مقدمة
تعكس قضايا المرأة أزمة الواقع العربي والإسلامي، فكما يُمكننا أن نتعرف على حيوية الجسد بتحليل نقطة دمّ، فإنّه يُمكننا الانطلاق من قضايا المرأة في الفكر الديني للتعرّف على حيوية أو جمود العقل المسلم، وخُمول أو نشاط حركة الاجتماع العربي، إذ تُمثّل قضايا المرأة محور اهتمام الخطابات الدينية والخطابات التي تدخل في حالة سجال مستمر معها.
فتُمثّل قضايا المرأة هاجسا يُؤرّق الخطابات الدينية، ففي المؤشر العالمي للفتوى الصادر عن الأمانة العامة لدور الإفتاء العالمية شملت الفتاوى المرأة من الرأس حتى القدمين، فسيطرت أحكام عدم الجواز على ٣٧٪ من إجمالي الأحكام المستخدمة في حق المرأة، جاء منها ٨٦٪ على ألسنة شخصيات وكيانات غير رسمية، وتمّ استخدام فتاوى المرأة في مواضع متشددة بنسبة ٤٥٪. بينما جاءت أحكام “الجواز” في المركز الثاني بنسبة ٣٦٪. ([1])
قضايا المرأة في الثقافة الإسلامية
فتُواجه قضايا المرأة تحديات كبيرة ناتجة عن التداخل بين الوحي والفقه والعُرف في الثقافة الإسلامية التي تُسوّي بوعي أو بغير وعي بين السياقات السجالية والسياقات التشريعية، فمن الطبيعي أن ينعكس هذا التمييز بين الرجل والمرأة في مساجلات القرآن الكريم مع المجتمع العربي الجاهلي، غير أنّ العقل العربي جعل الخطاب السّجالي خطابا تشريعيا، وزاد الأمر تعقيدا تشكّلُ الفقه الإسلامي متأثرا بالأعراف العربية، وهذا لا يُعيبه في زمنه، فالعرف مصدرٌ، أُمِرَ المسلمون بالأخذ به في قوله تعالى: “وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ” [الأعراف:١٩٩]، لكنّ الإشكالية في أنْ نُدخل العُرف في بِنية الوحي الإلهي، بعد أن تسلّلتْ بعضُ الأعراف مُخفية هويّتها داخل بنية المقدس في الفكر الديني.
وفي الوقت الذي تتعالى الأصوات المنادية بالتمييز بين صوت الوحي والفقه والعرف، ومراجعة الأحكام الفقهية الخاصة بالمرأة، الحلقة الأضعف التي يبدأ من قضاياها الانكسار، والتراجع الاجتماعي، والفكري، إذا بتلك الأصوات تُتّهم بأنها مدفوعة في مطالبها الحقوقية بدافع من هيمنة الحضارة المعاصرة ذات البعد الغربي فكريا وثقافيا وسلوكيا، وكأنّ المطالب الحقوقية ليست من جوهر دعوة الإسلام التي جاء بها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، كما تُتّهم المطالب الحقوقية بأنها تُناقض الخصوصية الثقافية التي تجعل الرجل والمرأة العربية استثناء عن سائر المجتمعات الإنسانية، بما يستوجب حماية تلك الخصوصية.. وهذا يُناقض الوحي الذي خاطب الإنسان وليس العربي، وجعل العدل بمعنى الإنصاف، والفطرة بمعنى الإنسانية، والكرامة الإنسانية القائمة على المساواة مبادئ قرآنية عليا حاكمة، وحاضرة دوما لا تقبل الاستثناء.. كان الأجدر أن يُقال المرأة المسلمة لها حقوقها التي لم تنلها في بعض مجتمعات المسلمين، وأنها تحتاج الكثير من القوانين التي توفّر للمرأة الحماية؛ لتسترد تلك الحقوق.
الدراسةُ ليست محاولة للدفاع أو المساجلة التي تدفع الخطابات الإسلامية للقول بأنّ ثمّة تطابق بين الفقه/الشريعة والمواثيق الدولية في قضية المساواة بين الرجل والمرأة، وأن تشريعات الإسلام سبقت الغرب في هذا الميدان فمنحتْ المرأة شخصيتها المدنية الكاملة، فلها حق التملك، ولها ثروتها الخاصة التي تستقل بها، والكثير من الحقوق قبل أن يمنحها الغرب للمرأة.
فصُنّفَ في القرن الأخير مئات الكتب عن مكانة المرأة في الإسلام والقرآن الكريم، وتكريم الله لها، استوقفني منها عشرات العناوين التي تُدافع عن إنصاف الفقه/الشريعة للمرأة، لكن يبقى السؤال: لماذا لم تُغيّر هذه الكُتب واقعَ المرأة في المجتمعات العربية؟
يغلبُ على تلك الكتب شعورٌ بالمظلومية، وإحساس بالمؤامرة على الإسلام والمسلمين، وتتخفّى تلك المؤامرة، من منظورهم، تحت شعارات حقوق المرأة.. تحاول تلك الكتب تقديم إجابات لأسئلة الغرب، وتُغفل أسئلة الواقع ومشكلاته، ولو أنّهم انطلقوا من مشكلات الواقع، وفكّروا في تقديم إجابات لمشكلات المرأة في المجتمعات المسلمة لكان من الممكن أن يُغيروا وعي المجتمع بما يُغيّر من واقع المرأة، حينها كان من الممكن أن يجدوا نتائج وأرقام مستمدة من الواقع تُجيب عن واقع المرأة في مجتمع المسلمين، وسيكون لهذا تأثير أكبر من التنظير والاستدلال الانتقائي من الماضي الذي يُردّ عليه باستدلال انتقائى مضاد.
لو فكّروا بعيدا عن نظرية المؤامرة لأدركوا أننا من نتآمر على أنفسنا بجمود عقولنا، لأدركوا أنّ المرأة لم تنلْ الكثير من حقوقها، وأنّها تحتاج الكثير من القوانين التي توفّر لها الحماية.
هذه الدراسة محاولة للكشف عن التباين الكبير بين المرأة في القرآن والفقه والعرف، وكيف أن ثمّة تداخل في الخطابات الدينية بين المقدس وغير المقدس أوقعها في بعض المغالطات، وهذا ما ستتناوله الدراسة من خلال أربع كلمات مفتاحية: المرأة في الوحي، التداخل المفاهيمي بين العرف والشريعة والفقه، المرأة بين العرف والفقه (الشريعة في إحدى مدلوليها)، “اضربوهنّ” نموذجا لتداخل الخطابات الدينية حول المرأة.
(١)
المرأة في الوحي
تتمثّل مصادر الوحي في القرآن الكريم كلام الله المنزَّل على النبيِّ محمدٍ، صلى الله عليه وسلم، المنقولُ نقلًا متواترًا، المكتوب بين دفَّتي المصحف. والبيان العملي للقرآن المنقول بالتواتر عن النبي، صلى الله عليه وسلم وسلم، المتمثّل في السنة/الطريقة العملية مثل: كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم خمس صلوات واجبة.. وصحيح السنة الإخبارية مع اختلاف بين المسلمين في مصادرها بين سنة وشيعة وإباضية وغيرهم، ومع اختلاف بينهم فيما يدخل منها في باب الوحي، وما يدخل منها في باب الفعل السياسي والاجتماعي.
وقد أجْمَلَ الوحي في قضايا المرأة كغيرها من قضايا الاجتماع المتحرك المتغير، فأرسى مبادئ عامة من الكرامة، والعدالة، وجعلها كلمات مفتاحية لفهم رسالة الله إلى الإنسان، وبتأمُلِ رؤيةِ الوحي المقدّسِ للمرأة سنجد أنّه أرسى مبدأ الكرامة الإنسانية للرجل والمرأة، بقوله تعالى “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ” [الإسراء:٧٠]، ولا تحقيق للكرامة الإنسانية إلا بالعدل والإنصاف، فمنح الإسلام للرجل والمرأة مساحات متساوية، فالخطاب القرآني قضى على كل مظاهر التفرقة بينهما في الحقوق والواجبات، فأعطى المرأة شخصيتها المدنية الكاملة، فلها حق التملك، ولها ثروتها الخاصة التي تستقل بها.
حتى حضور المرأة في الخطاب القرآني طالبتْ به السيدة أم سلمة زوجُ النبي، صلى الله عليه وسلم، قائلة للنبي الكريم: “مالنا لا نُذكر في القرآن كما يُذكر الرجال”؟ كما جاء في تفسير الطبري وابن كثير، كان ذلك السؤال سبب نزول قوله سبحانه: ﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٣٥].
وجاءت الكثير من النصوص تُؤكد التساوي بين الجميع في الحقوق والواجبات والجزاء، فهما يقفان على أرضية واحدة أمام تعاليم الإسلام، وفي تحمّل المسؤولية الاجتماعية، منها قول الله عز وجل: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة:٧١]، “فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ” [سورة آل عمران، الآية٩٥]، “وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا” [سورة النساء، الآية ١٢٤]، وفي الحديث: “إنّما النساء شقائق الرّجال”.
فتشريعات القرآن الكريم الحياتية خطاب مفتوح كي يتناسب مع حركة الاجتماع التي لا تعرف الثبات، فالمواطنة التي ترى الرجل والمرأة متساويين في الحقوق والواجبات بوصفهما مواطنين لا تتعارض مع الوحي، فالمواطنة، كما أنّها تعنى الانتماء القومي الجغرافي للوطن، فهي رابطة وعلاقة اجتماعية داخل الوطن قائمة على الاعتراف بكرامة الفرد، واحترام حقوقه الإنسانية، فمبدأ المواطنة يرتبط ارتباطا وثيقا بمبدأ المساواة في الحقوق الاجتماعية والسياسية. ([2]) فالمواطنة كمظلّة اجتماعية في الدولة المعاصرة لا تنظر للمرأة بوصفها أنثى في المنظور الفقهي، وإنما بوصفها مواطن..
وما جاء في السنة الإخبارية من أحاديث تتعارض مع كرامة المرأة الإنسانية، فليست من الوحي، وإنما هي ترويض للعادات العربية، فلم نُصنّف ونُبوّب سنة الأخبار على نحو يُميّزُ بين سنة الوحي، التي هي بيان نبويّ لمراد الله، وبين سنة العادات الخاضعة لسياق الوجود الاجتماعي والزمني له، صلى الله عليه وسلم، فـ “لو أننا تتبعنا المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطيناه نظرة فاحصة يتميز بها ما كان صادراً عن كل شخصية من هذه الشخصيات، ولم نخلطْ بعضُها ببعض، ورتّبنا على كلّ منها آثاره، وأعطيناه حقّه، لسهُل على المسلمين أن يَتَفاهموا فيما شجَر بينهم من خلاف، ولتصافح المتخالفون، ولما رمى أحد سواه بالكفر أو الزندقة، ولعلم الجميع ما هو شرع دائم عام لا سبيل إلى مخالفته أو الخروج عنه، وما هو تشريعٌ خاص، أو مُؤقت”. ([3])
كما أنّ ما جاء في الوحي عن المرأة غير منفصل عن الأسلوبية العربية ذات الدلالة الاحتمالية على حدّ قول الإمام محمود شلتوت: “ما من آية حصل من دلالتها اختلاف بين العلماء، وفي موضوعها حديث أو أحاديث، إلا كانت هذه الأحاديث أيضا محل خلاف بينهم، وقلّما نجد حديثا خلت دلالته ما بين العلماء من خلاف في دلالة آية من القرآن. ولعلّ ذلك يرجع إلى اشتراك القرآن والسنة في الأسلوبية العربية، وهي واحدة فيهما، كما يرجع إلى أسباب أُخرى تتعلق بثبوت الحديث، وعدم ثبوته، وقوته وضعفه”.([4]) ومن هنا تأتي أهمية حسم الاحتمالي في لغة الوحي بالاحتكام إلى المبادئ القرآنية فهي بمثابة الكلمات المفتاحية لفهم رسالة الله إلى الإنسان، وفي مقدمتها: العدل، والكرامة الإنسانية، بما يُحقق المصلحة العامة..
في ضوء ذلك تتعدد القراءات حول الحديث الواحد، ففي حديث: “لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة”. هناك مَنْ قال بأنّه خطاب عام ووحي واجب الاتباع، فقالوا بحُرمة تَولّي المرأة الإمارة والقضاء، وهو الصوت الأكثر حضورا في تراثنا وخطابنا الديني، إلا أنّه أمام نجاح المرأة في هذه المجالات في مجتمعات الآخر غير المسلم، وحركة اجتماع وتغيّرات واقع المسلمين قدّم بعضُ الفقهاء قراءة مغايرة للحديث، فقالوا بأنّه مرتبطٌ بحادثة تاريخية بعينها.
إقرأ أيضاً: المرأة والتحولات الاجتماعية
كما يُمكننا القول بأنّ ما تعارض من سنة الأخبار مع القرآن الكريم نُعيد النظر في متنه للتأكد من صحته، وننظر في سياقاته لنرى ما إذا كان الخبر يدخل في باب الوحي بالتأويل أم في باب الفعل السياسي والاجتماعي كعادة؛ لأن الوحي نسقٌ متكاملٌ، لا يُناقض بعضُه بعضا، فالله تعالى يقول: “”لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ”، فالله خلق الإنسان سواءً كان رجلاً أو امرأة في أحسن تقويم، فلا يستقيم مع هذا المعنى النّقص الخِلْقي في تكوين المرأة الذي جاء في الخبر المسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم “النساء ناقصات عقل”، تلك اللازمة القولية التي يُكررها بعض الناس في خطاب تمييزي ضد المرأة، فهذا التناولُ يُناقضُ إخبارَ القرآنِ بحسنِ تقويم المرأة والرجل، ومبدأَ العدل/الإنصاف الإلهي، والكرامة الإنسانية، ثمّ كيف تكونُ جميع النساء ناقصات في تكوينهم العقلي، والواقع المُشاهد، والتجربة الاجتماعية، والوحي القرآني يُثبت خلاف ذلك!
فيُمكننا أن نرى المرأة ليس قاضية وحاكمة فحسب بل مُشاركة في التشرِّيع، فكان لها أثرٌ واضحٌ في تطوير العملية التشريعية/ الأحكام الفقهية المتعلقة بالمرأة، فإذا رجعْنا إلى التاريخ الاجتماعي للتشريع في صورته الحيوية المتغيرة المتنوعة المتفاعلة مع الاجتماع، وليس إلى الكتب الفقهية في صورتها الجامدة، لوجدنا حراك المجتمعات المسلمة له أثر كبير في تطوير التشريعات/الأحكام الفقهية، وخير ما يعكس ذلك سجلات المحاكم الشرعية التي تعكس على سبيل المثال: كيف رسّخت المحاكم الشرعية لحق المرأة في الاختيار بين المذاهب الأربعة داخل المحكمة عند التقاضي، واعتياد المرأة اختيار المذهب الأفضل لتحقيق مصلحتها، “فلم يكن المذهب الحنفي ولا المالكي ولا الشافعي يقبل بوضع شروط في عقد النكاح تحدّ من حق الرجل أن يأخذ لنفسه زوجة ثانية وثالثة ورابعة.. إلا أن الحنابلة سمحوا بوضع شروط في عقد النكاح… وأمام تفضيل النساء المذهب الحنبلي احتذى الفقهاء الشافعيون والمالكيون والأحناف في مصر القرن السابع عشر حتى أمسى هذا التفضيل عرفا أخذ به قضاة المذاهب الثلاثة الأخرى… فالزوجة بكرا كانت أو ثيبا كان باستطاعتها الاشتراك مع أوليائها في أن تضع ما تريد من شروط في عقد الزواج… فتُظهر السجلات لنا المرأة لا كمفعول به، بل كفاعل واعٍ متحقق في التاريخ، كما تُوضح هذه السجلات أن المرأة، وإنّ لم تكن متساوية مع الرجل في الحقوق والواجبات، إلا أنّها كانت متمسكة بحقها… فعن طريق القراءة في سجلات المحاكم الشرعية يُمكن لنا الوقوف على كيفية تفاعل المجتمعات الإسلامية السابقة مع الفقه وأحكامه. الفقه هنا لا يُفهم فقط بقراءة المتون ولا الشّروح ولا الحواشي، ولكن يُفهم أيضا بقراءة سجلات المحاكم الشرعية”. ([5])
(٢)
التداخل المفاهيمي بين العرف والشريعة والفقه
العُرف مجموعة من الأنماط السلوكية التي تُبقى عليها الجماعة، وتتناقلها عن طريق التقليد، فهي عناصر الثقافة التى تنتقل من جيل إلى جيل عبر الزمن، فمن أهمّ سماتها التّكرار الذي يُكسبها مع مرور الزمن ثباتا ورسوخا في الفعل الاجتماعي، كما أنّها نابعة من قلبِ حركة الاجتماع على نحوٍ تلقائي، ويُمثل العرف ضرورة اجتماعية، فمن هذه الضرورة، يستمد قوته واستمراريته، فيصعب على أفراد المجتمع الخروج على مقتضياته.([6])
وبالنظر في مدلول كلمة “تقاليد” في اللغة نجد أنّها مشتقة من الجذر اللغوي “قلد”، وقلّدته قلادة أي جعلتها في عنقه، ومنه التقليد في الدين، وكأن المعنى يفيد المحافظة على الأمانة، وذلك بوضعها فى العنق، فالتقاليد عند أهل اللغة هي “العادات المتوارثة التي يُقلّد فيها الخلف السلف”.([7]) وهذا يُوضح المكانة المرموقة التي تتمتع به التقاليد والعادات والأعراف في أي تشريع عبر التاريخ، وقد عدّ بعض الباحثين ومنهم هوبهاوس “Hobhouse” تقليد السلف هو “غزيرة المجتمع” أو القاعدة التى تسير بموجبها مجريات الأمور، فيُمكننا النّظر إلى العرف باعتباره مرآة عاكسة للطبيعة المميزة لثقافة بأكملها، فـ”في العادات والتقاليد والأعراف دلالة على نوع الأخلاق ونوع العقلية للشعوب”.([8])
في ضوء هذا المفهوم يُمكننا أن نُدرك طبيعة العقل العربي المتعصب لتقاليده وأعرافه على نحوٍ عابَه القرآنُ الكريمُ على العرب، فأنكرَ عليهم اتّباعهم لآبائهم اتباعًا أعمى، فقال تعالى: “وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ”. [الزخرف:٢٤،٢٣]
وإذا انتقلنا إلى دالّ الشريعة فسنجد أننا أمام ثلاث مدلولات، فمشتقات كلمة “شريعة” جاءت في خمسة مواضع في القرآن الكريم، ثلاثة منها لا تحتمل سوى الدلالة اللغوية بمعنى فتح لكم، وعرَّفكم، وأوضح، وبيَّن، وسنَّ، وظهر، فالشريعة في اللغة بمعنى الطريق الواضح، ومورد الشّاربة الماء، ومنه قول العرب: شرعت الإبل إذا وردت شريعة الماء، وسُمي مورد الماء بالشريعة؛ لوضوحه وظهوره لجميع الناس، ومنه قوله تعالى: “إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شُرّعا” أي ظاهرة رافعة رؤوسها [الأعراف: ١٦٣] وقوله تعالى: “ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون” [الجاثية:١٨] بمعنى الطريقة المستقيمة الواضحة.
واستعيرت شَرَع للدلالة على معنى ديني جديد في موضعين من القرآن:
الأول: الشريعة تُفيد أصل الاعتقاد، وتُرادف الإيمان قوله تعالى: “شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً” [الشورى: ١٣] فاستدل دارسون بالآية على أن الشريعة الإسلامية: هي الأصول التي حملها الوحي لجميع الأنبياء، وتتساوى فيها الدّيانات، وسُمّيت بالشريعة لظهورها ووضوحها، فلا يختلف عليها أحد، ولا يصحّ فيها النّسخ، وهي المتمثلة في عبادة الله، واجتناب عبادة غيره من الطاغوت ” وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ” [النحل:٣٦]، فالشريعة في هذا الموضع تُفيد أصل الاعتقاد وتُرادف الإيمان.
الموضع الثاني: في قوله تعالى: “لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا” [سورة المائدة، الآية٤٨] وبه استدلّ دارسون على أن الشريعة خاصة بالأحكام العملية التي يعتريها النسخ والتغيير، فالشريعة اسم للأحكام المختلفة بين الأنبياء.
بهذا أصبح للشريعة في الثقافة الإسلامية مفهومان كلّ منهما له سندٌ تحتمله دلالة الكلمة في القرآن الكريم: الأول بمعنى الدين “الأصول الثابتة” التي لا تختلف باختلاف الأنبياء، والثاني الأحكام العملية التي تختلف باختلاف الأنبياء، وتنقسم إلى نطاقين: نطاق العبادات وهي الأحكام العملية لعلاقة الإنسان بالله تعالي مثل: الطهارة والصلاة والزكاة والصوم وغيرها. ونطاق المعاملات وهي الأحكام العملية التي تُنظّم علاقة الإنسان بغير الله من الأفراد والمجتمعات والدول وسائر محيطه الكوني، فهناك أحكام عملية تتناول علاقة الإنسان مع أفراد أسرته، تُسمّى الأحكام الأسرية، وأحكام عملية تتناول علاقة المسلم بالسلطة والسلطان تُسمّى الأحكام السلطانية، ويُطلق على مجموع الأحكام العملية بنوعيها التعبدية والمعاملات علم “الفقه الإسلامي” حيث عمل الفقهاء المجتهدون على استنباط الأحكام العملية من الأدلة وفق أصول تفاوتوا في قبولها ورفضها وترتيبها، ويختصّ التقاضي بالنظر في جانب أحكام المعاملات للفصل بين الأفراد والهيئات في المنازعات، فمجاله الفعل الظاهر الذي يُمكن أن تقوم عليه بيِّنة، والأصل ألّا يتطرق إلى البواطن فالأحكام العقائدية والتعبدية ليست مجالا للتقاضي. ([9])
ويغلب على أحكام المعاملات الاختلاف والتعدد “فالله تعالى حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الملّة قابلة للأنظار ومجالًا للظنون، وأن مجال الاجتهاد ومجالات الظنون لا تتفق عادة.”([10]) وأصبح يُطلق على مجموع اجتهادات وظنون الفقيه “مذهبًا” واختلفت المذاهب وتعددت تبعا لما توّفر لدى بعضهم من أدلة، ولم يتوفّر لآخر، أو أنّه أقرّ مصدرا للأحكام، وقدّمه على غيره من المصادر بخلاف مجتهد آخر، أو أنّه تأثّر بالبيئة المكانية أو الزمنية التّي عاش فيه التي جعلت مجتهدا مثل الإمام الشافعي يُعيد صياغة أحكام مذهبه في مصر متأثرا بواقعه الجديد، فليس الفقه (الشريعة) بمعزل عن التأثر بالواقع، وتنوعت المذاهب بين الفردية والجماعية ويُراد بالمذهب الفردي الآراء والأقوال التي تكونت لدى مجتهد أو فقيه واحد، أما المذهب الفقهي الجماعي فمجموع آراء وأقوال الإمام شيخ المذهب وما أدخله تلاميذه في المذهب، ومن أتى بعدهم من المجتهدين، ورغم أن المذهب ينسب لإمام بعينه بصفته المؤسِّس إلا أنه مجموع اجتهادات عدد كبير من التلاميذ وتلاميذ التلاميذ، وبفضل انتشارهم وتدوينهم عاش المذهب، ولولاهم لضاع واندثر مثل الكثير من المذاهب.
فمثلا الإجماع أحد أصول ومصادر استنباط الأحكام عند الشافعية إلا أن الإمام الجويني من أئمة المذهب الشافعي أنكر استقلال الإجماع بالتشريع،([11]) ورفضه آخرون من أئمة المذاهب الأخرى مثل أحمد بن حنبل وابن حزم من المتقدمين والشوكاني من المتأخرين.
ويتضح بذلك أن ثمة اختلاف في أصول الأحكام العملية وفروعها، فالشريعة فيما يتعلق بعلاقة الإنسان بغيره شهدت آراءً وتعددية في أحكامها، بل وفي أدوات استنباطها لتلك الأحكام بحيث يبدو افتراض منظري الجماعات الإسلامية وجود تصور إلهي ثابت مجرّد غير صحيح. وأن فكرة عدم تدخل الإنسان في صياغة أحكام الشريعة غير دقيقة؛ فغالب أحكامها يتدخل العقل الإنساني في استنباطها من أدلة الوحي غير قطعية الدلالة. وأن الاحتكام إلى الشريعة بوصفها أحكام للمجتهدين لا تُغنى عن سنّ القوانين؛ لأن أكثر تفاصيل المجتمعات والدول المعاصرة لم تتناولها تشريعات المجتهدين في الفقه الإسلامي بما يدعو إلى ضرورة استحداث تشريعات.. وهذا ما يقرره أحد أبرز المنظرين الدكتور السنهوري بقوله: “علة أخرى أقرب إلى الصواب تفسر عزوف الفقهاء عن الخوض في أحكام الخلافة خشية التعرض لنظم الحكم الاستبدادية التي سادت العالم الإسلامي منذ الأمويين، وأيا كانت العلة فالذي لا جدال فيه أن شطر الفقه الإسلامي المتعلق بالقانون العام قد بقي في حالة طفولة بسبب هذا العزوف”.([12]) فلم يقدم لنا الفقه الإسلامي أحكاما شرعية مفصّلة لعلاقة الإنسان بالبيئة، أو لعلاقته بالطرق وقواعد البناء والتشييد، ولا لعلاقة العامل مع صاحب العمل وغيرها من المستحدثات الكثيرة في الدولة.
ففكرة عبدالقادر عودة في كتابه التشريع الإسلامي أننا بين خيار الفقه الإسلامي المستمد من الوحي الذي أنزله الله جلّ وعلا، والقوانين الوضعية المستمدة من عقول البشر، والفرق بين الوحي وبين آراء البشر، كالفرق بين الخالق والمخلوق، لا تخلو من مغالطة، فالوسيلة في كلا النموذجين واحدة وهي عقول البشر، فالوحي لا ينطق وإنما ينطق الفقهاء بفهم عقولهم للوحي، والخلل أن نجعل من اجتهاد الفقيه معادلا للوحي، وأن نجعل المدونة الفقهية التي هي نتاج المخلوق نتاجا من الخالق؛ لأننا نتحدث عن اجتهادات حول واقع متغير، فالفقيه غير منفصل عن واقع يعيش فيه، وظرف تاريخي يتأثر به، فأحكام الفقه (الشريعة) مثل القانون تُعبِّر عن بيئتها مكانا وزمانا.
ومما تقدم يتضح أن “الشريعة” تحتملُ دلالتين مختلفتين، فإمّا أنْ يُراد بها المبادئ والأصول القطعية الدلالة والثبوت وفقَ ما نزل به الوحي ممّا يُمكن أن نصفه بالنص بمعنى الواضح الذي لا يحتاج إلى اجتهاد، ولا يحتمل الاختلاف في فهمه، وهذا عزيز/نادر كما يقول الفقهاء، وإما أن يُراد بالشريعة ما جاء به الفقهاء المجتهدون من آراء، ويشمل ما ليس فيه نص قطعي بل احتمالي الدلالة أو ظني الثبوت عن الله والمسكوت عنه في الوحي والقطعي في وجوبه دون تفصيل لطريقة تحقيقه وتطبيقه، فالصورة الأولى هي المنهى عن تعطيلها والصورة الثانية فيها من تعددية الآراء ما يجعل القطع بالصواب أو الخطأ غير وارد، فكل يُؤخذ منه ويُردّ عليه، ويحتمل قول المجتهد فيه الصواب والخطأ، فلا يملك مجتهد أي حقّ من حقوق القداسة الملزمة التي تبقى خاصة بالله سبحانه وتعالى.
وقد أحدثتْ ثنائية مفهوم الشريعة بين احتمالية دلالتها على الأصول أو الفروع ارتباكًا وشراسة في الخصومة؛ فالفكر المتشدد يُشعل الانفعالات ويُلهب مشاعر الغيرة على الشريعة بزعْم أنك تجادل في الإلهي، وأنك تُشكك في الوحي المقدس، بينما النقاش حول الاجتهاد البشري (الفقه) الذي يُطلق عليه دالّ الشريعة، فالفقه، بمعنى الشريعة، عاني عبر تاريخنا من جمود؛ لأسباب عديدة أشار إلى بعضها شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت بأنها راجعة إلى التمسك باللفظ، وإهمال المقصد التشريعي والتقديس لآراء السابقين، وعدم مسايرة الفقهاء لمستجدات الواقع وتحريم الخروج على المذاهب الفقهية الممثلة لفهم أهل السنة، فرغم ضخامة نتاج الفقه الإسلامي في جوانب مثل فقه العبادات نجدُه منعدما في جوانب أخرى من أحكام إدارية وعقارية وتجارية وبحرية وحقوقية..
وأمام هذا الواقع لم يُراجع جانب من الفكر الديني موقفه من ضرورة التبادل الثقافي والعلمي وإفساح دور أكبر للعقل في إنتاج مدونة المجتمع القانونية والحقوقية وفق مبادئ الشريعة/ الأصول العقائدية، والمبادئ القرآنية، بل سيعود مرة أخرى إلى الفقه الإسلامي يتهمون عصور ضعف الاجتهاد الفقهي بأنها سبب تلك الفجوة، لأنها تجمدت عند صورة واحدة من الاجتهاد منذ قرون، وأنه لا بديل عندهم من الفقه الإسلامي مدونة حاكمة على واقع المرأة في المجتمعات المعاصرة، فهو من منظورهم قابل للتطور والنماء ومسايرة روح الحضارة لإنتاج الدولة الإسلامية، وبين لغة الرثاء والإطراء يستمر الدوران في النقطة نفسها.
ويلجأ بعضهم إلى خيارٍ ثالثٍ وهو التزييف بإعادة الطلاء للتشريعات المستحدثة، ففعله أشبه بإعادة تغليف، شعاره “بضاعتنا رُدّت إلينا”، فتأتي أسلمة التشريعات ضمن مشروع أسلمة سائر جوانب المعرفة، فيكفي فقيه الأصولية الإسلامية أن يلتمسَ للتشريع المستحدث صلة بأصول الفقه؛ ليخرجَ منْ رحمِ الفقه تشريعا/ قانونا إسلاميا له اعتباره وتمايزه عن القانون الوضعي، والحقيقة لا يعدو كونه طلاءً شكليا، فالوسيلة واحدة، وهي عقل يُشرّع في مقطوع به مسكوت عن طريقة تحقيقه في الواقع وشكل تطبيقه، أو مسكوت عنه بالكلية، أو احتمالي مختلف فيه.
أكثر من مئة عام وما زال هناك إخفاق في تحريك كثير من قضايا الحقوق الأساسية للمرأة العربية، ومازالت المحاولات لإنجاز مساواة بين المواطنين بلا تمييز على أساس النّوع، فالرجل والمرأة، وفقا لمبدأ المواطنة لا فرق بينهما فيجب أن يكونا متساويين في الحقوق والواجبات بوصفهما مواطنين، ورغم أنّه يثور جدل كبير حول تلك القضية بين الحين والآخر، إلا أننا لم ننجح في تجاوز موقف الخطاب التوفيقي المتمسك برؤية الفقه القائمة على أنّ هناك فرق كبير بين الذكر، والأنثى اجتماعيا، وسياسيا، واقتصاديا.. “فالرجل والمرأة، ثَمّة فروق واضحة بينهما”، تلك النظرة حكمتْ منطق الفقهاء والمفتين منذ مئات السنين. وهذه النظرة وإن كانت مقبولة في الماضي إلا أنّه نجح في تجاوزها عدد من المجتمعات المسلمة اليوم، في الوقت الذي لم تبرح فيه الكثير من المجتمعات العربية مكانها؛ بسبب القداسة التي اكتسبها خطاب التمييز على أساس النوع الاجتماعي في الموروث الفقهي والتأويلي والإخباري، ويُزايد كل من الخطاب الراديكالي والتوفيقي على حمايته.
(٣)
المرأة بين العرف والفقه (الشريعة في أحد مدلوليْها)
تُغفل الخطابات الدينية السياقات الاجتماعية والتاريخية التي عاشها الفقيه، فكثيرا ما تستخدم عبارات استعلائية؛ تُشير إلى المدونة الفقهية بالشّرع الشريف، إيحاء بإطلاقيتها وألوهيتها الكاملة متجاهلةً ما تحمله من فكر بشري يتعين إخضاعُه للنقد لاسيما أنّ من مصادرها التشريعية “العُرف”، فما أنتجته البيئة العربية الأولى من أعراف جاهلية تعيش معنا، وكأنّها أعراف اليوم، فقد تداخلت العادات والتقاليد والأعراف مع المقدّس في موروثنا الفقهي إذ لم يكن ممكنا أن تقوم الشريعة/الفقه، وتتشكل منفصلة غير متأثرة بالعادات والأعراف فثمّة علاقة تفاعلية تبادليه بين العرف والشريعة/الفقه الإسلامي في طور ازدهاره وكتابة أئمة الفقه وتلامذتهم لمدوناتهم الفقهية، فالإسلام بمفهوم شريعة الأحكام/الفقه ليس مطلقا عن الزمان والمكان، وإنما هو نسبي تأثّر بسياقات زمنية ومكانية لاجتماع إنساني لديه حمولة من الأفكار والممارسات لا يُمكنها التجرد عنها..
فلا يمكننا أن نُحقق قراءة/ فهما جيدا لآيات ميراث المرأة دون أن نتعرف على السياق التاريخي الاجتماعي ([13]) للقرن السابع الميلادي (زمن نزول الوحي) كإحدى السياقات المتعددة المكملة للقراءة، فلم يكن للعرب في الجاهلية نظام إرث مستقل خاص بهم، إنما ساروا على نهج بعض الأمم الشرقية التي جاوروها، فالميراث عندهم – لأنهم أهل غارات وحروب- خاص بالذكور القادرين على حمل السلاح والذود دون النساء والأطفال، وكانت المرأة في الجاهلية، تابعا للرجل في كل شيء، مسلوبة الحق والإرادة، حتى قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: “والله إنّا كنّا في الجاهلية لا نعدّ للنساء أمراً، حتّى أنزل الله فيهنّ ما أنزل، وقسم لهن ما قسم”، ووصل الأمر في بعض القبائل إلى حدّ جعلها كالمتاع، فهي شيء ينتقل ملكيتها إلى الورثة كما ينتقل المال والأثاث، فكانوا يرثون النساء كرها، بأن يأتي الوارث، ويُلقي ثوبه على أرملة أبيه، ثم يقول: ورثتها، كما ورثت مال أبي، فإذا أراد أن يتزوجها تزوجها بدون مهر، أو زوّجها من أراد، وتسلّم مهرها ممن يتزوجها، حتى منع الوحي هذا الظلم حين نزل قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ [النساء:١٩] فحوّل الوحي المرأة من شيء/ متاعٍ ينتقل ملكيته بالإرث من رجل إلى رجل في عُرف بعض القبائل العربية إلى كون النساء لهنّ نصيب من الميراث مثل الرجال، قال تعالى: ﴿”للرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا﴾. [النساء:٧]
وقد بالغتْ بعضُ الأعرافِ الجاهلية من اللحظة الأولى في التخفّي والتماهي، فعاشتْ تحت جلد المقدّس، وساعدها على ذلك بعض الخطابات الدينية التي تستدعيها عادةً بوصفها من بنية المقدّس، فصارت بعض الأعراف الجاهلية جزء من الدين في عقول عامة المسلمين، وهذا ما ألحق أضرارا بالغة بالمرأة تحت مسمى الشريعة، والأمثلة على ذلك كثيرة منها:
ختان المرأة
تلك العادة التي سادت، واستمرت لقرون تحت مسمى “التكليف الإلهي”، رغم أنّه لم يرد ذكره في القرآن الكريم، إنما ورد ذكره في الحديث النبوي الذي يدخل في خطاب النبي ليس بوصفه وحيا، بل بوصفه خطاب سياسي لوليّ أمر يُحاول تدريجيا تغيير واقع اجتماعي يرى ختان المرأة عادة وعرفا أصيلا.
“فالعرب في ذلك كالعبرانيين.. وترجع الكلمة (الختان) إلى أصل سامي شمالي قديم. والختان في الأصل نوع من أنواع العبادة الدموية التي كان يقدمها الإنسان إلى أربابه، وتعد أهم جزء من العبادات في الديانات القديمة، فقطع جزء من البدن وإسالة الدم منه، تضحية ذات شأن خطير في عُرف أناس ذلك العهد، كما كان حلق الشعر كله أو جزء منه نوعا من أنواع التقرب إلى الآلهة. والختان في الإسلام معدود من سنن الفطرة التي ابتلى الله إبراهيم بها؛ وهي الكلمات العشر. وفي جملتها الختان.
وقد أمر بعض الجاهليين بختان النساء للحدّ من طغيان الشهوة، فإن البظراء تجد من اللذة ما لا تجده المختونة، وفي حديث: “يا ابن مقطعة البظور”. دعاه بذلك؛ لأن أمّه كانت تختن النساء. والعرب تطلق هذا اللفظ في معرض الذّم، وإن لم تكن أم من يقال له هذا خاتنة. وذكر أنّ الرسول قال لأم عطية الخاتنة: “أشميه ولا تنهكيه، فإنه أسرى للوجه، وأحظى عند البعل”. كأنه أراد أنه ينقص من شهوتها بقدر ما يردها إلى الاعتدال، فإن شهوتها إذا قلت ذهب التمتع، ونقص حب الأزواج، وحب الزوج قيد دون الفجور”. ([14])
إقرأ أيضاً: لماذا لا تكون المرأة نبيا أو رسولا؟
وقد تداخلت العادة والشعيرة الدينية، فإذا بالفقه يُدخل ختان المرأة في الشعائر الإسلامية، وشاع الأمر لعقودٍ، بل لقرون يُعتدى فيها على المرأة، ومع محاولات إزالة هذا الظلم الذي يتعارض مع مبادئ القرآن الكريم، وفي مقدمتها العدالة والكرامة، كان الخطاب الديني يرفض مؤكدا بفتاوى معاصرة على ختان الإناث، ومنها فتوى دار الإفتاء المصرية التي جاءت ٢٩ يناير ١٩٨١م، وفتوى الأزهر على لسان الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق ١٩٩٥م بأنه “اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أنّ الختان للرجال والنساء من فطرة الإسلام وشعائره، وأنّه أمر محمود ولم يُنقل عن أحد من فقهاء المسلمين، فيما طالعنا من كتبهم التي بين أيدينا، القول بمنع الختان للرجال والنساء، أو عدم جوازه أو إضراره بالأنثى إذا تمّ على الوجه الذي علمه الرسول صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة.. أم الاختلاف في وصف حكمه بين واجب وسنة ومكرمة فيكاد يكون اختلافا في الاصطلاح الذي يندرج تحته الحكم.
وإذا استبان مما تقدم أن ختان البنات المسؤول عنه من فطرة الإسلام وطريقته على الوجه الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنّه لا يصح أن يترك توجيهه وتعليمه إلى قول غيره ولو كان طبيبا؛ لأن الطب علم والعلم متطور، تتحرك نظرته ونظرياته دائما… وفي الختان عامة نذكر المسلمين بما جاء في فقه الإمام أبي حنيفة لو اجتمع أهل مصر (بلد) على ترك الختان قاتلهم الإمام لأنه من شعائر الإسلام وخصائصه”.([15])
غير أنّه تم التراجع عن ذلك في العشر سنوات الأخيرة، وأصبح ما كان إسلاما وشعيرة دينيه يُتقرّب بها إلى الله، كما في فتوى الأزهر على لسان الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق جريمة اليوم، فجرّم القانون المصري ختان الإناث، وصدر الفتاوى بتجريمه وتحريمه.
ومن عادات العرب التي أدمجت في بنية المقدس رغم ما تحمله من تمييز اجتماعي “زواج الأبكار” فكانت العرب قبل الإسلام “تحثّ على زواج الأبكار، ويُفضلون الأبكار الصغار على الأبكار الكبار، والبكارة من الشروط التي يجب توافرها في الزواج، وإذا تبين أنّ البنت ليست بكرا، عُدّ ذلك نكبة، وعُيّر أهلها بها، ولذلك يكون مصيرها القتل تخلصا من عارها. أما الزواج بالثيب، فلا يشترط فيه البكارة لأن المرأة كانت قد تزوجت من قبل، ثم طلقها زوجها أو مات عنها، فهي مما لا يتوافر فيها شروط البكارة، وهو زواج يعزف عنه الشباب ويُعيّر به من يقدم عليه، إذ يتهم بالوهن الجنسي وبالطمع في مال الزوجة، فليس يجمل بالشاب أن يتزوج امرأة أعطت بكارتها غيره. ومن صارت ثيبا من النساء، صار نصيبها الثيب من الرجال في الغالب، وإن كانت لا تزال شابة صغيرة السن”.([16])
فحثّت الأخبار على تلك العادة، ففي حديث عويم بن ساعدة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قوله: “عليكم بالأبكار، فإنّهنّ أعذب أفواهاً، وأنتق أرحاماً، وأرضى باليسير”. ([17]) وفي حديث جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، قال: “تَزَوّجْتُ امْرَأَةً فِي عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ، صلى الله عليه وسلم، فَلَقِيتُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ “يَا جَابِرُ تَزَوّجْتَ؟” قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: “بِكْرٌ أَمْ ثَيّبٌ؟” قُلْتُ: ثَيّبٌ. قَالَ: “فَهَلاّ بِكْراً تُلاَعِبُهَا؟”([18]) ورأى الفقيه فيها وفي غيرها من العادات المشار إليها سالفا كونها سُنّة يُستحب اتباعها، والواقع أنّها لا تعدو عن كونها عادات تناقلها المسلمون الأوائل من بيئتهم العربية، فالله لا يأمر بنوع من أبشع أنواع الظلم وهو “الوصم” الاجتماعي، والانتقاص، والنظرة الدونية للمرأة التي سبق لها الزواج في المجتمعات العربية.
ومن العادات التي دخلت تحت ثوب المقدس، وأضرّت بالمرأة في تعليمها، وعملها، وصحتها: إرهاقها بالإكثار من الإنجاب، بل أضرّ باقتصاديات الدول النامية، فالإكثار من النّسل من المعاني التي كثيرا ما يُلحّ عليها الخطاب الديني، مستندا إلى مرويات مسندة إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فيقول: ابن حجر في فتح الباري: “الأحاديث الواردة في ذلك كثيرة”، منها ما رُوي أنّه قال: “تكاثروا تناسلوا أُباهي بكم الأمم يوم القيامة”.([19])
والإكثار من النّسل لاسيما الأولاد الذكور عُرْف جاهليٌّ حرِص عليه العربي؛ ليقوى على منافسة فروعه المختلفة في أن يكون له رئاسة/ زعامة القبيلة/العائلة، وفي ذلك يقول ابن خلدون: “اعلم أنّ كلّ حيّ أو بطن من القبائل، وإن كانوا عصبة واحدة لنسبهم العام، ففيهم أيضا عصبيات أخرى لأنساب خاصة هي أشدّ التحاما من النسب العام لهم، مثل عشير وأهل بيت واحد، وأخوة بنى أب واحد، لا مثل بنى العم الأقربين والأبعدين… والرياسة فيهم تكون في نصاب (نصيب) واحد منهم، ولا تكون في الكلّ، ولما كانت الرياسة تكون بالغلب، وجب أن تكون عصبة ذلك النّصاب أقوى من سائر العصائب؛ ليقع الغلب بها، وتتم الرياسة لأهلها… بها (العصبية) تكون الحماية والمدافعة والمطالبة”.([20])
فالمجتمعات البدائية بما فيها مجتمع العربي في الجاهلية كانوا جماعات لا تقوى بالقانون، وإنما تقوى بكثرة وغلبة أفرادها، يقول امرؤ القيس:
بعزِّهم عززتَ، فإن يذِلّوا فذُلّهم أنالَك ما أنالَا([21])
ويقول دريد بن الصمة:
وهل أنا إلا من غزيّة، إن غوتْ غويتُ، وإن ترشُد غزيّة أرشدُ([22])
فالمدرسة الإخبارية في تراثنا، وواقعنا المعاصر تستدعى الأخبار المسندة إلى النبي بوصفها وحيا متجاهلة سياقاتها الاجتماعية والعُرفية، فتستدعي رواية معقل بن يسار رضي الله عنه: ” أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنّها لا تلد أفأتزوجها؟ قال:لا، ثم أتاه الثانية، فنهاه، ثم أتاه الثالثة، فقال: تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة”.([23])
فالغاية الأولى من الزواج في المجتمع الجاهلي ومجتمع المسلمين الأول هو النّسل، لذلك قالت العرب. “من لا يلد لا وُلد”، وكما يقول الدكتور جواد على عن العرب في الجاهلية: “كان الرجل يأبى البقاء مع امرأة لا تلد؛ لذلك كان يُطلقها في الغالب؛ لانتفاء الفائدة منها مع إنفاقه عليها، أو يتزوج عليها؛ ليكون له عقب، وعندهم أن المرأة القبيحة الولود، خير من النساء العاقر، فقالوا: “سوداء ولودا خير من حسناء عاقر”، وليست هذه العادة من عادات العرب وحدهم، ولكن يشاركهم فيها أكثر الشعوب الأخرى، ومنها الشعوب السامية.
ولِسادات القبائل والأشراف والملوك غرض آخر من الزواج، هو غرض كسْب الألفة واجتذاب البعداء، والنصرة، حتى يرجع المُنافر مواليا، ويصير العدو مؤلفا، فهو زواج (سياسي). يتزوج الملك أو سيد قبيلة ابنة سيد قبيلة أخرى، فيشدّ بزواجه هذا من أزر ملكه أو من قوة قبيلته، لا سيما إذا كانت البنتُ من قبيلةٍ كبيرةٍ.
وقد عمل بهذا الزواج كثيرا في الجاهلية، كما عمل به في الإسلام. فقد استفاد معاوية بن سفيان كثيرا من زواجه من قبيلة “كلب”، إذ ساعدته وأيّدته، وروعي هذا الزواج في المواضع التي تغلبت عليها الحياة القبلية بصورة خاصة للتغلب على طباع البداوة، القائمة على النفرة من الخضوع لحكم حاكم غريب عنها. وبهذا الزواج تخف هذه النفرة، فتشعر القبيلة أنها من أصهار هذا الحاكم، وعليها واجب مساعدته بحكم عصبية المصاهرة.
وكثرة الأخوة عزّة، فمن كثرت إخوته استظهر بهم. فلا يتمكن أحد من النيل منه بسوء، ولا من ابتزاز حق من حقوقه، ولا من الاعتداء عليه. وحظّ الرجل العقيم خير من حظ المرأة العاقر. فهو يتزوج عدة زوجات فإن لم يلدن منه، آمن عندئذ بعقمه. أما المرأة، فتبقى قانعة راضية في بيت الزوجية، إن أراد زوجها ذلك، لأن من الصعب عليها الحصول على زوج آخر إن طلقت، إذ كان الرجال يفضلون الأبكار على المطلقات”. ([24])
العُرْف المستقر في الجاهلية من أنّ الغاية من الزواج إكثار النّسل، ومزيد من اللحمة السياسية استمرّ بعد الإسلام، وحكته سنةُ الأخبار، ووثقّته الكثير من الروايات التاريخية، وهذا في حدّ ذاته لا يُمثّل إشكالية فهو يتسق مع واقع المجتمعات في تلك الفترة الزمنية، لكنّ الإشكالية أن يُفهم العُرْف على أنّه دين، ويُصبح التعدد بُغية التكاثر العددي تكليف إلهي مأمور به الإنسان في مختلف المجتمعات والأزمنة إذ أنّ هذا يناقض المبادئ التي أسس لها القرآن الكريم.
فكان للأعراف أثرٌ في نظرة الفقيه للمرأة نظرةً تُنافي الوحي، منها مساواة ابن تيمية بين المرأة والرقيق والبهائم في النفقة، وأنها أسيرة، وأن من ولايته عليها مشروعية تأديبها بالضرب، فيقول: “هذه عادة المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه لا يعلم قط أن رجلا فرض لزوجته نفقة، بل يطعمها ويكسوها، وإذا كان كذلك كان له ولاية الإنفاق عليها كما له ولاية الإنفاق على رقيقه وبهائمه، وقد قال الله تعالى: “الرجال قوّامون على النساء”، وقال زيد بن ثابت: “الزوج سيد في كتاب الله”. واقرأ قوله: “وألفيا سيدها لدى الباب”، وقال عمر بن الخطاب:” النكاح رقّ” فلينظر أحدكم عند من يرقّ كريمته .ويدلّ على ذلك قول النبي، صلى الله عليه وسلم،” اتقوا الله في النساء فإنّهن عوان عندكم وإنّكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله”، فقد أخبر أن المرأة عانية عند الرجل؛ والعاني: الأسير، وأن الرجل أخذها بأمانة الله فهو مؤتمن عليها، ولهذا أباح الله للرجل بنصّ القرآن أنْ يضربَها، وإنّما يؤدب غيره من له عليه ولاية”.([25]) ولقد سار ابن قيم الجوزية على نهج أستاذه ابن تيمية في النظرة الدونية إلى المرأة، فيقول “إن السيد قاهر لمملوكه حاكم عليه، مالك له، والزوج قاهر لزوجته حاكماً عليها، وهي تحت سلطانه، وحكمه شبه الأسير”. ([26])
ومن العادات العربية التي تأثّر بها الفقيه في نظرتهم للمرأة ما “قرره فقهاء المذاهب الأربعة أن الزوج لا يجب عليه أجور التداوي لزوجته المريضة من أجرة طبيب وحاجم وفاصد وثمن دواء، وإنما تكون النفقة من مالها إن كان لها مال، وإن لم يكن لها مال وجبت النفقة على من تلزمه نفقتها (كالابن والأب ومن يرثها من أقاربها)؛ لأن التداوي لحفظ أصل الجسم، فلا يجب على مستحق المنفعة كعمارة الدار المستأجرة، تجب على المالك لا على المستأجر… ويظهر لي أن المداوة لم تكن في الماضي حاجة أساسية فلا يحتاج الإنسان غالبا إلى العلاج، لأنه يلتزم قواعد الصحة والوقاية، فاجتهاد الفقهاء مبنى على عرف قائم في عصرهم أما الآن فقد أصبحت الحاجة إلى العلاج كالحاجة إلى الطعام والغذاء، بل أهم؛ لأن المريض يُفضل غالبا ما يتداوى به على كل شيء، وهل يمكنه تناول الطعام وهو يشكو ويتوجع من الآلام والأوجاع التي تبرح به وتجهده وتهدده بالموت؟! لذا فإنّي أرى وجود نفقة الدواء على الزوج كغيرها من النفقات الضرورية… وهل من حسن العشرة أن يستمتع الزوج بزوجته حال الصحة، ثمّ يردها إلى أهلها لمعالجتها حال المرض؟!”([27])
وهناك من اعتذر عن تلك القضية بالقول بأنّ موقف الفقهاء من تداوي الزوجة هو تعبير عن موقفهم الرافض للتداوي والعلاج بشكل عام حيث كانت نتائجه بدائية وضعيفة؛ فقال الإمام أحمد: “إن التداوي مباح وتركه أفضل”، وقال الإمام مالك: “إن التداوي وعدم التداوي سواء”، وقالت الشافعية: “لو قوي إيمان الإنسان، وتوكله فتركه للتداوي أفضل”! ونقل القاضي عياض الإجماع على عدم وجوب التداوي، وقال إن السبب في عدم وجوبه هو عدم القطع بإفادته.. والواقع أنّنا أمام خطاب تواكلي مَنهي عنه في القرآن الكريم، كما أنّه متأثر بالثقافة العربية قبل الإسلام التي لم تكن تثق في المُركّبات الكيميائية التي عُرفت عند أطباء غيرهم من الأمم، فكانت العرب تثق في موروثهم الطبي القائم على الكي بالنار والأعشاب، وترى في الطب العربي، الذي نعته ابن القيم بالنبوي، بأنّه الدواء لكل داء، ولا يخفي أنّ هذا المنحى يتعارض مع العلم الذي أمرنا الوحي بطلبه والحرص عليه.
أخيرا، ما زالت الآثار السلبية الناتجة عن النظرة الدونية للمرأة في المدونة الفقهية والخطابات الدينية حاضرة بقوة بين العديد من شرائح المجتمعات المسلمة؛ نتيجة تأخر الخطاب الديني في إحداث إصلاح فكري حقيقي يتماهى مع حركة الاجتماع، وتطور المسار الإنساني العام..
الخطابات الدينية وضرب المرأة
الوقوف أمام الخطابات الدينية التي تناولت آية وأخبار ضرب المرأة يكشف لنا بوضوح عمق مشكلة الخطاب الديني التقليدي والتنويري، فيشعرك بالحيرة هل يتجمل أم يُخادع! هل يجتزئ عن عمد أم أنه وقَع في الاجتزاء دون قصد! ويظلّ السؤال الذي يؤرق من يُطالع كتب المفسرين والفقهاء ومعاجم اللغة وأشعار العرب لماذا الخطاب الديني يُخفى أنه يقوم بعملية اختيار لمدلولٍ، وأنه يسكتُ عن مدلولات أخرى؟ لماذا يُغفل البعد الاجتماعي الزمني لآية “واضربوهنّ”؟!
إذا توقفنا أمام تناولِ المدرسة الإخبارية أو مدرسة الحديث كما تحب أن تُسمّى نفسها، فسنجدها أكثر صراحة وأكثر إيلاما في طرحها، فسنة الله في كونه، من منظورهم، أنّ للرجال قوامة بمعنى ولاية وسلطة وإمارة على النساء، ويُمتنع أن تكون للمرأة مثل ذلك على الرجل، وعلّة ذلك من منظورهم أن الله فضّل جنس الرجال بقوة الجسم والعقل، والإنفاق بقدرتهم على السعي للكسب؛ وهذا ما لا تستطعها النساء لضعف تكوينهم الجسمي والعضلي.
وهذا يبدو صحيحا إذا كنا سنتكلم عن مجتمع الجزيرة العربية في عهودها الأولى حيث كان الرجل لا المرأة هو الذي يُحارب، ويأتي بالغنيمة، وهو وليست المرأة من يخرج للصيد، ويُسافر في رحلات تجارية تخترق الصحارى المقفرة، لكن حركة الاجتماع انتقلت بنا إلى مكان آخر ينبغي أن تتغير معه مفهوم القوامة التي تحمل مدلولا اجتماعيا، وليس دينيا كما حاول الفقهاء والإخباريين أن يُرسّخوا في عقولنا، فالرجل والمرأة في مجتمع اليوم يستويان أمام القانون كلاهما مواطن تتولى الدولة حمايته، كما أنه لم يعد الكسب قاصرا على ما كان شائعا في البيئة العربية الأولى بما يمنح الرجل تفوقا، فالقوامة الاجتماعية التي تُؤسس لتفوق ذكوري حلّ بدلا منها قوامة المشاركة..
وإذا عدنا إلى تناول مدرسة الحديث/ المدرسة الإخبارية لقضية ضرب المرأة فسنجدها ترى المرأة إمّا قانتة طائعة لزوجها أو ناشزة غير طائعة لزوجها، وأن النشوز داءٌ، دواؤه إحدى ثلاث: عظة ثم هجر في المضاجع ثم ضربٌ، فتُضرَبُ المرأة ضربا يحصل به تأديبها، ولا يحصل به جُرح؛ امتثالا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم “اتَّقوا اللهَ في النِّساءِ؛ فإنَّكم أخذتُموهنَّ بأمانِ اللهِ، واستحلَلْتُم فُروجَهنَّ بكَلِمةِ الله، ولكم عليهنَّ أنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحدًا تَكرَهونَه، فإنْ فعَلْنَ ذلك فاضرِبوهنَّ ضَربًا غيرَ مُبَرِّحٍ”. [أخرجه مسلم ١٢١٨]. ويتوقف الزوج عن الضرب التأديبي إذا حصلت الطّاعة الظاهرة.
وإذا انتقلنا إلى مدرسة الأصوليين فسنجد المذاهب السنية الفقهية الأربعة متفقة على أن علاج نشوز المرأة هو الضرب إذا لم يُجدي الوعظ والهجر، واشترطوا باتفاق بينهم ألا يكون الضرب مبرِّحا.
نخلص من ذلك إلى أن المدرسة الإخبارية/مدرسة الحديث، والمدرسة الأصولية/ الفقهية وأقوال المفسرّين الأوائل اتفقت على أن الضرب غير المبرّح بغرض تأديب الزوجة الناشز مشروعٌ ومأمورٌ به، على ألا يكون الضرب على الوجه والمهالك؛ لقول النبي، صلى الله عليه وسلم، “لا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت”. [أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة في سننهم].
هذا عن التراث فإذا عدنا إلى الخطاب الديني المعاصر فسنجده في مأزق بين التراث ومدلول الآية من جانب وما انتهى إليه العُرف الإنساني والسلوك الحضاري الذي يُبشّع أيّ شكل من أشكال العنف ضد المرأة، ويراه انتهاكا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، وأمام الخطاب الإنساني العام وحركة الاجتماع المندفعة للإمام وجدت الخطابات الدينية المعاصرة نفسها مضطرة إلى اتّخاذ موقف من التراث والآية القرآنية بين متجاهلٍ يقفز إلى الأمام.. وبين مجتزئ يُحاول أن يُخفي جانبا من المدلولات والأخبار، ويستدعى بحماسة جانب من تلك المدلولات والأخبار بما يتسق مع واقعه، وليس لديه مانع أن يلوى عُنق اللغة.
فدار الإفتاء المصرية على صفحتها عبر صفحات التواصل الاجتماعي اكتفتْ بنشر هذه العبارة: “الرجال لا يضربون النساء”، وهي عبارة تحمل إشكالية أكثر منها حلا؛ لأنها تتعارض مع الأمر القرآني للمؤمنين في سورة النساء بضرب الزوجة اللاتي يخافون نشوزهن، فما فعلته دار الإفتاء المصرية أنّها قفزت إلى الإمام حيث انتهى الخطاب الإنساني، فإذا كان المجتمع الدولي ومواثيق حقوق الإنسان ترى ضرب الزوجة ضدّ معاني الإنسانية، فالمسلمون قفزوا إلى هذا المكان يقفون معهم على خط واحد، دون الدخول في جدال مع الآية القرآنية.
ومن أمثلة القفز إلى الأمام المادة الإعلامية التي يقدّمها الدعاة الشباب، ومنهم الأستاذ مصطفى حسني، فعند حديثه عن ضرب الزوجة لم يقترب من الآية لكن تناول الموضوع من منظور الإحصائيات والدراسات الاجتماعية، فآليات خطابه يختارها بما يُناسب الذوق العام لجمهوره، فتجاهلَ الآية القرآنية، والتراثَ المصطدم مع الواقع، وانطلق إلى الآثار العلمية والاجتماعية لضرب الزوجة، مؤكدا أن ضرب الزوجة الحامل يُفقد جنينها كثيرا من وزنه، كما أنّ الأولاد يتوارثون العنف.
والقفز إلى الأمام ليس الطريقة الوحيدة المتّبعة لمواجهة إشكالية اصطدام التراث الفقهي والآية القرآنية مع حركة الاجتماع، فهناك تأويليات للنّص القرآني من أشهرها ما بدأه الدكتور طه علواني الذي أوّل “فاضربوهنّ” بمعنى “فأبعدوهنّ”، وهذا يتنافى مع الاستعمال العربي، فإفادة “ضرَبَ” معنى الإبعاد يرتبط بالفعل “ضرب” اللازم الذي لا يتعدى إلا بحرف جرّ مثل “يضربون في الأرض” بمعنى يتنقلون ويبتعدون، أما ضرب المتعدي إلى مفعول عاقل بلا حرف جرّ فلا يُفيد سوى الضرب، وهو كما قال: ابن منظور صاحب لسان العرب: “الضرب معروف” به جاءت لغة العرب، ونطقت أشعارهم.
وفي محاولة لنزع فتيل الأزمة بين التراث والآية القرنية من جانب، والحاضر والخطاب الإنساني المعاصر الرافض لضرب المرأة مهما كان الدافع من جانب آخر، أكّد الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب أن ضرب الزوجة مباح مقيد أو استثناء من أصل ممنوع، فالضرب ممنوع إلا أنّه يُباح للزوج كدواء لمرض النشوز، فالشيخ سكت عن قول الإخباريين والفقهاء بمشروعية الضرب بغية التأديب بضابط ألا يكون مبرّحا، وميّز فضيلته بين فقه صحيح وفقه غير صحيح، وقال إنّ ضرب الزوجة لا يعدو عن كونه ضرب الضرورة أو الاستثناء ثم عاد، وجعل الضرب نوعا من التأديب، عندما ضرب مثالا بضرْب الأمِ لابنتها، وضرْب المربّي اليتيم الذي يحتاج تأديبه إلى الضرب إلا أنه اشترط أن تكون النية التأديب، وليس العدوان، فعاد مرة أخرى إلى معنى التأديب في لغة الفقهاء، ثمّ سكت فضيلة الإمام عن الماضي، وانطلق من الواقع متمنيا أن يُجرّم الضرب في حياته.
وأكّد على أن الإنسانية لا تقبل أن يضرب إنسانٌ إنسانا، والإسلام بوصفه دين الفطرة لابد أن يتسق مع الإنسانية، يذهب معها حيث ذهبت.. إلا أنه عاد، وقال بمشروعية الضرب فـ”هو الدواء لعلّة النشوز، فالمرأة الناشز هي المرأة المتكبرة، والضرب هو رمز لجرح كبرياء تلك المرأة، حتى لا ينهدم المعبد/ الأسرة فنلجأ إلى أخفّ الضررين، وهو الضرب حفاظا على الأسرة، فالضرب على إطلاقه لأي سبب من الأسباب لا يُمكن أن تأتي به الشريعة أو نظام يحترم الإنسان، فضرب الزوجة استثناء من أصل ممنوع، وُضع له شروط من أهمها النشوز، أما المرأة غير الناشز فلا يجوز ضربُها، حتى لو وصل الخلافُ إلى شتمها الزوج”.
وجانب من طرح الإمام يُمكن أن يُبنى عليه، فحركة الاجتماع والإنسانية حَكَمٌ على نتاج الفقهاء وأقوال الإخباريين الذين شرّعوا ضربَ المرأة ضربا غير مبرّح تأديبا لها، فيقول فضيلة الإمام صراحة “من يُشرّع لضرب الزوجة على الإطلاق فقد ظلم للقرآن الكريم والفقه الإسلامي الصحيح”، ويحذر القائمين على الفتوى من إباحة ضرب الزوجة على إطلاقية الحكم.
في مقابل ما قاله شيخ الأزهر يأتي طرْح الأستاذ إسلام البحيرى، القائل بأنّ النشوز المستوجب للضرب في الآية بمعنى الخيانة، فهو ميْل الزوجةِ عن زوجها، فيكونُ الضربُ في هذا السياق الاجتماعي مشروعاً، وليس النشوز بمعنى الاستعلاء عن طاعته، ويُؤكّد قوله بسياقات الآية السابقة واللاحقة، ويرى أن رأيه على نقيض أقوال التراثيين التي تُرددها المؤسسة الدينية..
والواقع أن ما طرحه البحيري هو قول تراثي، هو الآخر، حملته بعض مرويات ابن جرير الطبري في تفسير الآية، فتفسير ابن جرير الطبري جمع العديد من المرويات المتناقضة، فمن يريد أن يتحدث عن اللطف والرقة في الضرب سيختار مروية ابن عباس عن الضرب بالسواك التي تستدعيها الخطابات الدينية كثيرا. ومن يريد أن يتحدث عن العنف فسيختار ما روي عن الزّهري بأن الرجل لا يقتصّ منه لزوجته في ضرب ونحوه فلا قصاص منه إلا إذا قتلها، وما دون ذلك لا قصاص فيه، وإلى جوارهم مروية ابن جرير الطبري في تفسيره رواية أبي جعفر والسدي الشارحة لقوامة الرجال بأنّها سلطة تأديب النساء، ورواية لقتادة تقول إن الآية نزلتْ لأنّ رجلا من الأنصار لطم امرأته فجاءت تلتمس القصاص، فجعل النبي، صلى الله عليه وسلم، بينهما القصاص، فنزلت الآية “الرجال قوامون على النساء” لتمنع النبي، صلى الله عليه وسلم، من القصاص، وإن كانت هذه مروية مرسلة لا يعتد بصحتها، فتفسير الطبري موسوعة جمعت بين الصحيح وغير الصحيح والمتطرف والمعتدل من الآراء.
وكما اختار، واجتزأ البحيري من مرويات تفسير بن جرير الطبري، اختار، واجتزأ الشيخ عبدالله رشدي، هو الآخر، فالضرب عنده بالسواك فحسب، وكأننا أمام مروية واحدة، وليس عشرات المرويات والأخبار، فالضرب بتعبير الشيخ رشدي “ضرب على أطراف الأصابع كما تفعل مع ابنك الصغير، وتقول له هذا “كخ”.. الضرب كده حاجة لطيفة ليس بالمعنى الذي يتبادر إلى ذهنكم”.
فهو فرّغ الضرب من مدلوله اللغوي ومدلوله الفقهي، وابتعد به عن أجواء البيئة العربية التي قال الرسول، صلى الله عليه وسلم، مستنكرا: “لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يجامعها في آخر اليوم”. [أخرجه البخاري ٥٢٠٤، مسلم ٢٨٥٥].
من ناحية ثانية لم يخلُ تناول الشيخ عبد الله رشدي من الهجوم على المختلف معه، فمن منظوره القضية ليست خلافية تتعدد حولها التأويلات المشروعة، وإنما هو شغبٌ على القرآن الكريم، فالمخالف له في مواجهة مع القرآن، وليس مع الشيخ رشدي، وينطلق في طرحه من استعلاء بالتراث الذي يُدخله في بنية المقدس، فيقول عن التراث الفقهي “نُظمٌ لا وجود لها إلا في الدين الإسلامي”، ولا يخفى ما في هذا من مغالطتين: المغالطة الأولى جعْل التراث برواياته صورة واحدة متماثلة وهو ليس كذلك كما أوضحت الدراسة، والمغالطة الثانية: خلط المقدس بغير المقدس؛ لذا يُخفى ويجتزئ ليصل إلى نتيجة مقررة عنده سلفا وهي أن “من يقول: بإباحة الضرب هذا خبل وجنون وضحك على العقول”.
وكأننا لسنا أمام طرح مستقر في بنية خطابنا التراثي الفقهي والإخباري لضرب الزوجة الناشزة تأديبا لها ضربا غير مبرّح، ويكرر الشيخ عبد الله رشدي الخلط بين المقدس وغير المقدس بتكراره لتعبير “الشرع الشريف” إشارة منه إلى كلام الفقهاء، وهذا على خلاف طرح الإمام الأكبر الذي جعل الفطرة الإنسانية ضابطا في الفهم، وأداة في نقد الفقه لمعرفة الصحيح منه وغير الصحيح.
وكما قدّم الأستاذ إسلام البحيري وجها في كلمة ناشز حملته آراء التراث إلا أنه بعيد عن المعجمية العربية والذاكرة الشّعرية، فعل الشيخ رشدي الأمر نفسه، فالنشوز عنده ليس تكبرا عن الطاعة، ولا خيانة زوجية، لكنه على حد تعبيره: “فقدان المرأة لمعاني الأدب بتطاولها على زوجها بالسبّ والضرب”، وهذا بعيد عن المعجمية العربية.
أخيرا، السبيل للخروج من تلك الإشكالية على نحو علمي أن نسلك مسلك المدرسة المقاصدية المعاصرة أو مسلك الدرس اللغوي وقراءته السياقية التي لا تُغفل السياق الاجتماعي والسردي، فيظلّ المدخل اللغوي المعاصر، والمدخل المقاصدي الأكثر علمية والأقدر على تفكيك إشكالية اصطدام آية الضرب مع حقوق المرأة في الواقع الاجتماعي المعاصر.
فالطرح المقاصدي يتحدث عن زوال الحكم بزوال علته، فالضرب لا يحقق غايته من إصلاح بل يُؤدّي إلى نقيضه مما يؤدي إلى زوال حكم الآية، ويرى المدخل اللغوي أن الآية خطاب له سياقات تاريخية وثقافية لمجتمع عربي ما زال حديث عهد بجاهلية على حد قول النبي، صلى الله عليه وسلم، للسيدة عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهدمت الكعبة وجعلت لها بابين” فالآية لا تقدم مقاربة لأحكام سيكون لها صفة الديمومة كالمعنى الإنساني في آية “وجعلنا بينكم مودة ورحمة” لكنها خطاب يشتبك مع واقع اجتماعي في أول سلم الإنسانية يحاول ترشيده وفق آليات الاجتماع وثقافة العرب في تلك اللحظة التاريخية، فلا نقيس حركة اجتماع المندفعة نحو التغيير وتعزيز القيم الإنسانية بما كانت عليه المجتمعات الأولى، وكذلك لا نُطالبها بأن تُفكّر بعقلية إنسان اليوم، فالإسلام لا يتعجل الإصلاح الاجتماعي، وإن حثّهم وحثنا على أن نمضي في طريق تعزيز المعاني الإنسانية والأفكار العقلانية، فتلك الغاية التي ينبغي أن ينطلق نحوها المسلمون في تشريعهم المتغير استجابة لحركة الاجتماع، المستفيد من كل الطروحات الإنسانية أيا كان مصدرها.
الخاتمة
يُمكننا أن نُجمل بعضا من أهم النتائج التي انتهت إليها الدراسة في التالي:
– تشريعات القرآن الكريم الاجتماعية مبادئ عامة وخطاب مفتوح بما يتناسب مع حركة الاجتماع التي لا تعرف الثبات، فالمواطنة التي ترى الرجل والمرأة متساويين في الحقوق والواجبات بوصفهما مواطنين لا تتعارض مع الوحي.
– أجمل الوحي في قضايا المرأة كغيرها من قضايا الاجتماع المتحرك المتغير، فأرسى مبادئ عامة من الكرامة، والعدالة، وجعلها كلمات مفتاحية لفهم رسالة الله إلى الإنسان.
– ما جاء في السنة الإخبارية من أحاديث تتعارض مع كرامة المرأة الإنسانية، فليست من الوحي، وإنما هي ترويض للعادات العربية، فلم نُصنّف ونُبوّب سنة الأخبار على نحو يُميّزُ بين سنة الوحي، التي هي بيان نبويّ لمراد الله، وسنة العادات الخاضعة لسياق الوجود الاجتماعي والزمني له، صلى الله عليه وسلم.
– العادات والتقاليد الاجتماعية وإنْ كانت جديرة باحترام ما تحمله من خصوصية ثقافية إلا أنّها يتعين علينا تعطيلها، وتجاوزها إذا كانت مسيئة ظالمة للمرأة، فالمُنتِج للعادات والتقاليد في النهاية المجتمع بدافع من حاجاته القابلة للتغيير.. وكم من عادات اجتماعية تتعلق بحقوق المرأة في حاجة إلى التغيير!!
– من أخطر أسباب الجهل والخرافة التي نعيشها اليوم “تغييب التفكير العلمي عن أقسام الدراسات الإسلامية والعربية” المنوط بها مراجعة وإصلاح الفكر الديني، فالاتجاه العام بداخلها يخاف من الوقوع في الخطأ؛ لأنّه يتصور الخطأ وسيلة للهلاك! بينما الخطأ هو الوسيلة الوحيدة إلى الصواب، فتنفر أقسام الدراسات الإسلامية من التفكير النقدي الذي يجعل الباحث يُراجع أفكاره، ويختبر مدي صحّتها أولا بأول، شأن العقل البحثي الذي يشكّ في كلّ شيء، ويبدأ غير متأكد من كلّ شيء، فكلّ يقين يقع بين شكين شكّ يعقبه يقين، ويقين يعتريه شكّ، فمثل هذا التفكير هو القادر على الاكتشاف والمراجعة والمضي بنا في طريق الإصلاح.
– ما زالت تصورات المجتمعات المسلمة عن تربية وتنشئة المرأة تصورات جزئية مبتسرة، إذ تقصرها على جانب الائتمار المرتهن بثنائية الأمر والنهي، متجاهلين جانب الائتمان بما يُعزز الرقابة الداخلية، وما زالت الجوانب الصحية والنفسية والتعليمية مهملة، والأكثر من ذلك جانب الوعي، فما زال محدودا بالأعراف المُرتدية ثوب الدين.
– بناء وعي اجتماعي جيد بين أبناء المجتمع يقوم في الأساس على تفاعل المرأة الاجتماعي، ومنحها مزيدا من الأدوار الاجتماعية، بعيدا عن العزلة التي ينتج عنها سلبية ورتابة وتآكل خبرات.. تلك الحالة من الوعي السلبي الانعزالي التي سرعان ما تنقلها المرأة /الأم إلى طفلها الذي يصبح طيّعا مذعنا تابعا..
– من مُسلمات العقل المتدين الخاطئة ترويجه لفكرة ضرورة عزْل المرأة اجتماعيا، فمن منظوره إذا أردنا حماية المرأة فعلينا أن نعزلها عن صياغة الوجود الاجتماعي، فجلوسها في بيتها هو الأسلم لها والأحفظ لكرامتها.. دوما يستحضر “الرجل” ” كمركز لحركة الاجتماع.. ما زال يتصور الأسرة بنية اجتماعية مغلقة على نفسها تستطيع المرأة أن تقوم برعايتها والتأثير فيها ويتجاهل العلاقة المركبة التي تربط الأسرة بغيرها من مؤسسات المجتمع المتشابكة كالبنيات المرصوص..
– تظلّ الإشكالية في نقطة أعمق في الخطاب الديني والثقافة السائدة التي تتعامل مع ما يخصّ المرأة ليس بوصفه قضايا اجتماعية تمسّ المرأة بوصفها مواطنا، بل بوصفها أحكاما فقهية تخصّ الأنثى المسلمة..
– تناول قضايا المرأة المصرية في سياقها الاجتماعي بعيدا عن سلاح التأويل والتأويل المضاد الأيديولوجي النفعي السجالي للنصوص يُجنبنا الخلط بين الجوهر الإسلامي النقي الخالص وبين العَارِض العابر من العادات في التاريخ الاجتماعي للمسلمين..
– العادات والتقاليد الاجتماعية وإنْ كانت جديرة باحترام ما تحمله من خصوصية ثقافية إلا أنّه يتعين علينا تعطيلها وتجاوزها إذا كانت مسيئة ظالمة للمرأة، فالمُنتِج للعادات والتقاليد في النهاية المجتمع بدافع من حاجاته القابلة للتغيير.. وكم من عادات اجتماعية تتعلق بحقوق المرأة في حاجة إلى تغييرها..
– كشفت الدراسة أن ثَمّة اختلاف كبير بين رؤية الفقه الإسلامي والقرآن الكريم في تناول قضايا المرأة، وأن الفقه الإسلامي تأثر بالأعراف العربية التي دخل القرآن الكريم معها في سجال..
أهم المصادر والمراجع
– أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، الاعتصام، دار ابن عفان، القاهرة، ١٤١٢هـ-١٩٩٢م.
– أبو جعفر محمد بن حبيب، المُحَبّر، تركيا، دار المعارف العثمانية، ١٣٦١هـ -١٩٤٢م.
– أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، المقدمة، بيروت، دار الفكر، ١٤٠٨هـ-١٩٨٨م، الطبعة الثانية.
– أحمد أمين، قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر،، الطبعة الأولى، ١٩٥٣.
– أحمد زكى بدوي، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، بيروت، مكتبة لبنان، ١٩٨٧.
– الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم بالتعاون مع وحدة الدراسات الاستراتيجية بدار الإفتاء المصرية، المؤشّر العالمي للفتوى، ديسمبر ٢٠١٩م.
– الشيخ جاد الحق على جاد الحق، بيان للناس، القاهرة، طبعة جامعة الأزهر.
– جلال مدبولى، الاجتماع الثقافي، القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، ١٩٧٩، الطبعة الأولى.
– جورن مارشال، موسوعة علم الاجتماع، ترجمة محمد الجوهرى وآخرون، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة،٢٠٠٠م، الطبعة الأولى.
– صلاح أحمد السيد جودة (دكتور)، المواطنة في ظلّ الإصلاحات الدستورية الجديدة، دراسة مقارنة بالشريعة الإسلامية، القاهرة، دار النهضة العربية، الطبعة الأولى، سنة ٢٠٠٠.
-عبدالباسط سلامه هيكل (دكتور) باب الله الخطاب الإسلامي بين شقي الرحا، طبعة نيوبوك، القاهرة، ٢٠١٦، الطبعة الأولى.
– عبدالباسط سلامه هيكل (دكتور) المسكوت عنه من مقالات تجديد الخطاب الديني، طبعة نيوبوك، القاهرة، ٢٠١٨، الطبعة الأولى.
-عبدالباسط سلامه هيكل (دكتور) الحب والحقد المقدس، طبعة روابط، القاهرة، ٢٠١٧، الطبعة الأولى.
– عبدالجواد علي، (دكتور) المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، بغداد، مطبعة جامعة بغداد، ١٤١٣هـ -١٩٩٣م، الطبعة الثانية.
– عبدالرازق السنهوري، فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية، تحقيق د.توفيق الشاوي، د.نادية السنهوري، القاهرة، مؤسسة الرسالة، منشورات الحلبي.
– عبدالملك بن هشام، السيرة النبوية، القاهرة، مكتبة الصفا.
– فوزية دياب، القيم والعادات الاجتماعية، القاهرة، دار الكتاب العربى.
– محمد أحمد خلف الله، مفاهيم قرآنية، العدد٦٤ عالم المعرفة الكويت، يوليو١٩٨٤م.
– محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، القاهرة، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ١٤١٥هـ -١٩٩٥م.
– محمد بن على بن محمد الشوكاني، فتح القدير، بيروت، دار المعرفة.
– محمد بن مكرم بن منظور، لسان العرب، القاهرة، دار المعارف.
– الإمام محمود شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثامنة عشرة، ١٤٢١هـ – ٢٠٠١م.
– محمود بن عمر الزمخشري، الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، القاهرة، مطبعة الاستقامة، ١٣٧٣هـ – ١٩٥٣م، الطبعة الثانية.
– وهبه الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، دمشق، دار الفكر، الطبعة الثانية عشرة.
دوريات:
– الإمام محمود شلتوت، مقال شخصيات الرسول صلى الله عليه وسلم، مجلة الرسالة، عدد ٤٤٩، ٩فبراير ١٩٤٢م.
– نهلة محمد مصطفى جندية، مفهوم المواطنة والأسس التي تقوم عليها في ألمانيا ومصر دراسة مقارنة، مجلة البحوث القانونية والاقتصادية، جامعة المنوفية، المجلد ٥٢، العدد ٤، مايو ٢٠٢١.
([1]) المؤشّر العالمي للفتوى، إصدار الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم بالتعاون مع وحدة الدراسات الاستراتيجية بدار الإفتاء المصرية، ديسمبر ٢٠١٩م.
([2]) يُنظر: – د. صلاح أحمد السيد جودة، المواطنة في ظلّ الإصلاحات الدستورية الجديدة، دراسة مقارنة بالشريعة الإسلامية، القاهرة، دار النهضة العربية، الطبعة الأولى، سنة ٢٠٠٠، ص١٨:٩.- نهلة محمد مصطفى جندية، مفهوم المواطنة والأسس التي تقوم عليها في ألمانيا ومصر دراسة مقارنة، مجلة البحوث القانونية والاقتصادية، جامعة المنوفية، المجلد ٥٢، العدد ٤، مايو ٢٠٢١، ص٥٩٧،٥٩٦.
([3]) الإمام محمود شلتوت، مقال شخصيات الرسول صلى الله عليه وسلم، مجلة الرسالة، ص١٥٣:١٥٠، عدد ٤٤٩، ٩فبراير ١٩٤٢م.
([4]) الإمام محمود شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة، ص٥٠٥، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثامنة عشرة، ١٤٢١هـ – ٢٠٠١م.
([5]) مقال خالد فهمي، نفقة المرأة وضربها، حوارات الشريعة والقانون، رابط المقال. https://hewarat.org/?p=2907&fbclid=IwAR3s2dIqh2AMcmUkDqtPEaTQD_Neq_otwNMCaWu6v5B8O3QVYSSpQLRV3xw
([6]) ينظر: – جورن مارشال، موسوعة علم الاجتماع، ترجمة محمد الجوهرى وآخرون، القاهرة، ط. المجلس الأعلى للثقافة،٢٠٠٠م، الطبعة الأولى، ج٢. ص٩٢٢،٩٢١.
– فوزية دياب، القيم والعادات الاجتماعية، القاهرة، ط. دار الكتاب العربى، ص١٠٥،١٠٤.
– جلال مدبولى، الاجتماع الثقافي، القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، ١٩٧٩، الطبعة الأولى ص٩٠:٨٧.
– أحمد زكى بدوي، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية مادة التقاليد، بيروت، مكتبة لبنان، ١٩٨٧، ص٣٩
([7]) ينظر: المعجم الوسيط. ص٧٥٤.
([8]) أحمد أمين، قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية، القاهرة، ط. لجنة التأليف والترجمة والنشر،، الطبعة الأولى، ١٩٥٣، المقدمة.
([9]) ينظر: د. عبدالباسط سلامه هيكل، باب الله الخطاب الإسلامي بين شقي الرحا، ص١٨٠.
([10]) أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، الاعتصام، دار ابن عفان، القاهرة، ١٤١٢هـ-١٩٩٢م، ج٢، ص٦٧٧.
([11]) يقول الإمام الجويني: “فأما الإجماع فقد أسنده معظم العلماء إلى نصِّ الكتاب، وذكروا قول الله تعالى: “ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا”، وهذا عندنا ليس على رتبة الظاهر فضلاً عن ادعاء منصب النص فيها.” البرهان في أصول الفقه، ج١، ص١١٩ .
([12]) عبدالرازق السنهوري، فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية، تحقيق د. توفيق الشاوي، د. نادية السنهوري، القاهرة، مؤسسة الرسالة، منشورات الحلبي، ص٦٣.
([13]) هذا المستوى من القراءة السياقية يُعرف بـ “السوسيو تاريخي”، وهو التحليل الاجتماعي الكلي الذي يبحث في “الصورة الكبيرة” التي تتضمن التغيير التاريخي على مدى عشرات أو مئات السنين..
([14]) د. جواد على، المفصل، ج٥، ص٥٨٠.
([15]) الشيخ جاد الحق على جاد الحق، بيان للناس، ج٢، ص٢٢٢،٢٢١، القاهرة، طبعة جامعة الأزهر، نقل رأي أبي حنيفة عن الاختيار شرح المختار للموصلي ج٢، ص١٢١ في كتاب الكراهية، الفتاوى الإسلامية مجلد٩ ص٣١٢٠.
([17]) صحيح الجامع،٤٠٥٤. وأخرجه الطبراني في المعجم الأوسط٧٦٧٧.
([18]) أخرجه البخاري في الصحيح، ٥٢٤٧.
([19]) صحيح الجامع، ٢٩٤١. وأخرجه البيهقي في سننه ١٣٨٣٩.
([20]) ابن خلدون، المقدمة، ج٢، ص ٤٢٤،٤٢٣.
([21]) ديوان امرئ القيس، دار صادر، ص١٥٨.
([22]) ديوان الحماسة لأبي تمام، ج١، ص٣٣٣.
([23]) أخرجه ابن حبان في صحيحه، ٤٠٥٧.
([25]) مجموع فتاوى ابن تيمية، باب النفقات، ج٣٤ ص٨١،٨٠.
([26]) ابن قيم، إعلام الموقعين، جـ ٢، ص١٠٦.
([27]) وهبه الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، دمشق، دار الفكر، الطبعة الثانية عشرة، ج١٠، ص٧٣٨٠.