المرأة في سياق خطبة الوداع: حقوق أم انتهاكات؟

تمكين

لم تعد قضية المرأة وحقوقها قضية ثانوية في عالم معاصر ممتد ومفتوح، على كل المستجدات والوقائع المتغيرة بفعل عوامل الزمان والمكان والثقافة والفكر. بل صارت من القضايا المثيرة للسجال والجدل ضمن الفضاء العمومي، الذي ينخرط فيه الإنسان طوعا وكرها، بما يمنح مثل هذه المواضيع المرونة الكافية والخروج بها من حالة التصلب والأحادية والاختزال الفكري. لهذا لا زال يثير موضوع المرأة الحساسية الكبرى ضمن كل دوائر القرار السياسي والفكري والثقافي في بلداننا، وهو شيء يستحق التنويه من ناحية خروج موضوع المرأة من الدائرة الضيقة التي كانت تراها خارج السياق الإنساني، إلى أفق آخر تنعم فيه المرأة بكل حقوقها، وتشارك وتنخرط كما هو محدد لها في القوانين والمواثيق والمعاهدات الدولية في بناء المجتمع المنشود. وإذا كان موضوع المرأة يحظى بكل هذا الاهتمام، وهو شيء كما سبق الإشارة إليه مرغب فيه، ومحبذ في واقع يبدو بأن له حساسية مع كل ما صيغ بصيغة المؤنث، فإن هذا الموضوع يأخذ طابعا إشكاليا، ونقاشا عموميا يطبعه الصراع السياسي بين تيارين متباينين على مستوى الإيديولوجيا والمرجعيات الفكرية والأسس والبناءات النظرية. الأول: تيار حداثي يرغب في توسيع دوائر الحرية، وهوامش الفعل والقدرة عليه، وبالتالي يحاول أن يجعل من المرأة شعارا ينافس به باقي التيارات المتواجدة والمتفاعلة داخل المنظومات الثقافية والفكرية لبلداننا. والثاني: تيار محافظ وأصولي يرى أن كل تحرر للمرأة أو إقرار بحقوقها يشكل تهديدا لمنظومة القيم والأسرة والمجتمع، وهو تيار حساس من كل تجديد، وكل حق، وكل خطوة تخرج المرأة من حالتها الأصلية، وهي حالة الخضوع للهيمنة الذكورية.

هكذا تتمثل مجتمعاتنا قضية المرأة، فلا أحد يريد أن يقرأ موضوعها وقضيتها، بعيدا عن هذا السياق المتصارع على من يمسك بمنظومة القيم، ومن يتحكم فيها. فتستمر الأزمة بين المرأة وواقعها المعيش، وتبقى ذهنية التراجع والارتكاس الأصولي هي المهيمنة، عبر التخويف والتخوين والعقلية المؤامراتية التي تضع المرأة في صلب مؤامرة كبرى، تحيكها مجتمعات الغرب المنحلة ضد مجتمعاتنا العربية والإسلامية، في حين أن قراءة الواقع الموضوعية تقتضي منا أن نرى قضية المرأة من جانب حقوقي، أو بمنظار يستحضر كل التغيرات التي حدثت في عالم اليوم، ومن بينها تلك النظرة التوراتية التي كانت تنظر إلى أن أصل الخطيئة الأولى كان سببه المرأة، وأن قصة البدء والخروج من النعيم كان بسبب هذا الحضور للأنثى في ساحة الرجل.

ماذا قال الرسول عن النساء في خطبه الوداع؟

كل هذا الالتباس في هذه القضية المحورية يمكن أن نرجع إليه لنقرأه من جديد في سياق الثقافة الإسلامية، خاصة من منظور يريد أن يقنعنا بأن حق المرأة في العيش والحرية ترسخ مع الثقافة الدينية ونصوصها ومقاصدها، وهو ما رأيناه وقرأناه في خطبة الوداع، وما تضمنته من إشارات إلى مسألة المرأة وحقوقها، أو على الأقل ما يعتبره بعض المنظرين الإسلاميين حقوقا لها. وسنحاول أن ندرس هذه الحقوق ضمن ما تتيحه لنا هذه الخطبة المؤثرة في التاريخ الإسلامي، والمخيال الجمعي للمسلمين، خاصة أنها تحدثت عن التوصية بالنساء خيرا، وهو ما سيجعلنا نطرح مجموعة من الأسئلة في سياق الحديث عن حقوق المرأة في خطبة الوداع لعل أهمها:

  • لماذا نقرأ المرأة في سياقات مؤامراتية؟

للجواب عن هذا السؤال يلزمنا الإقرار بأن نظرية المؤامرة ليست فقط مقتصرة على هذا الموضوع، بقدر ما هي تتجاوزه إلى كل المواضيع، وكأن المؤامرة لدى صانعيها، أو العقل المؤمن بها هي التشكك في كل شيء. وحينها يصبح العالم المرئي الذي نراه، أو الأشياء التي نعيشها، والأحداث التي نمر منها هي أشياء ليست على حقيقتها، أو على الأقل هكذا تبدو لنا في صيغتها الأولى، أشياء بريئة ومحايدة، في حين أن وراءها عالم خفي وسري، بل هناك من يحرك هذه الأحداث في زمان ما ومكان ما، وأننا فقط نؤدي دورا يراد لنا أن نتقمصه في هذا العالم المريب. وهنا يمكننا أن نفهم العقل الأصولي الذي يتوسل بهذه الذهنية المؤامراتية في إجهاض أي تغيير، أو زحزحة عن الواقع المتخلف الذي نعيشه. فالمرأة هي الوسيلة الفضلى لهذا العالم الخيالي والسريالي، ولهذا وجب التنبه منها، خاصة وأن الميثولوجيا الدينية تغذي هذا الجانب بمجموعة من القصص التي تثير حفيظة الذَّكر، وتسرق منه عالمه الذي يطبعه بهيمنته. هنا يمكننا أن نستحضر ما يتحدثون عنه من عوالم بروتوكولات حكماء صهيون، والماسونية العالمية التي تريد اختراق العالم عبر الأنثى، وعن الأنشطة الخفية والعمليات السرية. إنه عالم من الغموض والعجائبية والخيال، أو لنقل بأنه عالم تشكل في الوعي الجمعي للأصوليات الدينية بالتحديد، ليحدث أثرا كبيرا عبر شبكةٌ لا مرئية تعمل فيها الإيديولوجيات والأفكار والمنظومات الثقافية المختلفة عملها بشكل مثير وخطير، مشكلة بذلك ما يجعل الوقيعة في أفخاخ ومصائد هذه المنظومات والذهنيات أمرا سهلا وميسرا، وبالتالي تصبح المؤامرة هنا مثل الدواء المريح من آلام مواجهة الواقع وتحديات الحقيقة المرة.

لكي نربط العقل الأصولي في علاقته بالمرأة بالسياق المؤامراتي المتشكك من كل شيء يلزمنا أن نستحضر بعض الإشارات التي نبه إليها روب براذرتون[1] من خلال كتاب مثير له، يقرأ من خلاله هذه العقول وكيف تتأسس، أو تؤسس معرفتها ضمن هذا السياق المتشكك. إنه كتاب عقول متشككة: لماذا نصدق نظريات المؤامرة؟. وقيمة هذا الكتاب المعرفية لا تكمن فقط في غرابة موضوعه، أو حساسيته، أو أهميته، بل أيضا لأنه صادر عن متخصص في هذا المجال، فروب براذرتون متخصص في عالم النفس، خاصة الجانب الغريب منه.

لنعد إلى موضوعنا المركزي ونطرح بعضا من الأسئلة التي تحتاج منا الكثير من التوقف والتأمل، من قبيل: هل هناك من يقف وراء ترسيخ عقيدة المؤامرة في ذهن الإنسان؟ أهو المجتمع بمنظوماته الثقافية والفكرية المساعدة على إفراز هذا النمط في التفكير؟ أم هي حكومات ومؤسسات وإدارات ترغب في إدامة التسلط والهيمنة على مقدرات الإنسان والمجتمعات؟. هذه أسئلة تستفزنا لمعرفة ما وراء العقول المتشككة، وما وراء البنيات المشكلة لهذا العقل. وهنا سيبدو لنا كل شيء تخترقه نظرية المؤامرة ما لم يثبت العكس، فهناك قاعدة ينطلق منها المؤمنون بهذه النظرية والعقيدة بحسب روب براذرتون وهي أن كل شيء مؤامرة، ويقرب الأمر أكثر فأكثر من خلال مجموعة من الأمثلة العملية، فمَن بنَى الأهرامات هم الأطلنطيون القُدامى، كما تم اغتيال أبراهام لينكولن بأوامرَ من نائبه أندرو جونسون، أما مشهد هبوط الإنسان على القمر كما هو متعارف عليه فقد صُوِّر في غرفةٍ عازلة للصوت في أريزونا. وليس هذا فحسب، فحينما تخترق المؤامرة العقل الإنساني، يصبح ضحيتها الأولى، ولنا شواهد من الواقع تؤكد هذا الأمر. فالهواء الذي نتنفَّسه قد أصبح ضبابيًّا بفعل تأثيرات سُحب الكيمتريل، والأطعمة التي نأكلها قد تلاعبت بها مجموعة من الشركات الكبرى، واللقاحات التي تصنعها بعض شركات الأدوية الهدف منها هو السيطرة على الإنسان، وتحويله إلى ما يشبه إنسانا آليا كما هو شأن لقاحات كورونا، وهكذا فكلما استحكمت المؤامرة في عقل إنسان، كلما وجد لأي فعل تبريرات خارجة عن حدود المعقول، وتحولت الحياة إلى ضيق وشدة وحرج، وبالتالي خلت من كل قيمة أو معنى.

لقد كان روب برادرثون من خلال كل كتاباته وأبحاثه يريد أن يطلعنا على هذا العالم المترامي وغير المحدود، وفي بعض الأحيان الخفي والغامض، وكأن الهدف من ذلك هو أن نقف على بعض امتدادات هذا الموضوع بشكل واقعي، وفي بعض الأحيان الاطلاع على خطورته وتداعياته، وهنا تحضرنا بعض الأسئلة التي أسفرت عنها تلك البحوث الميدانية في علم النفس. لماذا يُصدِّق البعض بعض الأشياء فيما ينكرها آخرون؟ الجواب الذي يطرحه الكثيرون، هو أن عملية التصديق تكون بناء على أدلة وبراهين، فيما يخبرنا علم النفس بأشياء أخرى.

ينقل روب برادرثون[2] عن عالم الأعصاب ديفيد إيجلمان في كتابه «وراء الكواليس: الحياة السرية للدِّماغ»، أن تركيبة الإنسان تركيبة معقدة وعجيبة، فتحت جلدنا هناك شبكةٌ معقَّدة من الآلات المخبوءة. فالجسد يتكون من أعضاء كثيرة، تقوم بوظائف متعددة، خاصة على مستوى اللاوعي. أما الدماغ فمسألة أخرى، لأنه معقد بشكل أكبر، خاصة أنه مؤلف من مليارات الخلايا المتخصصة، التي تتصل بدورها مع خلايا أخرى، وتطلق إشاراتٍ كهربائية، ووسط كل هذه الأشياء والوظائف والمهام ينشأ ما يسمى بالوعي، وهو كلُّ ما نعرف أنه موجود داخل رؤوسنا. في حين أن هناك العديد من الدراسات النفسية تنحو منحى آخر. فالوعي ليس هو منتهى كل شيء. بل هناك أشياء مختلفة يؤديها ما زالت مجهولة لنا، خاصة أن الدماغ مهمته الرئيسية هي أن يُبقيَنا على قيد الحياة. وكأن روب براذرتون من خلال هذه الإشارات التي تستحق منا التأمل يريد أن يقول بأن العقل المتشكك، أو العقل المؤامراتي، سببه هو أننا نعيش تحت رحمة مائة مليارِ متآمر صغير، جيوش جرَّارة من الخلايا العصبية المتآمِرة. فنحن أيضا ومن خلال تركيبتنا العجيبة نعيش في عالم من الخفاء والسرية فيما يخص تركيبتنا العضوية والنفسية، عالم غامض مما تقوم به أدمغتنا، بحيث تُشكِّل الطريقة والأسلوب الذي نفكر به، أو نفهم من خلاله. وسواءٌ أكانت النظريات المؤامراتية التي يؤمن بها الإنسان صحيحة أو خاطئة، فهذا يكشف لنا عن جانب من جوانب تكويننا النفسي والعقلي. وهي جوانب يطبعها الغموض والسرية في الكثير من تجلياتها.

  • لماذا تخشى الأصوليات تحرر المرأة؟

لا يمكن أن نتحدث عن الأصوليات في العالم الإسلامي إلا واستحضرنا مجموعة من المعطيات المتماثلة التي تسعى إلى تحقيقها في الواقع، لعل أهمها البحث عن الفردوس المفقود، أو الأحلام اليوتيوبية المفارقة للواقع المعيش. ومن بين الأشياء التي تحقق هذا الحلم، هناك قناة المرأة التي تمر من خلالها كل الإيديولوجيات، وتكرس كل الأفكار بما في ذلك التي تكون أشد تطرفا. لهذا فالعناية بالمرأة لا تنبع من التكريم الذي تخصه بها هذه الأصوليات، بل لأنها في هذا التصور تشكل المدخل الرئيسي نحو تكريس الهيمنة الذكورية، واستلهام النموذج الأصولي العابر للحدود، وهذا ما يكرس ما يمكن تسميته بالجهل المقدس، وهو ليس سوى تلك الأفكار أو الإيديولوجيات التي تسعى إلى توظيف الدين ونصوصه من أجل تكريس الهيمنة والسيطرة. ولنفهم العلاقة بين الأصوليات والجهل المقدس يمكننا أن نعتمد على الخطاطة التالية من أجل تقريب الصورة، وتوضيح المعنى، وإزالة بعض ما يمكن أن يكون مثارا للغموض. وذلك من خلال مرتكزات الفكر الأصولي وأسُسه كما أشار إليها أحمد موصللي:

  • رفض الواقع:وذلك من خلال رفض نسبية التّفكير، والإيمان بمطلقيته، وكذلك رفض سلطة الشّعب، ورفض عرض الدّين على المكتشفات العلمية، ورفض دعوات التّجديد والاجتهاد.
  • تصحيح الواقع:إذا كان الواقع مرفوضا في العقل الأصولي، فإنّه يحتاج بالضّرورة إلى تصحيح، وهو العودة إلى الأصول الأولى حيث النّقاء والطّهارة والصّفاء، والابتعاد عن كلّ ما يبعد عن الفطرة الأصلية من شركٍ وبدع. كما أنّ الدّولة وفق هذا المنظور يجب أنْ تُساس بحاكمية الله وشريعته، وليس بالتشريعات الوضعية أو المكتسبات الإنسانية.
  • الثورة على الواقع:ويعتبرها الفكر الأصولي واجبٌ أخلاقي يضمن استمرارية الدّين الإسلامي، ويضمن تصحيح مسار المجتمع الإنساني، وحمايته من الانحراف عن القيم المثلى التي جاء لترسيخها.[3]

هذه المرتكزات التي تتبناها الأصوليات هي متماثلة إلى حد كبير مهما تباينت الأصوليات بين من يدعو إلى العودة إلى الدين بطرق سلمية، وبين من يرى العودة إليه لا تمر إلا عبر الخيار الثوري العنيف. ومهما كان الاختلاف أو شكل العودة إلى الأصول أو الجذور الدينية فإن هناك تماثلا بين الأصوليات في النظرة إلى المرأة، وهي نظرة ضاربة في عمق التاريخ تكشف العلاقة المتوترة لمكانة المرأة في صلب التفكير الديني، خاصة التوراتي الذي جعل منها سبب الخطيئة الأولى، والدافع الأساسي للخروج من الفردوس المفقود، وقد جاء النص في سفر التكوين على الشكل التالي:

” وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية، فقالت للمرأة: أحقًّا قال الله: لا تأكلا من كل شجر الجنة؟ فقالت المرأة للحية: من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله: لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا. فقالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تتفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر. فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية للنظر، وأخذت من ثمرها وأكلت، وأعطت رجلها أيضًا معها فأكل، وانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان. فخاطا أوراق تين، وصنعا لأنفسهما مآزر، وسمعا صوت الرب الإله ماشيًا في الجنة عند هبوب ريح النهار. فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله وسط شجر الجنة، فنادى الرب الإله آدم، وقال له: أين أنت؟ فقال: سمعت صوتك في الجنة، فخشيت لأني عريان واختبأت. فقال: من أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك ألا تأكل منها؟ فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة: فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذي فعلت؟ فقالت المرأة: الحية غرتني فأكلت. فقال الرب الإله للحية: لأنك فعلت هذا ملعونة أنت من جميع البهائم، ومن جميع وحوش البرية. على بطنك تسعين، وترابًا تأكلين كل أيام حياتك، وأضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه، وقال للمرأة: تكثيرًا أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادًا، وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك، وقال لآدم: لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلًا: لا تأكل منها — ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك. وشوكًا وحسكًا تنبت لك، وتأكل عشب الحقل بعرق وجهك، تأكل خبزًا حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها، لأنك تراب، وإلى تراب تعود “[4].

هكذا هي الأصوليات تمتح من هذه الميثولوجيات الدينية المتمركزة على الذكر، والمكرسة للهيمنة الذكورية في بعدها الديني، فسبب النظرة الدونية للمرأة كما هو متداول في هذا النص التوراتي هو الأكل من شجرة المعرفة، وما ترتب عن ذلك من مخالفات أدت إلى لعن الحية وعقاب المرأة بالوجع، وطرد آدم ولعن الأرض بسببه. وهي نظرة تتجاوز البعد التوراتي إلى ما هو إسلامي، إذ اعتمدت التفاسير الإسلامية بشكل كبير على هذه الميثولوجيات المنسوبة إلى العديد من الأشخاص الذين عرفوا بإدخالهم ما يسمى بالإسرائيليات إلى الحقل الفكري الإسلامي، فالطبري مثلا وهو من المفسرين الأثريين ينقل بسنده عن وهب بن منبه:

لما أسكن الله آدم وزوجته الجنة، ونهاهما عن الشجرة، أراد إبليس أن يستزلهما فدخل في جوف الحية، فلما دخلت الحية الجنة خرج من جوفها إبليس فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، فجاء به إلى حواء فقال: انظري إلى هذه الشجرة! ما أطيب ريحها وأطيب طعمها وأحسن لونها! فأخذت حواء فأكلت منها، ثم ذهبت بها إلى آدم فقالت: انظر إلى هذه الشجرة، ما أطيب ريحها وأطيب طعمها وأحسن لونها! فأكل منها آدم، فبدت لهما سوآتهما، فدخل آدم في جوف الشجرة فناداه ربه: يا آدم أين أنت؟ قال: أنا هنا يا رب! قال: ألا تخرج؟ قال: أستحي منك يا رب، ثم قال ربه: يا حواء، أنت التي غررت عبدي، فإنك لا تحملين حملًا إلا حملته كُرهًا، فإذا أردت أن تضعي ما في بطنك أشرفت على الموت مرارًا، وقال للحية: أنت التي دخل الملعون في جوفك حتى غر عبدي. ملعونة أنت لعنتَه، ولا يمكن لك رزق إلا التراب، أنت عدوة بني آدم وهم أعداؤك، حيث لقيت أحدًا منهم أخذت بعقبه، وحيث لقيك شدخ رأسك.[5]

وهذا التطابق بين النص التوراتي والنص التفسيري الإسلامي يكشف لنا عن أزمة من أزمات التفسير الإسلامي، وهي اعتماد المفسرين على أخبار أهل الكتاب، وتبني رؤيتهم التوراتية، غير آبهين بالنصوص الأصلية، أو وجهتها أو دلالتها الواقعية. وقد تم نقاش هذا الموضوع بشكل مستفيض مع ما كتبه مصطفى بوهندي[6] الذي أكد من خلال مختلف كتاباته بأن التفسير الإسلامي كان مدخلا إلى قراءة النصوص القرآنية من خلال البوابة التوراتية، إذ أن الرؤية المسيحية هي التي استحكمتْ في توجيه الآيات، من خلال التوظيف المحكم، والتدليس المقصود وغير المقصود. وبالرّغم من أن هناك تباينا واضحا بين نصوص القرآن وما جاءت به هذه التفاسير، إلا أنّ هذه التفاسير الأثرية مملوءة بهذه الأخبار والروايات مع أنّها تحمل نفَساً يهوديًّا ومسيحيًّا يخالف التصورات التي جاء على أساسها النصّ القرآني.

وبالرجوع إلى النظرة التقزيمية التي تطبع الفكر الأصولي في مواجهة قضية المرأة، نستطيع أن نؤكد بأنها مستمدة بشكل كبير من الميثولوجيات القديمة، خاصة بعد التحول الدراماتيكي الذي حوّل الإنسانية من مجتمعات أميسية إلى مجتمعات ذكورية، وهو ما تبنته الرؤية التوراتية، أو الرؤية الأصولية تحديدا، تلك الرؤية الداعية إلى استلهام نماذج نقيضة لكل مبادئ الحق الإنساني في الحرية والاختيار والمسؤولية. وهذه النظرة الأخلاقية التي تمتح منها الميثولوجيات القديمة في علاقتها بالمرأة يمكن أن نقول عنها بأنها تحافظ على صيغ بالية للماضي مبنية على الاعتباط والأساس المزيف. وقد أكد بول كيرتز[7] على هذا المعطى وهو يتناول قصة الخروج الإنساني من الجنة، بأن معارضة الأصوليات الدينية بكل أشكالها لقضية تحرر المرأة وتمتيعها بكامل حقوقها كان بدافع الحفاظ على منظوماتهم الثابتة، وبأنهم يمنعون أطفالهم بذلك من الآفاق الواسعة للتعليم، ويحرمون الاطلاع على كل جديد، ويعتبرونه مدخلا لتغير منظومة القيم الأخلاقية. لهذا يوصي بتجاوز مثل هذه الأنظمة عن طريقة التأمل العليائي، من أجل إنقاذ النفس من حماقات الأسلاف والماضي.

اجمل ما قيل في خطبة الوداع؟

  • خطبة الوداع وتكريس دونية المرأة

هناك نص طويل لابن إسحاق يتحدث فيه عن خطبة الوداع، وقد تضمن في جزء منه ما اعتبرته الكثير من الأصوليات الدينية حقوقا للمرأة، خاصة أنه جاء بصيغة موهمة بذلك، وهي استوصوا بالنساء خيرا. فهل يؤكد لنا هذا النص بالفعل على حق المرأة؟ ذلك ما سنتعرف عليه من خلال هذه الصيغة التي يقول فيها ابن إسحاق عن النبي محمد في حجة الوداع:” أما بعد أيها الناس ، فإن لكم على نسائكم حقا ، ولهن عليكم حقا ، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح ، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف واستوصوا بالنساء خيرا ، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا ، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمات الله “[8]. هذا هو النص والعبارات الدالة على ما يمكن أن يقرأ فيه البعض حقوقا للمرأة، أو حقوقا للإنسان. ولكن دعونا نناقش هذا الموضوع الجدلي انطلاقا من بعض المقدمات التمهيدية.

  • ابن إسحاق وكلام المحدثين فيه: هو محمد بن إسحاق بن يسار بن خيار، وقيل: ابن كوثان العلامة الحافظ الإخباري أبو بكر، وقيل : أبو عبد الله القرشي المطلبي مولاهم المدني ، صاحب السيرة النبوية ، وكان جده يسار من سبي عين التمر في دولة خليفة رسول الله  صلى الله عليه وسلم – وكان مولى قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف – رضي الله عنه – ولد ابن إسحاق سنة ثمانين ورأى أنس بن مالك بالمدينة ، وسعيد بن المسيب[9].

وبالرغم من شهرة ابن إسحاق الكبيرة في المغازي والسير والتاريخ، إلا أنه كان متهما بشكل كبير من خلال إتيانه بأمور عجائبية، وروايته لأشياء غير منطقية. وهذا ما يفهم من خلال الكثير من الكلام الجارح فيه والتي رواها بعض من كتبوا في علم الرجال. ففي سير أعلام النبلاء تلك المشاداة الحاصلة بين ابن إسحاق والإمام مالك بن أنس، فمحمد بن إسحاق، كان يقول : ائتوني ببعض كتبه ويقصد مالك حتى أبين عيوبه ، أنا بيطار كتبه .قال الخطيب : أما كلام مالك في ابن إسحاق فمشهور حيث كان يقول له الدجال ، وأما حكاية ابن فليح عنه في هشام بن عروة ، فليست بالمحفوظة ، وراويها عن ابن المنذر لا يعرف .قلت : فهي مردودة .وقد أمسك عن الاحتجاج بروايات ابن إسحاق غير واحد من العلماء لأشياء ، منها : تشيعه ، ونسب إلى القدر ، ويدلس في حديثه ، فأما الصدق ، فليس بمدفوع عنه .

  • المرأة بين تكريس الحق وانتهاكه: يبدو بأن مطلع كلام ابن إسحاق في روايته لخبر حجة الوداع يكرس الحق وذلك من خلال هذه العبارات:” أما بعد أيها الناس ، فإن لكم على نسائكم حقا ، ولهن عليكم حقا ، أما بعد أيها الناس ، فإن لكم على نسائكم حقا ، ولهن عليكم حقا ، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة ، أما بعد أيها الناس ، فإن لكم على نسائكم حقا ، ولهن عليكم حقا ، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة “، لكن بالتأمل نجد أن النص تحدث فقط عن جانب أحادي، وهو حق الرجال على النساء، وإذا تأملنا بشكل أدق بعض العبارات نجد بأن فيها مجموعة من المخالفات، خاصة أنها تأتي مبهمة في بعض الأحيان، فعبارة:” لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه “، موحي بدلالة مفهوم المخالفة، أنه ليس هناك حرج حينما يوطئن فرشكم أحدا تحبونه. ومعلوم أن الخيانة الزوجية أو جريمة الزنا بالمفهوم الإسلامي مسألة غير مشروعة سواء كان الفاعل محبوبا أو مكروها. وحتى عبارة:” وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة “، ففيها نوع من الإبهام، لأنها تمنح إمكانية إتيان الفاحشة بطريقة سرية، أو غير مثيرة للشبهات أو الانتباه. وكل هذه الالتباسات في نص ابن إسحاق مثيرة للسؤال، وتضعنا أمام إشكاليات قانونية على أساس أن هناك تجريم لبعض الممارسات، وإشكالات شرعية على اعتبار أن الفاحشة هي أمر محرم بنصوص الشرع.

ويواصل ابن إسحاق روايته التي اعتبرها الأصوليون تكريسا لحقوق المرأة فيؤكد على بعض العقوبات التأديبية أو الجنائية في حالة إتيان ما سماه النص فاحشة مبينة، فيقول:” فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح ، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف واستوصوا بالنساء خيرا ، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا ، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمات الله “. وهنا سنلاحظ بأن النص يحجم عن ذكر الرجل في العقوبة التأديبية الخاصة بإتيان الفاحشة المبينة، فما يؤكده النص هو أن إتيان الفاحشة المبينة يترتب عليه شيئين اثنين، الهجر في المضاجع، والضرب غير المبرح. وهذا مخالف للعقوبة الجنائية لمثل هذه الجريمة على الأقل حسب النص القرآني الذي يؤكد على الجلد مائة جلدة لكل منهما:” الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة “، وحتى كلمة الضرب غير المبرح في سياق الخيانة الزوجية يثير مجموعة من الإشكالات، ويضعنا أمام العديد من التساؤلات، خاصة أن الهجر والضرب مسألتان وردتا في سياق مختلف في النص القرآني:” وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ “، فالنص القرآني يتحدث عن مسألة النشوز، وهو كما أورد الطبري [10]استعلاءهن على أزواجهن , وارتفاعهن عن فرشهم بالمعصية منهن , والخلاف عليهم فيما لزمهن طاعتهم فيه . وهو أمر غير متعلق بمسألة الخيانة الزوجية التي يوردها ابن إسحاق، مع أن ابن إسحاق يورد نفس العقوبات ويضيف إلى بعضها كلمة غير مبرح، والنص القرآني لم يتحدث عنها. والمثير في كل هذا السياق الذي أورده ابن إسحاق في خطبة الوداع، هو تغييبه لعقوبة الرجل، ففي حالة إتيانه أيضا فاحشة مبينة، فما الذي يجب أن تفعله المرأة حياله، هل الهجر والضرب المبرح، هنا يسكت النص، وكأنه يشير ضمنيا إلى أن الفاحشة المبينة خاصة بالمرأة وليست بالرجل، وهو ما يؤكد تفوق الفقه الذكوري من ناحية التشريع في المنظومة الفقهية الإسلامية.

ويبقى الشيء الأكثر جدلا في سياق رواية ابن إسحاق لخطبة الوداع هو قوله:” فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا “، وهناك رواية أخرى للترمذي تؤكد الأمر نفسه يقول فيها بسنده إلى النبي: ألا واستوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك “. قال أبو عيسى الترمذي هذا حديث حسن صحيح ومعنى قوله عوان عندكم يعني أسرى في أيديكم[11]. وهو الشيء الذي أكده المباركفوري في شرحه لسنن الترمذي إنما هن عوان جمع عانية ، قال في القاموس : العاني الأسير. وبهذا المعنى تصبح المرأة أسيرة لدى زوجها وهو قاموس عسكري يمتح من دلالات غير حقوقية، ولا إنسانية، يديم سيطرة الرجل على المرأة، ويقلل من قيمتها وإنسانيتها، إلى درجة فقدان حريتها، ويتعامل معها باعتبارها أسيرة منقوصة الحقوق والقوامة والمسؤولية.

فهل خطبة الوداع تكريس لحقوق المرأة أم انتهاك لها؟

المراجع:

[1] – روب، برادرثون. عقول متشككة. ترجمة هاني فتحي سليمان. مؤسسة هنداوي، ط1، 2021. ص: 11.

[2] – روب، برادرثون. المرجع السابق. ص: 17 .

[3] –  أحمد الموصللي بتصرف، نقلا عن حجازي، مصطفى. حصار الثقافة بين القنوات الفضائية والدعوة الأصولية. الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط1، 1998. ص: 94.

[4] – سفر التكوين، الإصحاح 3 الأعداد من 1/17

[5] – الطبري، ابن جرير. جامع البيان في تأويل آي القرآن على الموقع الإلكتروني التالي: https://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura2-aya36.html

[6] – انظر ما كتبه مصطفى بوهندي حول الموضوع في كتاب التأثير المسيحي في تفسير القرآن. دار الطليعة، ط1، 2004, ص: 129 .

[7]–  بول، كيرتز. الفاكهة المحرمة أخلاقيات الإنسانية. ترجمة ضياء السومري. منشورات الجمل،ط1،2012 , ص: 12 .

[8] – ابن هشام، عبد المالك بن هشام الحميري. السيرة النبوية(ابن هشام). على الموقع الإلكتروني التالي: https://www.islamweb.net/ar/library/content/58/1571/%D8%AE%D8%B7%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%B3%D9%88%D9%84-%D9%81%D9%8A-%D8%AD%D8%AC%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AF%D8%A7%D8%B9

[9]– تجدون ترجمة محمد ابن إسحاق عند الذهبي شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان. سير أعلام النبلاء، جزء السابع، ص: 34، على الموقع الإلكتروني التالي: https://www.islamweb.net/ar/library/content/60/1116/%D8%A7%D8%A8%D9%86-%D8%A5%D8%B3%D8%AD%D8%A7%D9%82

[10] – ابن جرير الطبري. جامع البيان في تأويل آي القرآن. على الموقع الإلكتروني التالي: https://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura4-aya34.html

[11]– تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي. رقم الحديث 1163. على الموقع الإلكتروني التالي : https://www.islamweb.net/ar/library/content/56/2134/%D8%A8%D8%A7%D8%A8-%D9%85%D8%A7-%D8%AC%D8%A7%D8%A1-%D9%81%D9%8A-%D8%AD%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%A3%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%B2%D9%88%D8%AC%D9%87%D8%A7

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete