي القرآن الطبري
– تفسير القرآن العظيم ابن كثير
– الجامع لأحكام القرآن القرطبي
– روح المعاني الألوسي
– الطبقات الكبرى ابن سعد
– تاريخ مدينة دمشق ابن عساكر
– وفيات الأعيان ابن خلكان
– العقد الفريد ابن عبد ربه
– أنساب الأشراف البلاذري
– الأغاني أبو الفرج الأصفهاني
– أعلام النساء عمر رضا كحالة
– تراجم سيدات بيت النبوة عائشة عبد الرحمن
– المرأة و نقد الشعر في بدايات النقد العربي سعاد المانع